دلالة السنة على أفعال الله تعالى
وكذلك في الأحاديث المستفيضة الصحيحة المتلقاة بالقبول كقوله ﷺ فيما يروى عن ربه [ ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه ] وقوله: [ أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ ] وقوله في حديث الشفاعة: [ إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ] وقوله: [ إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات كجر السلسة على الصفا ] وقوله: [ إن الله يحدث من أمره ما شاء وإن مما أحدث: أن لا تكلموا في الصلاة ] وقوله في حديث التجلي: [ فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون ] وقوله: [ لله أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه فطلبها فلم يجدها فنام تحت شجرة ينتظر الموت فلما استيقظ إذا هو بدابته عليها طعامه وشرابه فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته ] وهذا الحديث مستفيض عن النبي ﷺ في الصحيحين من غير وجه من حديث ابن مسعود وأبي هريرة وأنس وغيرهم
وقوله: [ يضحك الله إلى رجلين أحدهما صاحبه كلاهما يدخل الجنة ] وفي حديث آخر من يدخل الجنة [ قال: فيضحك الله منه ] وقوله [ ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان ] وفي حديث [ قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد: { الحمد لله رب العالمين } قال الله: حمدني عبدي فإذا قال: { الرحمن الرحيم } قال: أثنى علي عبدي فإذا قال: مالك يوم الدين قال مجدني عبدي ] وقوله ﷺ [ يقول الله تعالى: من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ] وقوله ﷺ [ ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا شطر الليل أو ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ ]
وقوله ﷺ في حديث الأنصاري الذي أضاف رجلا وآثره على نفسه وأهله فلما أصبح الرجل غدا على رسول الله ﷺ فقال [ لقد ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما ] وأنزل الله تبارك وتعالى { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } ( الحشر: 9 ) وهذه الأحاديث كلها في الصحيحين
وفي السنن من حديث علي عن النبي ﷺ حديث الركوب على الدابة قال: فقلت [ يا رسول الله من أي شيء تضحك؟ قال: ربك يضحك إلى عبده إذا قال: رب اغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت قال: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري ] وفي لفظ: [ إن ربك ليعجب من عبده إذا قال: رب اغفر لي ذنوبي يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري ] وفي حديث أبي رزين عنه ﷺ قال: [ ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب فقال له أبو رزين: أو يضحك الرب؟ قال نعم فقال لن نعدم من رب يضحك خيرا ]
وفي الصحيحين وغيرهما - في حديث التجلي الطويل المشهور الذي روي عن النبي ﷺ من وجوه متعددة - فهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وفي مسلم من حديث جابر ورواه أحمد من حديث ابن مسعود وغيره قال في حديث أبي هريرة [ قال: أو لست قد أعطيت العهود والمواثيق: أن لا تسأل غير الذي أعطيت؟ فيقول: يا رب لا تجعلني أشقى خلقك ! فيضحك الله تبارك وتعالى منه ثم يأذن له في دخول الجنة ]
وفي صحيح مسلم [ عن ابن مسعود عن النبي ﷺ قال: يا ابن آدم أترضى أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ فيقول: أي رب أتستهزىء بي وأنت رب العالمين؟ وضحك رسول الله ﷺ فقال: ألا تسألوني: مم ضحكت؟ فقالوا: مم ضحكت يا رسول الله؟ فقال: من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزىء بي وأنت رب العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزىء بك ولكني على ما أشاء قادر ]
وفي لصحيحين عن النبي ﷺ قال [ يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: يقتل هذا فيلج الجنة ثم يتوب الله على الآخر فيهديه إلى الإسلام ثم يجاهد في سبيل الله فيستشهد ]
وفي الصحيح أيضا عنه ﷺ قال [ عجب الله من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل ]
وفي حديث معروف: [ لا يتوضأ أحدكم فيحسن وضوءه ويسبغه ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا تبشبش الله به كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته ]
وفي الصحيح عنه ﷺ أيضا أنه قال: [ الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ] - وفي لفظ: [ مستخلفكم فيها لينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ]
وفي الصحيح أيضا عنه ﷺ أنه قال [ إن الله لا ينظر صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ]
وفي الصحيحين عن أبي واقد الليثي [ أن رسول الله ﷺ كان قاعدا في أصحابه إذ جاء ثلاثة نفر فأما رجل فوجد فرجة في الحلقة فجلس وأما رجل فجلس يعني خلفهم وأما رجل فانطلق فقال النبي ﷺ: ألا أخبركم عن هؤلاء النفر؟ أما الرجل الذي جلس في الحلقة فرجل أوى إلى الله فآواه الله وأما الرجل الذي جلس خلف الحلقة فاستحيا فاستحيا الله منه وأما الرجل الذي انطلق فأعرض فأعرض الله عنه ]
وعن سلمان الفارسي موقوفا ومرفوعا قال: [ إن الله يستحي أن يبسط العبد يديه إليه يسأله فيهما خيرا فيردهما صفرا خائبتين ]
وفي الصحيح عنه فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى [ ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه ]
وفي الحديث الصحيح عن عبادة بن الصامت عن النبي ﷺ قال [ من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فقالت عائشة: إنا لنكره الموت؟ قال: ليس ذاك ولكن المؤمن إذا حضره الموت يبشر برضوان الله وكرامته وإذا بشر بذلك أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وإن الكافر إذا حضره الموت بشر بعذاب الله وسخطه فكره لقاء الله وكره الله لقاء ]
وفي الصحيحين عن البراء بن عازب عن النبي ﷺ قال: [ الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق من أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله ]
وفي الصحيحين عن أبي سعيد [ عن النبي ﷺ قال: إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة فيقولون: لبيك وسعديك فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى؟ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول عز وجل: أنا أعطيكم أفضل من ذلك قالوا: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ]
وفي الصحيحين عن أنس قال: أنزل علينا - ثم كان من النسوخ -: أبلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا
وفي حديث [ عمرو بن مالك الرواسي قال: أتيت النبي ﷺ فقلت: يا رسول الله ارض عني قال: فأعرض عني ثلاثا قال: قلت: يا رسول الله إن الرب ليرضى فيرضى فارض عني فرضي عني ]
وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ [ من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرىء مسلم وهو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان ]
وفي الصحيحين [ عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال اشتد غضب الله على قوم فعلوا هذا برسول الله وهو حينئذ يشير إلى رباعيته ]
وقال: [ اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله ]
وفي صحيح مسلم عن حذيفة بن أسيد عن النبي ﷺ قال [ إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال: يا رب ذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول: يا رب أجله فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك فيقول: يا رب رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يخرج الملك الصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص ]
وفي الصحيح [ عن عائشة أن النبي ﷺ كان يقول في سجوده أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ]
وفي حديث آخر: [ أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ] وفي الصحيحين عن أنس في حديث الشفاعة [ عن النبي ﷺ قال فإذا رأيت ربي وقعت له ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول لي: يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع ] وذكر مثل هذا ثلاث مرات
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: [ قال رسول الله ﷺ يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم - وهو أعلم بهم - كيف تركتم عبادي؟ قالوا: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون ]
وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة [ عن النبي ﷺ قال إن لله ملائكة سيارة فضلا عن كتاب الناس سياحين في الأرض فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم قال: فيجيئون حتى يحفون بهم إلى السماء الدنيا قال: فيقول الله عز وجل: أي شيء تركتم عبادي يصنعون؟ قال: فيقولون: تركناهم يحمدونك ويسبحونك ويمجدونك قال: فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا قال: كيف لو رأوني؟ قال: فيقولون: لو رأوك لكانوا أشد تمجيدا وأشد ذكرا قال: فيقول: فأي شيء يطلبون؟ قالوا يطلبون الجنة قال: فيقول: وهل رأوها؟ قال: فيقولون: لا قال: فيقول: كيف لو رأوها؟ قال: فيقولون: لو رأوها كانوا أشد عليها حرصا وأشد لها طلبا قال: فيقول: من أي شيء يتعوذون؟ قال: فيقولون: يتعوذون من النار قال: فيقول: وهل رأوها؟ قال: فيقولون: لا قال: فيقول: كيف لو رأوها؟ قال: فيقولون: لو رأوها كانوا أشد منها تعوذا وأشد منها هربا قال: فيقول: إني أشهدكم أني قد غفرت لهم قال فيقولون: إن فيهم فلانا الخطاء لم يردهم إنما جاء في حاجة قال: فيقول: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ]
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ قال: [ إن الله إذا أحب عبدا نادى جبريل: إني قد أحببت فلانا فأحبه قال: فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض ] وقال في البغض مثل ذلك
وفي الصحيحين عنه عن النبي صلى الله عيه وسلم قال: [ يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم وإن اقترب إلي شبرا اقتربت له ذراعا وإن اقترب إلي ذراعا اقتربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ]
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد: أنهما شهدا على رسول الله ﷺ أنه قال: [ ما جلس قوم يذكرون الله إلا حفت بهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده ]
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ [ أن رجلا أصاب ذنبا فقال: رب إني قد أصبت ذنبا فاغفره لي فقال ربه: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنبا آخر فقال: أي رب إني قد أذنبت ذنبا فاغفره لي فقال ربه: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي فليعمل ما يشاء ]
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: [ يقبض الله الأرض ويطوى السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟ ]
وفي الصحيحين عنه عن النبي ﷺ أنه قال: [ ما منكم أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا شيئا قدمه وينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئا قدمه وينظر أمامه فتستقبله النار فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل فإن لم يجد فبكلمة طيبة ]
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ في حديث الرؤية قال فيه: [ فيلقى العبد فيقول: أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى يا رب قال: فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا فيقول: إني أنساك كما نسيتني ثم يلقى الثاني فيقول: أي فل - فذكر مثل ما قال الأول - ويلقى الثالث فيقول: آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع قال: فيقول: فههنا إذن قال: ثم يقال: ألا نبعث شاهدنا عليك؟ فيفكر في نفسه من الذي يشهد علي؟ فيختم على فيه ويقال لفخذه: انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله ما كان ذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق ] وذكر الحديث
وفي صحيح مسلم [ عن أنس قال: كنا مع رسول الله ﷺ فضحك قال: هل تدرون مم أضحك؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم قال: من مخاطبة العبد ربه يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني قال: فيقول: فكفى بنفسك عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا قال: فيختم على فيه ويقال لأركانه: انطقي بأعماله فتنطق بأعماله قال: ثم يخلي بينه وبين الكلام قال: فيقول: بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل ]
وفي الصحيحين عن أنس أن النبي ﷺ قال: [ يقول الله لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة: لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم فيقول له: قد أردت منك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم: أن لا تشرك بي فأبيت إلا أن تشرك ]
وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال: [ يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقول: عملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم يارب فيقرره ثم يقول: قد سترت عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم قال: ثم يعطى كتاب حسناته وهو قوله: { هاؤم اقرؤوا كتابيه } وأما الكفار والمنافقون فينادون: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ]
وفي صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ قال: [ يقول الله يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني فيقول: يا رب كيف أعدك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ويقول: يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني فيقول: أي رب وكيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ فيقول تبارك وتعالى: أما علمت أن عبدي فلانا استسقاك فلم تسقه؟ أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي؟ قال: ويقول: يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني فيقول: أي رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا استطعمك فلم تطعمه؟ أما إنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ]
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: [ إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا وما لنا لا نرضى؟ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ قال: فيقولون: يارب وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ] وهذا فيه ذكر المخاطبة وذكر الرضوان جميعا
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود عن النبي ﷺ قال: [ آخر أهل الجنة دخولا الجنة وآخر أهل النار خروجا من النار: رجل يخرج حبوا فيقول له ربه: ادخل الجنة فيقول: إن الجنة ملأى فيقول له ذلك ثلاث مرات كل ذلك يعيد: الجنة ملأى فيقول: إن لك مثل الدنيا عشر مرات ]
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: [ ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل حلف على يمين على مال امرئ مسلم فاقتطعه ورجل حلف على يمين بعد العصر: أنه أعطي بسلعته أكثر مما أعطي وهو كاذب ورجل منع فضل ماء يقول الله اليوم أمنعك من فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك ]
وفي صحيح مسلم [ عن أبي ذر عن النبي ﷺ قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قال: فقرأها رسول الله ﷺ ثلاث مرات فقال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يارسول الله؟ قال: المسبل إزاره والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب ]
وهذا الحديثان فيهما نفي التكليم والنظر عن بعض الناس كما نفى القرآن مثل ذلك وأما نفي التكليم وحده ففي غير حديث
وهذا الباب في الأحاديث كثير جدا يتعذر استقصاؤه ولكن نبهنا ببعضه على نوعه والأحاديث جاءت في هذا الباب كما جاءت الآيات مع زيادة تفسير في الحديث كما أن أحاديث الأحكام تجيء موافقة لكتاب الله مع تفسيرها لمجمله ومع ما فيها من الزيادات التي لا تعارض القرآن فإن الله سبحانه وتعالى أنزل على نبيه الكتاب والحكمة وأمر أزواج نبيه أن يذكرن ما يتلى في بيوتهم من آيات الله والحكمة وامتن على المؤمنين بأن بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته وزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة و[ قال النبي صلى الله عيه وسلم: ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه ] وفي رواية: [ ألا إنه مثل القرآن أو أكثر ]
فالحكمة التي أنزلها الله عليه مع القرآن وعلمها لأمته تتناول ما تكلم به في الدين من غير القرآن من أنواع الخبر والأمر فخبره موافق لخبر الله وأمره موافق لأمر الله فكما أنه يأمر بما في الكتاب أو بما هو تفسير ما في الكتاب وبما لم يذكر بعينه في الكتاب فهو أيضا يخبر بما في الكتاب وبما هو تفسير ما في الكتاب وبما لم يذكر بعينه في الكتاب فجاءت أخباره في هذا الباب يذكر فيها أفعال الرب: كخلقه ورزقه وعدله وإحسانه وإثابته ومعاقبته ويذكر فيها أنواع كلامه وتكليمه لملائكته وأنبيائه وغيرهم من عباده ويذكر فيها ما يذكره من رضاه وسخطه وحبه وبغضه وفرحه وضحكه وغير ذلك من الأمور التي تدخل في هذا الباب
والناس في هذا الباب ثلاثة أقسام :
الناس في مسألة أفعال الله تعالى ثلاثة أقسام
الجهمية المحضة من المعتزلة ومن وافقهم يجعلون هذا كله مخلوقا منفصلا عن الله تعالى
والكلابية ومن وافقهم يثبتون ما يثبتون من ذلك: إما قديما بعينه لازما لذات الله وإما مخلوقا منفصلا عنه
وجمهور أهل الحديث وطوائف من أهل الكلام يقولون: بل هنا قسم ثالث قائم بذات الله متعلق بمشيئته وقدرته كما دلت عليه النصوص الكثيرة
ثم بعض هؤلاء قد يجعلون نوع ذلك حادثا كما تقوله الكرامية وأما أكثر أهل الحديث ومن وافقهم فإنهم لا يجعلون النوع حادثا بل قديما ويفرقون بين حدوث النوع وحدوث الفرد من أفراده كما يفرق جمهور العقلاء بين دوام النوع ودوام الواحد من أعيانه فإن نعيم أهل الجنة يدوم نوعه ولا يدوم كل واحد واحد من الأعيان الفانية ومن الأعيان الحادثة ما لا يفنى بعد حدوثه كأرواح الآدميين فإنها مبدعة كانت بعد أن لم تكن ومع هذا فهي باقية دائمة
والفلاسفة تجوز مثل ذلك في دوام النوع دون أشخاصه لكن الدهرية منهم ظنوا أن حركات الأفلاك من هذا الباب وأنها قديمة النوع فاعتقدوا قدمها وليس لهم على ذلك دليل أصلا وعامة ما يحتجون به إبطال قول من لا يفرق بين حدوث النوع وحدوث الشخص ويقولون: إنه يلزم من حدوث الأعيان حدوث نوعها ويقولون: إن ذلك كله حدث من غير تجدد أمر حادث
وهذا القول إذا بطل كان بطلانه أقوى في الحجة على الدهرية في إفساد قولهم وفي صحة ما جاء به الكتاب والسنة كما تقدم بيانه وإن لم يبطل بطل قولهم
فالمعقول الصريح موافق للشرع متابع له كيف ما أدير الأمر وليس في صريح المعقول ما يناقض صحيح المنقول وهو المطلوب
ومن المعلوم: أن أصل الإيمان تصديق الرسول فيما أخبر وطاعته فيما أمر وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أنه لا يجوز أن يكون ثم دليل لا عقلي ولا غير عقلي يناقض ذلك وهذا هو المطلوب هنا
ولكن أقواما ادعوا معارضة طائفة من أخباره للمعقول
أصل خطأ المبتدعة في هذه المسألة
وأصل وقوع ذلك في المنتسبين للإسلام والإيمان: أن أقواما من أهل النظر والكلام أرادوا نصرة ما اعتقدوا أنه قوله بما اعتقدوه أنه حجة ورأوا أن تلك الحجة لها لوازم يجب التزامها وتلك اللوازم تنافض كثيرا من أخباره
وهؤلاء غلطوا في المنقول والمعقول جميعا كما اعتقدت المعتزلة وغيرهم من الجهمية نفاة الصفات والأفعال أنه أخبر أن كل ما سوى الذات القديمة المجردة عن الصفات محدث الشخص والنوع جميعا وظنوا أن هذا من التوحيد الذي جاء به واحتجوا على ذلك بما يستلزم حدوث كل ما قامت به صفة وفعل وجعلوا هذا هو الطريق إلا إثبات وجوده ووحدانيته وتصديق رسله فقالوا: إن كلامه مخلوق خلقه في غيره لم يقم به كلام وإنه لا يرى في الآخرة ولا يكون مباينا للخلق ولا بقوم به علم ولا قدرة ولا غيرهما من الصفات ولا فعل من الأفعال لا خلق للعالم ولا استواء ولا غير ذلك فإنه لو قام به فعل أو صفة لكان موصوفا محلا للأعراض ولو قام به فعل يتعلق بمشيئته للزم تعاقب الأفعال ودوام الحوادث وإذا جوزوا دوام النوع الحادث أو قدمه بطل ما احتجوا على ما ظنوا أن الرسول ﷺ أخبر به
وهم مخطئون في المنقول والمعقول
أما المنقول: فإن الرسول لم يخبر قط بقدم ذات مجردة عن الصفات والأفعال بل النصوص الإلهية متظاهرة باتصاف الرب بالصفات والأفعال وهذا معلوم بالضرورة لمن سمع الكتاب والسنة وهم يسلمون أن هذا هو الذي يظهر من النصوص ولكن أخبر عن الله بأسمائه الحسنى وآياته المثبتة لصفاته وأفعال وأنه: { خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش } ( الفرقان: 59 )
فمن قال: إن الأفلاك قديمة أزلية فقوله مناقض لقول الرسول ﷺ بلا ريب كما أن من قال ( إن الرب تعالى لا علم له ولا قدرة ولا كلام ولا فعل ) فقوله مناقض لقول الرسول وليس مع واحد منهما عقل صريح يدل على قوله بل العقل الصريح مناقض لقوله كما قد بين في موضعه من وجوه كثيرة مثل ما يقال: إن العقل الصريح يعلم أن إثبات عالم بلا علم وقادر بلا قدرة ممتنع كإثبات علم بلا عالم وقدرة بلا قادر وأعظم امتناعا من ذلك أن يكون العلم هو العالم والعلم هو القدرة فهذا قول نفاة الصفات
وأما القائلون بقدم العالم فقولهم يستلزم امتناع حدوث حادث فإن القديم إما واجب بنفسه أو لازم للواجب بنفسه ولوازم الواجب لا تكون محدثة ولا مستلزمة لمحدث فالحوادث ليست من لوازمه وما لا يكون من لوازمه يتوقف وجوده على حدوث سبب حادث فإذا كان القديم الواجب نفسه أو اللازم للواجب لا يصدر عنه حادث - امتنع حدوث الحوادث وهذا حقيقة قولهم فإنهم يزعمون أن العالم له علة قديمة موجبة له وهو لازم لعلته وعلته عندهم مستلزمة لمعلولها ومعلول معلولها فيمتنع أن يحدث شيء في الوجود إذ الحادث المعين يكون لازما للقديم بالضرورة واتفاق العقلاء
وإذا قالوا: ( يجوز أن يحدث عن الواجب بنفسه حادث بواسطة ) قيل: الكلام في تلك الواسطة كالكلام في الأول فإنها إن كانت قديمة لازمة له لزم قدم المعلولات كلها وإن كانت حادثة فلا بد لها من سبب حادث
وإذا قالوا: ( كل حادث مشروط بحادث قبله لا إلى أول )
قيل لهم: فليست أعيان الحوادث من لوازم الواجب بنفسه وإذا كان النوع من لوازم الواجب امتنع وجود الواجب بنفسه بدون النوع ونوع الحوادث ممكن بنفسه ليس فيه واجب بنفسه فيكون نوع الحوادث صادرا عن الواجب بنفسه فلا يجب قدم شيء معين من أجزاء العالم لا الفلك ولا غيره وهو نقيض قولهم
وإذا قالوا: ( نوع الحوادث لازم لجرم الفلك والنفس وهذان لازمان للعقل وهو لازم للواجب بنفسه )
قيل لهم: فذاته مستلزمة لنوع الحوادث سواء كان بوسط أو بغير وسط والذات القديمة المستلزمة لمعلولها لا يحدث عنها شيء لا بوسط ولا بغير وسط سواء كان الحادث نوعا أو شخصا لأن النوع الحادث يمتنع مقارنته لها كما تمتنع مقارنة الشخص الحادث لها لأن النوع الحادث إنما يوجد شيئا فشيئا والمقارن لها قديم معها لا يوجد شيئا فشيئا فبطل أن تكون الحوادث صادرة عن علة تامة مستلزمة لنوعها المقترن بعضه ببعض أو شخص منها فبطل أن يكون العالم صادرا عن علة موجبة له كما بطل وجوبه بنفسه وهو المطلوب
ومما يبين ذلك: أن القديم يستلزم قدم موجبه أو وجوبه بنفسه فإن القديم إما واجب بنفسه وإما واجب بغيره إذ الممكن الذي لا موجب له لا يكون موجودا فضلا عن أن يكون قديما بالضرورة واتفاق العقلاء وإذا كان واجبا بغيره فلا بد أن يكون الموجب له قديما بالضرورة واتفاق العقلاء وإذا كان واجبا بغيره فلا بد أن يكون الموجب له قديما ولا يكون موجبا له حتى تكون شروط الإيجاب قديمة أيضا فيمتنع أن يكوم موجب القديم أو شرط من شروط الإيجاب حادثا لأن الموجب المقتضي للفاعل المؤثر يمتنع أن يتأخر عن موجبه الذي هو مقتضاه وأثره وهذا معلوم بالضرورة ومتفق عليه بين العقلاء
وإذا كان كذلك فيمتنع أن يكون جميع العالم واجبا بنفسه إذ لو كان كذلك لم يكن في الموجودات ما هو حادث لأن الحادث كان معدوما وهو مفتقر إلى محدث يحدث فضلا عن أن يكون واجبا بنفسه
فثبت أن في العالم ما ليس بواجب والواجب بغيره لا بد له من موجب تام مستلزم لموجبه والموجب التام لا يتأخر عنه شيء من موجبه ومقتضاه فيمتنع صدور الحوادث عن موجب تام كما يمتنع أن تكون هي واجبة بنفسها وإذا لم تكن واجبة ولا صادرة عن علة موجبة فلا بد لها من فاعل ليس موجبا بذاته وإذا كان غاية ما يقولون: إن العالم صادر عن علة موجبة بنفسها بغير واسطة أو بوسائط لازمة لتلك العلة فعلى هذا التقدير: يمتنع حدوث الحوادث عنه فإن لم يكن للحوادث فاعل غيره وإلا لزم حدوثها بلا محدث وهذا معلوم الفساد بالضرورة
فتبين أن للحوادث محدثا ليس هو مستلزما لموجبه ومقتضاه فامتنع أن يكون محدث الحوادث علة مستلزمة لمعلولها أو أن يكون شيئا من معلولاتها وهم يقولون: إن العالم صادر عن علة مستلزمة لمعلولها وكل ما سواها معلول لها وهذا مما تبين بطلانه بالضرورة
ومن قال: ( إن مجموع أجزاء العالم واجبة أو قديمة ) فقوله معلوم الفساد بالضرورة
ومن قال: ( إن الحوادث صادرة عن جزء منه واجب ) فقوله أيضا معلوم الفساد سواء جعل ذلك الجزء الأفلاك أو بعضها لوجهين :
أحدهما: أن ذلك الجزء الذي هو واجب بغيره إذا كان علة تامة لغيره لزم أيضا قدم معلوله معه فيلزم أن لا يحدث شيء وإن كان ذلك الجزء الواجب ليس هو علة تامة امتنع صدور شيء عن غير علة تامة ولو قدر إمكان الحدوث عن غير علة تامة أمكن حدوث كل ماسوى الله فعلى كل تقدير قولهم باطل
الوجه الثاني: أنه من المعلول أنه ليس شيء من أجزاء العالم مستقلا بالأبداع لغيره من أجزائه وإن قيل: ( إن بعض أجزائه سبب لبعض ) فتأثيره متوقف على سبب آخر وعلى إنتفاء موانع فلا يمكن أن يجعل شيء من أجزاء العالم ربا واجبا بنفسه قديما مبدعا لغيره والحوادث لا بد لها من رب واجب بنفسه قديم مبدع لغيره وليس شيء من أجزاء العالم مما يمكن ذلك فيه فعلم أن الرب تعالى خارج عن العالم وأجزائه وصفاته وهذا كله مبسوط في موضع آخر
والمقصود هنا بيان أنه ليس في المعقول ما يناقض ما جاء به الرسول ﷺ
وقد علم أن المدعين لمعقول يناقضه صنفان :
صنف يجوزون عليه وعلى غيره من الرسل فيما أخبروا به عن الله تعالى وبلغوه إلى الأمم عن الله تعالى الكذب عمدا أو خطأ أو أن يظهر نقيض ما يبطن كما يقول ذلك من يقوله من الكفار بالرسل ومن المظهرين لتصديقهم كالمنافقين من المتفلسفة والقرامطة والباطنية ونحوهم ممن يقول بشيء من ذلك
وصنف لا يجوزون عليهم ذلك وهذا هو الذي يقوله المتكلمون المنتسبون إلى الإسلام على اختلاف أصنافهم
والمبتدعة من هؤلاء مخطئون في السمع وفي العقل ففي السمع حيث يقولون على الرسول ﷺ ما لم يقل عمدا أو خطأ وفي العقل حيث يقررون ذلك بما يظنونه براهين وإذا كانت الدعوى خطأ لم تكن حجتها إلا باطلة فإن الدليل لازم لمدلوله ولازم الحق لا يكون إلا حقا وأما الباطل فقد يلزمه الحق فلهذا يحتج على الحق بالحق تارة وبالباطل تارة وأما الباطل فلا يحتج عليه إلا بباطل فإن حجته لو كانت حقا لكان الباطل لازما للحق وهذا لا يجوز لأنه يلزم من ثبوت الملزوم ثبوت اللازم فلو كان الباطل مسلتزلما للحق لكان الباطل حقا فإن الحجة الصحيحة لا تستلزم إلا حقا وأما الدعوى الصحيحة: فقد تكون حجتها صحيحية وقد تكون باطلة ومن أعظم ما بنى عليه المتكلمة النافية للأفعال وبعض الصفات أو جميعها أصولهم التي عارضوا بها الكتاب والسنة: هي هذه المسألة وهي نفي قيام ما يشاؤه ويقدر عليه بذاته من أفعاله وغيرها
كلام الرازي والآمدي عن أدلة النفاة
وقد ذكر أبو عبد الله الرازي - هو وأبو الحسن الآمدي ومن اتبعهما - أدلة نفاة ذلك وأبطلوها كلها ولم يستدلوا على نفي ذلك إلا بأن ما يقوم به إن كان صفة كمال كان عدمه قبل حدوثها نقصا وإن كان نقصا اتصافه بالنقص والله تعالى منزه عن ذلك
وهذه الحجة ضعيفة ولعلها أضعف مما ضعفوه ونحن نذكر ما ذكره أبو عبد الله ابن الخطيب في ذلك في أجل كتبه الكلامية الذي سماه نهاية العقول في دراية الأصول وذكر أنه أورد فيه من الحقائق والدقائق ما لا يكاد يوجد في شيء من كتب الأولين والآخرين والسابقين واللاحقين من الموافقين والمخالفين ووصفه بصفات تطول
قال: ( وهذا كله لا يعلمه إلا من تقدم تحصيله لأكثر كلام العلماء وتحقق وقوفه على مجامع بحث العقلاء من المحقين والمبطلين والموافقين والمخالفين ) قال: ( فإنني قلما تكلمت فيه في المبادىء والمقدمات بل أكثر العناية كان مصروفا إلى تلخيص النهايات والغايات )
وقال في هذا الكتاب: ( الأصل الثاني عشر وهو ما يستحيل على الله ) قال: ( المسألة الرابعة في أنه يستحيل عليه أن يكوم محلا للحوادث واتفقت الكرامية على تجويز ذلك وأما تجدد الأحوال: فالمعتزلة اختلفوا في تجويزه مثل المدركية والسامعية والمبصرية والمريدية والكارهية وأما أبو الحسين البصري فإنه أثبت تجدد العالميات في ذاته )
قال: ( وأما الفلاسفة فمع أنهم في المشهور أبعد الناس عن هذا المذهب ولكنهم يقولون بذلك من حيث لا يعرفونه فإنه يجوزون تجدد الإضافات على ذاته مع أن الإضافة عندهم عرض وجودي وذلك يقتضي كون ذاته موصوفة بالحوادث وأما أبو البركات البغدادي فقد صرح باتصاف ذاته بالصفات المحدثة )
قلت: أبو عبد الله الرازي غالب مادته في كلام المعتزلة: ما يجده في كتب أبي الحسين البصري وصاحبه محمود الخوارزمي وشيخه عبد الجبار الهمداني ونحوهم وفي كلام الفلاسفة: ما يجده في كتب ابن سينا وأبي البركات ونحوهما وفي مذهب الأشعري: يعتمد على كتب أبي المعالي كالشامل ونحوه كتب القاضي أبي بكر وأمثاله وهو ينقل أيضا من كلام الشهرستاني وأمثاله وأما كتب القدماء ك أبي الحسن الأشعري وأبي محمد بن كلاب وأمثالهما وكتب قدماء المعتزلة والنجارية والضرارية ونحوهم فكتبه تدل على أنه لم يكن يعرف ما فيها وكذلك مذهب طوائف الفلاسفة المتقدمين وإلا فهذا القول الذي حكاه عن أبي البركات هو قول أكثر قدماء الفلاسفة الذين كانوا قبل أرسطو وقول كثير منهم كما نقل ذلك أرباب المقالات عنهم فنقل أرباب المقالات الناقلون لاختلاف الفلاسفة في الباري ما هو؟ قالوا: قال سقراط وأفلاطون وأرسطو: إن الباري لا يعبر عنه إلا بهو فقط وهو الهوية المحضة غير المتكثرة وهي الحكمة المحضة والحق المحض وليست لله صورة مثل الصورة التي تكترث في العنصر وهو الأيس الذي لا يحيط به الذهن ولا العقل ولا يجوز عليه التغير ولا الصفة ولا العدد ولا الإضافة ولا الوقت ولا المكان ولا الحدود ولا يدرك بالحواس ولا بالعقول من جهة غاية الكنه ولكن بأنه واحد أزلي ليس باثنين لأنا إن أوقعنا عليه العدد لزمته التثنية وإن أوقعنا عليه الإضافة لزمه الزمان والمكان والقبل والبعد وإن أوقعنا عليه المكان لزمه الحدود وجعلناه متنايها إلى غيره وقال تاليس وبلاطرخس ولوقيوس وكسيفايس وأنبذقليس جميعا: إن الباري واحد ساكن غير أن أنبذقليس قال: إنه متحرك بنوع سكون كالعقل المتحرك بنوع سكون فذلك جائز لأن العقل إذا كان مبدعا فهو متحرك بنوع سكون فلا محالة أن المبدع متحرك بسكون لأنه علة قالوا: وشايعه على هذا القول فيثاغورس ومن بعده إلى زمن أفلاطون
وقال زينون وديمقراط وساغوريون: إن الباري متحرك في الحقيقة وإن حركته فوق الذهن فليس زوالا
قالوا: وقال تاليس - وهو أحد أساطين الحكمة -: إن صفة الباري لا تدركها العقول إلا من جهة آثاره فأما من جهة هويته: فغير مدرك له صفة من نحو ذاته بل من نحو ذواتنا وكان يقول: أبدع الله العالم لا لحاجة إليه بل لفضله ولولا ظهور أفاعيل الفضيلة لم يكن ههنا وجود وكان يقول: إن فوق السماء عوالم مبدعة أبدعها من لا تدرك العقول كنهه
وقال فيثاغورس نحو قال تاليس: لا يدرك من جهة النفس هو فوق الصفات العلوية الروحانية غير مدرك بجوهريته بل من قبل آثاره في كل عالم فيوصف وينعت بقدر ظهور تلك الآثار في ذلك العالم وهو الواحد الذي رامت العقول إدراك معرفته عرفت أن ذواته مبدعة مسبوقة مخلوقة
قالوا: وقال انكسيمانس نحو مقالة هذين غير أنه يجوز لقائل أن يقول: إن الباري يتحرك بحركة فوق هذه الحركات
كلام ابن ملكا
قلت: وكذلك أبو البركات في المعتبر حكى المقالتين عن غيره بل عن القائلين بقدم العالم فقال: ( قال القائلون بالحدوث للقدميين: فإذا كان الله لم يزل جوادا خالقا قديما في الأزل فالحوادث في العالم كيف وجدت؟ أعن القديم أم عن غيره؟ فإن قلتم: هو خالقها وعنه صدر وجودها فقد قلتم بأن القديم خلق المحدث وأراد خلقه بعد أن لم يرد وإن قلتم: إن غيره فعل الحوادث فقد أشركتم بعد ما بالغتم في التوحيد لواجب الوجود بذاته )
قال: ( فقال القدميون: بل الخالق الأول الواحد القديم هو خالق المخلوقات بأسرها من قديم وحديث وحده لا شريك له في وجوده وخلقه وملكه وأمره وتشعب رأيهم في ذلك إلى مذهبين: فمنهم من قال: إنه خلق الأشياء القديمة دائمة الوجود بدوام وجوده والحوادث شيئا بعد شيء أراد فخلق وخلق فأراد أوجب خلقه إرادته وأوجب إرادته خلقه مثال ذلك: أنه أراد خلق آدم الذي هو الأب فخلقه وأوجده وأراد بوجود الأب وجود الابن أراد فجاد وجاد فأراد إرادة بعد إرادة لموجود بعد موجود فإذا قلتم: لم أوجد؟ قيل: لأنه أراد فجاد ولم أراد؟ قيل: لأنه أوجد فوجود الحوادث يقتضي بعضها بعضا من وجوده السابق واللاحق
فإن قالوا: كيف تحدث له الإرادة؟ وكيف يكون له حال منتظرة تكون بعد أن لم تكن؟ وكيف يكون محل الحوادث؟ قيل: وكيف يكوم محلا لغير الحوادث؟ أعني الإرادة القديمة
فإن قيل: لإنها له منه قيل: والإرادات له منه
فإن قيل: الإرادة القديمة له في قدمه قيل: والحديثة له في قدمه لأن السابق من وجوده بالإرادة السابقة أوجب عنده إرادة لاحقة فأحدث خلقا بعد خلق بإرادة بعد إرادة وجبت في حكمته من خلقه بعد خلقه فاللاحق من إرادته وجب عن سابق إرادته بتوسط مراداته وهكذا هلم جرا )
قال: ( والتنزيه عن الإرادة الحادثة كالتنزيه عن الأرادة القديمة في كونه محلا لها لكنه لا وجه لهذا التنزيه كما سنتكلم عليه في فصل العلم إذا قلنا في علمه: لم يعلم؟ وكيف يعلم؟
قال: ( فهذا أحد المذهبين ) قال: ( وأما المذهب الآخر: فإن أهله يقولون إن كل حادث يتجدد بعد عدمه فله سبب يوجب حدوثه وذلك السبب حادث أيضا حتى ترتقي أسباب الحوادث إلى الحركة الدائمة في المتحركات الدائمة ) وساق تمام قول هؤلاء وهو قول أرسطو وأتباعه
وقد نقل غير واحد أن أول من قال بقدم العالم من الفلاسفة هو أرسطو وأما أساطين الفلاسفة قبله فلم يكونوا يقولون بقدم صورة الفلك وإن كان لهم في المادة أقوال أخر وقد بسط الكلام على هذا الأصل في مسألة العلم وغيره لما رد على من زعم أنه لا يعلم الجزئيات حذرا من التغير والتكثر في ذاته وذكر حجة أرسطو وابن سينا ونقضها
وقال: ( فأما القول بإيجاب الغيرية فيه بإدراك الإغيار والكثرة بكثرة المدركات فجوابه المحقق: أنه لا يتكثر بذلك تكثرا في ذاته بل في إضافاته ومناسباته وتلك مما لا يعيد الكثرة على هويته وذاته ولا الوحدة التي أوجبت وجوب وجوده بذاته ومبدئيته الأولى التي بها عرفناه وبحسبها أوجبنا له ما أوجبنا وسلبنا عنه ما سلبنا هي وحدة مدركاته ونسبه وإضافاته بل إنما هي وحدة حقيقته وذاته وهويته )
قال: ( ولا تعتقدن أن الوحدة المقولة في صفات واجب الوجود بذاته قيلت على طريق التنزيه بل لزمت بالبرهان عن مبدئيته الأولى ووجوب وجوده بذاته والذي لزم عن ذلك لم يلزم إلا في حقيقته وذاته لا مدركاته وإضافاته فأما أن يتغير بإدراك المتغيرات فذلك أمر إضافي ( لا معنى في نفس الذات وذلك مما لم تطبله الحجة ولم يمنعه البرهان ونفيه من طريق التنزيه والإجلال لا وجه له بل التنزيه من هذا التنزيه والإجلال من هذا الإجلال أولى )
وتكلم على قول أرسطو إذ قال: من المحال أن يكون كماله بعقل غيره إذ كان جوهرا في الغاية من الإلهية والكرامة والعقل فلا يتغير والتغير فيه انتقال إلى الأنقص وهذا هو حركة ما فيكون هذا العقل ليس عقلا بالفعل لكن بالقوة فقال أبو البركات: ( ما قيل في منع التغير مطلقا حتى يمنع التغير في المعارف والعلوم: فهو غير لازم في التغير مطلقا بل هو غير لازم البتة وإن لزم كان لزومه في بعض تغيرات الأجسام مثل الحرارة والبرودة وفي بعض الأوقات لا في كل حال ووقت ولا يلزم مثل ذلك في النفوس التي تخصها المعرفة والعلم دون الأجسام فإنه يقول: إن كل تغير وانفعال فإنه يلزم أن يتحرك قبل ذلك التغير حركة مكانية )
قال: ( وهذا محال فإن النفوس تتجدد لها المعارف والعلوم من غير أن تتحرك على المكان على رأيه فإنه لا يعتقد فيها أنها مما يكون في مكان البتة فكيف أن تتحرك فيه؟ وإنما ذلك للأجسام في بعض التغيرات والأحوال كالتسخن والتبرد ولا يلزم فيهما أبدا وإنما ذلك فيما يصعد بالبخار من الماء ويتدخن من الأرض من الأجزاء التي هي كالهباء دون غيرها من الأحجار الكبار الصلبة التي تحمى حتى تصير بحيث تحرق وهي في مكانها لا تتحرك والماء يسخن سخونة كثيرة وهو في مكانه لا يتبخر وإنما يتبخر منه بعض الأجزاء ثم تكون الحركة المكانية بعد الاستحالة لا قبلها: كما قال: إن جميع هذه هي حركات توجد بأخرة بعد الحركات المكانية وفيما عدا ذلك فقد يسود الجسم ويبيض هو في مكانه لم يتحرك قبل الاستحالة ولا بعدها فما لزم هذا في كل جسم بل في بعض الأجسام ولا في كل حال ووقت بل في بعض الأحوال والأوقات ولا كان ذلك على طريق التقدم كما قال بل على طريق التبع ولو لزم في التغيرات الجسمانية لما لزم في التغيرات النفسانية ولو لزم التغيرات النفسانية ايضا لما لزم انتقال الحكم فيه إلى التغيرات في المعارف والعلوم والعزائم والإرادات فالحكم الجزئي لا يلزم كليا ولا يتعدى من البعض إلى البعض وإلا لكانت الأشياء على حالة واحدة )
وبسط الكلام في مسألة العلم وقال - لما ذكر القولين المتقدمين -: ( والقائلون بالحدوث قالوا: إنه لا يحتاج إلى هذا التمحل وسموه على طريق المجادلة باسم التمحل للتشنيع والتسفيه بل نقول: بأن المبدىء المعيد خلق العالم وأحدثها بإرادة قديمة أزلية أراد بها في القدم إحداث العالم حتى أحدثه )
وقال: ( وقيل في جوابهم: إن ذلك المبدأ لا يتغير ويتخصص في القدم إلا معقول يجعله مقصودا في العلم القديم عند الإرادة القديمة حيث أراده في مدة العدم السابق لحدوث العالم التي هي مدة غير متناهية البداية وما لا يعقل ولا يتصور لا يعلم وما لا يمكن أن يعلم لا يعلمه عالم لا لأن الله لا يقدر على علمه لكن لأنه في نفسه غير مقدرور عليه ثم ما الذي يقولونه في حدوث العالم: من مشيئة الله وإرادته التي بها يقبل الدعاء من الداعي ويحسن إلى المحسن ويسيء إلى المسيء ويقبل توبة التائب ويغفر للمستغفر هل يكون ذلك عنه أو لا يكون؟ فإن قالوا بأنه لا يكون أبطلوا بذلك الشرع الذي قصدهم نصرته وأبطلوا حكم أوامره ونواهيه وكل ما جاء لأجله من الحث على الطاعة والنهي عن المعصية وإن قالوا: يكون ذلك بأسره عنه فهل هو بإرادة أم بغير إرادة؟ وكونه بغير إرادة أشنع وإن كان بإرادة فهل هي إرادة قديمة أم محدثة؟ فإن كانت قديمة فالإرادات القديمة غير واحدة وما أظنهم يقولون: إن المرادات الكثيرة صدرت عن إرادة واحدة
قال: ( وإن قالوا: إن ذلك يصدر عنه بإرادات حادثة فقد قالوا بما هربوا منه أولا )
تعليق ابن تيمية
قلت: فأبو البركات لاستبعاد عقله أن تصدر المرادات الكثيرة عن إرادة واحدة ظن أن هؤلاء لا يقولون به وهم يقولون به فإن هذا قول ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما من أهل الكلام والفقه والحديث والتصوف يقولون: إنه يعلم المعلومات كلها بعلم واحد بالعين ويريد المرادات كلها بإرادة واحدة بالعين وإن كلامه الذي تكلم به من الأمر بكل مأمور والخبر عن كل مخبر عنه هو أيضا واحد بالعين ثم تنازع القائلون بهذا الأصل: هل كلامه معنى فقط والقرآن العربي ليس هو كلامه أو كلامه الحروف أو الحروف والأصوات التي نزل بها القرآن وغيره وهي قديمة العين؟ على قولين
ومن القائلين بقدم أعيان الحروف والأصوات من لا يقول هي واحدة بل يقول: هي متعددة وإن كانت لا نهاية لها ويقول بثبوت حروف أو حروف ومعان لا نهاية لها في آن واحد وأنها لم تزل ولا تزال وهذا مما أوجب قول القائلين بأن كلام الله مخلوق وأنه ليس له كلام قائم بذاته لما رأوا أن ما ليس بمخلوق فهو قديم العين والثاني ممتنع عندهم فتعين الأول
وأولئك الصنفان قالوا: والأول ممتنع فتعين الثاني وهؤلاء إنما قالوا هذه الأقوال لظنهم أنه يمتنع أن تقوم به الأمور الاختيارية: لا كلام باختياره ولا غير كلام كما قد بين في موضعه
وهذا الأصل هو القول بقيام الحوادث به هو قول هشام بن الحكم وهشام الجواليقي وابن مالك الحضرمي وعلي بن الهيثم وأتباعهم وطوائف من متقدمي أهل الكلام والفقه كأبي معاذ التومني وزهير الأثري وداود الأصبهاني وغيرهم كما ذكره الأشعري عنهم في المقالات وقال ( وكل القائلين بأن القرآن ليس بمخلوق - كنحو عبد الله بن سعيد بن كلاب ومن قال: إنه محدث كنحو زهير الأثري - يعني وداود الأصبهاني - ومن قال: إنه حدث كنحو أبي معاذ التومني - يقولون: إن القرآن ليس بجسم ولا عرض )
وأما أقوال أئمة الفقه والحديث والتصوف والتفسير وغيرهم من علماء المسلمين وكذلك كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان فكلام الرازي يدل على أنه لم يكن مطلعا على ذلك
كلام آخر للرازي
والمقصود هنا أن نبين غاية حجة النفاة فإنه بعد أن ذكر الخلاف قال: ( والمعتمد أن نقول: كل ما صح قيامه بالباري تعالى: فإما أن يكون صفة كمال أو لا يكون فإن كان صفة كمال استحال أن يكون حادثا وإلا كانت ذاته قبل اتصافه بتلك الصفة خالية عن صفة الكمال والخالي عن الكمال الذي هو ممكن الاتصاف به ناقص والنقص على الله محال بإجماع الأمة وإن لم يكن صفة كمال استحال اتصاف الباري بها لأن إجماع الأمة على أن صفات الله بأسرها صفات كمال فإثبات صفة لا من صفات الكمال خرق للإجماع وإنه غير جائز )
قال: ( وهذا ما نعول عليه وإنه مركب من السمع والعقل )
قال: ( والذي عول عليه أصحابنا أنه لو صح اتصافه بالحوادث لوجب اتصافه بالحوادث أو بأضادها في الأزل وذلك يوجب اتصافه بالحوادث في الأزل وإنه محال )
وقال: ( وهذا الدلالة مبنية على أن القابل للضدين يستحيل خلوه عنهما وقد عرفت فساده )
قال: ( ومن أصحابنا من أورد هذه الدلالة على وجه لا يحتاج في تقريرها إلى البناء على ذلك الأصل وهو أنه لو كان قابلا للحوادث لكان قابلا لها في الأزل وكون الشيء قابلا للشيء فرع عن إمكان وجود المقبول فيلزم صحة حدوث الحوادث في الأزل وهو محال )
قال: ( إلا أن ذلك معارض بأن الله قادر في الأزل ولا يلزم من أزلية قادريته صحة أزلية المقدور فكذلك ههنا )
قال: ( ومنهم من قال: لو كانت الحوادث قائمة به لتغير وهو محال )
قال: ( وهذا ضعيف لأنه إن فسر التغير بقيام الحوادث به اتحد اللازم والملزوم وإن فسر بغيره امتنع إثبات الشرطية )
قال: ( وأما المعتزلة فجلهم تمسكوا بأن المفهوم من قيام الصفة بالموصوف حصولها في الحيز تبعا لحصول ذلك الموصوف فيه والباري تعالى ليس في الجهة فامتنع قيام الصفة به )
قال: ( وقد عرفت ضعف هذه الطريقة )
قال: ( ومشايخهم استدلوا بأن الجوهر إنما يصح قيام المعاني الحادثة به لكونه متحيزا بدليل أن العرض لما لم يكن متحيزا لم يصح قيام هذه المعاني به )
قال: ( وإنه باطل لاحتمال أن يقال: إن الجوهر إنما صح قيام الحوادث به لا لكونه متحيزا بل لأمر آخر مشترك بينه وبين الباري تعالى وغير مشترك بينه وبين العرض سلمنا ذلك إلا أنه من المحتمل أن يكون الجوهر يقبل الحوادث لكونه متحيزا والله تعالى يقبلها لوصف آخر لصحة تعليل الأحكام المتساوية بالعلل المختلفة )
قال: ( واستدلوا أيضا بأنه لو صح قيام حادث به لصح قيام كل حادث به )
قال: ( وهذه دعوى لا يمكن إقامة البرهان عليها )
قال: ( فهذه عيون ما تمسكت به الناس في هذه المسألة )
تعليق ابن تيمية
قلت: أبو عبد الله الرازي من أعظم الناس منازعة للكرامية حتى يذكر بينه وبينهم أنواع من ذلك وميله إلى المعتزلة والمتفلسفة أكثر من ميله إليهم واختلف كلامه في تكفيرهم وإن كان هو قد استقر أمره على أنه لا يكفر أحدا من أهل القبلة لا لهم ولا للمعتزلة ولا لأمثالهم وهذه المسألة من أشهر المسائل التي ينازعهم فيها ومع هذا قد ذكر أن قولهم يلزم أكثر الطوائف وذكر أنه ليس لمخالفيهم عليهم حجة صحيحة إلا الحجة التي احتج هو بها وهي من أضعف الحجج كما سنبينه إن شاء الله تعالى
وأما الحجج التي يحتج بها الكلابية والمعتزلة فقد بين هو فسادها مع أنه قد استوعب حجج النفاة والذي ذكره هو مجموع ما يوجد في كتب الناس مفرقا ونحن نوضح ذلك :
فأما الحجة الأولى - وهي: ( أن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده فلو جاز اتصافه بها لم يخل منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث ) فهذه الحجة مبنية على مقدمتين وفي كل من المقدمتين نزاع معروف بين طوائف من المسلمين :
أما الأولى - وهي أن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده - فأكثر العقلاء على خلافها والنزاع فيها بين طوائف الفقهاء والنظار ومن الفقهاء من أتباع الأئمة الأربعة كأصحاب احمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم ومن قال ذلك التزم أن يكون لكل جسم طعم ولون وريح وغير ذلك من أنواع الأعراض ولا دليل لأصحابها عليها
وأبو المعالي في كتابه المشهور الذي سماه الأرشاد إلى قواطع الأدلة لم يذكر على ذلك حجة بل هذه المقدمة احتاج إليها في مسألة حدوث العالم لما أرد أن يبين أن الجسم لا يخل من كل جنس من أجناس الأعراض عن عرض منه فأحال على كلامه مع الكرامية ولما تكلم مع الكرامية في هذه المسألة أحال على كلامه في مسألة حدوث العالم مع الفلاسفة ولم يذكر دليلا عقليا لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء وإنما احتج على الكرامية بتناقضهم
ومضمون ما اعتمد عليه من قال: ( إن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده ) أن الجسم لا يخلو عن الأكوان الأربعة: الاجتماع والافتراق والحركة والسكون فتقاس بقية الأعراض عليها واحتجوا بأن القابل لها لا يخلو عنها وعن ضدها بعد الاتصاف كما سلمته الكرامية فكذلك قبل الاتصاف
فأجابهم من خالفهم - كالرازي وغيره - بأن الأولى قياس محض بغير جامع فإذا قدر أن الجسم يستلزم نوعا من أنواع الأعراض فمن أين يجب أن يستلزم بقية الأنواع؟ وأيضا فإن الذي يسلمونه لهم الحركة والسكون والسكون: هل وجود أو عدم؟ فيه قولان معروفان وأما الاجتماع والافتراق فهو مبني على مسألة الجوهر الفرد ومن قال: ( إن الأجسام ليست مركبة من الجواهر الفردة ) - وهم أكثر الطوائف - لم يقل بأن الجسم لا يخل من الاجتماع والافتراق بل الجسم البسيط عنده واحد سواء قبل الافتراق أو لم يقبله وكذلك إذا قدر أن فيه حقائق مختلفة متلازمة لم يلزم من ذلك أن يقبل الاجتماع والافتراق
وأما كونه لا يخلو عنهما بعد الاتصاف فأجابوا عنه بمنع ذلك في الأعراض التي لا تقبل البقاء كالحركات والأصوات وأما ما يقبل البقاء فهو مبني على أن الباقي هل يفتقر زواله إلى ضد أم لا؟ فمن قال: ( إن الباقي لا يفتقر زواله إلى ضد ) أمكنه أن يقول بجواز الخلو عن الاتصاف بالحادث بعد قيامه بدون ضد يزيله ومن قال: ( لا يزول إلا بضد ) قال: إن الحادث لا يزول إلا بضد حادث فإن الحادث بعد الحدوث لا يخلو المحل منه ومن ضده بناء على هذا الأصل فإن كان هذا الأصل صحيحيا ثبت الفرق وإن كان باطلا منع الفرق وتناقضهم يدل على فساد أحد قوليهم
ثم القائلون بموجب هذا الأصل طوائف كثيرون بل أكثر الناس على هذا فلا يلزم من تناقض الكرامية تناقض غيرهم
وأما المقدمة الثانية - ( وهي أن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث ) - فهذه قد نازع فيها طوائف من أهل الكلام والفلسفة والفقه والحديث والتصوف وغيرهم وقالوا: التسلسل الممتنع هو التسلسل في العلل فأما التسلسل في الآثار المتعاقبة والشروط المتعاقبة فلا دليل على بطلان بل لا يمكن حدوث شيء من الحوادث لا العالم ولا شيء من أجزاء العالم إلا بناء على هذا الأصل فمن لم يجوز ذلك لزمه حدوث الحوادث بلا سبب حادث وذلك يستلزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح كما قد بسط هذا في مسألة حدوث العالم وبين أنه لا بد من تسلسل الحوادث أو الترجيح بلا مرجح وأن القائلين بالحدوث بلا سبب حادث يلزمهم الترجيح بلا مرجح وأن القائلين بقدم العالم يلزمهم الترجيح بلا مرجح ويلزمهم حدوث الحوادث بلا محدث أصلا وهذا أفسد من حدوثها بلا سبب حادث
والطوائف أيضا متنازعة في هذا الأصل وجمهور الفلاسفة وجمهور أهل الحديث لا يمنعون ذلك وأما أهل الكلام: فللمعتزلة فيه قولان وللأشعرية فيه قولان
وأما الحجة الثانية - وهي أنه ( لو كان قابلا لها لكان قابلا لها في الأزل وذلك فرع إمكان وجودها ووجودها في الأزل محال - فقد أجاب عنها بالمعارضة بأنه قادر على الحوادث ولا يلزم من كون القدرية أزلية أن يكون إمكان المقدور أزليا
قلت: ويمكن أن يجاب عنها بوجوه أخرى :
أحدها: أنه لا يسلم أنه إذا كان قابلا لحدوث الحادث أن يكون قابلا له في الأزل إلا إذا أمكن وجود ذلك في الأزل فإنه إذا قيل: ( هو قابل لما يمتنع أن يكون أزليا ) كان بمنزلة أن يقال: هو قادر على ما يمتنع أن يكون أزليا فمن اعتقد امتناع حدوث حادث في الأزل وقال مع ذلك بأنه قادر على الحوادث وقابل لها لم يلزمه القول بإمكان وجود المقدور المقبول في الأزل لكن هذا المقام هو مقام الذين يقولون ( يمتنع حدوث الحوادث بلا سبب حادث ) والكلام في هذا مشترك بين كونه قادرا وقابلا فمن جوز حدوث الحوادث بلا سبب حادث - كالكلابية وأمثالهم من المعتزلة والكرامية - كان كلامه في هذا بمنزلة كلامه في هذا ومن قال: ( إن حدوث الحوادث لا بد له من سبب حادث ) - كما يقوله من يقوله من أهل الكلام والفلسفة وأهل الحديث وغيرهم الذين يقولون: إ: نه تقوم به الأمور المتعلقة بقدرته ومشيئته ولم يزل كذلك أو يقولون بتعاقب ذلك في غيره كما يشترك في هذه الأصل من يقوله من الهشامية والمعتزلة والمرجئة وأهل الحديث والسلفية والفلاسفة ومن وافق هؤلاء من أتباع الأشعري وغيرهم - فقولهم في هذا كقولهم في هذا
الوجه الثاني: أن يلتزم قائل ذلك إمكان وجود المقبول في الأزل كما يلتزم من يلتزم إمكان وجود المقدور في الأزل وقد عرف أن لطوائف المسلمين في هذا الأصل قولين معروفين فإن ما لا يتناهى من الحوادث: هل يمكن وجوده في الماضي والمستقبل أو في الماضي فقط أو فيهما جميعا؟ على ثلاثة أقوال معروفة قال بكل قول طوائف من نظار المسلمين وغيرهم
الوجه الثالث: أن يجاب بجواب مركب فيقال: هو قابل لما هو قادر عليه فإن كان ثبوت جنسها في الأزل ممكنا كان قابلا لذلك في الأزل وقادرا عليه في الأزل وإن لم يكن ثبوت هذا الجنس ممكنا في الأزل كان قابلا للممكن من ذلك كما هو قادر على الممكن من ذلك
الوجه الرابع: أن يقال: كونه قابلا أو ليس بقابل: هو نظر في محل هذه الأمور وليس نظرا في إمكان تسلسلها أو امتناع ذلك كما أن النظر في كونه يقبل الاتصاف بالصفات - كالعلم والقدرة - هو نظر في إمكان اتصافه بذلك فأما وجوب تناهي ما مضى من الحوادث أن ما بقي وإمكان وجود جنس الحوادث في الأزل: فذلك لا اختصاص له بمحل دون محل فإن قدر امتناع قيام ذلك به فلا فرق بين المتسلسل والمتناهي وإن قدر إمكان ذلك كان بمنزلة إمكان حدوث الحوادث المنفصلة والكلام في إمكان تسلسلها وعدم إمكان ذلك مسألة أخرى
الجواب الخامس: أن يقال: هذه الأمور المقبولة هي من الحوادث المقدورة بخلاف الصفات اللازمة له فإنها ليست مقدورة فالمقبولات تنقسم إلى مقدور وغير مقدور كما أن المقدورات تنقسم إلى مقبول وغير مقبول وما يقوم بالذات من الحوادث هو مقبول مقدور وحينئذ فإذا كان وجود المقدور في الأزل محالا كان وجود هذا المقبول في الأزل محالا لأن هذا المقبول مقدور من المقدورات وإذا كان وجود هذه الحوادث المقدورة المقبولة محالا في الأزل لم يلزم من ذلك امتناع وجودها فيما لا يزال كسائر الحوادث ولم يزل من كون الذات قابلة لها إمكان وجودها في الأزل
الجواب السادس: أن يقال: أنتم تقولون: ( إنه قادر في الأزل ) مع امتناع وجود المقدور في الأزل وتقولون: ( إنه قادر في الأزل على ما لا يزال ) فإن كان هذا الكلام صحيحا أمكن أن يقال في المقبول كذلك ويقال: هو قابل في الأزل مع امتناع وجود المقبول في الأزل وهو قابل في الأزل لما لا يزال وإن كان هذا الكلام باطلا لزم إمكان وجود المقدور في الأزل وإما امتناع كونه قادرا في الأزل وعلى التقديرين: يبطل ما ذكرتموه من الفرق بين القادر وبين القابل بقولكم: ( تقدم القدرة على المقدور واجب دون تقدم القابل على المقبول )
الجواب السابع: أن يقال: أنتم اعتمدتم في هذا على أن تلك القابلية يجب أن تكون من لوازم الذات ويلزم من ذلك إمكان وجود المقبول في الأزل لأن قابلية الشيء لغيره نسبة بين القابل والمقبول والنسبة بين الشيئين موقوفة عليهما فيقال لكم: إن كانت النسبة بين الشيئين موقوفة عليهما - أي على تحققهما معا في زمن واحد كما أقتضاه كلامكم - بطل فرقكم وهو قولكم ( بأن تقدم القدرة على المقدور واجب ) فإن القدرة نسبة بين القادر والمقدور مع وجوب تقدم القدرة على المقدور وهكذا تقولون ( الإرادة قديمة مع امتناع وجود المراد في الأزل ) وتقولون: ( الخطاب قديم مع امتناع وجود المخاطب في الأزل ) فإذا كنتم تقولون بأن هذه الأمور التي تتضمن النسبة بين شيئنين تتحقق في الأزل مع وجود أحد المنتسبين دون الآخر أمكن أن يقال: إن القابلية متحققة في الأزل مع امتناع تحقق المقبول في الأزل كما قال كثير من الناس: إن التكوين ثابت في الأزل مع امتناع وجود المكون في الأزل
وأما الحجة الثالثة - وهو أن قيام الحوادث به تغير والله منزه عن التغير - فهذه هي التي اعتمد عليها الشهرستاني في نهاية الإقدام ولم يحتج بغيرها
وقد أجاب الرازي وغيره عن ذلك بأن لفظ ( التغير ) مجمل فإن الشمس والقمر والكواكب إذا تحركت أو تحركت الرياح أو تحركت الأشجار والدواب من الأناسي وغيرهم فهل يسمى هذا تغيرا أولا يسمى تغيرا؟ فإن سمي تغيرا كان المعنى أنه إذا تحرك المتحرك فقد تحرك وإذا تغير بهذا التفسير فقد تغير وإذا قامت به الحوادث - كالحركة ونحوها - فقد قامت به الحوادث فهذا معنى قوله: ( إن فسر بذلك فقد اتحد اللازم والملزوم )
فيقال: وما الدليل على امتناع هذا المعنى؟ وإن سماه المسمى تغيرا وإن كان هذا لا يسمى تغيرا بل المراد بالتغير غير مجرد قيام الحوادث مثل أن يعني بالتغير الاستحالة في الصفات كما يقال: تغير المريض وتغيرت البلاد وتغير الناس ونحو ذلك فلا دليل على أنه يلزم من الحركة ونحوها من الحوادث مثل هذا التغير ولا ريب أن التغير المعروف في اللغة هو المعنى الثاني فإن الناس لا يقولون للشمس والقمر والكواكب - إذا كانت جارية في السماء -: إن هذا تغير وإنها تغيرت ولا يقولون للإنسان إذا كانت عادته أن يقرأن القرآن ويصلي الخمس: إنه كلما قرأ وصلى قد تغير وإنما يقولون ذلك لمن لم تكن عادته هذه الأفعال فإذا تغيرت صفته وعاداته قيل: إنه قد تغير
وحينئذ فمن قال: ( إنه سبحانه لم يزل متكلما إذا شاء فعالا لما يشاء ) لم يسم أفعاله تغيرا ومن قال: ( إنه تكلم بعد أن لم يكن متكلما وفعل بعد أن لم يكن فاعلا ) فإنه يلزم من قال: ( إن الكلام والفعل يقوم به ) ما يلزم من قال: ( إن الكلام والفعل يقوم بغيره ) والقول في أحد النوعين كالقول في الآخر وإذا قدر أن النزاع لفظي فلا بد من دليل سمعي أو عقلي يجوز أحدهما ويمنع الآخر وإلا فلا يجوز التفريق بين المتماثلين بمجرد الدعوى أو بمجرد إطلاق لفظي من غير أن يكون ذلك اللفظ مما يدل على ذلك المعنى في كلام المعصوم فأما إذا كان اللفظ في كلام المعصوم - وهو كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل الإجماع - وعلم مراده بذلك اللفظ فإنه يجب مراعاة مدلول ذلك اللفظ ولا يجوز مخالفة قول المعصوم وإطلاق التغير على الأفعال كإطلاق لفظ ( الغير ) على الصفات وإطلاق لفظ ( الجسم ) على الذات وكل هذه الألفاظ فيها إجمال واشتباه وإبهام ومذهب السلف والأئمة: أنهم لا يطلقون لفظ ( الغير ) على الصفات لا نفيا ولا إثباتا فلا يطلقون القول بأنها غيره ولا بأنها ليست غيره إذ اللفظ مجمل فإن أراد المطلق بالغير المباين فليست غيرا وإن أراد بالغير ما قد يعلم أحدهما دون الآخر فهي غير وهكذا ما كان من هذا الباب
وإذا كان هذا كلامهم في لفظ ( الغير ) فلفظ ( التغير ) مشتق منه ومن تأمل كلام فحول النظر في هذه المسألة علم أن الرازي قد استوعب ما ذكروه وأن النفاة ليست معهم حجة عقلية تثبت على السبر وإنما غايتهم إلزام التناقض لمن يخالفهم من المعتزلة والكرامية والفلاسفة
ومن المعلوم أن تناقض المنازع يستلزم فساد أحد قوليه لا يستلزم فساد قوله بعينه الذي هو مورد النزاع ولهذا كان من ذم أهل الكلام المحدث من أهل العلم لأنهم يصفونهم بهذا ويقولون: يقابلون فاسدا بفاسد وأكثر كلامهم في إبداء مناقضات الخصوم
وأيضا فغير ذلك الخصم لا يلتزم مقالته التي ناقض به المورد النزاع كما في هذه المسألة فإنه وإن كانت الكرامية قد تناقضوا فيها فلم يتناقض فيها غيرهم من الأئمة والسلف وأهل الحديث وغيرهم من طوائف أهل النظر والكلام
وقد قال أبو القاسم الأنصاري - شيخ الشهرستاني وتلميذ أبي المعالي - في شرح الإرشاد: ( أجود ما يتمسك به في هذه المسألة تناقض الخصوم )
أقوال الجويني في مسألة أفعال الله ورد ابن تيمية عليه
وهو كما قال: فإنه لم يجد لمن تقدمه في ذلك مسلكا سديدا لا عقليا ولا سمعيا واعتبر ذلك بما ذكره أبو المعالي في كتابه الذي سماه: الإرشاد إلى قواطع الأدلة وقد ضمنه عيون الأدلة الكلامية التي يسلكها موافقوه وقد تكلم على هذا الأصل في موضعين من كتابه :
أحدهما: في مسألة حدوث العالم فإنه استدل بدليل الأعراض المشهور وهو أن الجسم لا يخلو من الأعراض وما لا يخلو عنها فهو حادث وهو الدليل الذي اعتمدت عليه المعتزلة قبله وهو الذي ذمه الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر وبين أنه ليس من طرق الأنبياء وأتباعهم والدليل هو مبني على إثبات أربع مقدمات: الأعراض وإثبات حدوثها وأن الجسم لا يخلو منها وإبطال حوادث لا أول لها فلما صار إلى المقدمة الثالثة قال: ( وأما الأصل الثالث - وهو تبيين استحالة تعري الجواهر عن الأعراض - فالذي صار إليه أهل الحق: أن الجوهر لا يخلو عن كل جنس من الأعراض وعن جميع أضداده لا كان له أضداد وإن كان له ضد واحد لم يخل الجوهر عن أحد الضدين وإن قدر عرض لا ضد له لم يخل الجوهر عن قبول واحد من جنسه )
قال: ( وجوزت الملحدة خلو الجوهر عن جميع الاعراض والجواهر في اصطلاحهم تسمى الهيولى والمادة والأعراض تسمى الصورة )
قال: ( وجوز الصالحي العرو عن جملة الأعراض ابتداء ومنع البصريون من المعتزلة من العرو عن جميع الأكوان وجوزوا الخلو عما عداها وقال الكعبي ومتبعوه: يجوز الخلو عن الأكوان ويمتنع العرو عن الألوان )
قال: ( وكل مخالف لنا يوافقنا على امتناع العرو عن الأعراض بعد قبول الجواهر لها فيفرض الكلام على الملحدة في الأكوان فإن القول فيها يستند إلى الضرورة فإننا ببديهة العقل نعلم أن الجواهر القابلة للاجتماع والافتراق لا تعقل غير متماسة ولا متباينة
ومما يوضح ذلك: أنها إذا اجتمعت فيما لا يزال فلا يتقرر اجتماعها إلا عن افتراق سابق إذا قدر لها الوجود قبل الاجتماع وكذلك إذا طرأ الافتراق عليها اضطررنا إلا العلم بأن الافتراق مسبوق باجتماع وغرضنا في ورم إثبات حدث العالم يتضح بالأكوان )
قلت: أثبات الأكوان بقبول الحركة والسكون هو الذي لا يمكن دفعه فإن الجسم الباقي لا بد له من الحركة أو السكون وأما الأجتماع والافتراق فهو مبني على إثبات الجوهر الفرد والنزاع فيه كثير مشهور فإن من ينفيه لا يقول: إن الجسم مركب منه ولا إن الجوهر كانت متفرقة فاجتمعت والذين يثبتونه أيضا لا يمكنهم إثبات أن الجواهر كانت متفرقة فاجتمعت فإنه لا دليل على أن السماوات كانت جواهر متفرقة فجمع بينها ولهذا قال في الدليل: ( فإنا ببديهة العقل نعلم أن الجواهر القابلة للاجتماع والافتراق لا تعقل غير متماسة ولا متباينة ) وهذا كلام صحيح لكن الشأن في أثبات الجواهر القابلة للاجتماع والافتراق فما ذكره من الدليل مبني على تقدير أنها كانت متفرقة فاجتمعت وهذا التقدير غير معلوم بل هو تقدير منتف في نفس الأمر عند جمهور العقلاء من المسملين وغيرهم
ثم قال أبو المعالي: ( وإن حاولنا ردا على المعتزلة فيما خالفونا فيه تمسكنا بنكتتين: إحداهما: الاستشهاد بالإجماع على امتناع العرو عن الأعراض بعد الاتصاف بها فنقول: كل عرض باق فإنه ينتفي عن محله بطريان ضده ثم الضد إنما يطرأ في حال عدم المنتفى به على زعمهم فإذا انتفى البياض فهلا جاز أن لا يحدث بعد انتفائه لون إن كان يجوز الخلو من الألوان وتطرد هذه الطريقة في أجناس الأعراض )
قلت: مضمون هذا أنه قاس ما بعد الاتصاف على ما قبله وقد أجابه المنازعون عن هذا بأن الفرق بيهما: أن الضد لا يزول إلا بطريان ضده فلهذا لم يخل منهما: فإن كان هذا الفرق صحيحا بطل القياس وإلا منع الحكم في الأصل وقيل: بل يجوز خلوه بعد الإتصاف إذا أمكن زوال الضد بدون طريان آخر وما ذكره في السواد والبياض قضية جزيئية فلا تثبت بها دعوى كلية ومن أين يعلم أن كل طعم في الأجسام إذا زال فلا بد أن يخلفه طعم آخر؟ وكل ريح إذا زالت فلا بد أن يخلفها ريح آخر؟ وكذلك في الإرادة والكراهة ونحو ذلك فمن أين يعلم أن المريد للشيء المحب له إذا زالت إرادته ومحبته فلا بد أن يخلفه كراهية وبغضه؟ ولم لا يجوز خلو الحي عن حب المعين وبغضه وإردته وكراهته؟
قال: ( ونقول أيضا: الدال على استحالة قيام الحوادث بذات الرب سبحانه وتعالى: أنها لو قامت به لم يخل عنها وذلك يقضي بحدثه فإذا جوز الخصم عرو الجوهر عن حوادث مع قبوله لها صحة وجوزا فلا يستقيم مع ذلك دليل على استحالة قبول البارىء للحوادث )
قلت: فلقائل أن يقول: هذا غايته إلزام لهؤلاء المعتزلة: إنكم إذا جوزتم ذلك يكن لكم حجة على استحالة قبول الباري للحوادث
فيقال: إما أن يكون هذا لازما وإما أن لا يكون لازما: فإذا كان لازما دل ذلك على أنه لا دليل للمعتزلة على ذلك ولا دليل له أيضا فإن مجرد موافقة المعتزلة له لا يكون دليلا لواحد منهما في شيء من المسائل التي لم نعلم فيها نزاعا فكيف مع ظهور النزاع؟ وإن لم يكن لازما لهم لم يكن حجة عليهم
فقد تبين أنه لم يذكر حجة على أن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده
الموضع الثاني - قال في أثناء الكتاب :
( فصل ) مما يخالف فيه الجوهر حكم الإله: قبول الأعراض وصحة الاتصاف بالحوادث والرب يتقدس عن قبول الحوادث )
قال: ( وذهبت الكرامية إلى أن الحوادث تقوم بذات الرب ثم زعموا أنه لا يتصف بما يقوم به من الحوادث وصاروا إلى جهالة لم يسبقوا إليها فقالوا: القول الحادث يقوم بذات الرب وهو غير قائل به وإنما يقول بالقائلية والقائلية عندهم القدرة على التكلم وحقيقة أصلهم: أن أسماء الرب لا يجوز أن تتجدد ولذلك وصفوه بكونه خالقا في الأزل ولم يتحاشوا من قيام الحوادث به وتنكبوا إثبات وصف جديد له ذكرا وقولا )
قال: ( والدليل على بطلان ما قالوه: أنه لو قبل الحوادث لم يخل منها لما سبق تقريره في الجواهر حيث قضينا باستحالة تعريها عن الأعراض ولو لم تخل عن الحوادث لم تسبقها وينساق ذلك إلى الحكم بحدث الصانع )
قال: ( ولا يستقيم هذا الدليل على أصل المعتزلة مع مصيرهم إلى تجويز خلو الجوهر عن الأعراض على تفصيل لهم أشرنا إليه وإثباته أحكاما متجددة لذات الرب تعالى من الإرادة المحدثة القائمة لا بمحل على زعمهم ويصدهم أيضا عن طرد دليل في هذه المسألة: إنه إذا لم يمتنع تجدد أحكام للذات من غير أن تدل على الحدث لم يبعد مثل ذلك في اعتوار نفس الأعراض على الذات )
هذا كلامه ولقائل أن يقول: قوله: ( الدليل على بطلان ما قالوه: أنه لو قبلها لم يخل منها لما سبق تقريره في الجواهر ) هو لم يذكر دليلا هناك إلا قياس ما قبل الاتصاف على ما بعده وهو ليس حجة علمية عقلية بل غايته: احتجاج بموافقة منازعة في مسألة عظيمة عقلية ترد لأجلها نصوص الكتاب والنسة وينبني عليها من مسائل الصفات والأفعال أمور عظيمة اضطرب فيها الناس فمن الذي يجعل أصول الدين مجرد قول قالته طائفة من أهل الكلام وافق بعضهم بعضا عليه من غير حجة عقلية ولا سمعية؟
وقد أجابه المنازعون بجواب مركب وهو إما الفرق - إن صح - وألا منع حكم الاصل
وأيضا فأنه قد قرر هناك وهنا أن المعتزلة أئمة الكلام الذين أظهروا في الإسلام نفي الصفات والأفعال وسموا ذلك تقديسا له عن الاعراض والحوادث وقد ذكر أبوالمعالي أنه لا حجة لهم على استحالة اتصافه بالحوادث وانه يلزمهم نقيض ذلك أما الأول: فإن القابل للشيء عندهم يجوز أن يخلو عنه وعن ضده وأما لزوم هذا القول لهم: فلإ ثباتهم أحكاما متجددة للرب وأنه إذا لم يمتنع تجدد أحكام للذات من غير أن يدل على الحدوث: لم يبعد مثل ذلك في اعتوار أنفس الأعراض وكان ما ذكره الأستاذ أبو المعالي يقتضي أن القول بحلول الحوادث يلزم المعتزلة وأنه لادليل لهم على نفي ذلك وهو أيضا لم يذكر دليلا لموافقيه على نفي ذلك
فأفاد ما ذكره أن أئمة النفاة لحلول الحوادث به القائلين بأنه لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته لا دليل لهم على ذلك بل قولهم يستلزم قول أهل الإثبات لذلك
قال: ( ونقول للكرامية: مصيركم إلى إثبات قول حادث مع نفيكم اتصاف الباري به تناقض إذ لو جاز قيام معنى بمحل من غير أن يتصف المحل بحكمه لجاز شاهدا قيام أقوال وعلوم وإرادات بمحال من غير أن تتصف المحال بأحكام موجبة عن المعاني وذلك يخلط الحقائق ويجر إلى جهالات )
قال: ( ثم نقول لهم: إذا جوزتم قيام ضروب من الحوادث بذاته فما المانع من تجويز قيام أكوان حادثة بذاته على التعاقب؟
وكذلك سبيل الإلزام فيما يوافقوننا على استحالة قيامه به من الحوادث ومما يلزمهم: تجويز قيام قدرة حادثة وعلم حادث بذاته على حسب أصلهم في القول والإرادة الحادثين ولا يجدون بين ما جوزوه وامتنعوا عنه فصلا )
قال: ( ونقول لهم: قد وصفتم الرب تعالى بكونه متحيزا وكل متحيز جسم وجرم ولا يتقرر في المعقول خلو الأجرام من الأكوان فما المانع من تجويز قيام الأكوان بذات الرب؟ ولا محيص لهم عن شيء مما ألزموه )
قلت: ولقائل أن يقول: هذه الوجوه الأربعة التي ذكرها ليس فيها حجة تصلح لإثبات الظن في الفروع فضلا عن إثبات يقيني في أصول الدين يعارض به نصوص الكتاب والسنة فإن غاية هذا الكلام - إن صح - أن الكرامية تناقضوا وقالوا قولا ولم يلتزموا بلوازمه
فيقال: إن كان ما ذكره لازما لزمهم الخطأ: إما في إثبات الملزوم وإما في نفي اللزم ولم يتعين الخطأ في أحدهما فلم لا يجوز أن يكون خطؤهم في نفي اللوازم؟ فإن أقام على ذلك دليلا عقليا كان هو حجة كافية في المسألة وإلا استفدنا خطأ الكرامية في أحد قوليهم وإن لم يكن ما ذكره لازما لهم لم يفد لا إثبات تناقضهم ولا دليلا في مورد النزاع
ثم يقال: أما الوجه الأول فحاصله نزاع لفظي: هل يتصف بالحوادث أو لا يتصف؟ كالنزاع في أمثال ذلك وإذا كان من أصلهم الفرق بين اللازم وغير اللازم بحيث يسمون اللازم صفة دون العارض كاصطلاح من يفرق بين الصفات والأفعال فلا يسمى الأفعال صفات وإن قامت بمحل كاصطلاح من يفرق بين الأقوال والأفعال فلا يسمى ما يتكلم به الإنسان عملا وإن كان له فيه حركة ونحو ذلك - كانت هذه أمورا اصطلاحية لفظية لغوية لا معاني عقلية والمرجح في إطلاق الألفاظ - نفيا وإثباتا - إلى ما جاءت به الشريعة فقد يكون في إطلاق اللفظ مفسدة وإن كان المعنى صحيحا
وما ألزمهم إياه في الشاهد: فأكثر الناس يلتزمونه في الأفعال فإن الناس تفرق في الإطلاقات بين صفات الإنسان وبين أفعاله كالقيام والقعود والذهاب والمجيء فلا يسمون ذلك صفات وإن قامت بالمحل وكذلك العلم الذي يعرض للعالم ويزول والإرادة التي تعرض له وتزول قد لا يسمون ذلك صفة له وإنما يصفونه بما كان ثابتا له كالخلق الثابت
وبالجملة فهذه بحوث لفظية سمعية لا عقلية وليس هذا موضعها
وأما قيام الأكوان به على التعاقب وقيام ما أحالوا قيامه به فهم يفرقون بين ما جوزوه ومنعوه بما يفرق به مثبتة الصفات بين ما توصفوه به وبين ما منعوه فكما أنهم يصفونه بصفات الكمال فلا يلزمهم أن يصفوه بغيرها فكذلك هؤلاء يقولون فإن صح الفرق وإلا كانوا متناقضين
ومن المعلوم أن الله تعالى لما وصف بالسمع والبصر - كما دلت عليه النصوص - ألزمت النفاة لأهل الإثبات إدراك الشم والذوق واللمس فمن الناس من طرد القياس ومنهم من فرق بين الثلاثة والاثنين ومنهم من فرق بين إدراك اللمس وإدراك الشم والذوق لكون النصوص أثبتت الثلاثة دون الاثنين
فإذا قال المعتزلة البصريون والقاضي أبو بكر وأبو المعالي وغيرهما ممن يصفه بالإدراكات الخمسة لمن لم يصفه إلا باثنين أو ثلاثة: يلزمكم طرد القياس لزمهم إما الفرق وإلا كانوا متناقضين ولم يكن هذا دليلا على إبطال اتصافه بالسمع والبصر كذلك إذا قال من جعل الإدراكات الخمسة تتعلق به كما فعله هؤلاء ومن وافقهم ك القاضي أبي يعلى ونحوه لمن أثبت الرؤية: يلزمكم أن تصفوه بتعلق السمع والشم والذوق واللمس به كما قلتم في الرؤية كانوا أيضا على طريقين: منهم من يذكر الفرق ومنهم من يفرق بين اللمس وغيره لمجيء النصوص بذلك دون غيره
قال أبو المعالي في إرشاده: ( فإن قيل: قد وصفتم الرب تعالى بكونه سميعا بصيرا والسمع والبصر إدراكان ثم ثبت شاهدا إدراكات سواهما: إدراك يتعلق بقبيل الطعوم وإدراك يتعلق بقبيل الروائح وإدراك يتعلق بالحرارة والبرودة واللين والخشونة فهل تصفون الرب تعالى بأحكام هذه الإدراكات أم تقتصرون على وصفة بكونه سميعا بصيرا
قلنا: الصحيح المقطوع به عندنا: وجوب وصفه بأحكام الإدراك إذ كل إدراك ينفيه ضد فهو آفة فما دل على وجوب وصفه بحكم السمع والبصر فهو دال على وجوب وصفه بأحكام الإدراك ثم يتقدس الرب تعالى عن كونه شاما ذائقا لامسا: فإن هذه الصفات منبئة عن ضروب من الاتصالات والرب يتعالى عنها وهي لا تنبىء عن حقائق الإدراكات فإن الإنسان يقول: شممت تفاحة فلم أدرك ريحها ولو كان الشم دالا على الإدراك لكان ذلك بمثابة قول القائل: أدركت ريحها ولم أدركه وكذلك القول في الذوق واللمس )
قلت: ولا يلزم من تناقض هؤلاء - إن كانوا متناقضين - نفي الرؤية التي تواترت بها النصوص عن النبي ﷺ
وقلت: وأما تعاقب الحوادث: فهم نفوه بناء على امتناع حوادث لا أول لها فإن صح هذا الفرق وإلا لزمهم طرد الجواز كما طرده غيرهم ممن لا يمنع ذلك
وأما حدوث القدرة والعلم فنفوهما لأن عدم ذلك يستلزم النقص لعموم تعلق العلم والقدرة بخلاف الإرادة والكلام فإنه لا عموم لهما فإنه سبحانه لا يتكلم إلا بالصدق لا يتكلم بكل شيء ولا يريد إلا مايسبق علمه به لا يريد كل شيء بخلاف العلم والقدرة فإنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير
وهذا كما فرقت المعتزلة بين هذا وهذا فقالوا: إن له إرادة حادثة وكلاما حادثا ولم يقولوا: له عالمية حادثة وقادرية حادثة فالسؤال على الفريقين جميعا فإن صح الفرق وإلا كانوا متناقضين وقد أثبت غيرهم قيام علم بالموجود بعد وجوده ولم يجعل ذلك عين العلم المتعلق به قبل وجوده كما دل على ذلك ظاهر النصوص وقد أثبت ذلك من أهل الكلام والفلسفة طوائف ك أبي الحسين البصري وأبي البركات وغيرهم وغير المتقدمين مثل هشام بن الحكم وأمثاله ومثل جهم والمفرق - إن صح فرقه - وإلا لزم تناقضه
وقيام الأكوان به نفوه لأنها هي دليلهم على حدوث العالم كما استدلت بذلك المعتزلة وهم يقولون: المتصف بالأكوان لا يخلو منها وهذا معلوم بالبديهة كما بينه الأستاذ أبو المعالي في أول كلامه وقال: ( نفرض الكلام في الأكوان فإن القول فيها يستند إلى الضرورة فإذا كان من المعلوم بالضرورة: أن القابل للأكوان لا يخلو عنها فلو وصفوه بالأكوان للزم أن لا يخلو عنها وهم يقولون بامتناع تسلسل الحوادث ويقولون: ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث كما يوافقهم على ذلك أبو المعالي وأمثاله فإن كان هذا الفرق صحيحا بطل الإلزام وصح فرقهم وإن لم يكن هذا الفرق صحيحا لم يكن في ذلك حجة للمنازع لهم بل يقول القائل: كلاكما مخطىء حيث قلتم بامتناع دوام الحوادث وتسلسلها
ومعلوم أن هذا كلام متين لا جواب عنه فإن فرقهم بين الأكوان وغيرها هو العلم الضروري من الجميع بأن القابل للأكوان لا يخلو منها فما قبل الحركة والسكون لم يخل من أحدهما فهذا هو محيصهم عما ألزمهم به فإن كانت الأكوان كغيرها في أن القابل للشيء لا يخلو عنه ضده فقد ثبت تناقضهم إذا كان قابلا لها وإن لم تكن مثل غيرها - كما تقوله المعتزلة - صح فرقهم وهم يدعون أنه ليس قابلا لها كما قد وافقهم على ذلك المعتزلة والأشعرية
فإذا قال المعترض عليهم: يجب على أصلهم أن يكون قابلا لها لأنهم يصفونه بكونه متحيزا وكل متحيز جسم وجرم قيل: هذا كما تقوله المعتزلة للأشعرية: يلزمكم إذا قلتم إن له حياة وعلما وقدرة: أن يكون متحيزا لأنه لا يعقل قيام هذه الصفات إلا بمتحيز ويقولون: إنه لا يعقل موصوف بالعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة إلا ما هو جسم فإذا وصفتموه بهذه الصفات لزمكم أن يكون جسما
فإذا قال هؤلاء للمعتزلة: قد اتفقنا نحن وأنتم على أنه حي عليم قدير وليس بمحيز ولا جسم فإذا عقلنا موجودا حيا عليما قديرا ليس بجسم عقلنا حياة وعلما وقدرة لا تقوم بجسم قالوا: وأنتم وافقتمونا على أنه حي عليم قدير وإثبات حي عليم قدير بلا حياة ولا علم ولا قدرة مكابرة للعقل واللغة والشرع
قالت الكرامية لهؤلاء: قد اتفقنا نحن وأنتم على أنه موصوف بالحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك من الصفات مع اتفاقنا نحن وأنتم على أنه لا يتصف بالأكوان فهكذا إذا جوزنا عليه أن يسمع أصوات عباده حين يدعونه ويراهم بعد أن يخلقهم ويغضب عليهم إذا عصوه ويحب العبد إذا تقرب إليه بالنوافل ويكلم موسى حين أتى الوادي ويحاسب خلقه يوم القيامة ونحو ذلك مما دلت عليه النصوص لم يلزمنا مع ذلك أن تجوز عليه حدوث الأكوان
ومن تدبر كلام هؤلاء الطوائف - بعضهم مع بعض - تبين له أنهم لا يعتصمون فيما يخالفون به الكتاب والسنة إلا بحجة جدلية يسلمها بعضهم لبعض وآخر منتهاهم: حجة يحتجون بها في إثبات حدوث العالم لقيام لاأكوان به أو الأعراض ونحو ذلك من الحجج التي هي أصل الكلام المحدث الذي ذمه السلف والأئمة وقالوا: إنه جهل وإن حكم أهله ( أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام ) ولكن من عرف حقائق ما انتهى إليه هؤلاء الفضلاء الأذكياء ازداد بصيرة وعلما ويقينا بما جاء به الرسول ﷺ وبأن ما يعارضون به الكتاب والسنة من كلامهم الذي يسمونه عقليات: هي من هذا الجنس الذي لا ينفق إلا بما فيه من الألفاظ المجملة المشتبهة مع من قلت معرفته بما جاء به الرسول وبطرق إثبات ذلك ويتوهم أن يمثل هذا الكلام يثبت معرفة الله وصدق رسله وأن الطع في ذلك طعن فيما به يصير العبد مؤمنا فيتعجل رد كثير مما جاء به الرسول ﷺ لظنه أنه بهذا الرد يصير مصدقا للرسول في الباقي وإذا أنعم النظر تبين له أنه كلما ازداد تصديقا لمثل هذا الكلام ازداد نفاقا وردا لما جاء به الرسول وكلما ازداد معرفة بحقيقة هذا الكلام وفساده ازداد إيمانا وعلما بحقيقة ما جاء به الرسول ولهذا قال من قال من الأئمة: ( قل أحد نظر في الكلام إلا تزندق وكان في قلبه غل على أهل الإسلام ) بل قالوا: ( علماء الكلام زنادقة )
ولهذا قيل: إن حقيقة ما صنفه هؤلاء في كتبهم من الكلام الباطل المحدث المخالف للشرع والعقل هو: ترتيب الأصول في تكذيب الرسول ومخالفة صريح المعقول وصحيح المنقول ولولا أن هؤلاء القوم جعلوا هذا علما مقولا ودينا مقبولا يردون به نصوص الكتاب والسنة ويقولون: إن هذا هو الحق الذي يجب قبوله دون ما عارضه من النصوص الإلهية والأخبار النبوية ويتبعهم على ذلك من طوائف أهل العلم والدين ما لا يحصيه إلا الله: لاعتقادهم أن هؤلاء أحذق منهم وأعظم تحقيقا لميكمن بنا حاجة إلى كشف هذه المقالات مع أن الكلام هنا لا يحتمل إلا الاختصار
قول الرازي في الأربعين
ومقصودنا بحكاية هذا الكلام: أن يعلم أن ما ذكره الرازي في هذه المسألة قد استوعب فيه جميع حجج النفاة وبين فسادها وأما الحجة التي احتج بها فهي أضعف من غيرها كما سيأتي بيانه وقد ذكر أن هذه المسألة تلزم عامة الطوائف
وذكر في كتاب الأربعين أنها تلزم أصحابه أيضا فقال في الأربعين: ( المشهور أن الكرامية يجوزون ذلك وينكرون سائر الطوائف وقيل: أكثر العقلاء يقولون به وإن أنكروه باللسان فإن أبا علي وأبا هاشم من المعتزلة وأتباعهما قالوا: إنه يريد بإرادة حادثة لا في محل ويكره بكراهة حادثة لا في محل إلا أن صفة المريدية والكارهية محدثة في ذاته تعالى وإذا حضر المرئي والمسموع حدث في ذاته تعالى صفة السامعية والمبصرية لكنهم إنما يطلقون لفظ التجدد دون الحدوث وأبو الحسين البصري يثبت في ذاته علوما متجددة بحسب تجدد المعلومات والأشعرية يثبتون نسخ الحكم مفسرين ذلك برفعه أو انتهائه والارتفاع والانتهاء عدم بعد الوجود ويقولون: إنه عالم بعلم واحد يتعلق قبل وقوع المعلوم بأنه يسقع وبعده يزول ذلك التعلق ويتعلق بأنه وقع ويقولون: بأن قدرته تتعلق بإجاد المعين وإذا وجد انقطع ذلك التعلق لامتناع إيجاد الموجود وكذا تعلق الإرادة بترجيح المعين وأيضا المعدوم لا يكوم مرئيا ولا مسموعا وعند الوجود يكون مرئيا ومسموعا فهذه التعلقات حادثة
فإن التزام جاهل كون المعدوم مرئيا ومسموعا قلنا: الله تعالى يرى المعدوم معدوما لا موجودا وعند وجوده يراه موجودا لا معدوما لأن رؤية الموجود معدوما أو بالعكس غلط وأنه يوجب ما ذكرنا والفلاسفة - مع بعدهم عن هذا - يقولون بأن الإضافات - وهي القبلية والبعدية والمعية - موجودة في الأعين فيكون الله مع كل حادث وذلك الوصف الإضافي حدث في ذاته وأبو البركات من المتأخرين منهم صرح في المعتبر بإرادات محدثة وعلوم محدثة في ذاته تعالى زاعما بأنه لا يمكن الاعتراف بكونه إلها لهذا العالم إلا مع هذا القول ثم قال: ( الإجلال من هذا الإجلال والتنزيه من هذا التنزيه واجب )
قال الرازي: ( واعلم أن الصفة إما حقيقية عارية عن الإضافة كالسواد والبياض أو حقيقة تلزمها إضافة كالعلم والقدرة فإنه يلزمها تعلق بالمعلوم والمقدور وهو إضافة مخصوصة بينهما وإما إضافة محضة ككون الشيء قبل غيره وبعده ويمينه ويساره فإن تغير هذه الأشياء لا يوجب تغيرا في الذات ولا في صفة حقيقية منها فنقول: تغير الإضافات لا محيص عنه وأما تغير الصفات الحقيقية: فالكرامية يثبتونه وغيرهم ينكرونه فظهر الفرق بين مذهب الكرامية وغيرهم لا نسمي ذلك صفة ولا نقول: إن ذلك تغير في الصفات الحقيقية كما تقدم )
ثم استدل الرازي بثلاثة أوجه :
أحدها: أن صفاته صفات كمال فحدوثها يوجب نقصانه يعني قبل حدوثها والإضافات لا وجود لها في الأعيان دفعا للتسلسل فلا يرد نقصا
ولقائل أن يقل: هذا الدليل قد تقدم الكلام عليه والمنازع لا يسمي ذلك صفة وإن وصف الموصوف بنوع ذلك فليس لك فرد من الأفراد صفة كمال مستحقة القدم يحيث يكون عدمها في الأزل نقصا وما اقتضت الحكمة حدوثه في وقت لم يكن عدمه قبل ذلك نقصا بل الكمال عدمه حيث لا تقتضي الحكمة وجود حدوثه ووجوده حيث اقتضت الحكمة وجوده كالحوداث المنفصلة فليس عدم كل شيء نقصا عما عدم منه
وأيضا فالحوادث لا يمكن وجودها إلا متعاقبة وقدمها ممتنع وكان ممتنع الوجود لم يكن عدمه نقصا والتسلسل المذكور هو التسلسل في الآثار والشروط ونحوها وهذا فيه قولان مشهوران فالمنازع قد يختار جوازه لا سيما من يقول: إن الرب لم يزل فاعلا متكلما إذا شاء
الثاني: لو كانت ذاته قابلة للحوادث لكانت تلك القابلية من لوازمها وأزلية القابلية توجب صحة وجود المقبول أزلا لأن قابلية الشيء للغير نسبة بينهما والنسبة بين الشيئين موقوفة عليهما لكن وجود الحوادث في الأزل محال ولا يلزم علينا القدرة الأزلية لأن تقدم القدرة على المقدور واجب دون تقدم القابل على المقبول
قال الأرموي: ( ولقائل أن يقول: ما ذكرتم بتقدير التسليم يقتضي أزلية صحة وجود الحوادث لا صحة أزلية وجود الحوادث وقد عرفت الفرق بينهما في مسألة الحدوث والفرق المذكور - إن صح - أغنى عن الدليل السابق وإلا نفى النقص وأيضا إذا صح الفرق مع أن الدليل المذكور ينفيه لزم بطلان الدليل )
قلت: فقد ذكر الأرموي في بطلان هذا الدليل ثلاثة أوجه :
أحدها: الفرق بين صحة أزلية الحدوث وأزلية صحة الحدوث وسيأتي إن شاء الله الكلام فيه وبيان أنه فرق فاسد لكن يقال: إن صح هذا الفرق بطل الدليل وإن لم يصح لزم إمكان الحوادث في الأزل ولزم إمكان وجود المقدور والمقبول في الأزل وكلاهما يبطل الدليل أو يقال: ما كان جوابا لكم عن المقدور كان جوابا لنا عن المقبول أو يقال: إن صح هذا الفرق بطل الدليل وإن لم يصح هذا الفرق فاللازم أحد أمرين: إما إمكان دوام الحوادث وإما امتناع دوامها فإن كان اللازم هو الأول لزم إمكان وجود جنس الحوادث المقبولة في الأزل وبطل الدليل وإن كان اللازم هو الثاني كان وجودها في الأزل ممتنعا وحينئذ فإذا جاز أن يقال: هو قادر عليها مع امتناع وجود المقدور أمكن أن يقال: هو قابل لها مع امتناع وجود المقبول
وقول الأرموي: والفرق المذكور إن صح أغنى عن الدليل السابق وإلا بقي النقص قد يقال: أراد به الفرق بين أزلية الصحة وصحة الأزلية وقد يقال: عنى به الفرق بين القادر والقابل فإن أراد الأول كان معنى كلامه: إن صح الفرق أمكن أن يكون قابلا لها في الأزل وتكون صحتها أزلية أي لم تزل ممكنة صحيحة مع امتناع صحة أزلية الحوادث كما يقولون إذ لم تزل الحوادث ممكنة صحيحة جائزة مع امتناع كون الحادث أزليا ويقولون: صحة الجواز وإمكانها أزلي لا متناع انقلابها من الامتناع إلى الإمكان من غير سبب حادث مع امتناع وجودها في الأزل وامتناع أزليتها
وهذا الفرق ذكره الغزالي في تهافت الفلاسفة والرازي وغيرهما في جواب من قال بأن إمكان وجود المقدورات لا أصل له فقالوا: نحن نقول: إمكان الحوادث لا بداية لها ونقول الشيء المعين بشرط كونه حادثا لا بداية لأزليته ولا يلزم من ذلك إمكان وجود شيء من الحوادث في الأزل لأن كونه حادثا مع كونه أزليا ممتنع
وهذا الفرق عند التحقيق باطل فإنه مسلتلزم للجمع بين النقيضين فإن الحادث يجب أن يكون مسبوقا بالعدم
فإذا قيل بأن الحادث لم يزل ممكنا وأن صحته وإمكانه أزليته كان معناه أن ما كان مسبوقا بالعدم يمكن أن يكون أزليا والأزلي لا يكون مسبوقا بالعدم فكان معناه أن ما يجب أن يكون حادثا يمكن أن يكون قديما وما يجب كونه مسبوقا بالعدم يجوز أن يكون أزليا غير مسبوق بالعدم وهذا جمع بين النقيضين
فإذا قيل: الحادث المعين إمكانه هل هو أزلي أو حادث؟
قيل: بل هو حادث فإن كون الحادث المعين في الأزل ممتنع لذاته وهذا الممتنع لا يكون قط ولكن حدثت أسباب أوجبت إمكان حدوثه فكان إمكان حدوثه ممكنا كوجود الولد المشروط بوجود والده فإن كونه ابن فلان يستلزم وجود فلان ويمتنع أن يكون وجود ابن فلان موجودا قبل وجود فلان والممتنع لذاته لا يكون مقدورا وتجدد القادرية بتجدد إمكان المقدور ليس ممتنعا فإن الجميع حاصل بمسيئة الرب وقدرته وهو سبحانه بما يحدث بمشيئته وقدرته يجعل المعدوم موجودا فيجعل ما لم يكن ممكنا مقدورا يصير ممكنا مقدورا وهذا مبسوط في موضع آخر
والمقصود شرح مراد الأرموي فإذا أراد بالفرق الفرق بين صحة الأزلية وأزلية الصحة كان معنى كلامه: إن صح هذا الفرق بطل الدليل فإنه يقول في الحوادث المقبولة ما يقال في الحوادث المنفصلة من الفرق بين صحة أزليتها وأزلية صحتها لكن لو أراد بالفرق هذا لم يستقم قوله: ( إن هذا الفرق إن صح إنى عن الدليل السابق ) بل هذا الفرق إن صح بطل الدليل المذكور فهذا يرجح أنه أراد بالفرق بين القادر والقابل فيكون قد ذكر ثلاثة أجوبة نقول إن صح الفرق بينهما بأن القابل يستلزم وجود المقبول في الأزل دون القادر فهذا الفرق يغني عن الدليل وإن لم يصح هذا الفرق انتقض الدليل بالقادر
الوجه الثاني: أنه إن صح الفرق بين المقدور والمقبول بأن المقدور يجب تأخره عن القدرة والمقبول لا يجب ذلك فيه كان هذا وحده دليلا على وجوب حصول الحادث في الأزل إذا كان قابلا له وحينئذ فلا حاجة إلى أن يستدل على ذلك بما ذكره من النسبة إن كان الفرق صحيحا وإن لم يكن صحيحا صح النقض به
الثالث: أن الدليل المذكور يوجب وجود المقدور في الأزل لأن القادرية على الشيئين نسبة بينهما والنسبة بين الشيئين متوقفة عليهما فإن صح الفرق بين المقدور والمقبول - مع أن الدليل يتناولهما جميعا وينفي الفرق - لزم بطلان الدليل فيلزم بطلان مقدمة الدليل أو انتفاضه وكلاهما مبطل له وهذا بين