تعليق ابن تيمية
هذا جملة كلامه فهذا الكلام قد ذكر فيه قول المعتزلة ونحوهم من أهل الكلام وقوله وقول أمثاله من الفلاسفة وذكر حجة المعتزلة المعروفة عندهم وهو دليل الأعراض المبني على إبطال حوادث لا تتناهى وذكر حجته في أن تخصيص حال دون حال بالفعل لا بد له من مخصص فإذا كانت الأحوال متساوية لزم انتفاء المخصص فينتفي التخصيص فينتفي ما ذكروه من الحدوث
وهذه الحجة مادتها من كلام المعتزلة الصحيح حيث أخذ عنهم أن التخصيص بوقت دون وقت لا بد له من مخصص وهم بنوا على ذلك إثبات الصانع هو على ذلك بنى إثبات واجب الوجود لكن نقل ذلك إلى الممكن الذي ليس له من نفس وجود فتخصيصه بالوجود دون العدم وبالعدم دون الوجود كتخصيص الحدوث بوقت دون وقت
وقد عرف أن هذا الكلام مادته من كلام المعتزلة والفلاسفة جميعا وأن الصواب الذي فيه - وهو امتناع تخصيص المحدث أو الممكن بلا مخصص - هو من كلام المعتزلة الذي وافقهم عليه والخطأ الذي فيه بعضه منهم وأكثره منه فإنه ألزم المعتزلة بطرد هذا الأصل فلما لم يطردوه نقض قولهم
وحينئذ فيقال له: بطلان قول المعتزلة لا يستلزم صحة قولك إلا لو لم يمكن قول إلا وقولك وقولهم فكيف وأقاويل أئمة الفلاسفة ليست من القولين؟ وكذلك الأقوال التي عليها أئمة السنة والحديث ليست من القولين؟
والأقوال الموجودة في الكتب الإلهية: التوراة والقرآن اللذين لم يأت من عند الله تعالى كتاب أهدى منهما ليست واحدا من القولين فإذا قدر بطلان قول معين لم يلزم صحة قولك فكيف إذا كان ما أفسدت به قول المعتزلة يبطل أيضا قولك؟ فقولك أفسد من قولهم إن كان قولهم فاسدا وكذلك إن كان صحيحا فهو فاسد على كل تقدير
وذلك أن عمدتك على بدلان قولهم أنه يمتنع أن يختص وقت دون وقت بالحدوث بل سبب مخصص حادث
فيقال لك: وأنت تقول: إن الحوادث كلها تحدث بلا سبب حادث وعلى قولك فكل حادث حادث في وقت من الأوقات فإن ذلك الوقت اختص بالحدوث بلا سبب مخصص حادث فألزمهم اختصاص وقت من الأوقات بالحدوث دون سائر الأوقات بلا مخصص وأنت يلزمك اختصاص كل وقت بما يحدث فيه من الحوادث بلا سبب مخصص واختصاص كل حادث بصفته وقدره بلا سبب مخصص واختصاص كل حادث بوقته بلا سبب مخصص وحدوث جميع الحوادث بلا سبب مقتض للحوادث فهم إن كان ما التزموه باطلا فقد التزمت أضعافه فيكون قولك أفسد وإن لم يكن باطلا بطلت حجتك على إبطال قولهم فتبين أن إبطالك لقولهم مع اعتقادك لما تعتقده باطل على كل تقدير وعلم أن الأصول الصحيحة التي وافقتهم عليها هي بطلان قولك أدل منها على بطلان قولهم والأصول الفاسدة التي وافقوك عليها إذا كانوا قد تناقضوا فيه ولم يطردوها فأنت أعظم تناقضا في عدم طردك لأصولك مطلقا: صحيحها وفاسدها
وبيان ذلك أنه قد قال: يجب أن يكون الصانع الواجب الوجود غير مختلف النسب إلى الأوقات والأشياء الكائنة عنه كونا أزليا ومايلزم من ذلك لزوما ذاتيا وإلا ما يلزم من اختلافات يلزم عندها فيتبعها التغيير يعني حركة الفلك وما يتبعها من التغيير
فيقال له: إذا لم يكن مختلف النسب إلى الأوقات والأشياء الكائنة عنه كونا أزليا واللازمة من ذلك لزوما ذاتيا كما يقوله في لزوم الفلك عنه وما يقدره علة للفلك من العقول أوغيرها فاللازم لهذه اللوازم: إما أن يكون لازما لها لا ينفك عنها في وقت من الأوقات أو لازما لها في حال دون حال
فإن كان لازما لها في كل الأوقات وجب أن لا يحدث شيء وأن لا يكون تغير أصلا
وإن كان لازما لها في وقت دون وقت فقد اختلف نسبة لوازمه إلى الأوقات والأمور الحادثة في الأوقات حيث حدث عن لوازمه في هذا الوقت ما لم يحدث في هذا الوقت وإذا اختلفت نسبة اللوازم إلى الأوقات والحودث لزم أن تختلف نسبته إلى الأوقات والحوادث لأن الأمور الكائنة عنه كونا أزليا وما يلزمها لزوما ذاتيا نسبتها إلى جميع الأوقات والحوادث كنسبته لأنه لو كانت نسبتها إلى الأوقات والحوادث تخالف نسبته لكانت حالها في بعض الأوقات والحوادث مخالفا لحاله ولكانت مختصة في بعض الأوقات بمعنى منتف في أوقات أخر
وذلك تخصيص لبعض الأوقات دون وقت آخر بحدوث حادث فيه فإن جاز تخصيص وقت دون وقت بحدوث من غير سبب حادث بطل أصل الكلام
وإن لم يجز ذلك لزم أن يكون اختصاص لوازمه بحدوث حادث فيها أو منها بوقت دون وقت إنما كان لاختصاصه هو بحدوث حادث فيه أو منه لوقت دون وقت وإلا لم تكن تلك اللوازم لوازم له
فلا بد من أحد أمرين :
إما أن تكون الأمور اللازمة له ليست لازمة فتكون الحوادث حدثت عنه ابتداء بدون وسائط وهذا أشد إبطالا لقولهم
وإما أن تكون تلك الأمور اللازمة له لا تخصص في وقت دون وقت بحدوث حادث فيها أو منها إلا لتخصيص لها بذلك إذ لو اختصت دون تخصيصه للزم الحدوث بلا محدث وهو ممتنع
ومتى كان تخصيص اللوازم لحدوث حادث فيها أو منها إنما هو لتخصيصها لها بذلك كانت نسبته إلى الأوقات والحوادث نسبة مختلفة كنسبة اللوازم
وهذا أمر لا محيد لهم عنه هو يبين بطلان قولهم بيانا ضروريا لمن فهمه إذ أصل قولهم حدوث التغير عما لا يتغير وهذا يناقض ما قالوه
فهم بين أمرين: إن جوزوا حدوث متغير عن غير متغير لم يمكنهم إبطال قول المعتزلة ونحوهم الذين يقولون بحدوث جميع الحوادث من غير حدوث سبب بل بمجرد القدرة أو القدرة والإرادة التي لم تزل ولا تزال على حال واحدة
وإن لم يجوزوا حدوث متغير عن غير متغير بطل قوهم كله فإن الفلك متغير مختلف هو في نفسه مختلف القدر والصفات وهو متغير عندهم بما يحدث فيه من الحركات وهذا التغير صادر عما لا يتغير عندهم سواء قالوا: هو صدر عن العقل الذي لا يتغير كما يقوله ابن سينا وأمثاله أو صادر عن الواجب بنفسه الذي لا يتغير كما يقوله ابن رشد وأمثاله أو صادر عن الواجب بتوسط العقل كما يقوله النصير الطوسي وأمثاله أو مهما قالوه من جنس هذه المقالات فلا بد على كل تقدير أن يلزمهم حدوث متغير عن غير متغير
وحينئذ فبطلت حجتهم على المعتزلة وكانوا أكثر التزاما للباطل الذي قرروا أنه باطل وأبطلوا به قول المعتزلة وذلك أنهم يجعلون جنس الحركات والحوادث كلها حدثت بلا محدث أصلا لأن العلة القديمة الأزلية لا يتأخر عنها شيء من معلولاتها ولوازمها فكل ما تأخر عنها فليس من موجبها: لا بوسط ولا بغير وسط وتلك الحوادث لم تحدث عن واجب آخر بالاتفاق والضرورة فيلزم أن لا يكون للحوادث كلها محدث وأن لا يكون الرب تعالى محدثا لشيء من الحوادث
وفي هذا من تعطيل الصنع عن الصانع وتعطيل الصانع عن الصنع ما هو أعظم من كل قول قاله غيرهم فإنهم يشنعونه على المعتزلة ونحوهم: بأنكم إذا قلتم بحدوث العالم عطلتم الصانع في أزلة عن الصنع
فقال لهم: أنتم عطلتم الصانع دائما عن صنع شيء من الحوادث على ما هوبين ظاهر لكل من تدبر هذا فقد عطلتموه عن أن يحدث شيئا من الخير والإحسان أزلا وأبدا
وأما صنعه اللوازم وجوده فهذا أنتم منازعون فيه وقد بين غير واحد بطلان قولكم فيه وحينئذ فتكونون قد عطلتموه عن كل فعل وصنع وإفاضة وإيجاب واقتضاء أزلا وأبدا
وأما تعطيل الصنعة عن الصانع فهذا ليس قولا معروفا لطائفة معروفة بل الأمم المعروفون متفقون على أن الصنعة لا بد لها من صانع وهذا ضروري في العقل
وعلى قولكم: الحوادث دائما تحدث وليس لها صانع فإن العلة التامة في الأزل لا يحدث عنها شيء أصلا وأيضا فإن الحوادث مختلفة في صفاتها ومقاديرها كما أن الفلك مختلف في صفته وقدرة
والواحد البسيط من كل جهة يمتنع أن يصدر عنه ما هو مختلف في صفاته وأقداره وإن جاز ذلك بطل قولهم: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وإذا بطل هذا القول بطل قولهم في صدور العالم عنه سواء كان صادرا عنه بوسائط لازمة له بسيطة كالعقول أو بغير وسائط أو بوسائط مختلفة فكيف ما قدروه فلا بد لهم من لوازم أجسام مختلفة في القدر والصفات عن واحد بسيط لا صفة له ولا فعل فيه
وأيضا فما زمان من الأزمنة إلا وتحدث فيه حوادث مختلفة وقد يختص بعض الأزمنة بحوادث ليست من جنس حوادث بقية الأزمنة كحادث الطوفان وأمثاله بل إرسال موسى عليه السلام وما تبع رسالته من الحوادث وإرسال محمد ﷺ وما تبع رسالته من الحوادث وأمثال ذلك هي من الحوادث المختصة بزمان دون زمان فإذا كان لا سبب للحوادث إلا ذات نسبتها إلى جميع الأزمنة سواء ولوازمها التي نسبتها إلى جميع الأزمنة سواء وقد قالوا لأجل هذا: يمتنع تخصيص زمان دون زمان بحدوث العالم وقالوا: العالم قديم لذلك ففي هذا القول من تخصيص بعض الأزمنة بحادث دون حادث ما في ذلك القول وزيادات فإن المعتزلة يقولون: التخصيص إنما وقع وقت إحداث العالم فقط ثم التخصيص في سائر الأوقات كان أسباب حادثة في العالم
وهؤلاء يقولون: لا تزال الأوقات تختص بالحوادث من غير سبب مع أن نسبته إلى جميع الأوقات والحوادث واحدة والأشعرية ونحوهم وإن قالوا: إنه لا يزال يخص وقتا دون وقت بحدوث الحوادث من غير سبب يقتضي التخصيص سوى محض الإرادة التي نسبتها إلى جميع الأوقات والحوادث واحدة فهم أطرد لقولهم من قولكم: إن نسبته إلى الأوقات واحدة مع أنه لم يزل ولا يزال يخص كل وقت بحادث دون الآخر مع استواء نسبته إلى الأوقات
فأنتم مع قولكم بدوام الفعل وأزليته في قولكم من مخالفة أصلكم أكثر مما في قول المعتزلة وقول الأشعرية
وأيضا فمعلوم أن الحركات مختلفة والمتحركات مختلفة وليست الحركات كلها صادرة عن حركة الفلك الأطلس بل لكل فلك أو لكواكب كل فلك حركة تخصه فإن الناس يشهدون بعيونهم حركات الخمسة على خلاف حركات الثوابت ويشهدون حركة الشمس والقمر والكواكب من المشرق إلى المغرب على خلاف حركة الخمسة وحركة الثوابت
تعليق ابن تيمية
والجمهور من أهل الهيئة يقولون: المتحرك هو الأفلاك وإن الحركة المشرقية هي حركة المحيط بما فيه وسواء كان الأمر كذلك أو لم يكن فليست حركة كل كوكب وفلك تابعة لحركة المحيط بل الحركات مختلفات وإذا كان كذلك امتنع أن تصدر هذه الحركات المختلفة عن واحد بسيط لا يصدر عنه إلا واحد سواء صدرت بواسطة أو بغير وساطة
وأما صدور المختلفات عن ما لا يصدر عنه إلا واحد بلا واسطة فهو جمع بين النقيضين وقول متناقض
وأما الصدور بواسطة فتلك الواسطة يجب أن لا تكون إلا واحد عن واحد فإذا قدر أن الأول واحد بسيط لا يصدر عنه إلا واحد وإلا كان قولا متناقضا فإنه إذ صدر عنه ما فيه كثرة فقدر صدر عنه أكثر من واحد وإن لم يكن في الصادر كثرة وجب أن لا يصدر عن الصادر الأول إلا واحد وهلم جرا وهذا خلاف المشهود
وما يلفقونه في هذا المقام من قولهم: إن الأول يعقل مبدعه ويعقل نفسه وأنه باعتبار عقله للأول صدر عنه عقل وباعتبار عقله لنفسه صدر عنه نفس أو فلك أو باعتبار وجوبه بالأول صدر عنه عقل وباعتبار إمكانه صدر عنه نفس أو فلك أو باعتبار عقله صدر كذا أو كذا وباعتبار وجوبه أو إمكانه صدر كذا أو كذا أو مهما قالوه من الأقوال التي يقدرها الذهن في هذا المقام فهي مع كونها أقوالا لا دليل عليها وإنما هي تحكمات ورجم بالغيب بل والدليل يقوم على فسادها فلا يحصل بها جواب عما يدل على فساد أصلهم فإن تلك الوجوه إما أن تكون أمورا وجودية أو عدمية فإن كانت وجودية فقد صدرت عن الأول فقد صدر عنه أمور متعددة أكثر من واحد بلا واسطة وإن كانت عدمية لا يخرج الصادر الأول عن أن يكون واحدا بسيطا وحينئذ فلا يصدر عنه إلا واحد
يبين ذلك أن كثرة السلوب العدمية إن أوجبت كثرة فالأول فيه كثرة لكثرة ما يسلب عنه وإن لم توجب كثرة فلا كثرة في الصادر الأول بأمور عدمية فلا يصدر عنه إلا واحد وهلم وجرا
وأيضا فهذا الواحد الذي يقدرونه إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان كالواحد الذي يجعلونه مبدأ المركبات العقلية كما بسط هذا في موضع آخر
وإذا كان كذلك فما يقولونه في هذا المقام من أنه حركة الفلك واحدة أزلية أبدية وهي فعل الرب الدائم فعله قول باطل لوجوه :
أحدها: أن الحركات ليست واحدة بل حركات مختلفات وليس بعضها صادرا عن بعض فقول القائل: إنها واحدة قول باطل
الثاني: أن الحركة الدائمة سواء كانت واحدة نوعا واحدا أو أنواعا مختلفة تحدث شيئا بعد شيء وإذا كان الأول علة تامة أزلية كان مستلزما لمعلوله فلا يتأخر عنه شيء من معلوله بل يكون معلوله كله أزليا أبديا دائما بدوامه إن أمكن مقارنة المعلول لعلته لا يحدث منه شيء بعد شيء فإن الحادث في الزمن الثاني يمتنع أن تكون علته تامة أزلية لأن العلة التامة مستلزمة لمعلولها وهو لا يكون بينه وبينها فصل فكيف وأجزاء الحركة الحادثة شيئا بعد شيء كلها منفصلة عن الأزل؟ فامتنع أن يكون معلول علة تامة أزلية
الثالث: أن يقال: كون المفعول المعين يقارن فاعله في الزمان أمر لا يعقل وجوده في الخارج وإنما يقدره الذهن كما يقدر الممتنعات وسواء سمي الفاعل علة أولم يسم فإنه لا تعقل علة صدر عنها معلول وهو مفعول لها وكان زمانهما واحدا ولكن قد يكون الشيء مستلزما لغيره ومقارنا له في الزمان كاستلزام الذات لصفاتها اللازمة واستلزام حركة أحد الجسمين المتلازمين لحركة الآخر كحركة الخاتم واليد لكن لا يكون الملزوم فاعلا للازم فإنه لا يعقل مفعول معين لازم لفاعله البتة
ولكن لفظ ( العلة ) فيه إجمال واشتباه واشتراك فقد يراد بها الملزوم الموجب وقد يراد بها الفاعل والملزوم الموجب الذي ليس بفاعل يعقل أن يقارنه لازمه وموجبه الذي ليس بمفعول له لكن موجبه الذي هو مفعول له لا يعقل مقارنته له لكن يعقل صدور الفعل عنه شيئا بعد شيء فتكون المفعولات صادرة عنه شيئا بعد شيء
وهؤلاء أصلوا أصلا فاسدا ظهر به فساد قولهم وهو أن العلة التامة التي تسمى المؤثر التام يجب أن يقارنه معلوله في الزمان بحيث لا يتأخر عنه ولا يكون معلول إلا لعلة تامة وهذا ناقضوا به المتكلمين الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم في قولهم: إن المؤثر التام يجوز بل قد يجب أن يتراخى عنه أثره فقالوا: الباري كان في الأزل مؤثرا تاما وتراخى عنه أثره فقال أولئك: بل يجب أن يقارنه أثره
والصواب قول ثالث وهو أن التأثير التام من المؤثر يستلزم الأثر فيكون الأثر عقبه لا مقارنا له ولا متراخيا عنه كما يقال: كسرت الإناء فانكسر وقطعت الحبل فانقطع وطلقت المرأة فطلقت وأعتقت العبد فعتق
قال تعالى: { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } فإذا كون شيئا كان عقب تكوين الرب له لا يكون مع تكوينه ولا متراخيا عنه وقد يقال: يكون مع تكوينه بمعنى أنه يتعقبه لا يتراخى عنه وهو سبحانه ما شاء كان ووجب بمشيئته وقدرته وما لم يشأ لم يكن لعدم مشيئته له وعلى هذا فكل ما سوى الله تعالى لا يكون إلا حادثا مسبوقا بالعدم فإنه إنما يكون عقب تكوينه له فهو مسبوق بغيرهم سبقا زمانيا وما كان كذلك لا يكون إلامحدثا والمؤثر التام يستلزم وجود أثره عقب كمال التأثير التام
وأما على قول هؤلاء فيلزمهم أمور باطلة تستلزم فساد قولم منها: أنه لا يحدث في العالم شيء فإنه إذا كانت العلة تامة أزلية ومعلولها معها في الزمان وكل ما سواه مغلول له بوسط أو بغير وسط لزم أن يكون كل ما سوى الله قديما أزليا
ومنها: أنه يلزم أن لا يحدث شيء حتى تحدث حوادث لا تتناهى في آن واحد
وهذا متفق على استحالته عندهم وعند سائر العقلاء وهو تسلسل علل ومعولات أو تمام علل ومعلولات حادثة لا نهاية لها فإنه كلما حدث حادث فإنه لا يحدث حتى تحدث علته التامة أو تمام علته التامة وتكون حادثة معه وتلك لا تحدث حتى يحدث معها ماهو كذلك فلزم وجود علل ومعلولات لا تتناهى أوتمام علل ومعلولات لا تتناهى في آن واحد
وإذا قالوا: كل حادث مشروط بعدم ما قبله لم يصح على قولهم لأن عدم الحادث الأول سابق للحادث الثاني وعندهم العلة التامة يجب مقارنتها للمعلول ولا تتقدم عليه
ولكن هذا يصح على قول أهل السنة الذين يقولون: المعلول يحصل عقب تمام العلة التامة لا معها فيكون حدوث الثاني عقب عدم الأول وعلى هذا القول فيلزم حدوث كل ماسوى الله تعالى
وبهذا يظهر بطلان قولهم وصحة قول المسلمين فإنهم قد يشبهون قولهم بما يحدث شيئا فشيئا عن الفاعل بالاختيار أو بالطبع كالحجر الهابط وكالمسافر إلى بلد فإنه يقطع المسافة شيئا فشيئا والمقتضى لقطعه المسافة وهو قصده تلك المدينة قائم لكن قطعه للجزء الثاني منها مشروط بعدم الأول
فيقال لهم: هذا يدل على فساد قولكم فإنه ليس هنا مؤثر تام قارنه أثره ولم يوجد الأثر إلا عقب التأثير التام لا معه فليس هذا نظير قولكم بل هو نظير قول من يقول: لم يزل يحدث شيئا بعد شيء وإحداثه للثاني مشروط بعدم الأول
وهذا نظير قول من يقول: لم يزل متكلما إذا شاء فعالا لما يشاء فوجود الثاني كالإرادة الثانية والكلمة الثانية والفعل الثاني مشروط بانقضاء الأول وبانقضاء الأول تم المؤثر التام المقتضى لوجود الثاني
وعلى هذا فكل ما سوى الرب حادث كائن بعد أن لم يكن وهو سبحانه المختص بالقدم والأزلية فليس في مفعولاته قديم وإن قدر أنه لم يزل فاعلا وليس معه شيء قديم بقدمه بل ليس في المفعولات قديم البتة بل لا قديم إلا هو سبحانه وهو وحده الخالق لكل ماسواه وكل ما سواه مخلوق كما قال تعالى: { الله خالق كل شيء }
وهؤلاء لمما كانت مناظرتهم مع المتكلمين الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم على أصلهم في الاستدلال على حدوث الأجسام أو حدوث العالم بامتناع حوادث لا أول لها ورأى هؤلاء أن هذه قضية كاذبة ولهذا كان أئمة أهل الكلام ك الرازي وغيره يوفقونهم على فسادها فإن الرازي وإن قرر في كتبه الكلامية ك الأربعين ونهاية العقول وغيرهما: امتناع حوادث لا أول لها كما تقدم تقريره واعتراض إخوانه عليه فهو نفسه في كتب أخرى يقدح في هذه الأدلة ويقرر وجوب دوام الفاعلية وامتناع حدوث الحوادث بلا سبب وامتناع حدوثها في غير زمان ويجيب عن كل ما يحتج به في هذه الكتب كما فعل ذلك في كتاب المباحث المشرقية وغيره
ولعل الذين قدحوا في أدلته هذه ك الآمدي والأبهري والأرموي صاحب لباب الأربعين وغيرهم أخذوا ذلك - أو بعضه - من كلامه أو أخذوه هم من حيث أخذه هو
وهذا قد رأيته فإني كنت قد أرى اعتراض هؤلاء عليه أو بعض أجوبته ثم أنظر بعد ذلك في كلام آخر له فأجدهم قد أخذوا ذلك الأعتراض أو الجواب أخذو من كلامه كما في الجواب الباهر الذي ذكره الأرموي فإنه أخذه من المطالب العالية
والاعتراضات التي ذكرها هو وغيره على تقريره لامتناع حوادث لا أول لها قد ذكرها الرازي في المباحث المشرقية وذكرها الآمدي أيضا ولهذا أرأيت من يغتر بكلام هؤلاء من طلبة العلم حقيقة أمرهم وأن هذا التقرير الذي وافقوا فيه شيوخهم المتكلمين ومن المعتزلة والأشعرية هم بعينهم قد قدحوا فيه في موضع آخر قدحا لم يجيبوا عنه
فلا يظن الظان أن ما ذروه مما ينصر دين الإسلام بل هذا مما يقوي معرفة المسمين بذم الكلام الذي ذمه السلف والأئمة وأنه جهل لا علم
ولا يغتر المغتر بما يجده من كثرة ذكر المصنفين في الكلام لذلك واتباع آخرين مقلدين لهم في ذلك فإن النظر: إما أن يكون ناظرا بنفسه حتى يتبين له الحق أو يقلد المعصوم فهذان طريقان علميان وإما أن يكون محسنا للظن بشيوخ تقدموا من شيوخ هذا الكلام المحدث فهؤلاء قد عارضوهم من هو أعلم منهم فالسلف والأئمة عارضوهم وأتباعهم الحذاق الذين تعقبوا كلامهم عارضوهم وناقضوهم وأتباعهم الذين تعقبوا كلامهم عارضوهم وناقضوهم والفلاسفة أيضا عارضوهم وناقضوهم
وإذا قال القائل: هذا الأصل قد قرره مثل أبي الهذيل العلاف وأبي إسحاق النظام ومثل الجهم بن صفوان واتبعهم عليه مثل أبي علي وأبي هاشم وعبد الجبار بن أحمد وأبي الحسين البصري وغيرهم ووافقهم على صحة هذه الطريقة - وهو امتناع حوادث لا أول لها - مثل محمد بن كرام وابن الهيثم وغيرهما ومثل أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر وأبي المعالي والقاضي أبي يعلى وابن عقيل ابن الزاغوني وأبي عبد الله المازري والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم بل ومثل الشريف المرتضى وأمثاله من شيوخ الشيعة فهؤلاء - وأضعافهم - يحتج بهذه الطريقة وإن كان أصلها مأخوذا من الجهم بن صفوان وأبي الهذيل العلاف وغيرهما
قيل لمن قال هذا القول: الواحد من هؤلاء لم يعظمه من يعظمه من المسلمين إلا لما قام به من دين الإسلام الذي كان فيه موافقا لما جاء به محمد ﷺ فإن الواحد من هؤلاء له مساع مشكورة في نصر ما نصره من الإسلام والرد على طوائف من المخالفين لما جاء به الرسول فحمدهم والثناء عليهم بما لهم من السعي الداخل في طاعة الله ورسوله وإظهار العلم الصحيح الموافق لما جاء به الرسول ﷺ والمظهر لباطل من خالف الرسول وما من أحد من هؤلاء ومن هو أفضل منهم إلا وله غلط في مواضع
وإذا كان كذلك فانظر في هذا الأصل الذي اتبع فيه متأخروهم لمتقدميهم من إثباتهم حدوث العالم والأجسام بهذه الطريق: هل هي طريقة صحيحة في العقل أم لا؟
وهل هي موافقة للشرع أم لا؟ فعرضها على الكتاب والميزان فإن الله تعالى يقول: { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط } فاعرض عما يذكرونه بما ثبت من كتاب الله وسنة رسوله وما ثبت عن الصحابة التابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين وزنه أيضا بالميزان الصحيحة العادلة العقلية واستعن على ذلك بما يذكره كل من النظار في هذه الطريقة وأمثالها ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ولا تتبع الظن فإنه لا يغنى من الحق شيئا وسل الله أن يلهمك ويهديك
فإنه قد ثبت في الحديث الصحيح الإلهي [ أن الله تعالى قال: يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ]
وقد ثبت في صحيح مسلم: [ أن النبي ﷺ كان إذا قام من الليل يصلي يقول: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ]
والله تعالى قد أخبر عن أهل النار أنهم قالوا: { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } فالضلال وقع في السمع والعقل فإن أقواما نصروا الإسلام - أو السنة - في ظنهم وصاروا يدخلون في الإسلام - أو السنة - ما ليس منه ولم يكن لهم من الخبرة بالكتاب - وتفسير السلف له - والسنة وأقوال سلف الأمة ما يعرفون به ما بعث الله به رسوله مما عرف بالنص والإجماع
ولهذا نجد جمهور أهل الكلام من أبعد الناس عن معرفة الحديث وأقوال الصحابة ويذكرون أحاديث يظنونها صحيحة وتكون من الموضوعات المكذوبات وأحاديث تكون صحيحة متلقاة بالقبول بل مجمع على تلقيها بالقبول وصحتها عند علماء أهل الحديث وهم يكذبون بها أو يرتابون فيها وكذلك نجدهم - وغيرهم - في العقليات قد أحسنوا الظن بطريقة دون طريقة وفي كل من الطريقين ما يؤخذ ويترك وأهم الأمور معرفة ماجاء به الرسول وفهم ذلك
فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عيه وسلم أنه قال: [ من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ] وأول الفقه فهم خطاب الله ورسوله بعد معرفة ثبوت ذلك عن الرسول ولو كان في نفس الأمر أن السمعيات لا يجب قبولها حتى يقوم الدليل على صدق المبلغ وهو بعد في قطع هذه المسافة فينبغي له أن لا ينظر في مسألة مما تكلم فيها الناس حتى يعرف ما قاله هذا الرسول وما ثبت عنه فإنه لوقدر واحد من العلماء النظار لكان ينبغي أن يعرف ما قاله في مسائل النزاع لينظر في قوله وقول غيره كما يفعل من نظر في أقوال النظار فكيف إذا كان في نفس الأمر هو المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى؟
ومعلوم أن الرجل لو تكلم في مسألة طب تنازع فيها الناس وقد بلغه أن لبقراط وجالنيوس وأمثالهم فيها نصا لم ينبغ له أن يثبت القول فيها حتى يعرف ما قاله هؤلاء مع جواز غلطهم في نفس الأمر فكيف بنصوص الانبياء في الأمور الألهية؟
وإذا وقع في قلبه شبهة الباطنية من الفلاسفة وغيرهم أنهم تكلموا بالتخييل والتمثيل لا بإظهار الحقائق إذ لم يكن إلا ذلك فليس لأحد أن يقبل هذا القول منهم تقليدا لهم بل ينظر في أقواله وأحواله وسائر أموره وأحوال أصحابه هل يطابق قول هؤلاء أم يورث علما ضروريا بأن هؤلاء كاذبون عليهم عمدا أو خطأ: إما عنادا وإما ضلالا؟ وهذا مبسوط في موضعه
تعليق ابن تيمية
والمقصود هنا أن هؤلاء المتكلمين الذين جمعوا في كلامهم بين حق وبين باطل وقابلوا الباطل بباطل وردوا البدعة ببدعة لما ناظروا الفلاسفة وناظروهم في مسألة حدوث العالم ونحوها استطال عليهم الفلاسفة لما رأوهم قد سلكوا تلك الطريق التي هي فاسدة عند أئمة الشرع والعقل وقد اعترف حذاق النظار بفسادها فظن هؤلاء الفلاسفة الملاحدة أنهم إذا أبطلوا قول هؤلاء بامتناع حوادث لا أول بها وأقاموا الدليل على دوام الفعل لزم من ذلك قدم هذا العالم ومخالفة نصوص الأنبياء
وهذا جهل عظيم فإنه ليس للفلاسفة ولا لغيرهم دليل واحد عقلي صحيح يخالف شيئا من نصوص الأنبياء وهذه مسألة حدوث العالم وقدمه لا يقدر أحد من بني آدم يقيم دليلا على قدم الأفلاك أصلا وجميع ما ذكروه ليس فيه ما يدل على قدم شيء بعينه من العالم أصلا وإنما غايتهم أن يدلوا على قدم نوع الفعل وأن الفاعل لم يزل فاعلا وأن الحوادث لا أول لها ونحو ذلك مما لا يدل على قدم شيء بعينه من العالم وهذا لا يخالف شيئا من نصوص الأنبياء بل يوافقها
وأما النصوص المتواترة عن الأنبياء بأن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وأن الله خالق كل شيء فكل ماسواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن فلا يمكن أحدا أن يذكر دليلا عقليا يناقض هذا وقد بسط هذا في غير هذا الموضع
وهذه مسألة حدوث العالم أعظم عمد الفلاسفة فيها التي عجز المتكلمون عن حلها ليس فيها ما يدل على قدم شيء من العالم أصلا ولهذا كان ما أقامه الناس من الأدلة على أن كل مفعول فهومحدث كائن بعد أن لم يكن ولك ما سوى الله مفعول فيكون محدثا لا يناقض ذلك وإنما يناقض ذلك أصل الجهمية والمعتزلة حيث قالوا: إن الله كان ولا يتكلم بشيء ولا يفعل شيئا بل كان الكلام والفعل عليه ممتنعا لا مقدورا له في الأزل ثم إنه صار ذلك ممكنا مقدورا بدون تجدد شيء فيحدث الكلام والفعل بدون سبب أوجب حدوث ذلك أصلا
ثم قال أئمة هذه الطريقة - وهو الجهم وأبو الهذيل - بأن لا بد من فناء الفعل وفناء الحركات كلها زاد الجهم: وبفناء العالم كله: الجنة والنار فيكون الرب ما زال معطلا من الكلام والفعال صم لا يزال معطلا من الكلام والفعال وإنما حدث ما حدث من الكلام والفعال في مدة قليلة جدا بالنسبة إلى الأزل والأبد فبهذا القول وما يترتب عليه أقام على هؤلاء الشناعة أئمة الشرع والعقل ورآى الناس أن في ذلك من مخالفة الشرع والعقل مالا يجوز السكوت عن رده لكن هؤلاء وإن كانوا ابتدعوا مخالفة للشرع والعقل بحسب نظرهم واستدلالهم فالمتفلسفة المتنازعون لهم أبعد عن العقل والشرع وهؤلاء يردون صريح ما تواتر عن الرسل ويزعمون أنهم خيلوا ومثلوا وأما أولئك فقد يتأولون النصوص أو يقولون: لها معنى لا نفهمه ولا يقولون: إن الرسل قصدت أن تخبر بالأمور على خلاف ما هي عليه بطريق التخييل والتمثيل بل كثير مما ينصرونه من بدعهم يظنون أن الرسل قالوه فخطؤهم تارة في تكذيب الناقل وتارة في تأويل المنقول
وأولئك يعلمون صدق الناقل وصدق المنقول عنه ولكن يقولون كلاما مضمونه أنه كذب للمصلحة ولهذا سماهم المسلمون: ملحدين: فإنهم يلحدون في آيات الله ولهذا يفضي بهم تأويل النصوص إلى ما يعلم العامة والخاصة أنه افتراء على الرسول وإلحاد محض مثل تأويلات الباطنية للعبادات وللقرآن وغير ذلك
وكان مما سلط هؤلاء على الإلحاد إدخال أولئك في الشريعة ما ليس منها وإن كانوا متأولين في ذلك فما جعلوا من دين الإسلام القول بأن الخالق لم يكن يمكنه أن يتكلم ويفعل ثم أمكنه ذلك بلا سبب وأن ذلك يتضمن ترجيح الممكن بلا مرجح وأن الممكن انقلب من الأمتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي بلا سبب حادث والفاعل أمكنة الفعل والكلام بعد أن لم يكن ممكنا بلا سبب - أخذ ذلك المتفلسفة وناقضوه واستدلوا بحجتهم المشهورة على قدم العالم بأن كل ما يعتبر في كون الباري مؤثرا: إما أن يكون موجودا في الأزل وإما أن لا يكون فإن كان موجودا لزم القول بأنه لم يزل فاعلا لأن المؤثر التام لا يتخلف عنه أثره وإن لم يكن موجودا امتنع وجوده بعد هذا لأن القول في ذلك الحادث كالقول في غيره فإذا لم يحصل المرجح التام امتنع الفعل وإذا حصل وجب وجود الفعل
وهذه الحجة لما ذكروها صار أولئك يجيبون عنها بما لا يفسدها بأن يقولوا: المرجح هو علم الفاعل وإرادته أو قدرته أو إمكان الفعل وانتفاء المانع وهو الأزل أو حصول المصلحة
وكل ما قالوه من هذا وغيره إذا نظر فيه بعينه لم يكن جوابا صحيحا فإن العلم يتبع المعلوم على ما هو به والمعلوم يتبع الإرادة فإن لم يكن المرجح ثابتا في نفس الأمر لم يكن العلم مرجحا وأما الإرادة فادعى كثير منهم أنها بذاتها توجب تخصيص أحد المتماثلين وهذا القدر خلاف ما يعقل من الإرادة فإنه لا تعرف الإرادة ترجح أحد المتماثلين من كل وجه بل لا بد من اختصاص أحدهما بما يوجب الترجيح
وإثبات إرادة كما ذكروه لا يعرف بشرع ولا عقل بل هو مخالف للشرع والعقل فإنه ليس في الكتاب والسنة وما يقتضي أن جميع الكائنات حصلت بإرادة واحدة بالعين تسبق جميع المرادات بما لا نهاية له وكذلك سائر ما ذكروه
ثم إن هذه الأمور إن كانت قديمة فلم يحدث مرجح وإن حدث بعد أن لم يحدث شيء منها أو تعلق بها فقد حدث الحادث بدون موجب لحدوثه وترجح أحد المتماثلين بلا مرجح فقد حدث الحادث بدون موجب لحدوثه والمرجح قبل وجوده كما هو بعد وجوده لم يكن ناقصا فتم
والرازي يجيب بأن الإرادة مرجحة كجواب أصحابه ثم يضعف هذا الجواب وتارة يقول: بل العقل والنفوس أزلية فحدث تصور من التصورات للنفس أوجب حدوث الأجسام وهو باطل في نفسه مخالف للعقل والنقل كما تقدم وأجود أجوبته المعارضة والنقض وهو أنه يقول: هذه الحجة تستلزم أن لا يحدث شيء من العالم وهو خلاف المشاهدة
وهذه المعارضة جيدة إذا ادعى المدعي أن المرجح التام لكل ممكن ثابت في الأزل فأن الحس والمشاهدة يناقض ذلك ودليلهم لا يدل على ذلك بل يدل على حصول مطلق الترجيح لا على حصول ترجيح لممكنات معينة ولا كل ممكن
فهذا يبين أنه ليس في دليلهم حصول مطلوبهم فإن مطلوبهم حصول المؤثر التام في الأزل لأثر معين كالعقول والنفوس والأفلاك ومعلوم أن دليلهم لا يدل على ذلك بل إنما يدل على أنه لم يزل يفعل شيئا فإذا قدر أن ذلك الفعل هو قائم بنفسه لا مفعول له في الخارج كان ذلك وفاء بموجب دليلهم وإذا قدر أن ذلك كونه لم يزل متكلما إذا شاء كان وفاء بموجب دليلهم
وإذا قيل: إنه قامت به إرادات متعاقبة كما قاله الأبهري وأن بسبب بعض تلك الإرادات حدثت الحوادث كان ذلك وفاء بموجب دليلهم إذ موجبه أنه يمتنع كونه يصير فاعلا بعد أن لم يكن والمثبت لمطلق لا ثبت فعلا معينا ولا مفعولا معينا فضلا عن أن يثبت عموم الفعل والمفعول
بل الذي يدل على فساد قولهم أنا قد علمنا بالمشاهدة والإحساس تجدد الحوادث في العالم وقد امتنع أن يكون في الأزل مؤثرا تاما فيها فلا بد من حدوث تمام المؤثرية لك واحد منها والإحداث من غيره ممتنع بوسط أو بغير وسط فلا يحدث حادث إلا منه سواء كان بوسط كالعقول أو بغير وسط فلو كان المؤثر كما زعموه من أنه واحد بسيط لا تقوم به صفة ولا أمر اختياري لكان حاله عند هذه الحوادث كحاله قبلها وبعدها
وهكذا الأمر في كل حال وهو قبل حدوث الحادث المعين لم يكن علة تامة فعنده يجب أن لا يكون علة تامة فلا يجوز أن يحدث شيء على موجب أصولهم
وإذا قالوا: حدث من الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية ما أعدت القوابل لقبول فيضه
قيل لهم: هذا إنما يصح إذا كانت القوابل والاستعدادات من غير الفاعل الممد كما في الشمس وكما يقولونه في العقل الفعال فأما الباري تعالى فمنه الإعداد والإمداد وكل ما سواه من القوابل والمقبولات والاستعدادات والإمدادات فمنه لا من غيره سواء كان بوسط أو بغير وسط
وإذا كان كذلك وكان حاله قبل إحداث كل حادث كحاله قبل ذلك الحادث امتنع أن يحدث منه شيء أصلا: لا قابل ولا مقبول ولا استعداد ولا إمداد فهم وإن أثبتوا أنه لم يزل فاعلا فقولهم يوجب أنه لم يحدث شيئا قط بل ولا فعل شيئا قط بل حدثت الحوادث بلا محدث فعلم أنه باطل
وليس في قولهم ما يوجب قدم شيء من العالم فقولهم بقدمه باطل ولهذا لم يحفظ القول بقدم الأفلاك عن أساطين الفلاسفة بل أول من حفظ ذلك عنه أرسطو وأتباعه وأما أساطين القدماء فالمنقول عنهم حدوث الأفلاك فهم قائلون بحدوث صورة العالم ولهم في المادة كلام فيه اضطراب فالنقل الثابت عن أعيانهم بحدوث العالم موافق لما أخبرت به الرسل صلوات الله عليهم
ونقل أصحاب المقالات عن غير واحد من أئمتهم القول بإثبات الصفات لله وبإثبات الأمور الاختيارية القائمة بذاته وهذا قول من يقرب إلى صريح المعقول وصحيح المنقول من الأوائل والأواخر كأبي البركات وغيره
وهؤلاء لم يوافقوا أرسطو وأتباعه ولا ابن سينا وأمثاله على أن الرب وجود بسيط لا صفة له ولافعل بل أثبتوا له الصفات القائمة بذاته وأنه يفعل بإرادات تقوم بذاته: إرادة بعد إرادة
وهؤلاء أبعدوا أن يمكنهم إقامة الدليل على قدم شيء من العالم فإن الفاعل الذي يفعل بإرادات قائمة به بذاته شيئا بعد شيء لا يقوم لهم دليل على أن شيئا من مفعولاته لم يزل مقارنا له إذ يمكن أنه فعل مفعولا بعد مفعول وأن هذا العالم خلقه من مادة كانت قبله كما أخبرت بذلك الرسل فأخبر الله تعالى في القرآن أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش وأخبر أنه سبحانه: { استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم }
قال في الآية الأخرى: { ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم }
فأخبر أنه سواهن سبع سماوات في يومين وأن السماء كانت دخانا وهو بخار الماء كم جاء تفيسره في عدة آثار: أنه خلق السماء من بخار الماء والبخار دخان الماء كما أن دخان الأرض دخان
وإن أريد بالدخان التراب فقط أو دخان التراب والماء فكل ذلك فيه إخبار الله أنه خلق السماوات السبع من مادة أخرى كما أخبر أنه خلق الإنسان من مادة وأنه خلق الجان من مادة
وثبت في الصحيح: صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ أنه قال: [ خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم ]
وثبت في صحيح مسلم عن عبد الله به عمرو عن النبي ﷺ أنه قال: [ إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء ] وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي ﷺ أنه قال: [ كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السماوات والأرض ] وفي رواية صحيحة: [ ثم خلق السماوات والأرض ] قأخبر أنه كان بين تقديره وبين خلقه للسماوات والأرض خمسين ألف سنة وهذه أزمنة مقدرة بحركات موجوده قبل وجود الأفلاك والشمس والقمر وأخبر أنه كان عرش الرب إذ ذاك على الماء
وقد جاءت الآثار المشهورة بأن الماء كان على وجه الأرض وأنه خلق السماء من دخان ذلك الماء
وكذلك في أول التوراة مثل هذا سواء أنه في أول الأمر خلق الله السماوات والأرض وأنه كانت الأرض مغمورة بالماء وكانت الريح تهب على الماء وذكر تفصيل خلق هذا العالم
ففي هذه الآثار المنقولة عن الأنبياء أنه كان موجودا قبل خلق هذا العالم أرض وماء وهواء وتلك الأجسام خلقها الله من أجسام أخر فإن العرش أيضا مخلوق كما أخبرت بذلك النصوص واتفق على ذلك المسلمون فأساطين الفلاسفة المتقدمون كانوا - فيما نقل الناقلون عنهم - قولهم يوافق هذا لم يكونوا بقدم العالم فإن هذا قول ليس عليه دليل أصلا مع أنه في غاية الفساد
وحقيقته أن الصانع لم يصنع شيئا وأن الحوادث تحدث بلا محدث بل حقيقته أن هذا العالم واجب الوجود وأنه ليس له مبدع
وأرسطو إنما أثبت له علة غائية يتشبه الفلك لها واستدل عليه بكون حركة الفلك عنده اختيارية فلا بد لها من غاية وقال: إن العلة الأولى تحرك الفلك كما يحرك المعشوق عاشقه والمشوق في الحقيقة ليس له قصد ولا علم ولا فعل في تحريك العاشق بل ذاك لمحبته يتحرك إليه فكيف وحقيقة قولهم أن يتحرك للتشبه به كمايتحرك المأموم للتشبه بإمامه؟ فهكذا يقولون: أن الفلك يتحرك للتشبه بالعلة الأولى
وقد بينا فساد قوله وحكينا ما ذكره أصحابه من أقواله وما فيها من الفساد في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن يعلم العقلاء أنه مخالف لصريح العقل ليس من دين المسلمين كما أنه من خالف كتاب الله وسنة رسوله أو إجماع السابقين ليس من دين المسلمين فليس في دينهم الصحيح: لا ما يخالف صحيح المنقول ولا ما يخالف صريح المعقول ولاما يناقض صحيح المنقول وصريح المعقول
والمقصود هنا أن الممكن لا يترجح إلا بمرجح وأن هذا متفق عليه بين العقلاء والله أعلم
فصل
ثم إن الرازي مع سلوكه المسلك المتقدم ذكر أن هذه المتقدمة أعني أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح هي مقدمة ضرورية وأن من لزمه ما يناقضها فهو لم يلزم ذلك فليس من العقلاء من يلتزم نقيضها والأقوال المستلزمة نقيض هذه القضية باطلة قطعا
وهذا الذي قاله صحيح في الممكن المعلوم أنه ممكن وهو المحدث فإن وجود المحدث بلا محدث مما يعلم بضرورة العقل امتناعه وأما الممكن بالمعنى الذي قالوه وهو ما يتناول القديم فهو يبين أنه باطل وأنهم لم يثبتوا بهذه الطريق: لا إثبات متمكن ولا إثبات واجب ولكن قد ذكر أيضا أنه من المعلوم بضرورة العقل أن المتساوي الطرفين لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح وهذا صحيح يوافقه عليه عامة العقلاء
وقد ذكر أن كثيرا من الطوائف يتنافضون فيقولون بما يناقض هذه القضية ونحن ليس بنا حاجة أن نجيب عن أهل الباطل به نقول: إن قولهم بترجيح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح له يدل على فساد قولهم كما يدل على فساد قول المتفلسفة الدهرية وفساد قول الجهمية والقدرية
وحينئذ فليس في تلك اللوازم ما نحتاج أن نجيب عنه إلا ما ذكره عن المسلمين من قولهم: إن الله فعل العالم في الوقت المعين دون سائر الأوقات لا لأمر يختص به ذلك الوقت فإن القول المحكي عن المسلمين لا بد أن يكون موجودا في كتاب الله أو سنة رسوله أو هو مما انعقد عليه إجماع المسلمين ولو لم يكن إلا إجماع الصحابة وحدهم فلو كان فيه نزاع بين المسلمين لما جاز أن يحكى عنهم كلهم
فكيف وهذا القول ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قاله أحد من سلف الأمة وأئمتها ولا هو متفق عليه بين أهل الكلام منهم؟ بل هوقول طوائف من أهل الكلام المحدث الذي ذمه السلف والأئمة
وطوائف منهم ينازعون في ذلك ويقولون: إن الحادث إنما حدث لسبب اقتضى حدوثه واختصاصه بذلك الوقت مع قولهم: إن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش كما ثبت ذلك بالنصوص المتواترة وقد علم النزاع في تسلسل الآثار بل فيما يقوم بذات الله تعالى من الأمور المتعلقة بمشيئته وقدرته مع عدم تناهيها وثبوت تسلسلها
والمقصود هنا أن القول بترجيح الممكن - الذي هو الحادث - بلا مرجح ممتنع عند عامة العقلاء فإن كان الممكن هو الحادث كان كلاهما دليلا على مدلول واحد
القول بحدوث حادث بلا محدث ممتنع لوجوه
وإن قدر أن الممكن أعم من المحدث فنقول: إذا كان ذلك ممتنعا فالقول بحدوث حادث بلا محدث ممتنع أيضا بل هو أعظم امتناعا لوجوه :
الأول
أنه يتضمن رجحان الممكن بلا مرجح لأن كل محدث فهو يمكن وجوده وعدمه إذ لولا إمكان وجوده لما وجد ولولا إمكان عدمه لما كان معدوما قبل حدوثه فوجوده يقتضي ترجيح وجوده علىعدمه وذلك يفتقر إلى مرجح
الثاني
أن ذلك يتضمن تخصيص حدوثه بوقت دون وقت وصفة دون صفة وتخصيص أحد المثلين بما يختص به عن الآخر لا بد له من مخصص
الثالث
أن نفس العلم بأن المحدث لا بد له من محدث أبين وأقوى وأظهر في العقل من كون الممكن لا يترجح إلا بمرجح وهذا يتصور هذا من العقلاء ويعلمون بطلانه بالضرورة من لا يتصور الممكن ويعلم افتقاره إلى المرجح إلا بنوع من التكلف الذي لا يتصور به ذلك
وقد تبين أن الناس في هذا المقام على درجات وكل من كان إلى الفطرة العقلية والشريعة النبوية أقرب كانت طريقته أقوم فالمستدل بأن الموجود على سبيل الجواز وهو الموجود الممكن لا يكون بالوجود أولى منه بالعدم إلا بالفاعل وأن ما حدث مع جواز أن لا يحدث لم يكن بالحدوث أولى من أن لا يحدث لولا شيء اقتضى حدوثه كما سلك ذلك كثير من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم من الفقهاء أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم - خير من المستدل بأن الموجود الممكن مطلقا لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح وهذا المستدل بأن الممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح خير من المستدل بأنه لا يترجح وجوده على عدمه ولا عدمه على وجوده إلا بمرجح كما سلك ابن سينا وأتباعه كالسهروردي والرازي والآمدي وغيرهم مع تناقض هؤلاء حيث قالوا في موضع آخر: إن العدم المستمر لا يحتاج إلى سبب كما قاله نظار المسلمين من جميع الطوائف
ثم الذين استدلوا بذلك ولم يحتاجوا إلى قطع التسلسل كما فعل الجمهور أقرب من الذين احتاجوا إلى قطع التسلسل كما فعل ابن سينا ونحوه
ثم هؤلاء الذين لم يحتاجوا إلا إلى إبطال التسلسل دون إبطال الدور أقرب من الذين احتاجوا إلى إبطال التسلسل والدور جميعا كما فعل الرازي ونحوه وظنوا أن الدليل لايتم إلا بذلك
ثم هؤلاء الذين أبطلوا التسلسل خير من الذين أقروا بعجزهم عن ذلك كما فعل الآمدي
ثم إن أبا الحسين مع أن طريقه أصح وأبين وأقرب من طرق هؤلاء فطريقة القاضي أبي بكر بن الطيب والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي الجويني وابن عقيل وأبي الحسن ابن الزاغوني وأمثالهم خير من طريقته
كلام أبي الحسن البصري في إثبات محدث العالم
وذلك أنه قال: ( فإذا ثبت أن العالم محدث فالدلالة على أن له محدثا هي أنه لا يخلو إما أن يكون حدث وكان يجوز أن لا يحدث أو كان يجب أن يحدث فلو حدث مع وجوب أن يحدث لم يكن أن يحدث في تلك الحال أولى من أن يحدث من قبل فلا يستقر حدوثه على حال إذ كان حدوثه واجبا في نفسه وإن حدث مع جواز أن لا يحدث لم يكن بالحدوث أولى من أن لا يحدث لولا شيء اقتضى حدوثه وسندل على أنه عالم قادر فصح قولنا )
قال: ( واستدل شيوخنا رحمهم الله على أن الأجسام تحتاج إلى محدث بأن تصرفنا يحتاج إلىمحدث لأجل أنه محدث فكان حدوث كل محدث يحوجه إلى محدث فإذا كانت الأجسام محدثه احتاجت إلى محدث )
قال: ( والدلالة على حاجة تصرفنا إلى محدث هو أنه لو حدث بنفسه من غير محدث لحدث وإن كرهناه وكنا ممنوعين منه فلما وقع بحسب قصدنا وانتفى بحسب كراهتنا علمنا أنه يحتاج إلينا
والدليل على أنه يحتاج إلينا لأجل حدوثه أنه إما أن يحتاج إلينا لأجل حدوثه أو لبقائه أو لعدمه فلو احتاج إلينا لأجل بقائه لوجب أن لا يبقى البناء إذا مات الباني ولا يجوز أن يحتاج إلينا لعدمه لأن تصرفنا كان معدوما قبل وجودنا وقبل كوننا قادرين فصح أنه احتاج إلينا ليحدث ولأن حدوثه هو المتجدد بحسب قصدنا وإرادتنا وهو الذي لا يتجدد إذا كرهناه فعلمنا أنه إنما يحتاج إلينا لأجل حدوثه )
تعليق ابن تيمية
قلت: فطريقة شيوخه الذين أشار إليهم من المعتزلة هي الاستدلال على افتقار المحدث إلى المحدث بالقياس على تصرفاتنا وأنها تحتاج إلى محدث لأجل كونها محدثة
وقد سلك هذه الطريقة غير المعتزلة من أصحاب الأشعري وغيرهم حتى مثل أبي القاسم القشيري وأبي الوفاء بن عقيل وبنوا ذلك على هذه
وأما الطريقة التي ذكرها هو وبناها على التقسيم الذي ذكره وهو أن المحدث لا يخلو من أن يحدث مع وجوب حدوثه أو مع جواز حدوثه وجواز أن لا يحدث
وأبطل الأول بأنه لو كان حدوثه واجبا لم يكن حدوثه في حال بأولى من حدوثه قبل تلك الحال فلا يستقر حدوثه على حال إذ كان حدوثه واجبا في نفسه وقد قال قبل هذا: إن وجود القديم واجب وليس بأن يجب وجوده في حال أولى من حال فصح أنه واجب الوجود في كل حال واستحال عدمه
وهذا التقسيم لا يحتاج إليه ولا على إبطال هذا القسم بما ذكروه وذلك أن قول القائل: إما أن يحدث مع وجوب حدوثه أو مع جواز حدوثه
إما أن يريد به وجوب حدثه بنفسه أو وجوبه بغيره فإن أراد به الثاني فهذا لا يمتنع بل يجوز أن يقال: المحدث حدث مع وجوب حدوثه بالمقتضى لحدوثه لا بنفسه أي وجد المقتضي التام لحدوثه الذي يمتنع معه أن لا يحدث وهذا إذا قيل فإنه يدل على ثبوت الصانع المحدث أيضا لا ينفي ذلك فليس في إثبات هذا القسم ما ينفي ثبوت الصانع
ولكن هؤلاء المعتزلة قد ينازعون قي كون الممكن عند وجود المقتضى التام يكون واجبا ويقولون: لا يقع شيء من الممكنات والحوادث إلا على وجه الجواز أو أن يكون بالوجود أولى منه بالعدم لا على وجه الوجوب
ويقولون: إن القادر المختار سواء كان قديما أو محدثا لا يفعل إلا مع جواز أن لا يفعل وإنه يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وهذا مما نازعهم فيه جمهور العقلاء
وليس المقصود هنا بيان صحة قول الجمهور وفساد قولهم لكن المقصود أن قولهم سواء كان صحيحا أو فاسدا فهم يستغنون عن جعله مقدمة إثبات الصانع
وإذا أمكن إثبات العلم بالصانع على كل تقدير كان خيرا من إثباته على تقدير قول تنازع فيه كثير من العقلاء وهم يمكنهم إثباته بأن المحدث لا بد له من محدث سواء قيل أنه يجب بمحدثه أو لم يقل ذلك فلا حاجة بهم في إثباته إلى ذلك
وإما إن أراد القائل بقوله: إما أن يحدث مع وجوب أن يحدث أو مع جواز أنه يحدث مع وجوب أن يحدث بنفسه بدون مقتض لحدوثه فلا ريب أن هذا فاسد معلوم فساده بضرورة العقل
والعلم بفساده أبين من العلم بكون حدوثه ليس في حال بأولى منه في حال أخرى وذلك أن ما حدث يعلم أنه ليس واجبا بنفسه فإن الواجب بنفسه لا يقبل العدم والمحدث كان معدوما فيمتنع أن يقال إنه حادث وهو واجب بنفسه
ومن المعلوم أن المحدث يمتنع أن يكون قديما فإن هذا نقيض هذا إذ المعني بكونه محدثا أنه ليس بقديم
ومن المعلوم أن واجب الوجود بنفسه يجب أن يكون قديما والعلم بأن واجب الوجود بنفسه يجب أن يكون قديما أبين من العلم بكون القديم يجب أن يكون واجب الوجود بنفسه
فإن الأول لم تنازع فيه طائفة معروفة والثاني نازع فيه طائفة معروفة
وأيضا فإن أبا الحسين استدل على أن القديم يجب أن يكون واجب الوجود بنفسه بأنه ليس وجوده في حال بأولى من وجوده في حال فصح أنه واجب الوجود في كل حال فامتنع عدمه
وأما كون واجب الوجود بنفسه يكون قديما فهو أبين من هذا
وحينئذ فالمحدث لا يمكن أن يقال: إنه حدث وهو أنه حدث وهو واجب الوجود بنفسه أبين من كونه ليس وجوده في حال أولى منه في حال
وأبو الحسين بنى كلامه على نفي هذه الأولوية التي مضمونها أن الوقتين متساويان فلا يجوز تخصيص أحد الوقتين عن الآخر بالحدوث إلا بمخصص وهذا يكفيه في الاستدلال ابتداء فإن المحدث اختص حدوثه بوقت وتخصيص أحد الوقتين لا بد له من مخصص
وهذه هي الطريقة التي سلكها القاضي أبو بكر ومن وافقه وهي خير وأقرب وأصح من طريقة أبي الحسين
أما كونها خيرا وأقرب فظاهر وأما كونها أصح فلأن أبا الحسين جعل من مقدمات حجته أنه إذا حدث مع وجوب أن يحدث لم يكن بأن يحدث في تلك الحال أولى من أن يحدث من قبل فلا يستقر حدوثه على حال
وهذا كما تقدم فيه إجمال يحتاج إلى استفصال يترتب عليه نزاع
فإذا قال له القائل: بل حدث مع وجوب أن يحدث لمقتضى اقتضى وجوب حدوثه في تلك الحال لم يمكنه أن يقول: ليس إيجاب المقتضى لحدوثه في تلك الحال بأولى من اقتضائه لوجوب حدوثه في غير تلك الحال لأنه يقول له كما قلت: إن المقتضى لحدوثه مع جواز حدوثه يخصص الحدوث بحال من حال كذلك يقول: إن المقتضي لوجوب حدوثه يخصص الحدوث بحال دون حال
فإن قال: المقتضى الموجب لا يخص بحال دون حال بخلاف المقتضى مع عدم وجوب الاقتضاء كان الجواب من وجوه :
أحدها: المنع فإن هذه دعوى مجردة
الثاني: أن يقال: لا نسلم أنه يمكن أن يكون شيء مقتضيا للحدوث إلا مع الوجوب وإنه مادام اقتضاؤه جائزا فإنه يمتنع الاقتضاء وذلك لأنه إذا جاز أن يقتضى وجاز أن لا يقتضى كان كل من الأمرين ممكنا جائزا لم يكن ثبوت الاقتضاء أولى من انتفاء لولا أمر آخر اقتضى ذلك الاقتضاء ثم القول في اقتضاء ذلك الاقتضاء كالأول ويلزم منه توقف حدوث الحوادث على اقتضاءات متسلسلة لا نهاية لها ولا وجود لشيء منه وما توقف على ما لا وجود له فلا وجود له وهو يبطل التسلسل فيما هو دون هذا
وهذا المقام مقام معروف للمعتزلة في فعل الرب وفعل العبد يذكرونه في مسألة حدوث العالم ومسألة القدر وهو مما استطالت عليهم به أهل السنة والفلاسفة وغيرهم
لا سيما وأبو الحسين يقول: إنه مع فعل القادر يتوقف على الداعي وإنه عند وجود الداعي التام يجب وجود المقدور فيكون أصل قوله موافق لقول من قال من أهل السنة ومن الفلاسفة: إن الحادث يحدث مع وجوب أن يحدث وهذايناقض قوله بأنه لا يحدث إلا مع جواز الحدوث لا مع وجوبه
الثالث أن يقال: هب أنا سلمنا إمكان ثبوت المقتضى وأنه يقتضى مع جواز أن لا يقتضى وأنه يخص الحدوث بحال دون حال فإذا أمكن الحدوث والتخصيص بما هو مقتض مع جواز أن لا يقتضى فالحدوث والتخصيص بمقتض واجب الاقتضاء أولى وأحرى
فإن قيل: ما كان واجب الاقتضاء لم يتخلف عنه مقتضاه فيلزم قدم الحوادث بخلاف ما كان جائز الاقتضاء
قيل: هذا إنما يصح لو كان اقتضاؤه لكل ما يقتضيه لازما له وكان مجرد ذاته علة موجبة لمعلولاته كما يقوله من يقول ذلك من المتفلسفة كبرقلس وابن سينا وأتباعهما
فإنهم يقولون: إن الأول علة بمجرد ذاته لجميع المعلولات وما سواه معلول به فيلزمهم أن لا يتخلف عنه شيء من الحوادث وهذا باطل قطعا
وأما إذا كان اقتضاؤه وفعله لما يفعله إنما هو أنه مقتض لوجود كل حادث في الوقت الذي حدث فيه لا سيما إذا قيل مع ذلك بأنه مقتض لما يقتضيه كمشيئته وقدرته كما هو قول المسلمين وجماهير العقلاء
فيقال: إذا قدر أنه قادر مختار وهو يحدث الحوادث مع جواز أن لا تكون مشيئته وقدرته مستلزمة لحدوثها فلان يحدثها مع كون مشيئته وقدرته مستلزمة لها أولى وأحرى وحينئذ فيحدث مع وجوب حدوثها بقدرته ومشيئته
ولا يمكنهم أن يقولوا: القدرة والمشيئة لا تخص وقتا دون وقت لأن هذا ينقض قولهم فإنهم يقولون: إنه لمجرد قدرته يخص بعض الأحوال دون بعض
ولو قال قائل: ذلك من غيرهم لقيل له: تخصيص القدرة والمشيئة للحوادث بحال دون حال هو بحسب ما يعلمه من الأسباب المقتضية للتخصيص
وغاية ذلك أن يستلزم أن تقوم بذاته أسباب تقتضي التخصيص متعلقة بمشيئته وقدرته أو يقال: إن هذا يستلزم ما لا نهاية له على سبيل التعاقب ونحو ذلك من المقامات المعروفة التي لا يوردها أحد إلا وهو يلزمه بترك التزامها من التناقض أعظم مما يلزم به منازعه وأما منازعه فيمكنه التزامها ولا يتناقض قوله: لا عقلا ولا شرعا
ولكن من حسن المناظرة والتعليم أن يبين لمن يرد قولا ما يلزمه هو على تقديره رده ومن أراد تصحيح الحق بقول باطل يمكن استغناؤه عن ذلك القول وأن الحق يمكن تصحيحه بدونه وأنه إذا صححه بذلك الطريق كان ما يلزمه من اللوازم التي تناقض قوله وتفسده أعظم مما يلزمه إذا أعرض عن ذلك
وبهذا وأمثاله يتبين أنه لم يسلك أحد طريقا مخالفة للسنة في إثبات شيء من اصول الإيمان إلا والله قد أغنى عنها بما هو سليم من عيوبها وأن تلك الطريق وإن غمض على أكثر الناس معرفة فسادها لدقته فلا يخفى عليهم إمكان الاستغناء عنها
ونحن كثيرا ما نقصد بيان أن الطرق التي خالفها سالكها شيئا من النصوص غير محتاج إليها بل مستغن عنها ليتبين أن العلم بصدق الرسول وصحة ما جاء به من الكتاب والسنة ليس موقوفا على شيء من الطرق التي تناقض شيئا مما جاء به مع أنا نبين أيضا أن تلك الطرق فاسدة لكن بيان الاستغناء عنها في مقام وبيان فسادها في مقام
وأهل البدع يدعون الحاجة إليها أولا ثم يعارضون بها النصوص ثانيا فنحن نبين الغنى عنها ثم نبين فسادها ثانيا ثم نبين ثالثا أن الطرق العقلية الصحيحة وهي الأدلة السمعية متلازمان فيلزم من صحة أحدهما صحة الآخر
وهذا قدر زائد على عدم تنافيها وعدم تنافيها وحده كاف في بطلان قول من يزعم تنافيهما
وأيضا فلو قدر أن فيها ما ينافي السمع فذلك المنافي ليس هو الأدلة العقلية التي بها نعلم صحة السمع
وذلك كله مما تبين به بطلان قول من يقول: إن تقديم الكتاب والسنة على ما يعارض ذلك يستلزم قدح الشرع في أصله
وطريقة القاضي أبي بكر وأمثاله ليس فيها هذا التقسيم الذي ذكره أبو الحسين بل ذكر أولا أن تخصيص المحدث بوقت دون وقت لا بد له من مخصص وأن ما قدم من الحوادث وأخر لا بد له من مقدم ومؤخر من غير أن يحتاج أن يقول: إن الحدوث: إما أن يكون واجبا وإما أن يكون غير واجب وهذا أصح وأقرب وأبين
ثم أن طريقة أبي الحسن الأشعري التي في اللمع خير من طريقة القاضي فإنه بناها على أن المحدث لا بد له من محدث ولم يحتج أن يستدل على ذلك بأن الحدوث تخصيص بوقت دون وقت والتخصيص لا بد له من مخصص فإن هذا وإن كان صحيحا فالعلم بافتقار المحدث إلى المحدث أبين وأقوى من هذا
وكل ما يذكر في تخصيص أحد الوقتين أو تخصيصه بصفة دون صفة هو موجود في نفس الحدوث فإن تخصيص هذا الحادث بالحدوث دون غيره من الممكنات لا بد له من مخصص ونفس الحدوث مستلزم للمحدث الفاعل ولو قدر أنه لم يحدث غيره ولا يمكن حدوث غيره وأنه ليس هناك حال أخرى تصلح للحدوث فإن كون الحادث يحدث نفسه من غير محدث يحدثه من أبين الأمور استحالة في فطر جميع الناس
والعلم بذلك مستقر في فطر جميع الناس حتى الصبيان حتى أن الصبي إذا رأى ضربة حصلت على رأسه قال: من ضربني؟ من ضربني؟ وبكى حتى يعلم من ضربه وإذا قيل له: ما ضربك أحد أو هذه الضربة حصلت بنفسها من غير أن يفعلها أحد لم يقبل عقله ذلك وهو لا يحتاج في هذا العلم الفطري الذي جبل عليه إلى أن يستدل عليه بأن حدوث هذه الضربة في هذه الحال دون ما قبلها وما بعدها لا بد له من مخصص بل تصور هذا فيه عسر على كثير من العقلاء وبيان ذاك بهذا من باب بيان الأجلى بالأخفى
ثم الطرق التي جاء بها القرآن خير من طريقة الأشعري وغيره فإن فيها إثبات الصانع بنفس ما يشاهده الناس من حدوث الأعيان المحدثة وحدوث الأعيان مشهود معلوم لا يحتاج أن يستدل على حدوثها بحدوث صفاتها وأن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث
بل سالكو هذه السبيل ظنوا أن الأعيان لا تحدث وإنما تحدث صفاتها وأنهم لم يشهدوا حدوث جسم ولا جوهر قائم بنفسه وإنما شهدوا حدوث صفات الأجسام وأن الأجسام متماثلة مركبة من جواهر متماثلة وهي تنقلب فيها من وصف إلى وصف
قالوا: فهذا هو الذي يشهد حدوثه ثم بهذا يعلم حدوث ما قامت به هذه الحوادث فأنكروا ما يعلمه الناس بحسهم ومعاينتهم من حدوث ما يشهدون حدوثه من الأجسام ثم احتاجوا مع ذلك إلى أن يثبتوا حدوث هذه الأعيان بالاستدلال الذي ذكروه من أنها لا تخلو من الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث
وهذه الطريق يظهر الاستغناء عنه لكل أحد بما يشهده من حدوث الأعيان وأصحابها يسلمون الاستغناء عنها بما يشهدونه من حدوث الصفات كما ذكره الرازي وغيره وعلى التقديرين فقد ثبت الاستغناء عنها
فمن قال: إن العلم بإثبات الصانع وتصديق رسله موقوف عليها فقد ظهر خطؤه عقلا لكل أحد كما علم مخالفته لدين الإسلام بالضرورة
فإنه من المعلوم بالاضطرار: أن الرسول ﷺ والصحابة والتابعين ما دعوا أحدا من الناس إلى الإقرار بالخالق وبرسله بهذه الطريق ولا استدلوا على أحد بهذه الحجة بل ولا سلكوا هم في معرفتهم هذه الطريق ولا حصلوا العلم بهذا النوع من النظر والاستدلال المبتدع المحدث الذي قد أغنى الله عنه وظهر الغنى عنه لكل عاقل
ثم معرفة فساد هذه الطريق عقلا هو ألطف من العلم بالغنى عنها ولهذا يظهر الغنى عنها لخلق كثير قبل أن يظهر لهم فسادها
وقد ذكر من الكلام على مقدماتها وفسادها وطعن بعض أهلها في بعض وإفسادها لمقدماتها وبيان فسادها بصريح العقل في غير هذا الموضع ما ينبه على المقصود
والمقصود هنا: التنبيه على أن العلم بافتقار المحدث إلى المحدث والمفعول إلى الفاعل وهو من العلوم الضرورية البديهية وهو أظهر وأقوى مما استدل به عليه القاضي وأمثاله من كون تخصيص الحدوث بوقت دون وقت لا بد له من مخصص
وهذا الذي ذكره القاضي أبو بكر وأمثاله أظهر مما استدل عليه أبو الحسين وأمثاله من أن الحدوث: إما أن يكون على وجه الوجوب أو على وجه الجواز
وهذا الذي ذكره أبو الحسين وأتباعه من أن الجائز الممكن ليس وجوده أولى من عدمه لولا المقتضى لحدثه أظهر مما ذكره ابن سينا والرازي وأمثالهما من أن الجائز الممكن ليس وجوده أولى من عدمه ولا عدمه أولى من وجوده إلا لمرجح منفصل عنه
وطريق هؤلاء بعضها أصح وأقرب من طريق بعض
وقد ظهر بما ذكرنا فساد القاضي أبي بكر: أنه لم يخالف في أن افتقار المحدث إلى محدث مما لا يعلم بالاضطرار وإنما يتطرق إليه بالفحص والبحث إلا شرذمة لا يعتد بقولها ادعت في هذه المذهب البديهة
كلام الأشعري في اللمع عن إثبات وجود الله تعالى وتعليق ابن تيمية
ثم يقال له: إن كان هذا حقا فالأشعري لم يذكر في اللمع دليلا على ذلك بل جعل ذلك مسلما وإنما أثبت حدوث الإنسان وأنه لم يحدث نفسه
ثم قال: ( فدل ما وصفناه على أنه ليس هو الذي نقل نفسه في هذه الأحوال وأن له ناقلا نقله من حال إلى حال ودبره على ما هو عليه لأنه لا يجوز انتقاله من حال إلى حال بغير ناقل ولا مدبر )
فذكره هذه المقدمة مجردة عن الاستدلال فإن كان العالم انتقاله من حال إلى حال لا يعلم به أن له ناقلا مدبرا إلا بأدلة تذكر فهو لم يذكر تلك الأدلة بل ادعى دعوى نظرية تقبل النزاع بلا دليل
وحينئذ فيكون طعن من طعن المعتزلة في كلامه أوجه فإنه لم يقم دليلا: لا على حدوث الجسم ولا على أن المحدث لا بد له من محدث
ثم يقال: من العجائب أن يكون القول بأن العالم حدث من غير محدث أحدثه وأن بعض الحوادث حدث من غير محدث أحدثه قول قاله كثير من الفلاسفة والدهرية أو طائف من نظار المسلمين
وقول بأن العلم بأن الأفعال تتعلق بفاعل وأن المخلوقات تتعلق بفاعل وأن المخلوق تتعلق بخالق - علم ضروري إنما قاله شرذمة لا يعتد بقولها وأن الجميع من العقلاء إنما يعلم هذا بالفحص والبحث مع أنه لا يعلم أن أحدا من المشهورين بالعلم طلب على هذا دليلا ولم يذكر عن أحد من الكفار مطالبة أحد من المؤمنين بدليل على هذا ولا في كتاب الله وسنة ورسوله ولا كلام أحد من السلف والأئمة ذكر حاجة هذا إلى الاستدلال أو الاستدلال عليه بما ذكرتموه: من أن ذلك يتضمن التقدم والتأخر فلا بد به من مرجح
فصل
ومن هنا يظهر الوجه الثاني الذي تبين به أن ما ذكره الأشعري لا يحتاج إلىما ذكره القاضي
وذلك أن العلم بأن المحدث لا بد له من محدث هو أبده للعقل وأرسخ في القلب وأظهر عند الخاصة والعامة مما قرره به وهو أن ذلك يتضمن تخصيص بعض الأزمان بالحدوث دون بعض والتخصيص لا بد له من مخصص
فالأول: إن لم يكن أقوى منه وأجلى فليس هو دونه وغاية هذا الثاني أن يكون مثله أو داخلا في أفراده
لا سيما على أصل القاضي وموافقيه من المعتزلة والأشعرية فإنهم يجوزون اختصاص بعض الأزمنة بالحوادث دون بعض بدون سبب اقتضى ذلك التخصيص وإذا أضافوا التخصيص إلى المشيئة القديمة فنسبة المشيئة إلى جميع الحوادث والأزمنة سواء
وإذا كانت النسبة مستوية فثبوت هذه النسبة مع أحد المتماثلين دون الآخر تخصيص بلا مخصص
وإذا قالوا: الإرادة لذاتها تخصص مثلا عن مثل بلا سبب مع تضمن ذلك ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح أصلا أمكن منازعهم أن يقول بتخصيص أحد الزمانين المتماثلين بالحوادث دون الآخر بلا مخصص أصلا وقال: من شأن الأوقات التخيصص بلا مخصص
وإذا قالت المعتزلة: القادر المختار يرجح أحد مقدورية على الآخر بلا مرجح كان ما يلزمهم كما يلزم أولئك وأشد
فمن كانت هذه الأقوال أقواله وكان غاية ما يثبت به الصانع وافتقار المحدث إلى محدث: أن الحوادث مختصة بزمان دون زمان فلا بد للتخصيص من مخصص وأن التخصيص بلا مخصص ممتنع ويجعل ذلك بديهيا ضروريا
كيف يمكنه أن يقول: إن وجود الحوادث بلا محدث والفعل بلا فاعل والصنعة بلا صانع ليس امتناعه بديهيا ضروريا؟
فمن جعل العلوم البديهية الضرورية ليست بديهية ضرورية وجعل ما هو دونها بديهيا ضروريا تناقضت أقواله وكان فيها من مخالفة العقل والسمع ما لا يحصيه إلا الله
وهذا بخلاف الطرق المذكورة في القرآن فإنها في غاية السداد والاستقامة
ومن أقرب ذلك أن إثبات الفاعل مبني على مقدمتين ضروريتين: أحداهما: أن الإنسان محدث والثانية: أن المحدث لا بد له من محدث
فأبو الحسن - مع جماهير العقلاء - جعولوا المقدمة الثانية ضرورية بخلاف ما ذكره القاضي ومن وافقه حيث أثبتوا بما هي أقوى منه وأجلى
وإن كانت هذه الطرق الخفية البعيدة وأمثالها ينتفع بها في حق من لم ينفذ للطرق الجلية القريبة أوعرضت له فيها شبهة كما تقدم
وأما المقدمة الأولى: وهو أن الإنسان والثمار والمطر والسحاب ونحو ذلك محدث فهذه مقدمة معلومة بالمشاهدة والضرورة فإن حدوث الحوادث مشهود
ثم من قال من أهل الجوهر الفرد والهيولى: إن الحادث إنما هو صفات الأجسام لا أعيانها أو صورتها لا مادتها أمكنهم إثبات المحدث بناء على ذلك وهذه الطريقة التي ذكرها الرازي وغيره وهي الاستدلال بحدوث صفات الأجسام
وأما من أنكر ذلك وهم جمهور العقلاء فإن الحادث عندهم هو نفس الأعيان المحسوسة وأبو الحسن ممن يثبت الجوهر الفرد ولم يكتف بالاستدلال على حدوث الصفات بل أراد إثبات حدوث نفس النطفة فأثبت ذلك بطريقة استلزامها للحوادث وما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث وهي الطريقة التي سلكتها المعتزلة في حدوث الأجسام ابتداء وعلى هذه الطريقة فحدوث الإنسان نظري لا ضروري
وإذا ضم إلى ذلك أن العلم بافتقار المحدث إلى المحدث نظري كما قاله من قاله من المعتزلة ومن وافقهم ك القاضي أبي بكر وأتباعه - صار كل من المقدمتين في إثبات الصانع نظريا
وهذا أضعف هذه الطرق وأطولها لكن مبناها على أن التخصيص الحادث لا بد له من مخصص وهذا عند هؤلاء ضروري كافتقار الممكن إلى الواجب
ثم الذي سلكوا طريقة ابن سينا جعلوا هذا نظريا وأثبتوا منع التسلسل بطريقة ابن سينا وهي أقرب مما بعده
فجاء من بعدهم ك الرازي ضم إلى ذلك نفي الدور أيضا ثم هو والآمدي ونحوهما أثبتوا بطلان التسلسل بطرق طويلة واستصعب ذلك على الآمدي حتى قال: إنه عاجز عن تمشيها وحل مايرد عليها كما ذكرناه
ولا ريب أن تمشيها مع تفسيرهم الممكن بالتفسير الذي أحدثه ابن سينا ممتنع وأما تمشيتها إذا جعل الممكن هو الذي يوجد تارة ويعدم أخرة فهو سهل متيسر معلوم ببدائه العقول
فانظر من عدل عن الطرق المستقيمة شرعا وعقلا كلما أمعن في العدول أمعن في البعد عن الحق وتطويل الطريق وتصعيبها حتى آل الأمر بهم إلى الجهل العظيم وإلى العجز عن الاستدلال على ما هو أعظم الأشياء ثبوتا ووجودا وأكثرها وأقواها أدلة وأولاها بالعلم من كل معلوم وأحقها بأن يكون مستقرا في الفطرة دائم الحصول في القلوب حاصلا بأكمل الأسباب التي يمكن بها حصول العلم
والمقصود هنا الكلام على الطريقة التي ذكرها أبو الحسن وأنها أقرب وأصح من الطريقة التي سلكها من سلكها من المعتزلة ومن وافقهم ك القاضي أبي بكر وأمثاله وأنها طريقة صحيحة لم ينازع فيها طائفة مشهورة إذا اكتفي فيها بحدوث ما يعلم حدوثه كالإنسان والنبات وغيرهما من الحوادث وأما إذا احتيج فيها إلى إثبات حدوث الأجسام كلها بطريقة الأعراض أو قيل: إن حدوث الإنسان ونحوه لا يثبت إلا بمثل تلك الطريق كان المنازع في صحة هذه الطريق جمهور العقلاء من أهل الملل والفلاسفة وكان هذا من الكلام الذي ذمه السلف والائمة
فالمخالفون للطرق الفطرية العقلية الشرعية القريبة الصحيحة كلما أبعدوا عنها مدحوا من يوافقهم في البعد ولهذا عكس هؤلاء الكلام على المقدمتين فأخذوا يوافقون أبا الحسن على المقدمة المبتدعة الباطلة ويذمونه أو يعتذرون عنه على المقدمة البديهة الصحيحة الشرعية
تابع كلام الأشعري في اللمع
قال أبو الحسن: ( فإن قال قائل: ما أنكرتم من أن تكون النطفة قديمة لم تزل؟ قيل له: لو كان ذلك كما ادعيتم لم يجز أن يلحقها الاعتمال والتأثير والانقلاب والتغير لأن القديم لا يجوز انقلابه وتغييره وأن يجري عليه سمات الحدث لأن ما جرى عليه ذلك ولزمته الصنعة لم ينفك عن سمات الحدث وما لم يسبق المحدث كان محدثا مصنوعا فبطل لذلك قدم النطفة وغيرها من الأجسام )
كلام الباقلاني في شرح اللمع
قال القاضي أبو بكر: ( اعلم أن هذا الذي ذكره هو المعول عليه في الاستدلال على حدوث سائر الأجسام وذلك أن الذي عناه بقوله: لو كانت قديمة لم يلحقها الاعتمال والتأثير والانقلاب والتغير وخروجها من صفة كانت عليها إلى صفة لم تكن عليها كنحو خروجها عن السكون إلى الحركة وعن الحركة إلى السكون وكاستصلابها بعد لينها وافتراقها بعد اجتماعها وما يلحقها من تعاقب الأكوان وغير ذلك من التغيرات لأن القديم الحاصل على صفة من الصفات لا يجوز خروجه عنها على ماذكره أصلا وذلك أن القديم إذا لم يزل مجتمعا مثلا أو مفتقرا أومتحركا أو ساكنا أو على بعض هذه الصفات لم يجز خروجه عنه لأنه لايخلو أن يكون على ما هو عليه في أزله: لنفسه أو لعلة أولا لنفسه ولا لعلة أن لبطلان نفسه أو لبطلان معنى فيستحيل أن يكون على ما هو عليه لا لنفسه ولا لمعنى لأن هذا يوجب خروج الإثبات عن تعلقه بمثبت والخبر عن تعلقه بمخبر وغير ذلك من وجوه الفساد ويستحيل أن يكون ما هو عليه لبطلان نفسه - وعدمها لأن المعدوم ليس بشيء يحصل على صفة من الصفات ولأنه ليس عدم نفسه - إن جاز عدمها - بأن يكون تحصيله ساكنا أولى من تحصيله له متحركا ويستحيل أن يكون ذلك لبطلان معنى كان موجودا به لأن القديم لا يجوز عدمه ولأنه ليس بأن يكون متحركا لعدم سكونه أولى من غيره ممن يصح أن يكون متحركا
وهذا يوجب أن يكون الجسم إنما تحرك لعدم سكونه إلى محاذاة بعينها ولو كان ذلك كذلك لم يكن تحركه لعدم ذلك السكون إلى تلك المحاذاة بعينها أولى من تحركه إلى غيرها من الجهات وإلىما هو أبعد منها
وفي تحركه إلى جهة مخصوصة ومحاذاة معينة - دليل على أن ذلك إنما وجب له لمعنى سوى عدم سكونه ولأنه ليس بأن يتحرك هو لأجل عدم السكون أولى من غيره من الأجسام لأن عدم السكون ليس هو بأكثر من خلوه منه وأنه ليس فيه وغيره من الأجسام حال من ذلك السكون أيضا فكيف صار خلوه منه يوجب له التحرك أولى من كل من خلا من الأجسام؟ وفي فساد ذلك: دليل على أنه لا يجوز أن يكون المتحرك تحرك لعدم معنى
وجملة هذا أن القديم لا يجوز عدمه ولا يجوز لمثل ذلك أن يكون القديم إنما يتحرك فيما لم يزل لعدم نفسه ولا لعدم معنى قديم
فلم يبق إلا وجهان: أحدهما: أن يكون فيما لم يزل على ما هو عليه لنفسه أو لمعنى قديم فإن كان لم يزل ساكنا لنفسه استحال تحركه بعد سكونه لوجود نفسه في كلا الحالين ويستحيل خروج الشيء عن الوصف المستحق لنفسه مع وجود نفسه التي بها كان كذلك
وإن كان لم يزل ساكنا لأجل معنى قديم استحال أن يتحرك إلا عند عدم سكونه القديم وإلا وجب تحركه وسكونه معا فإذا استحال ذلك واستحال عدم سكونه إذا كان قديما واستحال أن يخرج القديم عن الصفة التي هو فيها لم يزل عليها لم يجز أن يلحقه - لما وصفناه - وانقلاب ولا تغيير ولا اعتمال ولا تأثير فصح ما قاله شيخنا أبو الحسن من هذا الوجه )
تعليق ابن تيمية
قلت: ولقائل أن يقول: هذا الكلام مضمونه أن ما به يعلم حدوث النطفة به يعلم حدوث سائر الأجسام وأن المنكر لحدوث سائر الأجسام يمكنه إنكار حدوث النطفة
وليس الأمر كذلك بل حدوث الحيوان والنبات والمعدن ونحوذلك وحدوث أوائل ذلك كالنطفة والبيضة وطاقة الزرع ونحو ذلك - أمر مشهود معلوم بالحس والضرورة واتفاق العقلاء وهذا بخلاف الفلك فإنه ليس شهود حدوثه كشهود حدوث الحيوان والنبات والمعدن
وكذلك من ينازعهم في الواجب وفي تسميته جسما: كالهاشمية والكرامية وغيرهم أو من لا يطلق الاسم ولكن يقولون له: ما أثبته نسميه نحن جسما أو يجب أن يكون جسما كما يعلم حدوث هذه الحوادث المشهودة
فإن قال بهذا فالمفرق يقول: حدوث النطفة مشهود معلوم مسلم وكذلك حدوث ما أشبهها
وأما حدوث كل ماسميته جسما فإنما أثبته بما ذكرته من الدليل وهو ضعيف على ما سنذكره
فإن قال: أعني بالنزاع في حدوث النطفة النزاع في حدوث الجواهر المفردة التي منها تركبت النطفة وتألفت أو في حدوث مادتها التي لبستها صورة النطفة
قيل له: الجواب من طريقتين :
أحدهما: أن يقال: هذا لا حاجة لك به
الثاني: أن يقال: ما ذكرته ليس بصحيح
فأما الطريق الأول ففيه وجوه
أحدها: أن العلم بحدوث ما يحدث والاستدلال به على ثبوت الصانع ليس مفتقرا إلى أن يعلم: هل في النطفة جواهر منفردة أو مادة؟ وهل ذلك قديم أو حادث؟ بل مجرد حدوث ما شهد حدوثه يدل على أن له محدثا كما يدل حدوث سائر الحوادث على أن لها محدثا
وإن قال: فقصدي تعميم حدوث سائر الأجسام
قيل له: فحينئذ لم يكن بك حاجة إلى ذكر حدوث الإنسان وحده من النطفة بل كان هذا تطويلا إذ كان ما به بثبت حدوث النطفة به يثبت حدوث الإنسان ابتداء
وحينئذ فيكون كلام الأشعري كلام من لا يعرف الاستدلال والنظر كما قاله من اعترض عليه من المعتزلة فإنه إذا كان لا بد في الاستدلال بالأجسام المخصوصة في آخر الأمر من دليل يتناول جميع الأجسام كان ذكر هذا ابتداء أولى من التطويل لا سيما في مثل المختصر الذي يطلب فيه التقريب والتسهيل
وأيضا فإن العلم بحدوث الحوادث المشهودة أظهر وأبين من العلم بحدوث جميع الأجسام وذلك كاف في إثبات العلم بالصانع فلماذا تجعل موقوفة على مقدمات لو كانت صحيحة كان فيها من التطويل والغموض ما يوجب هذا كثيرا: إما عدم العلم أو حصول ضده من اعتقاد الباطل فيكون ما جعل طريقا إلى العلم والإيمان موجبا لضده من الجهل والكفر
والوجه الثاني: أن يقال: فحينئذ يكون الشك في حدوث الحيوان والنبات ونحو ذلك مبينا على كونها مركبة من الجواهر المنفردة أو المادة والصورة وإمكان قدم الجواهر المنفردة أو المادة ومعلوم أن هذا لو كان صحيحا لكان من الدقيق الذي يحتاج إلى بيان وهم لم يبنوا ذلك
ومن المعلوم أن هذا موضع اضطراب فيه أهل الكلام والفلسفة اضطرابا لا يتسع هذا الموضع لاستقصائه :
فقالت طائفة: إن الأجسام مركبة من أجزاء لا تتجزأ وهي الجواهر المنفردة وهذا قول أكثر المعتزلة والأشعرية
وقالت طائفة: بل فيها أجزاء لا نهاية لها وهوالمذكور عن النظام وعليه انبنى القول بطفرة النظام ولهذا يقال: ثلاثة لا يعلم لها حقيقة: طفرة النظام وأحوال أبي هاشم وكسب الأشعري
وقالت طائفة: بل هي مركبة من المادة والصورة وهي تقبل الانقسام إلى غير نهاية لكن ليس فيها أجزاء لا نهاية لها
وقالت طائفة: ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا بل تقبل التجزؤ إلى أجزاء لا تتجزأ
وقالت طائفة: ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا ولا تتجزأ إلى غير غاية بل إذا صغرت الأجزاء انقلبت إلى أجسام أخر مع كونها في نفسها يتميز منها جانب عن جانب
فهؤلاء لا يقولون بقبول الانقسام إلى غير نهاية ولا بوجود ما لا يقبل الانقسام بل كل ما وجد يقبل الانقسام لكنه يستحيل إلى جسم آخر في حال تميز جانب منه عن جانب فلا يوجد فيه انقسام إلى غير نهاية وقد بسط الكلام على هذه الأقوال في غير هذا الموضع
وأذكياء المتأخرين: مثل أبي الحسين البصري وأبي المعالي الجويني وأبي عبد الله الرازي: كانوا متوقفين في آخر أمرهم في إثبات الجوهر الفرد فإذا كان الأمر هكذا لم يمكن أحدا أن يطالب بدليل على حدوث الحيوان باعتبار تركبه من الجواهر أو المادة والصورة حتى يثبت ذلك أولا
ومن المعلوم لكل عاقل أن علم الناس بحدوث ما يشهدون حدوثه من الأجسام ليس موقوفا على العلم بأنها مركبة هذا التركيب الذي كلت فيه أذهان هؤلاء الأذكياء
الوجه الثالث: أن يقال: حدوث مايشهد حدوثه من الثمار والزروع والحيوان وغير ذلك أمر مشهود فإن الإنسان إذا تأمل خشب الشجرة وما يخرجه الله منها من الأنوار والثمار وما يخرجه من الأرض من الزروع وما يخرجه من الحيوان من النطفة والبيض - أيقن بحدوث هذه الأعيان
فإذا قيل له: هذا لم يحدث ولكن كانت أجزاؤه مفرقة فاجتمعت وجعل لها صفة غير تلك الصفة
قال: أما ما تغيرت صفاته كتغير الأبيض إلى السواد والساكن إلى الحركة والحامض إلى الحلاوة والمفرق إلى الاجتماع وتغير الجسم من شكل إلى شكل كتغير الشمعة والفضة ونحو ذلك من صورة إلى صورة - فهذا كله وما يشبهه يشهد فيه أن العين باقية وإنما تغيرت صفاتها التي هي: الحركة والسكون والاجتماع والافتراق والألوان والطعوم والأشكال بخلاف الثمرة التي تخرج من الشجرة والجنين الذي يخرج من بطن أمه والفروج الذي يخرج من البيضة فإن عاقلا لا يقول: إن نفس الرطبة فها جرم الخشب باقيا ولا أجزاء الجنين كعظمه وبصره فيه أجزاء النطفة باقية ولا نفس الفروج فيه بياض البيض باقيا
ومن قال: إن هذا باق في هذا كما أن الجسم الذي اسود بعد بياضه وحلا بعض حموضته وصار مدورا بعد أن كان مسطحا باق - فهو لا يتصور ما يقول أو هو معاند مسفسط فالأمر ينتهي إلى عدم التصور التام أو العناد المحض وهذا أصل كل ضلال وهو الجهل أو العناد والعناد وصف المغضوب عليهم والجهل وصف الضالين
والفرق بين استحالة العين وبين تبدل الصفات معلوم للعامة والخاصة وقد ذكر الفقهاء ذلك في غير موضع
ثم كلامهم في النجاسة إذا استحالت مثل أن تصير رمادا أو ملحا ونحو ذلك ومثل كلامهم في باب الأيمان: فيما إذا حلف على فعل في جسم معين فتغير ذلك الجسم المعين فإن كان التغيير لم يزل الاسم فاليمين باقية بلا نزاع بينهم كما لو حلف لا يكلم هذا الرجل فمرض أو صار شيخا أو لا يأكل هذه الخبز فصار كسرا ونحوذلك
وإن كانت قد استحالت أجزاؤه تغير اسمه: مثل أن يحلف لا أكلت هذه البيضة فصارت فروجا أولا أكلت هذه الحنطة فصارت زرعا
قالوا: فهنا لا يحنث لأنه زال اسمه وزالت أجزاؤه
وإن تغيرت الصفة مع زوال الاسم: كما إذا حلف لا كلمت هذا الصبي فصار شيخا أولا أكلت لحم هذا الحمل فصار كبشا - فإنه يحنث عند جمهورهم: كأبي حنيفة ومالك وأحمد في المشهور من مذهبه وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي وكذلك لو حلف لا أكلت من هذا الرطب فصار تمرا
وتنازعوا فيما إذا أكل مما يصنع من الرطب والعنب من الدبس والخل فمنهم من قال: يحنث وهو مذهب مالك وهو المشهور من مذهب أحمد ومنهم من قال: لا يحنث كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي وطائفة من أصحاب أحمد قالوا: لأن اسم المحلوف عليه وصورته زالت فلم يحنث كما في مسألة البيضة والفروج
فقال لهم الأولون: عين المحلوف عليه باقية فصار كمسألة الحمل بخلاف البيضة إذا صارت فرخا فإن أجزاءها استحالت فصارت عينا أخرى ولم يبق عينها
مع أن في هذه المسائل كلاما ليس هذا موضعه إذ كان منهم من يرى اليمين باقية مع استحالة العين لأجل التغيير ومنهم من يرى أنه بمجرد زوال الاسم تزول اليمين
ولكن المقصود هنا أنه من المستقر في عقول الناس الفرق بين استحالة الأعيان وانقلابها وبين تغير صفاتها مع بقاء عينها وذاتها ولهذا اتفقوا كلهم على أن العين الخبيثة لا تطهر بمجرد تغير الصفة فالدم والميتة ولحم الخنزير والخمر: إذا تغيرت صفاته مثل أن يجمد الدم والخمر أو يسيل شحم الميتة والخنزير ونحو ذلك فإنه لا يزول التحريم باتفاقهم
وأما إذا استحالت العين: مثل أن يصير ذلك ملحا أو رمادا أو نحو ذلك ففيه نزاع مشهور والجمهور على أنه يطهر بالاستحالة كما هو مذهب أكثر أهل الرأي وأهل الظاهر وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد واتفقوا على أن الخمر المنقلبة بفعل الله تعالى خلا أنها تطهر
وأما الطريق الثاني: وهو بيان أن ما ذكره ليس بدليل صحيح على حدوث الأجسام - فإن المعترض يقول: قوله: ( إن القديم إذا حصل على صفة من صفات لم يجز خروجه عنها ) كلام مجمل قد يراد به أنه إذا حصل على صفة لازمة لذاته لم يجز خروجه عنها وقد يريد له إذا حصل على حال عارضة له سواء كان نوعها لازما له أولم يكن لازما لذاته مثل الفعل والعمل سواء سمي حركة أو لم يسم: كالإتيان والمجيء والنزول والمناداة والمناجاة وأمثال ذلك مما تنازع فيه الناس: هل يقوم بالقديم أم لا؟
فجمهور أهل السنة والحديث المتبعون للسلف والأئمة من السلف والخلف مع كثير من طوائف الكلام وأكثر الفلاسفة: يجوزون أن يقوم بالقديم ما يتعلق بمشئته وقدرته من الأفعال وغير الأفعال فيقول هؤلاء: قول القائل: أن القديم الحاصل على صفة لا يجوز خروجه عنها إن إراد به مواقع الإجماع: مثل صفات الكمال اللازمة لذات الله أو نوع الصفات الازم لذات الله تعالى فهذا لا نزاع فيه
وإن أراد به أعيان الحوادث فما الدليل على أن القديم إذا قام به حال من غير هذه الأحوال المعينة لم يجز خروجه عنها؟
وأما استدلال المستدل بقوله: لا يخلو أن يكون على ما هو عليه في أزله لنفسه أو لعلة إلى آخر الكلام
فيقال لك: ذلك الأمر الذي قام هو به هو معنى من المعاني؟ فإن جعلت الموجب لذلك المعنى أمرا آخر - على قول مثبتي الأحوال القائلين: بأن كونه عالما ومتحركا معنى أوجبه العلم والحركة - خوطبت على هذا الاصطلاح وقيل لك: قام به ذلك لمعنى
قوله: وإذا كان لمعنى استحال أن يزول إلا عند عدم ذلك المعنى والقديم يستحيل عدمه
يقال له: قول القائل: القديم يستحيل عدمه لفظ مجمل أتريد به: أن العين القديمة أو صفتها اللازمة لها يستحيل عدمه أو النوع الذي لا يزال يستحيل عدمه؟ فإن أراد شيئا من هذه المعاني لم يكن له فيه حجة وإن أراد أن النوع القديم يستحيل عدم فرد من أفراده المتعاقبة فهذا محل نزاع ولا دليل على امتناع عدمه ولم يعدم القديم هنا بل النوع القديم لم يزل ولكن عدم فرد من أفراده بمعاقبة فرد آخر له كالأفعال المتعاقبة شيئا بعد شيء
فإذا كان القائم بالقديم نوع لم يزل مع تعاقب أفراده لم يكن قد عدم النوع بل كان الكلام في كونه أزليا كالكلام في كونه أبديا وكما أنه لا يزال فلا يعدم النوع وإن عدم ما يعدم من أعيانه فكذلك القول في كونه لم يزل
وأيضا فيقال له: القديم إذا فعل بعد إن لم يكن فاعلا فكونه فعل أمر موجود أو معدوم؟
فإن قال: إنه معدوم فهذا مكابرة للحس والعقل فإن الفعل إذا كان أمرا عدميا فلا فرق بين حال أن يفعل وحال ألا يفعل لأن العدم المحض لا يكون فعلا
وإذا لم يكن فرق بين الحالين وهو في حال ألا يفعل لا فعل فيجب في الحال التي زعم أنه فعل ألا يكون له فعل لتساوي الحالين فيجب ألا يفعل مع كونه فعل وهذا جمع بين النقيضين
وإن قال: كونه فعل أمر موجود فالقديم قبل أن يفعل كان على صفة فإما أن يتجدد ما يوجب خروجه عن تلك الصفة أو لا يتجدد فإن لم يتجدد وجب ألا يفعل وإن تجدد شيء انتقض قوله: إنه إذا كان على صفة من الصفات لم يجز خروجه عنها
فإن قيل: إنما أعني بالصفة المعنى القائم بذاته وذاك لم يزل
قيل: هب أنك عنيت هذا لكن دليلك يتناول هذا وغيره ويوجب أن الأمر القديم الأزلي لا يجوز تحوله من حال إلى حال بوجه من الوجوه لأن ما كان قديما كان لمعنى والقديم لا يزول
فالأمر المتجدد المتحول الحادث سواء سميته صفة أو حالا أو حادثا أو فعلا وسواء كان قائما به أو بغيره بموجب دليلك أنه لا يجوز بغير الأمور القديمة الأزلية فإن كان هذا حقا وجب ألا يحدث شيء من الحوادث فإن جوز أن تحدث عن قديم من غير حدوث أمر وجودي يكون شرطا في وجودها فقد جوز تغير الأمور الأزلية بلا سبب وإن قال: لا بد من تجدد أمر به يحصل حدوثها وإذا تجدد أمر فقد حصل تغير لم يكن في الأزل فانتقضت حجته
وإيضاح هذا أن يذكر نظير حجته فيقال له: القديم الذي لم يزل غير فاعل لا يجوز كونه فاعلا فإنه إذا كان غير فاعل فإما أن يكون ذلك لنفسه أو لعلة إلى آخر الكلام
وإن قال: فعله بعد أن لم يكن فاعلا ليس إلا مجرد وجود المفعولات والفعل حدوث نسبة وإضافة بينهما وهي عدمية
فيقال له: فالمتجدد القائم به يقال فيه كذلك ليس هو إلا مجرد وجود ذلك المتجدد وهو حدوث نسبة وإضافة عدمية والفعل حدوث نسبة وإضافة نسبة وإضافة بيهما وهي عدمية
فإن قال: هذا يلزم منه قيام المتجددات والحوادث به وهذا لا يجوز
قيل له: هذه مصادرة على المطلوب فإنك أنت لم تقم دليلا على أن القديم لا تقوم المتجددات والحوادث به بل ما ذكرته هو الدليل على ذلك فإن كان استدلالك على هذا لا يتم إلا بأن تجعل المطلوب مقدمة في إثبات نفسه لم يكن لك عليه دليل إلا مجرد الدعوى وصار هذا بمنزلة أن يقول القائل: القديم لا تقوم به الأحوال المتجددة لأن القديم لا تقوم به الأحوال المتجددة
وإذا كان العلم بالصانع موقوفا على هذا الدليل لم يكن هناك علم بالصانع بل صار حقيقة الكلام: الدليل على ثبوت الصانع حدوث النطفة وغيرها من الأجسام والدليل على حدوث ذلك أنه تقوم به المتجددات والحوادث وما قام به المتجددات والحوادث كان حادثا لأن ما قام به المتجددات والحوادث كان جادثا
فيكون منتهى الكلام: مجرد الدعوى التي نوزع فيها والاستدلال عليها بنفسها مع ترك الدليل الواضح البين الذي يشهد به الحس ويعلمه الخلق ولا ينازع فيه عاقل - وهو حدوث المحدثات التي يشهد حدوثها ثم افتقار المحدثات إلى فاعل ليس بمحدث بل قديم - من الأمور المعلولة بالضرورة لعامة العقلاء لا ينازع فيه إلا من هو من شر الناس سفسطة
فهذا وأمثاله مما يقوله جمهور الأنام في مثل هذا المقام ويقولون: إنا نعلم بالاضطرار: أن ما ذكره الله تعالى في القرآن ليس فيه إثبات الصانع بهذه الطريق بل ما في القرآن من الإخبار عن الله بما أخبر عنه من أفعاله وأحواله يناقض هذه الطريق ويقولون: إن العقل الصريح مطابق لما في القرآن فإن حدوث المحدثات مشاهد معلوم بالحس والعقل وكون المحدث لا بد لهم من محدث أمر يعلم بصريح العقل وأيضا فحدوث الحادث بدون سبب حادث ممتنع في العقل