ذكر الآمدي أربعة حجج على نفي الجوهر مختصة بالجسم
الحجة الأولى
قوله لو كان جوهرا كالجواهر فإما أن يكون واجبا لذاته وإما أن لا يكون فإن كان واجبا لذاته لزم اشتراك جميع الجواهر في وجوب الوجود لذاتها ضرورة اشتراكها في معنى الجوهرية وإن كان ممكنا لزم أن لا يكون واجبا لذاته وإن كان لا كالجواهر فهو تسليم للمطلوب
الرد عليه
فيقال لا نسلم انه إذا كان واجبا لذاته لزم اشتراك جميع الجواهر في وجوب الوجود ولا يلزم أن الاشتراك في الجوهرية يقتضي الاشتراك في جميع الصفات التي تجب لكل منها وتمتنع عليه وتجوز له
وكذلك سيقال لا نسلم أنه إذا لم يكن كالجواهر كان تسليما للمطلوب وذلك انه إذا قيل لا كالأحياء وعالم لا كالعلماء وقادر لا كالقادرين لا يلزم من ذلك نفي هذه الصفات ولا إثبات خصائص المخلوقات
فمن قال هو جوهر وفسره إما بالمتحيز وغما بالقائم بذاته وغما بما هو موجود في موضوع لم يسلم أن الجواهر متماثلة بل يقول تنقسم إلى واجب وممكن كما ينقسم الحي والعليم إلى هذا وهذا
فإن قال إذا كان متحيزا فالمتحيزات مماثلة له كان هذا مصادرة على المطلوب لأنه نفي كونه جسما بناء على نفي الجوهر ونفي الجوهر بناء على نفي على نفي المتحيز والمتحيز هو الجسم أو الجوهر والجسم فيكون قد جعل الشيء مقدمة في إثبات نفسه وهذه هي المصادرة
الحجة الثانية
قال الآمدي انه إما أن يكون قابلا للتحيزية أو لا يكون فإن كان الأول لزم أن يكون جسما مركبا وهو محال كما يأتي وغن كان الثاني لزم أن يكون بمنزلة الجوهر الفرد
ولقائل أن يقول إن عنيت بالتحيزية تفرقته بعد الاجتماع أو اجتماعه بعد الافتراق فلا نسلم أن ما لا يكون كذلك يلزم أن يكون حقيرا
وإن عنيت به ما يشار إليه أو يتميز منه شيء عن شيء لم نسلم أن مثل هذا ممتنع بل نقول إن كل موجود قائم بنفسه فإنه كذلك وأن ما لا يكون كذلك فلا يكون إلا عرضا قائما وانه لا يعقل موجود إلا ما يشار إليه أو ما يقوم بما يشار إليه كما قد بسط في موضعه وسيأتي الكلام على نفي حجته
الحجة الثالثة
قال لا يخلو غما ان يكون لذاته قابلا لحلول الأعراض المتعاقبة أولا فإن كان الأول فيلزم ان يكون محلا للحوادث وهو محال كما يأتي وإن كان الثاني فيلزم امتناع ذلك على كل الجواهر ضرورة الاشتراك بينها في المعنى وهو محال خلاف المحسوس
الرد عليه من وجوه
ولقائل أن يقول الجواب من وجوه
الأول أنا لا نسلم حلول الأعراض المتعاقبة وأنت قد اعتمدت في هذا الوجه الذي ذكرته من تناقض أهل هذا القول على نفي الجسم والجوهر فلو جعلت هذا حجة في ذلك لزم المصادرة على المطلوب إذ كنت في كل من المسألتين تعتمد على الأخرى وإن اعتمدت على نفيه بالوجوه الأخر فقد عرف فساد كلامك وكلام غيرك
الوجه الثاني
الثانية أن يقال ولم قلت إنه إذا امتنع حلول الحوادث على بعض الجواهر بعض وبعض القائمين بأنفسهم دون بعض وبعض الموصوفات دون بعض فلو قال لك قائل الاشتراك في كون كل من الشيئين ذاتا قائمة بنفسها موصوفة بالصفات يوجب اشتراكهما في حلول الحوادث لكان هذا القول إما أن يلزمك وإما أن لا يلزمك فإن لزمك كان هذا لازما لك ولمنازعك فليس لك أن تنفيه وإن لم يلزمك فما كان جوابك عن إلزام من يلزمك به هو جواب منازعك
فإن قلت الاشتراك في الجوهرية اشتراك في المعنى الذي لآجله جاز قيام الحوادث به
قال لك كل من الخصمين والاشتراك في الذاتية والموصوفية والقيام بالنفس اشتراك في المعنى الذي لجله جاز قيام الحوادث به وأنت إذا أنصفت علمت أن البابين واحد
الحجة الثالثة
الثالثة أن يقال ما تعنى بقولك الأعراض المتعاقبة أتعني به أحواله التي دلت النصوص على قيامها به أم غير ذلك؟
الأول مسلم لكن لا نسلم مساواة المخلوقات له في خصائصه والثاني ممنوع
الحجة الرابعة
قال أنه لا يخلو إما ان تكون ذاته قابلة لأن يشار إليها انها هنا أو هناك او لا تكون قابلة لذلك فإن كان الأول فيكون متحيزا إذ لا معنى للتحيز إلا هذا والتحيز على الله محال لوجهين
التحيز على الله محال لوجهين
الأول أنه إما ان يكون منتقلا عن حيزه أو لا يكون منتقلا عنه فيكون متحركاوإن لم يكن منتقلا عنه فيكون ساكنا والحركة والسكون حادثان على ما يأتي وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث
الثاني
أن اختصاصه بحيزه إما ان يكون لذاته او لمخص من خارج فإن كان الأول فليس هو أولى من تخصيص غيره من الجواهر به ضرورة المساواة في المعنى وإن كان لغيره وجب أن يكون الرب مفتقرا إلى غيره في وجوده فلا يكون واجب الوجود وإن كان غير متحيز لزم في كل جوهر ان يكون غير متحيز ضرورة المساواة في المعنى وهو محال وأنه لا معنى للجوهر غير المتحيز بذاته فما لا يكون كذلك لا يكون جوهرا
تعليق ابن تيمية
قلت: ولقائل أن يقول: لا نسلم أنه إذا كان قابلا للإشارة كان متحيزا وقوله: لا معنى للمتحيز إلا هذا: إن أراد به أن المفهوم من كونه مشارا إليه هو المفهوم من كونه متحيزا كان قوله فاسدا بالضرورة وإن أراد أن ما صدق عليه هذا صدق عليه هذا
قيل له: من الناس من ينازعك في هذا ويقول: إنه سبحانه فوق العالم ويشار إليه وليس بمتحيز
فإن قال: هذا فساده معلوم بالضرورة
قيل له: ليس هذا بأبعد من قولك إنه موجود قائم بنفسه متصف بالصفات مرئي بالأبصار وهو مع هذا لا يشار إليه وليس بداخل العالم ولا خارجه ولا مباين له ولا مداخل له
فإن قلت: إحالة هذا من حكم الوهم
قيل لك: وإحالة موجود قائم بنفسه يشار إليه ولا يكون متحيزا من حكم الوهم بل تصديق العقول بموجود يشار إليه ولا يكون متحيزا أعظم من تصديقها بموجود قائم بنفسه متصف بالصفات لا يشار إليه وليس بداخل العالم ولا خارجه
ثم يقال ثانيا: لم قلتم: أنه يمتنع أن يكون متحيزا؟ قولك: إما أن يكون متحركا أو ساكنا يقال لك فلم لا يجوز أن لا يكون قابلا للحركة والسكون وثبوت أحدهما فرع قبوله له؟
فإن قلت كل متحيز فهو قابل لهما
قيل لك: علمنا بهذا كعلمنا بأن كل موجود قائم بنفسه موصوف بالصفات إما مباين لغيره وإما محايث فإن جوزت موجودا قائما بنفسه لا مباين ولا محايث فجوز وجود موجود متحيز ليس يمتحرك ولا ساكن
فإن قلت: المتحيز إما أن يكون منتقلا عن حيزه أو لا يكون منتقلا عنه والأول هو الحركة والثاني هو السكون
قيل لك: ليس كل متحيز أمرا وجوديا فإن العالم متحيز وليس له حيز وجودي ومن قال إن الباري وحده فوق العالم أو سلم لك إنه متحيز لم يقل إنه في حيز وجودي وحينئذ فالحيز أمر عدمي فقولك إما أن يكون منتقلا عنه أو لا كقولك: إما أن يكون منتقلا بنفسه أولا وهو معنى قولك إما أن يكون متحركا أو ساكنا وهذا إثبات الشيء بنفسه
فإن قلت: هذا بين مستقر في الفطرة والعلم به بديهي
قيل لك: ليس هذا بأبين من قول القائل: إما أن يكون صانع العالم حيث العالم وإما أن لا يكون حيث العالم والأول هو المحايثة والدخول فيه والثاني هو المباينة والخروج عنه
فإن قلت: يمكن أن لا يكون داخلا فيه ولا خارجا عنه
قيل لك: ويمكن أن لا يكون المتحيز منتقلا ولا يكون ساكنا كما تقوله أنت فيما تقول إنه قائم بنفسه لا منتقل ولا ساكن فإن قلت: أنا أعقل هذا فيما ليس بمتحيز ولا أعقله في المتحيز
قيل: وكيف عقلت اولا ثبوت ما ليس بمتحيز بهذا التفسير؟
والمنازع يقول أنا لا أعقل إلا ما هو داخل أو خارج
فإذا قلت أنت: هذا فرع قبول ذلك وقابل ذلك هو المتحيز فما لا يكون كذلك لا يكون قابلا للمباينة والمحاديثة والدخول والخروج
قال لك: نحن لا نعقل موجودا إلا هذا
فإن قلت بل هذا ممكن في العقل وثابت أيضا
قال لك: وكذلك متحيز لا يقبل الحركة والسكون هو أيضا ممكن في العقل وثابت
فإن قلت الفطرة تدفع هذا
قيل لك: وهي لدفع ذاك أعظم
فإن قلت ذاك حكم الوهم
قيل وهذا حكم الوهم
فإن قلت العقل أثبت موجودا ليس بمتحيز
قيل لك: إنما أثبت ذاك بمثل هذه الأدلة التي تتكلم على على مقدماتها فإن أثبت مقدمات النتيجة بالنتيجة كنت مصادرا على المطلوب فأنت لا يمكنك إثبات موجود ليس بمتحيز إلا بمثل هذا الدليل وهذا الدليل لا يثبت إلا ببيان إن مكان وجود موجود ليس بمتحيز فلا يجوز أن تجعله مقدمة حجة في إثبات نفسه
ويقول له الخصم: ثالثا هب أنك تقول: لا بد له إذا كان متحيزا من الحركة والسكون فنحن نقول: إن كل قائم بنفسه لا يخلو عن الحركة والسكون فإنه إما أن يكون منتقلا أو لا يكون منتقلا فإن كان منتقلا فهو متحرك وإلا فهو ساكن
فإن قلت: ثبوت الانتقال وسلبه فرع قبوله
قيل لك: هذا التقسيم معلوم بالضرورة في كل قائم بنفسه كما ذكرت أنه معلوم بالضرورة في كل ما سميته متحيزا وحيزه عدم محض فإنه إذا لم يكن إلا الانتقال وعدم الانتقال فالانتقال هو الحركة وعدمه هو السكون
وإذا قلت: هذان متقابلان تقابل العدم والملكة فلا بد من ثبوت القبول
كان الجواب من وجوه :
الأول: أن يقال مثل هذا فيما سميته متحيزا
الثاني: أن يقال هذا اصطلاح اصطلحته وإلا فكل ما ليس بمتحرك وهو قائم بنفسه فهو ساكن كما أن كل ما ليس بحي فهو ميت
الثالث أن يقال هب أن الأمر كذلك ولكن إذا اعتبرنا الموجودات فما يقبل الحركة أكمل مما لا يقبلها فإذا كان عدم الحركة عما من شأنه أن يقبلها صفة نقص فكونه لا يقبل الحركة أعظم نقصا كما ذكرنا مثل ذلك في الصفات
ونقول رابعا الحركة الاختيارية للشيء كمال له كالحياة ونحوها فإذا قدرنا ذاتين إحداهما تتحرك باختيارها والأخرى لا تتحرك أصلا كانت الأولى أكمل
ويقول الخصم: رأبعا قوله لم لا يجوز أن يكون متحركا قولك: الحركة حادثة
قلت: حادثة النوع او الشخص؟ الأول ممنوع والثاني مسلم وقولك مالا يخلو عن الحوادث فهو حادث إن أريد به ما لا يخلو عن نوعها فممنوع والثاني لا يضر وانت لم تذكر حجة على حدوث نوع الحركة إلا حجة واحدة وهو قولك الحادث لا يكون أزليا وهي ضعيفة كما عرف
إذ لفظ الحادث يراد به النوع ويراد به الشخص فاللفظ مجمل كما أن قول القائل الفاني لا يكون باقيا لفظ مجمل فإن أراد به أن القائم بنفسه لا يكون باقيا فهو حق وإن أراد به أن ما كان فاني الأعيان لا يكون نوعه باقيا فهو باطل فإن نعيم الجنة دائم باق مع أن كل أكل وشرب ونكاح وغير ذلك من الحركات تفنى شيئا بعد شيء وإن كان نوعه لا يفنى
وأما قوله في الوجه الثاني: إن اختصاصه بحيزه: إما أن يكون لذاته أو لمخصص من خارج
فيقال أتعني بالحيز شيئا موجودا أو شيئا معينا سواء كان موجودا أو معدوما أو شيئا مطلقا فإن عنيت الأول فالرب سبحانه لا يجب أن يكون متحيزا بهذا الاعتبار عند المنازع بل ولا عند طائفة معروفة وإن عنيت الثاني لم يسلم المنازع كونه متحيزا بهذا الاعتبار وإن عنيت الثالث فيقال لك حينئذ فليس اختصاصه بحيز معين من لوازم ذاته بل هو باختياره وإذا كان يخصص بعض الأحياز بما شاء من مخلوقاته فتصرفه بنفسه أعظم من تصرفه بمخلوقاته
وأما قولك ليس هو أولى من تخصيص غيره من الجواهر به ضرورة المساواة في المعنى
فكلام ساقط لوجوده :
الأولى: أن الله يخص ما شاء من الأحياز بما شاء من الجواهر ولا يقال ليس هذا أولى من هذا فكيف يقال إنه ليس أولى من بعض مخلوقاته بما هو قادر عليه مختار له؟
والثاني إن يقال فما من جوهر إلا وله حيز يختص به دون غيره من الجواهر سواء قيل إنه حيزه الطبيعي أو لا فعلم أن مجرد الاشتراك في كل حيز
الثالث: أن كل جوهر مختص من غيره بصفة تقوم به ومقدار يخصه مع اشتراكها في الجواهرية فكيف لا يختص بحيزه؟
الرابع: أن الحيز ليس أمرا وجوديا وإنما هو أمر عدمي والجواهر الموجودة لا بد أن يكون لبعضها نسبة إلى بعض بالعلو والسفول والتيامن والتياسر والملاقاة والمباينة ونحو ذلك وكل منها مختص من ذلك بما هو مختص به لا تشاركه فيه سائر الجواهر فكيف يجب أن يشارك المخلوق لخالقه؟
الخامس: أن هذا مبني على تماثل الجواهر وهو ممنوع بل هو مخالف للحس وسيأتي كلامه في إبطاله
السادس: أنا لو فرضنا الجواهر متماثلة فالمخصص لكل منها بما يختص به هو مشيئة الرب وقدرته وإذا كان بقدرته ومشيئته يصرف مخلوقاته فكيف لا يتصرف هو بقدرته ومشيئته كما أخبرت عنه رسله وكما انزل بذلك كتبه حيث أخبر أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم أستوى على العرش وأمثال ذلك من النصوص
وأما قوله إن كان غير متحيز لزم ان يكون كل جوهر غير متحيز فعنه جوابان :
الأول: أن يقال له ولأمثاله كالرازي والشهر ستاني ونحوهما من المتأخرين الذين أثبتوا جواهر معقولة غير متحيزة موافقة للفلاسفة الدهرية أو قالوا: إنه دليل على نفي ذلك: أنتم إذا ناظرتم الملاحدة المكذبين فادعوا إثبات جواهر غير متحيزة عجزتم عن دفعهم أو فرطتم فقلتم: لا نعلم دليلا على نفيها أو قلتم بإثباتها وإذا ناظرتم إخوانكم المسلمين الذين قالوا بمقتضى النصوص الإلهية والطريقة السلفية وفطرة الله التي فطر عباده عليها والدلائل العقلية السليمة عن المعارض وقالوا: إن الخالق تعالى فوق خلقه سعيتم في نفي هذا القول لوازم هذا القول وموجباته وقلتم: لا معنى للجوهر إلا المتحيز بذاته فإن كان هذا القول حقا فادفعوا به الفلاسفة الملاحدة وإن كان باطلا فلا تعارضوا به المسلمين أما كونه يكون حقا إذا دفعتم ما يقوله إخوانكم المسلمون ويكون باطلا إذا عجزتم عن دفع الملاحدة في الدين فهذا طريق من بخس حظه من العقل والدين وحسن النظر والمناظرة عقلا وشرعا
والجواب الثاني: أنك قلت في أول هذا الوجه: إما أن تكون ذاته قابلة لأن يشار إليها أنها ههنا أو هناك أو لا تكون قابلة ثم قلت: فإن كان الأول فيكون متحيزا فكان حقك أن تقول: وإن لم تكن ذاته قابلة للإشارة إليه لزم في كل جوهر أن لا يكون مشارا إليه وأن لا يكون متحيزا
وإذا قلت ذلك قيل لك إثبات جوهرا لا يشار إليه هو قول المتفلسفة الذين يثبتون جواهر لا يشار إليها وقول النصارى الذين ينفون العلو
وحينئذ فيقولون: لا نسلم أن كل جوهر فإنه يجب ان يكون مشارا إليه وأنت قد اعترفت في بحثك مع الفلاسفة بهذا وهذا القول وإن كان باطلا لكن المقصود تبيين ضعف حجج هؤلاء النفاة نفيا يستلزم نفي الصفات
ويقال لك: إثبات جوهر لا يشار إليه كإثبات قائم بنفسه لا يشار إليه
وإن قال: أنا ذكرت هذا لنفي كونه جوهرا كالجواهر
فيقال: من قال هذا يقول: هو جوهر كالجواهر التي يدعي إثباتها من يقول بإثبات الجواهر العقلية المجردة فإنه هو جوهر كالجواهر العقلية المجردة فمن نفي هذه الجواهر أبطل قولهم وإلا فلا
الحجة الخامسة
قال الآمدي أنه لو كان جوهرا كالجواهر لما كان مفيدا لوجود غيره من الجواهر فإنه لا أولوية لبعض الجواهر بالعلية دون بعض ويلزم من ذلك أن لا يكون شيء من الجواهر معلولا او ان يكون كل جوهر معلولا للآخر والكل محال فإن قيل: الجواهر وإن تماثلت في الجوهرية ألا أنها متمايزة بأمور موجبة لتعين كل واحد منها عن الآخر وعند ذلك فلا مانع من اختصاص بأمور وأحكام لا وجود لها في البعض الأخر ويكون ذلك باعتبار ما به التعين لا باعتبار ما به الاشتراك فنقول والكلام في اختصاص كل واحد بما به التعين كالكلام في الأول فهو تسلسل ممتنع فلم يبق إلا أن يكون اختصاص كل واحد من المتماثلات بما اختص به لمخصص من خارج وذلك على الله محال
تعليق ابن تيمية
قلت: ولقائل أن يقول: قوله: لو كان جوهرا كالجواهر إن عني به أنه لو كان جوهرا مماثلا للجواهر فيما يجب ويجوز ويمتنع لم ينفعه هذا لوجوه :
الأول أن إذا لا يقوله عاقل يتصور لمافيه من الجمع بين النقيضين كما تقدم
الثاني انه إذا كان يقتضي هذا أنه يماثل كل جوهر فيما يجب ويجوز ويمتنع لم يلزم انتفاء مشابهته له من بعض الوجوه فغن نفي التماثل في مجموع هذه الأمور يكون بانتفاء التماثل في واحد من أفرادها فإذا قدر انه خالف غيره في فرد هذه الأمور لم يكن مثله في مجموها ولكن ذلك لا ينفي مماثلة في فرد آخر وحينئذ فلا يكون قول القائل: هو جوهر لا كالجواهر صحيحا ولا يكون النزاع معه في اللفظ بل لا بد ان ينفي عنه مماثلة المخلوقات في كل ما هو من خصائصها
الثالث: انه على هذا التقدير يكون مشابها لها من وجه مخالفا من وجه وليس في كلامه ما يبطل ذلك بل قد صرح في غير هذا الموضع بأن هذا هو الحق
ذكر الآمدي حجة من حجج القائلين بالقدم
فقال في مسألة حدوث الأجسام لما ذكر حجة القائلين بالقدم قال: الوجه العاشر أنه لو كان العالم محدثا فمحدثه إما ان يكون مساويا له من كل وجه او مخالفا له من كل وجه فإن كان الأول فهو حادث والكلام فيه كالكلام في الأول ويلزم التسلسل الممتنع وإن كان الثاني فالمحدث ليس بموجود وإلا لما كان مخالفا له من كل وجه وهو خلاف الفرض وإذا لم يكن موجودا امتنع ان يكون موجبا للموجود كما سبق وإن كان الثالث فمن وجهة ما هو مماثل للحادث يجب أن يكون حادثا والكلام فيه كالأول وهو تسلسل محال وهذه المحاولات إنما لزمت من القول بحدوث بالعالم فلا حدوث
رده عليها
ثم قال في الجواب: وأما الشبهة العاشرة فالمختار من أقسامها إنما هو القسم الأخير ولا يلزم من كون القديم مماثلا للحوادث من وجه أن يكون مماثلا للحادث من جهة كونه حادثا بل لا مانع من الاختلافات بينهما في صفة القدم والحدوث وإن تماثلا بأمر آخر وهذا كما أن السواد والبياض مختلفان من وجه دون وجه لاستحالة اختلافهما من كل وجه وإلا لما اشتركا في العرضية واللونية والحدوث واستحالة تماثلها من كل وجه وإلا كان السواد بياضا ومع ذلك فما لزم من مماثلة السواد للبياض من وجه أن يكون مماثلا له في صفة البياضية
وإن عني به انه لو كان جوهرا مماثلا في مسمى الجوهرية فهذا مثل أن يقال: لو كان حيا مماثلا للأحياء في مسمى الحيية أو عالما مماثلا للعلماء في مسمى العالمية أو قادرا مماثلا للقادرين في مسمى القادرية أو موجودا مماثلا للموجودات في مسمى الموجودية وحينئذ فموافقته في ذلك لا تستلزم أن يكون مماثلا لها فيما يجب ويجوز ويمتنع إلا أن تكن الجواهر كلها كذلك
ومعلوم أن من يقول هو جوهر لا يقول إن الجواهر متماثلة بل يقول إنه مخالف لغيره بل جمهور العقلاء يقولون إن الجواهر مختلفة في الحقائق وحينئذ فتبقى هذه الوجوه موقوفة على القول بتماثل الجواهر والمنازع يمنع ذلك بل ربما قال العلم باختلافها ضروري
ودعوى تماثلها مخالف للحس والعلم الضروري فإنا نعلم أن حقيقة الماء مخالفة لحقيقة النار وأن حقيقة الذهب مخالفة لحقيقة الخبز وأن حقيقة الدم مخالفة لحقيقة التراب وأمثال ذلك وأن اشتراكهما في كونهما جوهرين هو اشتراكهما في كونهما قائمين بأنفسهما او متحيزين أو قابلين للصفات وهذا اشتراك في بعض صفاتها لا في الحقيقة الموصوفة بتلك الصفات
الثالث: أنه إن أراد بقوله: إنه جوهر كالجواهر أنه مماثل لكل جوهر في حقيقته ويجوز عليه ما يجوز على كل جوهر فهذا لا يقوله عاقل وأنما أراد المنازع انه إما قائم بنفسه وإما متحيز وإما نحو ذلك من المعاني التي يقول إن الاشتراك فيه كاشتراك في كون كل منهما حيا قائما بنفسه ونحو ذلك فيبقى النزاع في أن مسمى الجوهر عند هؤلاء يقتضي تماثل أفراده
وهؤلاء يقولون: لا بل هو اسم لما تختلف أفراده وفي أن هؤلاء يقولون: الاشتراك في التحيز الاصطلاحي يقتضي التماثل في الحقيقة وهؤلاء ينفون ذلك
ومعلوم عند التحقيق أن قول النفاة للتماثل هو الحق كما قد بسط في موضعه
وهؤلاء يقولون: قولنا جوهر كقولكم ذات قائمة بنفسها ونحو ذلك
فتبين أن ما ذكره من الدليل على نفي الجوهر هو دليل على نفي ما اتفقت الطوائف على نفيه فإن أحدا من العقلاء لا يقول إنه جوهر بمعنى مماثلته لكل قائم بنفسه فيما يجب ويجوز ويمتنع وما قاله المثبتة منه ما سلم لهم معناه ومنه مالا حجة له على نفيه إلا حجته على نفي الجسم وحينئذ فيكون الكلام في نفي الجوهر مفرعا على الكلام في نفي الجسم
وقوله: إن الوجوه الأربعة التي نفي بها الجوهر ينفي بها الجسم لا يستقيم فإنه إنما نفي بها الجوهر بمعنى انه مماثل لغيره فيما يجب ويجوز ويمتنع وهذا مما يسلمه له من يقول إنه جوهر وجسم فإقامة الدليل عليه نصب للدليل في غير محل النزاع لم ينف بها الجوهر بالمعنى الذي يثبته من قال
وحرف المسألة أن كلامه مبني على تماثل الجواهر ومن يقول ذلك لا يقول إنه جوهر ولا جسم فالكلام في هذا الباب فرع على تلك المسألة ولو هذا صحيحا لكان العلم بحدوث الأجسام وإمكانها من اسهل الأمور فإن بعضها محدث بالمشاهدة والمحدث ممكن فإذا كانت متماثلة جاز على كل واحد منها ما جاز على الآخر فيلزم إما حدوثها وإما إمكان حدوثها وعلى التقديرين يحصل المقصود
والنافي لتماثلها لا يقول السؤال الذي أورده إنها متماثلة في الجوهرية لكنها متمايزة ومتغايرة بأمور موجبة للتعين هو الموجب للاختصاص بل تقول أنها مختلفة بحقائقها وأنفسها لكنها تشابهت في كونها قائمة بأنفسها أو كونها متحيزة قابلة للصفات وهذا معنى اتفاقها في الجوهرية كما ذكرة هو في الاعتراض على دليل القائلين بتماثلها
ويقول أيضا إن الأمور المتماثلة من كل وجه لا يجوز تخصيص أحدها بما يتميز به عن الآخر إلا لمخصص وإلا لزم ترجيح أحد المثلين على الآخر بلا مرجح ومشيئة الله تعالى ترجح أحد الأمرين لحكمة تقتضي ذلك وتلك الحكمة مقصودة لنفسها وإلا فنسبة الإرادة إلى المتماثلين سواء وتلك الحكمة المرادة تنتهي إلى حكمة تراد لنفسها كما بسط في موضعه
وأيضا فإن القائل: إن هذه الجواهر المشهودة متماثلة في الحقيقة ولكن الفاعل المختار خص كلا منها بصفات تخالف بها الآخر يقتضي أن لها حقيقة مجردة عن جميع الصفات التي اختلفت فيها فيكون الماء المشهود له حقيقة غير هذا الماء المشهود والنار المشهودة لها حقيقة غير هذه النار المشهودة ويكون ما خالف به هذا لهذا في الماء والنار أمرا عارضا لتلك الحقيقة لا صفة ذاتية لها ولا لازمة
وهذا مكابرة للحس وأيضا فعلى هذا القول لا يكن لشيء من الموجودات صفة ذاتية ولا صفة لازمة لذاته أصلا بل كل صفة يوصف بها عارضة له يمكن زوالها مع بقاء حقيقته لأن كل ما اختلفت به الأعيان أمر عارض لها ليس بداخل في حقيقتها عند من يقول بتماثل الجواهر والأجسام وحينئذ فيكون الإنسان الذي هو حيوان ناطق يمكن زوال كونه حيوانا وكونه ناطقا مع بقاء حقيقته وذاته وكذلك الفرس يمكن زوال حيوانيته وصاهليته مع بقاء حقيقته وذاته وهكذا كل الأعيان
ثم يقال: إذا قدرنا عدم هذه الصفات التي هي لازمة للأنواع وذاتية لها لم يبق هناك ما يعقل كونه جوهرا لا مماثلا ولا مخالفا فإنا إذا نظرنا إلى هذا الإنسان وقدرنا أنه ليس بحي ولا ناطق ولا ضاحك ولا حساس ولا متحرك بالإرادة لم يعقل هنالك جوهر قائم بنفسه غيره تعرض له هذه الصفات بل إثبات ذلك نوع من الخيال الذي لا حقيقة له وهذا الخيال في الجواهر المحسوسة نظير خيال من أثبت الجواهر المعقولة لكن تلك محلها العقل وهذه محلها الخيال فإنا يمكننا تقدير هذا الشكل مع عدم كونه حيوانا ناطقا لكن حينئذ يكون المقدور شكلا مجردا هو عرض ن الأعراض وهو الذي يسمى الجسم التعليمي كما نقدر أعدادا مجردة عن المعدات وهذه المقادير المجردة والأعداد المجردة لا وجود لها إلا في الأذهان واللسان وكل جسم موجود له قدر يخصه وهذه هي الجسمية والجوهرية التي يثبتها من يقول بعدم تماثل الجواهر وهي نظير الصورة فدعوى أولئك أن الصورة الجسمية جوهر وأن المادة جوهر آخر هو نظير دعوى هؤلاء أن الصورة الجسمية جواهر متماثلة وليس هنا إلا هذه الأعيان القائمة بأنفسها وما قام بها من الصفات والمقادير التي هي أشكالها وصورها
ثم من العجيب أن هؤلاء المتكلمين المتأخرين كأبي حامد والشهرستاني والرازي والآمدي وأمثالهم ممن يوافق أهل المنطق يوافقون أهل المنطق فيما يدعونه من انقسام صفات الجواهر والأجسام إلى ذاتي وعرضي وانقسام العرض إلى لازم للماهية وعارض لها وانقسام العارض إلى لازم ومفارق مع ما في هذا الكلام من الخطأ فإن الصفات في الحقيقة إنما تنقسم إلى لازم للماهية وعارض لها
وأما تقسيم اللازم إلى ذاتي وعرضي وإثبات شيئين في هذه الأعيان أحدهما الذات والثاني هذا الموجود المشاهد فكلام باطل كما قد بسط في موضعه
ثم إنهم في قولهم بتماثل الجواهر والأجسام يدعون ان جميع صفات الأجسام التي تختلف بها إنما هي عارضة لها قابلة لزوالها ليس منها شيء لازم للحقيقة ولا هو من موجبات الذات ومقتضياتها فيا سبحان الله أين ذلك التلازم الذي غلوتم فيه حتى تجعلون الحقيقة مؤلفة من صفاتها الذاتية وتقولون إن الذات هي المقتضية للوازم ولوازم اللوازم؟
وهنا يقولون ليس لهذه الأعيان حقيقة قائمة بنفسها إلا ما تشترك كلها فيه وليس لشيء منها لازم يخصه ولا لازم يفارق به غيره بل ليست اللوازم إلا ما لزم جميع ما يسمى جوهرا وجسما
وهذا المعنى قد رأيت منه عجائب لهؤلاء النظار يتكلم كل منهم مع كل قوم على طريقتهم بكلام يناقض ما تلكم به على طريقة أولئك مع تناقض كل من القولين في نفس الأمر وهذا إما ان يكون لكونه لم يفهم أن هذا المعنى الذي أثبته بهذه العبارة هو الذي نفاه بتلك فلا يكون قد تصور حقيقة ما يقول بل تصور ما يتقيد باللفظ بحيث إذا خرج المعنى عن ذلك اللفظ لم يعرف أنه هو وهذا قبيح بمن يدعى النظر في العقليات المحضة التي لا تتقيد بلغة ولا لفظ وإما أن يكون مع نسيانه وذهوله في كل مقام لما قاله في المقام الآخر وهذا أشبه أن يظن بم له عقل وتصور صحيح لكنه يدل على ان له في المسألة قولين وأنه يقول في كل مقام ما ترجح عنده في ذلك المقام ولا يمشي مع الدليل مطلقا بل يتناقض وإما أن يكون مع فهمه التناقض وحينئذ فإما ان لا يبالي بتناقض كلامه وإما ان يرجح هذا في هذا الموطن وهذا في هذا الموطن
فصل
ومن العجب أنكلامه وكلام أمثاله يدور في هذا الباب على تماثل الأجسام وقد ذكر النزاع في تماثل الأجسام وأن القائلين بتماثلها من المتكلمين بنوا ذلك على انها مركبة من الجواهر المنفردة وأن الجواهر متماثلة
ثم أنه في مسألة تماثل الجواهر ذكر انه لا دليل على تماثلها فصار أصل كلامهم الذي ترجع إليه هذه الأمور كلاما بلا علم بل بخلاف الحق مع انه في الله تعالى
وقد قال تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } الاعراف 33 وقال تعالى عن الشيطان { إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } البقرة 169
كلام الآمدي في أن الجواهر متجانسة غير متحدة
قال في كتابه هذا الكبير الفصل الرابع في أن الجواهر متجانسة غير متحدة: اتفقت الأشاعرة وأكثر المعتزلة على أن الجواهر متماثلة متجانسة وذهب النظام والنجار من المعتزلة بناء على قولهما بتركب الجواهر من الأعراض إلى أن الجواهر إن تركبت من الأعراض المختلفة فهي مختلفة ولهذا فإنا ندرك الاختلاف بين بعض الجواهر كالاختلاف الواقع بين النار والهواء والماء والتراب ضرورة كما يدرك الاختلاف بين السواد والبياض والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وسائر الأعراض المختلفة
قال وهو باطل اما كون الجواهر مركبة من الأعراض فيما سبق وأما ما ندركه من الاختلاف بين الجواهر كالأمثلة المضروبة فلا نسلم أنه عائد إلى اختلاف الجواهر في أنفسها بل هو عائد إلى الأعراض القائمة واختلاف الاعراض لا يدل على اختلاف المعروض له في نفسه
تعليق ابن تيمية
قلت: النجار ليس هو من المعتزلة بل هو رأس مقالة وهو يخالف المعتزلة في القدر فيثبته وفي غير ذلك من أصول المعتزلة لكنه يوافقهم على نفي الصفات ويخالفهم أيضا في تماثل الأسماء والأحكام والوعيد
وجمهور الناس على ان الأجسام مختلفة من الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم وقد ذكر الأشعري في مقالاته النزاع في ذلك
تابع كلام الآمدي
والمقصود هنا اعترافه بأنه لا حجة للقائلين بالتماثل فإنه قيل ما ذكرتموه وإن دل على إبطال مأخذ القائلين بالاختلاف فما دليلكم في التماثل والتجانس فلئن قلتم: دليل التماثل اشتراك جميع الجواهر في صفات نفس الجوهر وهي التحيز وقبول الأعراض والقيام بنفسه فنقول وما المانع من كون الجواهر مختلفة بذواتها وإن اشتركت فيما ذكرتموه من الصفات؟ فإنه لا مانع من اشتراك المختلفات في عوارض عامة لها وإنما يثبت كون ما ذكرتموه صفات نفس الجوهر أن لو لم يكن الجواهر مختلفة وهذه أعراض عامة لها وإنما يمتنع كون الجواهر مختلفة وأن هذه أعراض عامة لها أن لو كانت هذه الصفات صفات نفس الجوهر وهو دور ممتنع
قال واعلم أن طرق أهل الحق في إثبات المجانسة وإن اختلفت عباراتها فكلها آيلة إلى ما ذكر وما قيل عليه من الإشكال فلازم لا مخلص منه إلا بان يقال: نحن لا نعنى بتجانس الجواهر غير كونها مشتركة فيما ذكرناه من الصفات وعند ذلك فحاصل النزاع يرجع إلى التسمية لا إلى نفس المعنى
تعليق ابن تيمية
قلت: فهذا قوله مع اطلاعه على طرق القائلين بالتجانس ورغبته في نصرهم لو أمكنه فذكر أن جميع ما ذكروه من الطرق يرجع إلى ما ذكره وهو مما يعلم بالاضطرار أنه لا يدل على تماثلها بل يدل على اشتراكها في معنى من المعاني وليس جعل ما به الاشتراك هو الذات وما به الاختلاف من الصفات باولى من العكس وهذا على سبيل التنزل وإلا فنحن نعلم بالضرورة والحس اختلاف الأجسام المختلفة كما نعلم اختلاف الاعراض المختلفة وما ذكره من أن الاختلاف عائد إلى الاعراض لا إلى المعروض فمخالفة للحس فإن نفس النار مخالفة للماء ليس مجرد حرارة النار هي المخالفة لبرودة الماء بل نحن نعلم أن النار تخالف الماء أعظم مما نعلم أن الحرارة تخالف عرضا قائما بغيره وهو صفة محسوسة بالمس وكذلك بين السواد والبياض من الاشتراك في العرضية واللونية والقيام بالغير والرؤية بالبصر وغير ذلك من الصفات أعظم من الاشتراك بين الماء والنار ن فإن الاشتراك بينهما هو في القدر ونحو ذلك من الكميات والاشتراك في الكيفية أعظم من الاشتراك ف يالكمية فإذا كان ذلك لا يوجب التماثل فذاك بطريق الأولى
وأيضا فالحرارة قد تنكسر بالبرودة في مثل الفاتر فإنه لا يبقى حارا كحرارة النار ولا باردا برودة الماء المحض واما نفس الماء والنار فلا يجتمعان
وأيضا فالأعراض المختلفة تشترك في محل واحد واما نفس الأقسام فلا تشترك في محل واحد وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا بيان اعتراف هؤلاء بفساد الأصول التي بنوا عليها ما خالفوه من النصوص وبيان تناقضهم في ذلك وأنهم يقولون إذا تكلموا في المنطق وغيره بما يناقض كلامهم هنا ويبعد أو يمتنع في العادة ان يكون هذا لمجرد اختلاف الاجتهاد مع الفهم التام في الموضعين بل يكون لنقص كمال الفهم والتصور وخوفا أن لا يكون القولان متنافيين فلا يهجم بإثبات التناقض أو لنوع من الهوى والغرض ولو لم يكن إلا مراعاة الطائفة التي يتكلم باصطلاحها أن لا يخالفها فيما هو مشهورات أقوالها ولعل كلا الأمرين موجود في مثل هذه المعاني التي تعبر عنها العبارات الهائلة ولها عند أصحابها هيبة ووهم عظيم والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا نوع تنبيه على أن ما يدعونه من العقليات المخالفة للنصوص لا حقيقة لها عند الاعتبار الصحيح وإنما هي من باب القعقعة بالشنان لمن بفزعه ذلك من الصبيان ومن هو شبيه بالصبيان وإذا أعطي النظر في المعقولات حقه من التمام وجدها براهين ناطقة بصدق ما أخبر به الرسول وأن لوازم ما أخبر به لازم صحيح وأن من نفاه لجهله بحقيقة الأمر وفزعا باطنا وظاهرا كالذي يفزع من الآلهة المعبودة من دون الله أن تضره ويفزع من عدو الإسلام لما عنده من ضعف الإيمان
قال تعالى عن الخليل صلوات الله عليه { وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون } الأنعام 80 - 81 قال الله تعالى { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } الأنعام 82
ومن خالف الرسل لا يلم من الشرك والإفك { سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين } الصافات 180 - 182 { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين } الاعراف 152 قال أبو قلابة هي لكل مفتر من هذه الأمة إلى يوم القيامة
وما أشبه هؤلاء في رعبهم من الألفاظ الهائلة التي لم يعلموا حقيقتها بمن راى العدو المخذول فلما رأى لباسهم رعب منهم قبل تحقق حالهم ن ومن كشف حالهم وجدهم في غاية الضعف والعجز ولكن قال تعالى { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا } آل عمران 151
وبسط هذا يطول والمقصود التنبيه فهذا ما ذكره في الجوهر وأما الجسم فإنه اعتمد في نفيه على هذه الوجوه الأربعة وقد عرف حالها
كلا الآمدي في الجسم
وقال ويختص بأربعة أوجه :
الوجه الأول: أنه إذا ثبت ان الرب غير متصف بكونه جوهرا امتنع أن يكون متصفا بكونه جسما لأن الجسم مركب من الجواهر ومفتقر إليها ويلزم من انتفاء ما لا بد منه في كونه جسما أن لا يكون جسما
تعليق ابن تيمية
قلت: هذا الوجه بين الضعف وذلك أنه لو قدر انتفاء كون الشيء جوهرا منفردا لم يلزم أن لا يكون جسما مؤلفا من الجواهر فإن الأجسام جميعها كل منها عنده ليس جوهرا منفردا مع كونها مؤلفة من الجواهر وهو لم يقم دليلا على نفي كونه جوهرا ولا نفى ما يستلزم الجوهر
وهذا كما لو أقام دليلا على أنه ليس بعلم أو قدرة أو كلام أو مشيئة لم يستلزم ذلك أن لا تكون هذه من لوازمه فنفى كون الشيء أمرا من الأمور غير نفي كونه ملزوما لذلك الأمر
وأيضا فيقال: أنت لم تقم دليلا على كون الجواهر متماثلة بل صرحت بأنه لا دليل على ذلك فبطل ما ذكرته في نفي الجوهر
وأيضا فيقال لفظ الجوهر فيه إجمال وله عدة معان أحدها الجوهر الفرد وعلى هذا فالجسم ليس بجوهر وفي كونه مركبا منه نزاع
الوجه الثاني: المتحيز وعلى هذا فالجسم جوهر ومن نفى الجوهر الفرد قال كل جسم جوهر وكل جوهر جسم ومن أثبته قال: الجوهر أعم من الجسم
والوجه الثالث: الجواهر العقلية عند من يثبت جوهرا ليس بمتحيز كالعقول والنفوس والمادة والصور فإن هؤلاء المتفلسفة المشائين يدعون ان الجوهر خمسة أقسام وجمهور العقلاء يدفعون هذا ويقولون: هذه الأمور التي سميتوها جواهر عقلية إنما وجودها في الأذهان لا في الأعيان
وقد يراد بالجواهر ما هو قائم بنفسه فمن كان الجوهر أعم عنده من الجسم فإذا انتفى الأعم انتفى الأخص وكذلك من كان الجوهر عنده مرادفا للجسم وأما من كان الجوهر عنده لا يتناول معنى الجسم مثل أن يقدر أنه لا يستعمل لفظ الجوهر إلا في الفرد فهذا لا يلزم من نفي كونه جوهرا نفي كونه جسما إلا بالحجة التي ذكرها وهو ان يقال: الجسم مركب من الجواهر فالحجة لا تستقيم إلا على تقدير ثبوت هذا الاصطلاح مع أني لا أعرفه اصطلاحا لأحد مطلقا ولكن بعض الناس قد يخص به الفرد مع أنه هو وغيره دائما يسمون الجسم جوهرا
ولهذا قال هذا الآمدي وغيره ف ينفي كونه جوهرا: إما أن يكون قابلا للتجزية فيكون جسما مركبا وإما ان لا يكون قابلا للتجزية فيكون في غاية الصغر والحقارة وكثيرا ما يقع في كلامهم لفظ الجوهر متناولا للجسم وكثيرا ما يقع مختصا بالفرد فما ذكره اولا في نفي الجوهر بالمعنى العام فالجسم يدخل فيه فإن صح ما ذكره صح نفي الجسم لكن قد عرف ضعفه
وأما إذا كان المنفي هو الجوهر الفرد فقط فيحتاج ان يقول إن الجسم مركب منه لينفي الجسم لكن هذا فيه نزاع معروف وأكثر الناس على انه ليس بمركب من الجواهر المنفردة وهو الصواب كما قد بسط في موضعه
فمن الناس من يقول: إنه مركب من جواهر متناهية لا تقبل القسمة بوجه من الوجوه حتى ولا بالوهم ومنهم من يقول: هو مركب من جواهر غير متناهية كذلك ومنهم من يقول هو مركب من الهيولي والصورة لكنه يقبل القسمة إلى غير نهاية ومنهم من يقول ليس بمركب لكنه يقبل التقسيم إلى الجواهر المنفردة التي لا تتجزأ
ومنهم من يقول: بل كل موجود فلا بد أن يتميز منه شيء عن شيء فلا يتصور وجود جوهر لا يتميز منه شيء عن شيء لكن إذا تصغرت الأجزاء استحالت وقد لا تقبل القسمة الفعلية بل إذا قسمت استحالت كما في أجزاء الماء إذا تصغرت فإنها تصير هواء فهي وإن كان يتميز منها شيء عن شيء لكن ليس لها من القوة ما يحتمل الانقسام الفعلي بل تستحيل إذا أريد بها ذلك وعلى هذا القول فلا نثبت شيئا لا يتميز منه جانب عن جانب ولا يثبت ما لا نهاية له في ضمن مالا يتناهى ولا انقسام إلى غير نهاية بل كل موجود فإنه يتميز منه شيء عن شيء وهو قد يستحيل قبل وجود الانقسامات التي لا تتناهى فتزول بهذا القول الإشكالات الواردة على غيره مع انه مطابق للواقع فتبين ضعف هذا الوجه
تابع كلام الآمدي الوجه الثاني في نفي الجسمية عن الله تعالى
الوجه الثاني
قال الآمدي أنه قد ثبت ان الرب متصف بالعلم والقدرة وغيرهما من الصفات فلو كان جسما كالأجسام لزم من اتصافه بهذه الصفات المحال وذلك من وجهين :
الوجه الأول: أنه لو اتصف بهذه الصفات فإما أن يكون كل جزء من اجزائه متصفا بجميع الصفات وإما ان يكون المتصف بجملتها بعض الأجزاء وإما أن يكون كل جزء مختصا بصفة وإما أن تقوم كل صفة من هذه الصفات مع اتحادها بجملة الأجزاء فإن كان الأول يلزم منه تعدد الآلهة وأما الثاني فهو ممتنع لأنه لا أولوية لبعض تلك الأجزاء بان يكون هو المتصف دون الباقي ولأنه يلزم ان يكون الإله هو ذلك الجزء دون غيره لأن حكم العلة لا يتعدى محلها وإن كان الثالث فل أولولية أيضا وإن كان الرابع فهو محال لما فيه من قيام المتحد بالمعتدد
ولقائل أن يقول الاعتراض على هذا من وجوه
الرد عليه من وجه
الأول
قولك: لو اتصف بكل واحدة من هذه الصفات فإما ان يكون كل جزء من أجزائه متصفا بجميع هذه الصفات إلى آخره فرع على ثبوت الأجزاء وذلك ممنوع فلم قلت إن كل كا هو جسم فهو مركب من الأجزاء؟ فإن هذا مبني على ان الاجسام مركبة من الجواهر المنفردة وهذا ممنوع
وجمهور العقلاء على خلافة وهو لم يثبته هنا بالدليل فيكفي مجرد المنع وبسط ذلك في موضعه
وكل من أمعن في معرفة هذا المقام علم أن ما ذكروه من أن الجسم مركب من جواهر منفردة متشابهة عرض لها التركيب او من مادة وصورة وهما جوهران من أفسد الكلام وإذا كان كذلك أمكن أن يكون كل من الصفات القائمة بجميع المحل شائعة في جميع الموصوف ولا يلزم أن يكون الواحد قام بأجزاء بل القول في الصفة الحالة كالقول في المحل الذي هو الموصوف
الثاني
أن يقال: القول في وحدة الصفة وتعددها وانقسامها وعدم انقسامها كالقول في الموصوف وسواء في ذلك الصفات المشروطة بالحياة كالقدرة والحس ـ بل والحياة نفسها أو التي لا تشترط بالحياة كالطعم واللون والريح فإن طعم التفاحة مثلا شائع فيها كلها فإذا بعضت تبعض ولا يقال إنها قام طعم واحد بجملة التفاحة بل إن قيل: إن التفاحة أجزاء كثيرة قيل: أم بها طعوم كثيرة وإن قيل: هي شيء واحد قيل: قام بها طعم واحد فإن قيل فهذا هو التقدير الأول وهو اتصاف كل جزء من هذه الأجزاء بجميع هذه الصفات قيل: ليس كذلك
أما أولا: فلمنع التجزي وأما ثانيا فلأنه لم يقل بكل جزء إلا جزء من الصفة القائمة بالجمع لم تقم جميع الصفة بكل جزء وحينئذ فيطل التلازم المذكور وهو كون كل جزء إليها فإن الإله سبحانه هو المتصف بأنه بكل شيء عليم وهو على كل شيء قدير أما إذا قدر موصوف قام به جزء من هذه القدرة لا تنقسم هي ولا محلها لم يلزم أن يكون ذلك الجزء قادرا فضلا عن أن يكون ربا إذ القادر لا يجب أن يكون من قام به جزء من القدرة ولا الحي من قام به جزء من الحياة ولا العالم من قام به جزء من العلم
فإن قيل: كيف يعقل انقسام القدرة والحياة والعلم؟
قيل: كما يعقل انقسام محل هذه الصفات فإن الإنسان تقوم حياته بجميع بدنه وكذلك الحس والقدرة ببدنه من صفاته فكما أن بدنه ينقسم فالقائم ببدنه ينقسم
فإن قيل إذا انقسم لم يبق قدرة ولا علما ولا حياة
قيل: وكذلك المحل لا يبقى يدا ولا عضوا لا قادرا ولا حيا ولا عالما ولا حساسا فإن الجزء المنفرد بتقدير وجوده هو أحقر من أن يقال إنه يد أو عضو أو بدن حي عالم قادر فكيف يقال فيه إنه إله
الثالث
أن ما ذكروه معارض بقيام هذه الصفات في الإنسان فإن الإنسان تقوم به الحياة والقدرة والحس ولم نذكر العلم ولا نحتاج أن نقول كما قالت المعتزلة: إن الاعراض المشروطة بالحياة إذا قامت بجزء في الجملة عاد حكمها إلى جميع الجملة بل نذكر من الاعراض ما يعلم قيامه بالبدن الظاهر كالحياة والحس والحركة والقدرة فإن هذا التقسيم الذي ذكروه يرد عليه فإنه إن قيل: إن كل جزء من أجزائه متصف بهذه الصفات لزم تعدد الإنسان وإن كان المتصف بجملتها بعض الأجزاء فلا اولوية وبزم أن لا يتعدى حكم الصفة محلها
والتقدير أن ظاهر البدن كله حي حساس وإن قيل كل واحد يختص بصفة فهو معلوم الفساد بالضرورة مع أنه لا أولوية
وإن قيل: تقوم الصفة الواحدة بالجملة لزم قيام الواحد بالمتعدد فإذا كان هذا التقسيم واردا على ما يعلم قيام الصفات به لم ينف قيامها به علم أنها حجة باطلة
الرابع
قوله والرابع محال لأنه يلزم منه قيام المتحد بالمتعدد
فيقال: لا نسلم التلازم فإن هذا القيام مبناه على أنه حينئذ يقوم الواحد بالمعتدد فإنه فرض قيام علم واحد وقدرة واحدة وحياة واحدة بجملة أجزاء
وهذا الأصل فاسد فإن المعلوم من وحدة الصفة الحالية وتعددها هو المعلوم من وحدة المحل وتعدده فالحياة القائمة بجسم حي إذا قيل: هي حياة واحدة قيل هو حي واحد وإذا قيل الحي أجزاء متعددة قيل: الحياة أجزاء متعددة فالحال ومحله سواء في الاتحاد والتعدد
وحينئذ فقولهم: أنه قام المتحد بالمتعدد كلام باطل بل ما فسروا به الاتحاد في احدهما كان موجودا في الآخر وما فسروا به تعدد أحدهما كان موجوا في الآخر
الخامس
أنا لا نسلم الحصر فيما ذكروه من الأقسام بتقدير انقسام الجسم بل من الممكن أن يقال: قام كل جزء من أجزاء هذه الصفات بجزء من أجزاء الموصوف وكل جزء منه متصف بجزء من الصفة
وهذا التقسيم غير ما ذكره من الأقسام ليس فيه اتصاف كل جزء بجميع الصفة ولا المتصف بجميعها بعض الجملة ولا كل جزء مختصا بجميع صفته ولا قيام واحد بمتعدد
فإن قال: الصفة لا تنقسم ومحلها ينقسم
قيل: هذه مكابرة للحس والعقل بل انقسامها محلها يبين هذا أن من أعظم عمد مثبتي الجوهر الفرد قولهم: إن الحركة قائمة بالجسم والزمان مقدار الحركة والزمان فيه الآن الذي لا ينقسم فلا ينقسم قدره من الحركة فلا ينقسم الجزء الذي يحلها فإنما استدلوا على وجود الجزء الذي لا ينقسم إلا بوجود جزء من الحركة لا ينقسم فعلم أن انقسام الحال عندهم كانقسام محله مع أن هذا معلوم بالحس والعقل
وكذلك المتفلسفة القائلون بان النفس الناطقة ليست جسما :
عمدتهم انه يقوم بها مالا ينقسم ومالا ينقسم إلا بما لا ينقسم فقد اتفقت الطوائف على أن الصفة إذا لم تنقسم كان محلها لا ينقسم
السادس
أن قوله: إما أن يكون كل جزء من الأجزاء متصفا بهذه الصفات
يقال له: إن أردت أنه يتصف به كما تتصف به الجملة فهذا لا يقوله عاقل فإنه ليس في الأجسام ما يكون صفة جميعه صفة للجوهر الفرد منه على الوجه الذي هي به صفة لجمعية وإن أردت انه متصف به كما يليق بذلك الجزء فلم قلت إن ما اتصف به بالصفة على هذا الوجه يمكن انفراده عن غيره فضلا عن كونه إلها؟
وهذا لأنه ليس في جميع ما يعلم من الموصوفين المنفردين بأنفسهم ما هو جوهر فرد ولا في شيء مما يشاهد من الموصوفين ما هو جوهر فرد بل والجوهر الفرد بتقدير وجوده لا يحس به ولا يوجد منفردا فما كان لا يوجد وحده حتى ينضم إليه أمثاله كيف يكون حيا فضلا عن أن يكون فرسا أو بعيرا؟ فضلا عن أن يكون أنسانا أو ملكا أو جنبا فضلا عن أن يكون إلها؟
وهل ذكر مثل هذا في حق الله إلا من أعظم الدليل على جهل قائله؟
فإنهم لا يعلمون شيئا من الجواهر المنفردة يسمى باسم جملته لقيام الصفة بالجملة فكيف يجب في حق الله إذا قامت به الصفات الكمال أن يكون بتقدير ما ذكروه يجب فيه مثل ذلك؟
السابع
أن يقال: كما أنه لا يجب في كل جزء من الإنسان ان يكون انسانا لأنه قام به من الصفات ما يقوم بالإنسان ولا في كل جزء من اجزاء الفرس وسائر الحيوان ان يكون فرسا لكونه من الجملة التي قامت بها الصفة فلماذا يجب في كل ما كان من الإله ان يكونإلها لقيام الإله بالإله الموصوف كله مع أن كل واحد من الموجودات لا يكون حكم جزئه حكم كله لقيام الصفة بالجميع وهل هذا إلا من أفسد الحجج وإن كان هو من اعظم عمد النفاة؟
تابع كلام الآمدي في نفي الجسمية عن الله تعالى
قال: في بيان المحال من اتصافه بهذه الصفات هو أنه لا يخلو إما أن يكون اتصافه بها واجبا لذاته او لغيره لا جائز ان يقال بالأول وإلا لزم اتصاف كل جسم بها وجوبا لذاته ن للتساوي ف يالحقيقة على ما وقع به الفرض وإن كان الثاني فيلزم أن يكون الرب مفتقرا إلى ما يخصصه بصفاته والمحتاج إلى غيره في إفادة صفاته لاه لا يكون إلها
تعليق ابن تيمية
قلت: ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يكون اتصافه بها واجبا لذاته؟
قوله: يلزم اتصاف كل جسم بها للتساوي في الحقيقة على ما وقع به الفرض
قيل: الذي وقع به الفرض أنه جسم كالأجسام وذلك يقتضي الاشتراك في مسمى الجسمية فلم قلت: إن ذلك يستلزم التساوي في الحقيقة فإن هذا مبني على تماثل الأجسام وهو ممنوع وهو باطل
وإن قيل: إنه يقتضي مماثلة كل جسم في حقيقية بحيث يجوز عليه ما يجوز على كل جسم ويمتنع عليه ما يمتنع عليه ويجب له ما يجب له فهذا لا يقوله عاقل يفهم ما يقول ولا يعرف هذا قولا لطائفة معروفة وفساده ظاهر لا يحتاج إلى إطناب ولكن لا يلزم من فساده أن لا يكون النزاع إلا لفظا فإن المنازع يقول: ليس هو مثل كل جسم من الأجسام فيما يجب ويجوز ويمتنع ولكن شاركها غيره في مسمي الجسمية كما إذا قيل: هو حي وغيره حي شاركه في مسمى الحي وكذلك شارك غيره في مسمى العالم والقادر والموجود والموجود والذات والحقيقة فما كان من لوازم القدر المشترك ثبت لهما وما أخص بأحدهما لم يثبت للآخر
ومعلوم ان مسمى الجسمية إن قيل إنه يستلزم أن يجوز على كل جسم ما جاز على الآخر فلا يقول عاقل: إن الله جسم بهذا التفسير ومن قال: إنه جسم لم يقل: إن القدر المشترك إلا كالقدر المشترك في الذات والقائم بالنفس ومسمى التحيز ويقول مع ذلك: إن هذا المسمى وقع على أمور مختلفة الحقائق كالموصوف والقائم بالنفس ونحو ذلك
وبالجملة إن ثبت تماثل الأجسام في كل ما يجب ويجوز ويمتنع أغناه عن هذا الكلام وإن لم يثبت لم ينفعه هذا الكلام فهذا الكلام لا يحتاج إليه على التقديرين فالمنازع يقول: مسمى الجسم كمسمى الموصوف والقائم بنفسه والذات والماهية والموجود ينقسم إلى واجب بنفسه وواجب بغيره وإذا كان أحد النوعين واجبا بنفسه لم يجب أن يكون كل موصوف قائما بنفسه ولا كل موجود وكذلك لا يكون كل جسم فتبين أن كل ما ذكره مغلطة لأنه قال: إما أن يقال: إنه جسم كالأجسام وإما أن يقال: جسم لا كالأجسام فإن قيل بالثاني كان النزاع في اللفظ لا في المعنى فدل ذلك على أن قوله في المعنى موافق لقول من يقول: جسم لا كالأجسام ثم جعل القسم الأول هو القول بتماثل الأجسام فكان حقيقة قوله: إنه إما أن يقال إنه مماثل للأجسام في حقيقتها بحيث يتصف بما تتصف به من الوجوب والجواز والامتناع وإما أن لا يقال بذلك فمن لم يقل بذلك لم ينازعه في المعنى ومن قال بالأول فقلوه باطل
ومعلوم أن أحدا من الطوائف المعروفة وأهل الأقوال المنقولة لم يقل: إنه جسم مماثل للأجسام كما ذكر ومعلوم أيضا أن فساد هذا أبين من أن يحتاج إلى ما ذكره من الأدلة فإن فساد هذا معلوم بالأدلة اليقينية لما في ذلك من الجمع بين النقيضين إذ كان كل منهما يلزم أن يكون واجبا بنفسه لا واجبا بنفسه محدثا لا محدثا ممكنا لا ممكنا قديما لا قديما إذ المتماثلان يجب اشتراكهما في هذه الصفات
وإذا كان القول الذي نفاه لم يقله أحد ولم ينازعه فيه أحد والقول الذي ادعى أنه موافق لقائله في المعنى لا يخالف فيه قائلة بقي مورد النزاع لم يذكره ولم يقم دليلا على نفيه وهو قول من يقول: هو جسم كالأجسام بمعنى أنه مشارك لغيره في مسمى الجسمية كما يشاركه في مسمى الموصوفية والقيام بالنفس وأنه لم يثبت له لوازم القدر المشترك ولا يثبت له شيء من خصائص المخلوقين ولا يكون مماثلا لشيء من الأجسام فيما يجب ويجوز ويمتنع عليه لأن الأجسام المخلوقة لها خصائص تختص باعتبارها ثبت لها ما يجب ويجوز ويمتنع عليه
والقدر المشترك عند هؤلاء لا يستلزم شيئا من خصائص المخلوقين وهذا القدر لم يتعرض له هنا بنفي ولا إثبات لكنه يقول: إن القدر المشترك يستلزم التماثل في الحقيقة وإن ما لزم كلا من الأجسام لزم الآخر وإنما يفترقان فيما يعرض لهما بمشيئة الخالق
لكن هذا القول لم يقرر هنا فبقي كلامه بلا حجة مع أن هذا القول فاسد في نفسه كما قد عرف وهو لما قرره في موضع آخر بناه على أصلين: على إثبات الجوهر الفرد وتماثل الجواهر وكلاهما منوع باطل قد قرر هو انه لا حجة عليه مع أن القول بانه جسم كالأجسام ما علمت أنه قاله أحد ولا نقله أحد عن أحد وهو مع هذا لم يذكر دليلا على نفيه فكيف قد أقام دليلا على نفي قول من يقول: هو جسم لا كالأجسام؟
تابع كلام الآمدي في نفي الجسمية عن الله تعالى
الحجة الثالثة: قال: هو أنه لو كان جسما لكان له بعد وامتداد وذلك إما أن يكون غير متناه أو متناهيا فإن كان غير متناه: فإما أن يكون غير متناه من جميع الجهات أو من بعض الجهات دون بعض فإن كان الأول فهو محال لوجهين: الأول: ما سنبينه من إحالة بعد لا يتناهى والثاني: يلزم منه أن لا يوجد جسم غيره أو أن تتداخل الأجسام وهو يخالط القاذورات وهو محال وإن كان الثاني فهو ممتنع أيضا لوجهين: الأول ما سنبينه من إحالة بعد لا يتناهى والثاني: أنه إما أن يكون اختصاص أحد الطرفين بالنهاية دون الآخر لذاته أو لمخصص من خارج فإن كان الأول فهو محال لعدم الأولوية وإن كان الثاني فيلزم أن يكون الرب مفتقرا في إفادة مقداره إلى موجب ومخصص ولا معنى للبعد غير نفس الأجزاء على ما تقدم فيكون الرب معلول الوجود وهو محال وإن كان متناهيا من جميع الجهات فله شكل ومقدار وهو إما أن يكون مختصا بذلك الشكل والقدر لذاته أو لأمر خارج فإن كان الأول لزم منه اشتراك جميع الأجسام فيه ضرورة الاتحاد في الطبيعة وإن كان الثاني فالرب محتاج في وجوده إلى غيره وهو محال
تعليق ابن تيمية
قلت: ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون مختصا بالشكل والمقدار لذاته؟ قوله: إن ذلك يستلزم اشتراك جميع الأجسام فيه ضرورة الاتحاد في الطبيعة إنما يصح إذا سلم أن طبيعة الأجسام كلها متحدة وهذا ممنوع بل باطل بل معلوم الفساد بالضرورة والحس فإن طبيعة النار ليست طبيعة الماء ولا طبيعة الحيوان طبيعة النبات وهذا مبني على القول بأن الأجسام متماثلة في الحقيقة وهذا لو صح لأغنى عن هذه الوجوه كلها وهو في كتابه لما ذكر قول من يقول بتجانس الأجسام من أهل الكلام المعتزلة والأشعرية قال: إنهم بنوا ذلك على أصلهم: أن الجسم هو الجوهر المؤلف أو الجوهر المؤتلفة وأن الجواهر متجانسة وأن التأليف من حيث هو تأليف غير مختلف فالأجسام الحاصلة منها غير مختلفة
ومعلوم أن هذين الأصلين اللذين بنوا عليهما تماثل الأجسام قد أبطلها هو وغيره وهي مما يخالفهم فيها جمهور العقلاء فأكثر العقلاء لا يقولون إن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة لا جمهور أهل الملل ولا جمهور الفلاسفة بل جمهور أهل الكلام من الهشامية والنجارية والضرارية والكلابية والكرامية لا يقولون بذلك فكيف بمن عدا أهل الكلام من سائر أنواع أهل العلم؟ فإنهم من أعظم الناس إنكارا لذلك
وكذلك القول بتماثل الجواهر قول لا دليل عله إذ المتنازعون في الجواهر المنفردة: منهم من يقول باختلافها ومنهم من يقول بتماثلها
وأيضا فقول القائل إما أن تكون مختصا بذلك المقدار لذاته أو لأمر خارج
يقال له أتريد بذاته مجرد الجسمية المشتركة أم ذاته الذي يختص بها ويمتاز بها عن غيره؟
أما الأول فلا يقول عاقل فإن عاقلا لا يعلل الحكم المختص بالأم المشترك فلا يقول عاقل إن ما اختص به أحد الشيئين عن الآخر كان للقدر المشترك بينهما فإن القدر مستلزمة للمعلول الملزوم أعم من العلة فإذا لم يكن المشترك ملزوما للمختص كما أن لا يكون علة أولى وأحرى فإن الملزوم حيث وجد وجد اللازم
ومعلوم انه ليس حيث المشترك يوجد المختص إذ المشترك يوجد في هذا والمختص بالآخر منتف
وفي الجملة فهذا ما لا يتنازع فيه العقلاء فلا يكون اختصاص أحد الجسمين عن الآخر بخصائصه لمجرد الجسمية المشتركة بل تلك الخصائص مما يمتنع ثبوتها لسائر الأجسام
وحينئذ فيقال: معلوم أن كل جسم مختص بخصائص وخصائصه لا تكون لأجل الجسمية المشتركة وذلك يمنع تماثل الأجسام لأنها لو كانت متماثلة للزم أن يكون اختصاص بعضها بخصائصه لمختص والمخصص إما الرب وإما غيره وتخصيص غيره ممتنع لأنه جسم من الأجسام فالكلام فيه كالكلام في غيره ولأن التقدير أنها متماثلة فليس هذا بالتخصيص أولى من هذا وتخصيصه أيضا ممتنع لأنه يستلزم ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بغير مرجح وذلك ممتنع وإذا قيل المرجح هو القدرة والمشيئة
قيل نسبة القدرة والمشيئة إلى جميع المتماثلات سواء فيمتنع الترجيح بمجرد ذلك فلا بد أن يكون المرجح ما لله تعالى في ذلك من الحكمة والحكمة تستلزم علم الحكيم بأن أحد الأمرين أولى من الآخر وأن يكون ذلك الراجح أحب إليه من الآخر وحينئذ فذلك يستلزم تفاصيل المعلومات المرادات وذلك يمنع تساويها وهو المطلوب
وهذا الكلام يتعلق بمسألة حكمه الله في خلقه وأمره وهو مبسوط في غير هذا الموضع ونفاة ذلك غاية ما عندهم انهم يزعمون أن ذلك يقتضي افتقاره إلى الغير لأن من فعل شيئا لمراد كان مفتقرا إلى ذلك المراد مستكملا به والمستكمل بغيره ناق بنفسه
وهذه الحجة باطلة كبطلان حجتهم في نفي الصفات وذلك أن لفظ الغير مجمل فإن أريد بذلك أنه يفتقر إلى شيء مباين منفصل عنه فهذا ممنوع فإن مفعولاته ومراداته هو الفاعل لها كلها لا يحتاج في شيء منها إلى غيره وإن أريد بذلك أنه يفتقر إلى ما هو مقدور له مفعول له كان حقيقة ذلك انه مفتقر إلى نفسه أو لوازم نفسه
ومعلوم أنه سبحانه موجود بنفسه لا يفتقر إلى ما هو غير له مباين له وأنه مستوجب لصفات الكمال التي هي من لوازم ذاته فإذا قال القائل إنه مفتقر إلى نفسه كان حقيقته أنه لا يكون موجودا إلا بنفسه وهذا المعنى حق
وإذا قيل هو مفتقر إلى صفاته اللازمة أو جزئه أو لوازم ذاته او نحو ذلك كان حقيقة ذلك أنه لا يكون موجودا إلا بصفات الكمال وأنه يمتنع وجوده دون صفات الكمال التي هي من لوازم ذاته وهذا حق ومعلوم: إن الأمور التي لا يمكن وجودها إلا حادثة متعاقبة ليس الكمال في أن يكون كل منها ازليا فإن ذلك ممتنع ولا في أن ذلك لا يكون فإن ذلك نقص وعدم بل في أن تكون كل منها أزليا فإن ذلك ممتنع ولا في أن ذلك لا يكون فإن ذلك نقص وعدم بل في أن تكون بحسب إمكانها على ما تقتضيه الحكمة فيكون وجود تلك المرادات للحكمة من أعظم نعوت الكمال التي يجب أن يوصف بها ونفيها عنه يقتضي وصفه بالنقائص وإن كل كمال يوصف به فليس مفتقرا فيه إلى غيره أصلا بل هو من لوازم ذاته سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا الذين يصفونه بالنقائص ويسلبونه الحكمة التي هي محض بل لا يقتضي إثباتها إلا استلزام ذاته لنعوت كماله وكمال نعوته لا افتقار إلى شيء مباين لنفسه المقدسة
وأيضا فيقال القول في استلزام الذات لقدرها الذي لم يقدره المشركون كما قال تعالى { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } الزمر 67 كاستلزام الذات لسائر صفاتها من العلم والقدرة والحياة فإنه لو كان مختص يحتاج إلى مخصص لزم الدور أو التسلسل الباطلان فلا بد من مختص بما يختص به يختص بذلك لنفسه وذاته لا لأمر مباين له
وهذا هو حقيقة الواجب لنفسه المستلزم لجميع نعوته من غير افتقار إلى غير نفسه مع أنما ذكره في وجوب تناهي الأبعاد قد أبطل فيه مسالك الناس كلها وأنشأ مسلكا ذكر أنه لم يسبقه إليه أحد وإذا حرر الأمر عليه وعليهم في تلك المسالك كان القدح فيها أقوى من مسالكهم في النفي فلو قدر ان أثنين أثبت احدهما موجودا قائما بنفسه لا يتناهى وأثبت الآخر موجودا لا يكون متناهيا ولا غير متناه كان قول الثاني أفسد والأول أقرب إلى الصواب وما من مقدمة يدعون بها إفساد قول الأول إلا وفي أقوالهم ما هو أفسد منها
والمناظرة تارة تكون بين الحق والباطل وتارة بين القولين الباطلين لتبين بطلانهما أو بطلان أحدهما او كون أحدهما أشد بطلانا من الآخر فإن هذا ينتفع به كثيرا في أقوال أهل الكلام والفلسفة وأمثالهم ممن يقول أحدهم القول الفاسد وينكر على منازعه ما هو أقرب منه إلى الصواب فيبين أن قول منازعه أحق بالصحة إن كان قوله صحيحا وأن قوله أحق بالفساد إن كان قول منازعه فاسدا لتنقطع بذلك حجة الباطل فإن هذا أمر مهم إذ كان المبطلون يعارضون نصوص الكتاب والسنة بأقوالهم فإن بيان فسادها أحد ركني الحق وأحد المطلوبين فإن هؤلاء لو تركوا نصوص الأنبياء لهدت وكفت ولكن صالوا عليها أصول المحاربين لله ولرسوله فإذا دفع صيالهم وبين ضلالهم كان ذلك من أعظم الجهاد في سبيل الله
وقد حكى الأشعري وغيره عن طوائف أنهم يقولون إنه لا يتناهى وهؤلاء نوعان: نوع يقول: هو جسم ونوع يقول ليس بجسم فإذا أراد النفاة أن يبطلون قول هؤلاء لم يمكنهم ذلك فإنهم إذا قالوا: يلزم أن يخالط اقاذورات والأجسام قالوا: كما أثبتم موجودا لا يشار إليه ولا هو داخل ولا خارج فنحن نثبت موجودا هو داخل ولا يخالط غيره فإذا قالوا هذا لا يعقل قالوا وذلك لا يعقل
ومذهب النفاة أبعد في العقل من مذهب الحلولية ولهذا إذا ذكر القولان لأهل الفطر السليمة نفروا عن قول النفاة أعظم من نفورهم عن قول الحلولية وكذلك ما ذكره من امتناع النهاية من بعض الجوانب دون بعض فإن هذا قاله طائفة ممن يقول إنه على العرش
وقول هؤلاء وإن قيل إنه باطل فقول النفاة أبطل منه إما احتجاجه على هؤلاء بأن اختصاص أحد الطرفين بالنهاية دون الآخر محال لعدم الأولوية أو لافتقاره إلى مخصص من خارج فيقولون له أنت دائما تثبت تخصيصا من هذا الجنس كما تقول إن الإرادة تخصص أحد المثلين لا لموجب فإذا قيل لك: هذا يستلزم ترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح قلت هذا شان الإرادة والإرادة صفة من صفاته فإذا كانت ذاته مستلزمة لما من شأنه ترجيح أحد المثلين لذاته بلا مرجح فلأن تكون ذاته تقتضي ترجيح أحد المثلين بلا مرجح أولى
وهذا للمعتزلة والفلاسفة ألزم فإن المعتزلة يقولون إن القادر المختار يرجح بلا مرجح والفلاسفة يقولون: مجرد الذات اقتضت ترجيح الممكنات بلا مرجح آخر فقد اتفقوا كلهم على أن الذات توجب الترجيح لأحد المتماثلين بلا مرجح فكيف يمكنهم مع هذا ان يمنعوا كونها تستلزم تخصيص أحد الجانبين بلا مخصص
ولو قال لهم منازعهم الموجودان القائمان بأنفسهما لا بد أن يكون بينهما حد وانفصال فعلمنا التناهي من جانب هذا الموجود واما الجانب الآخر فلا نعلم امتناعه إلا إذا علمنا امتناع وجود أبعاد لا تتناهى وهذا غير معلوم لنا أو هو باطل لكان قوله أقوى من قولهم
والمقصود هنا أن غايتهم في إبطال قول هؤلاء أن ينتهوا إلى أبطال بعد لا يتناهى أو إلى عدم الأولوية أو وجوب المخالطة
وهذه المقدمات يمكن منازعوهم أن ينازعوهم فيها أعظم مما يمكنهم هم منازعة أولئك في مقدمات حجتهم ويرد عليهم من المناقضات والمعارضات أعظم مما يرد على أولئك وهذا مبسوط في موضعه
فهذه الحجة وأمثالها من حجج النفاة يمكن إبطالها من وجوه كثيرة بعضها جهة المعارضة بأقوال أهل باطل آخر وبيان انه ليس أولئك بأبطل من قول هؤلاء فإذا لم يمكن الاستدلال على نفي أحد القولين إلا بالمقدمة التي بها نفي القول الآخر لم يكن نفي أحدهما أولى من نفي الآخر بل إن كانت المقدمة صحيحة لزم نفيهما جميعا وغن كانت باطلة لم تدل على نفي واحد منهما فكيف إذا كانت المقدمة التي استدل بها المستدل على نفي قول منازعه قد قال بها وبما هو أبلغ منها؟ وبعض ما تبطل به هذه الحجة يكون من جهة أهل الحق الذين لم يقولوا باطلا
بطلان حجته من وجوه
ونحن نذكر ما يحضر من إبطالها بالكلام على مقدماتها والمواضع التي ينازعه فيها الناس
الوجه الأول
قوله لو كان جسما لكان له بعد وامتداد فإن هذا مما نازعه فيه طائفة ممن يقول هو جسم وهو مع ذلك واحد لا يقبل القسمة بوجه من الوجوه فلا يشار إلى شيء منه دون شيء فإن هذا معروف عن طائفة من أهل الكلام من الكرامية وغيرهم والرازي قد ذكر ذلك عن بعضهم لكنه ادعى أن هذا القول لا يعقل وأن فساده معلوم بالضرورة
وكذلك قول من قال إنه فوق العرش وإنه مع ذلك ليس بجسم كما يذكر ذلك عن الأشعري وكثير من أهل الكلام والحديث والفقه من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم وهو قول القاضي أبي يعلي وأبي الحسن الزاغوني وقول أبي الوفاء بن عقيل في كثير من كلامه وهو قول أبي العباس القلانسي وقبله أبو محمد بن كلاب وطوائف غير هؤلاء
فإذا قال القائل: كونه جسما مع كون غير منقسم أو كونه فوق العرش مع كونه غير جسم مما يعلم فساده بضرورة العقل
فيقال: ليس العلم بفساد هذا بأظهر من العلم بفساد قول من قال إنه موجود قائم بنفسه فاعل لجميع العالم وأنه مع ذلك لا داخل في العالم ولا خارج عنه ولا حال فيه ولا مباين له لا سيما إذا قيل مع ذلك إنه حي عالم قادر وقيل مع ذلك ليس له حياة ولا علم ولا قدرة أو قيل: هو عاقل ومعقول وعقل وعاشق ومعشوق وعشق وأن العلم والحب نفس العالم المحب ونفس الحب هو نفس العلم أو قيل مع ذلك إنه حي بحياة عليم بعلم قدير بقدرة سميع يسمع بصير يبصر متكلم بكلام وقيل مع ذلك إنه لا داخل في مخلوقاته ولا خارج عنها ولا حال فيها ولا مباين لها وأن إرادته لهذا المراد ونفس رؤيته لهذا هو نفس رؤيته لهذا ونفس علمه بهذا هو نفس علمه بهذا وأن الكلام معنى واحد بالعين فمعنى آية الكرسي وآية الدين وسائر القرآن والتوراة والإنجيل وسائر ما تكلم به هو شيء واحد فإن كانت هذه الأقوال مما يمكن صحتها في العقل فصحة قول من قال هو فوق العرش وليس بجسم او هو جسم وليس بمنقسم أقرب إلى العقل
وإن قيل بل هذا القول باطل في العقل فيقال تلك أبطل في العقل ومتى بطلت تلك صح هذا
وإذا قيل النافي لإمكان تلك الأمور هو الوهم لا العقل وإلا فالعقل بجوز وجود ما ذكر قيل: والنافي لإمكان هذا هو الوهم وإلا فالعقل يجوز وجود ما ذكر وإذا قيل البرهان العقلي دل على وجود ما أنكره الوهم قيل والبرهان العقلي دل على وجود ما أنكره الوهم هنا
ومن تأمل هذا وجده من اصح المعارضة وأبين التناقض في كلام هؤلاء النفاة وقد بسط هذا في غير هذا الموضع
الوجه الثاني
قوله وإذا كان له بعد وامتداد فإما أن يكون غير متناه وإما أن يكون متناهيا
فيقال من الناس من يقول إنه غير متناه وهؤلاء منهم من يقول جسم ومنهم من يقول غير جسم وقد حكى القولين أبو الحسن الأشعري في المقالات وحكاهما غيره أيضا ومن الناس من قال هو متناه من بعض الجهات وهذا مذكور عن طائفة من أهل الكلام من الكرامية وغيرهم وقد قاله بعض المنتسبين إلى الطوائف الأربعة من الفقهاء كما ذكره القاضي أبو يعلى في عيون المسائل فإن هذه الأقوال يوجد عامتها في بعض أتباع الأئمة منها ما يوجد في في بعض أصحاب أبي حنيفة ومنها ما يوجد في بعض أصحاب مالك ومنها ما يوجد في بعض أصحاب الشافعي ومنها مايو جد في بعض أصحاب أحمد ومنها ما يوجد في بعض أصحاب اثنين أو ثلاثة أو الأربعة
قوله إن كان غير متناه من جميع الجهات فهو محال لوجوه الأول ما سنبينه من إحالة بعد لا يتناهى
فيقال له أنت قد أبطلت أدلة نفاة ذلك ولم تذكر إلا دليلا هو أضعف من أدلة غيرك فبقيت الدعوى بلا دليل
قوله الثاني انه يلزم منه نفي الأجسام أو تداخلها ومداخلة القاذورات
فيقال هؤلاء يقولون لا يلزم منه شيء من ذلك بل هو غير متناه مع كونه جسما أو مع كونه غير جسم ويقولون لا يلزم نفي سائر الأجسام ولا مداخلتها فإذا قيل لهم هذا ينفيه العقل قالوا نفي العقل لهذا كنفيه وجوده قائما بنفسه فاعلا للعالم وهو مع ذلك لا حال في العالم ولا بائن من العالم بل نفي العقل لهذا أعظم من نفيه لهذا وما قيل من الاعتذار عن ذلك بالفرق بين الوهم والعقل يمكن في هذا بطريق الأولى كما بسط في موضعه
فإن هؤلاء ادعوا أن قول القائل كل موجودين غما أن يكونا متحايثين أو متباينين أو كل موجودين قائمين بأنفسهما فإما أن يكونا متبايني أو متلاصقين ن أو كل موجود قائم بنفسه فلا بد أن يكون مشارا إليه وان قول القائل بإثبات موجود لا هو داخل العالم ولا خارجه ولا حال فيه ولا مباين له ولا يشار إليه ولا يقرب من شيء ولا يبعد من شيء ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء وأمثال ذلك من الصفات السالبة النافية هو محال في العقل
قالوا إن هذا الموجب لذلك التقسيم والمحيل لوجود هذا إنما هو الوهم دون العقل وأن الوهم يحكم غير المحسوس بحكم المحسوس وهذا باطل
فقيل لهم فأنتم لم تثبتوا بعد وجود مالا يمكن الإحساس به وحكم الفطرة أولى بديهي والوهم عندكم إنما يدرك الأشياء المعينة كإدراك العداوة والصداقة كإدراك الشاة عدواة الذئب وصداقة اكبش وهذه أحكام كلية والكليات من حكم العقل لا من حكم الوهم
فهذا وأمثاله مما أبطل به ما ذكروه من الاعتذار بأن هذا حكم الوهم لكن المقصود هنا أن ذلك العذر إن كان صحيحا فلمنازعيهم أن يعتذروا به ههنا فيقولون ما ذكرتموه من كونه لو كان فوق العرش أو لو كان جسما لكان ممتدا متناهيا أو غير متناه هو من حكم الوهم وهو فرع كونه قابلا لثبوت الامتداد ونفيه أو لثبوت النهاية ونفيها ونحن نقول هو فوق العرش أو هو فوق العرش وهو مع ذلك لا يقبل أن يكون ممتدا ولا غير ممتد ولا أن يكون متناهيا ولا غير متناه كما قلتم أنتم إنه موجود قائم بنفسه مبدع للعالم مسمى بالأسماء الحسنى وأنه مع ذلك لا يقبل أن يقال هو متناه ولا غير متناه بل ذاته لا تقبل إثبات ذلك ولا نفيه ولا تقبل أن يقال هو حال في العالم ولا خارج عنه فلا توصف ذاته بالدخول ولا بالخروج فإن ذاته لا تقبل الاتصاف لا بإثبات ذلك ولا بنفيه
فهذا ونحوه قولكم فغن كان هذا القول صحيحا أمكن من أثبت العلو دون التجسيم أو العلو والتجسيم ونفي ما يذكر من لوازمه أن يقول فيه ما تقولونه أنتم حيث أثبتم موجودا قائما بنفسه مبدعا للعالم ونفيتم ما يذكر من لوازمه فإن لزوم تلك اللوازم لما أثبتوه أظهر في صريح العقل من لزوم هذه اللوازم لما أثبته هؤلاء فإن أمكنكم نفي اللزوم وادعيتم أن القول باللزوم وإحالة ما أثبتموه من حكم الوهم دون العقل أمكن خصومكم أن يقولوا مثل ذلك ما قلتموه بطريق الأولي
وهذا يفهمه من تصور حقيقة قول الطائفتين وأدلتهم العقلية فإنه إذا قابل بين قول هؤلاء وقول هؤلاء تبين له صحة الموازنة وان الإثبات أقرب إلى صريح المعقول وأبعد عن التناقض كما أنه أقرب إلى صحيح المنقول
الوجه الثالث
وكذلك يقال في الوجه الثالث فإن لإثبات النهاية من أحد الطرفين دون الآخر أبعد عن الإحالة من إثبات موجود قائم لا يمكن أن يقال فيه هو متناه ولا أن يقال غير متناه
وكذلك إثبات موجود لا نهاية له من الطرفين أقرب إلى المعقول من كونه لا يقبل إثبات النهاية ولا نفيها
قوله فيلزم أن يكون الرب مفتقرا في إفادة مقداره إلى موجب ومخصص ولا معنى للبعد غير نفس الأجزاء فيكون الرب معلولا لغيره
يقال ما من أحد من النفاة إلا وقد قال نظير هذا فالكلابية والأشعرية يقولون الذات اقتضت صفات معدودة دون غيرها من الصفات فإنهم وغن تنازعوا في كون صفاته كلها معلومة للبشر فإنهم لم يتنازعوا في إثبات صفات لا تناهي بل لا بد إن تكون صفاته متناهية فجعلوا الذات مقتضية لعدد معين دون غيره من الأعداد ولصفات معينة دون غيرها من الصفات بل واقتضت الأمر بشيء دون غيره من المأمورات وبإرادة شيء دون غيره من المرادات مع أن نسبتها إلى جميع المرادات والمأمورات نسبة واحدة
وأصلهم أنه يجوز تخصيص أحد المثلين دون الآخر بغير مخصص بل بمحض الإرادة ن وأن الذات اقتضت تلك الإرادة على ذلك الوجه دون غيرها لا لأمر آخر
فإذا قيل الذات اقتضت تناهيا من جانب دون جانب أو قدرا مخصوصا لم يكن هذا في صريح العقل بأبعد من الامتناع من ذلك لا سيما وهو مع ذلك يقولون لم يكن هذا في صريح العقل بأبعد من الامتناع من ذلك لا سيما وهو مع ذلك يقولون إن هذه الإرادة اقتضت أن تكون الحوادث متناهية من أحد الطرفين دون الآخر فالحوادث عندهم لا تناهي من جانب المستقبل مع تناهيها من جانب الماضي ومع إمكان تقدم الحوادث على مبدأ حدوثها وتأخرها عن ذلك المبدأ ولكن الإرادة هي المخصصة لأحد المثلين والذات هي المخصصة لتلك الإرادة المعينة دون غيرها من الإرادات وهي المخصصة للكلام المعين الذي هو أمر بشيء معين دون غيره من الكلام والأوامر
والمعتزلة يقولون إن تلك الذات هي المخصصة لأحد المقدورين دون أمثاله من المقدورات وكذلك هي المخصصة لكونها آمرة ومتكلمة وفاعلة بالأمر المعين والكلام المعين والفعل المعين دون غيره من الأوامر والكلام والفعل وهي المخصصة للإرادة أو لكونه مريدا دون غير تلك الإرادة أو غير تلك المريدية
والفلاسفة يقولون إن الذات أو الوجود الذي لا اختصاص له بحقيقة من الحقائق ولا صفة من الصفات هو المخصص للعالم كله بما هو عليه من الحقائق والصفات والمقادير وأنه علة تامة موجبة للمعلول مع أن الحوادث من المعلولات ليست أعيانها أزلية ولم يكن فيه ما يوجب تأخر شيء من المعلولات ولا قام به صفة ولا معنى ولا فعل يوجب التخصيص لا بحقيقة دون حقيقة ولا بصفة دون صفة ولا لحادث دون حادث ولا لتأخير ما يتأخر
والعالم يشهد فيه من الحقائق والحوادث الحادثة ما يعلم معه بالضرورة أنه لا بد له من مخصص وهم لا يثبتون إلا وجودا مطلقا ليس فيه اختصاص وجودي بوجه من الوجوه فضلا عن إن يكون مقتضبا لتخصيص حقيقة دون حقيقة ن وصفة دون صفة والحدوث من غير سبب يقتضي الحدوث وهذه الأمور لبسطها موضع آخر
والمقصود أن هؤلاء القائلين بعدم التناهي أو بالتناهي من جانب دون جانب مع كون قولهم فاسدا فنفاة كون الرب على العرش الذين يحتجون على نفي ذلك بنفي الجسم وعلى نفي الجسم بهذه الحجج يلزمهم من التناقض أعظم مما يلزم المثبتين والمقدمات التي يحتجون بها هي أنفسها وما هو أقوى منها من جنسها تدل على فساد أقوالهم بطريق الأولى فإن كانت صحيحة دلت على فساد قولهم ومتى فسد قولهم صح قول المثبتة لامتناع رفع النقيضين وإن كانت باطلة لم تدل على فساد قول المثبتة فدل ذلك على أن هذه المقدمات مستلزمة فساد قول النفاة دون قول أهل الإثبات
وهذه الطريق هي ثابتة في الأدلة الشرعية والعقلية فإنا قد بينا في الرد على أصول الجهمية النفاة للصفات في الكلام على تأسيس التقديس وغيره أن عامة ما يحتج به النفاة لرؤية والنفاة فرق العرش ونحوهم من الأدلة الشرعية الكتاب والسنة هي نقيض قولهم وهكذا أيضا عامة ما يحتجون به من الأدلة العقلية إذا وصلت معهم فيها إلى آخر كلامهم وما يجيبون به معارضهم وجدت كلامهم في ذلك يدل على نقيض قولهم وأن ما يذكرونه من المناظرات العقلية هو على قول أهل الإثبات أدل منه على قولهم
الوجه الرابع
قوله إذا كان متناهيا من جميع الجهات فاختصاصه بالشكل والمقدار إن كان لذاته لزم منه اشتراك جميع الأجسام فيه ضرورة الاتحاد في الطبيعة
فيقال له لا نسلم اشتراك جميع الأجسام في ذلك ولا نسلم أن االأجسام متحدة في الطبيعة وقد عرف أن النزاع في هذه المسألة من النظار من أشهر الأمور وهذا المصنف نفسه قد بين فساد حجج أصحابه المدعين تماثلها وتماثل الجواهر فإذا كان هو نفسه قد بين فساد حجج أصحابه المدعين تماثلها وتماثل الجواهر فإذا كان هو نفسه قد بين فساد حجج القائلين بالاتحاد في الطبيعة كان قد أفسد حجته بما ذكره هو من الأدلة العقلية على فسادها فضلا عما يذكره غيره من العقلاء وقد بسط هذا في موضعه وإنما المقصود هنا التنبيه على أن كل مقدمة في هذه الحجة يمكن منعها ويكون قول المانع فيها أقوى من قول المحتج
تابع كلام الأمدي في نفي الجسمية عن الله تعالى
قال أنه لو كان جسما لكان مركبا ممن الأجزاء وهو محال لوجهين الأول أنه يكون مفتقرا إلى كل واحد من تلك الأجزاء ضرورة استحالة وجود المركب دون أجزائه وكل منها غير مفتقر إليه وما افتقر إلى غيره كان ممكنا لا واجبا لذاته وقد قيل إنه واجب لذاته
تعليق ابن تيمية
قلت ولقائل أن يقول هذا باطل من وجوه
بطلان هذا من وجوه
الأول
أن الذين قالوا إنه جسم لا يقول أكثرهم إنه مركب من الأجزاء بل ولا يقولون إن كل جسم مركب من الأجزاء فالدليل على امتناع ما هو مركب من الأجزاء فقط لا يكون حجة على من قال إنه ليس بمركب وإن كان بناء على أن كل جسم مركب فهذا ممنوع
وإن قيل لا نعني بالأجزاء أجزاء كانت موجودة بدونه وإنما نعني بها أنه لا بد أن يتميز منه شيء عن شيء
قيل فحينئذ لا يلزم أن يكون ذلك الذي يمكن أن يصير جزءا غير مفتقر إليه إذ هو لا بد منه في وجود الجملة وليس موجودا دونها فالجملة لا تستغني عنه وهو أيضا لا يستغني عنها فتكون الحجة باطلة
الثاني
أن يقال ما تعني بقولك إنه يكون مفتقرا إلى كل واحد من تلك الأجزاء
أتعني انه يكون مفعولا للجزء أو معلولا لعلة فاعلة أو تعني انه يكون وجوده مشروطا بوجود الجزء بحيث لا يوجد أحدهما إلا مع الآخر فإن ادعيت الأول كان التلازم باطلا فإنه من المعلوم أن الأجسام التي خلقها الله تعالى ليس شيء من أجزائها فاعلا لها ولا علة فاعلة لها فإذا لم يكن شيء من المركبات المخلوقة جزؤه فاعلا له ولا علة فاعلة له كان دعوى أن ذلك قضية كلية من أفسد الكلام فإنه لا يعلم ثبوتها في شيء من الجزئيات المشهودة فضلا عن أن تكون كلية
وإن قيل نعني بالافتقار أنه لا يوجد هذا إلا مع هذا
قيل ولم قلتم إن مثل هذا ممتنع على الواجب بنفسه فإن الممتنع عليه أن يكون فاعلا أو علة فاعلة إذ قيل بإمكان علة فاعلة لا تفعل بالاختيار فأما كونه لا يكون وجوده مستلزما للوازم لا يكون موجودا إلا بها فالواجب بنفسه لا ينافي ذلك سواء سميت صفات أو أجزاء أو ما سميت
الثالث
ويظهر هذا بالوجه الثالث وهو أن النافي لمثل هذا التلازم إن كان متفلسفا فهو يقول إن ذاته مستلزمة للممكنات المنفصلة عنه فكيف يمتنع أن تكون مستلزمة لصفاته اللازمة له أو لما هو داخل في مسمى اسمه وهو أيضا يسلم أن ذاته تستلزم كونه واجبا وموجودا
وعاقلا ومعقولا وعقلا ولذيذا وملتذا به ن ومحبا لذاته ومحبوبا لها وأمثال ذلك من المعاني المتعددة
فإذا قيل هذه كلها شيء واحد
قيل: هذا مع كونه معلوم الفساد بالضرورة لكونه تضمن أن العلم هو الحب وأن العالم المحب هو العلم والحب فإن قدر إمكانه فقول القائل إن الجسم ليس بمركب من الهيولي والصورة ولا من الجواهر المنفردة بل هو واحد بسيط أقرب إلى العقل من دعوى اتحاد هذه الحقائق
وإن كان من المعتزلة وامثالهم فهم يسلمون ذاته تستلزم أنه حي عالم قادر وإن كان من الصفاتية فهم يسلمون استلزام ذاته للعلم والقدرة والحياة وغير ذلك من الصفات فما من طائفة من الطوائف إلا وهي تضطر إلى أن تجعل ذاته مستلزمة للوازم وحينئذ فنفي هذا التلازم لا سبيل لأحد إليه سواء سمي افتقارا أو يسم وسواء قيل إن هذا يقتضي التركيب أو لم يقل
الرابع
أن يقال قول القائل إن المركب مفتقر إلى كل واحد من تلك الأجزاء أتعنى بالمركب تلك الأجزاء أو تعني به اجتماعها آو الأمرين أو شيئا رابعا فإن عنيت الأول كان المعنى أن تلك الأجزاء مفتقرة إلى تلك الأجزاء وكان حاصله أن الشيء المركب مفتقر إلى المركب وان الشيء مفتقر إلى نفسه وان الواجب بنفسه مفتقر إلى الواجب بنفسه
ومعلوم أن الواجب بنفسه لا يكون مستغنيا عن نفسه بل وجوبه بنفسه يستلزم أن نفسه لا تستغني عن نفسه فما ذكرتموه من الافتقار هو تحقيق لكونه واجبا بنفسه لا مانع لكونه واجبا بنفسه
وإن قيل إن المركب هو الاجتماع الذي هو اجتماع الأجزاء وتكبها
قيل فهذا الاجتماع هو صفة وعرض للأجزاء لا يقول عاقل إنه واجب بنفسه دون الأجزاء بل إنما يقال هو لازم للأجزاء والواجب لنفسه هو الذات القائمة بنفسها وهي الأجزاء لا مجرد الصفة التي هي نسبة بين الأجزاء وإذا لم يكن هذا هو نفس الذات الواجبة بنفسها وإنما هو صفة لها فالقول فيه كالقول في غيره مما سميتموه أنتم أجزاء وغايته أن تكون بعض الأجزاء مفتقرة إلى سائرها وليس هذا هو افتقار الواجب بنفسه إلى جزئه
وإن قيل إن المركب هو المجموع أي الأجزاء واجتماعها فهذا من جنس أن يقال المركب هو الأجزاء لكن على هذا التقدير صار الاجتماع جزءا من الأجزاء
وحينئذ فإذا قيل هو مفتقر إلى الأجزاء كان حقيقته انه مفتقر إلى نفسه أي لا يستغني عن نفسه وهذا حقيقة وجوبه بنفسه لا مناف لوجوبه بنفسه وإن عنيت به شيئا رابع فلا يعقل هنا شيء رابع فلا بد من تصويره
ثم هذا الكلام عليه وإن قال بل المجموع يقتضي افتقاره إلى كل جزء من الأجزاء
قيل افتقار المجموع إلى ذلك الجزء كافتقار إلى سائر الأجزاء وذلك الجزء وسائر الأجزاء هي المجموع فعاد الأمر إلى انه مفتقر إلى نفسه
فإن قيل فأحد الجزأين مفتقر إلى الآخر أو قيل الجملة مفتقرة إلى كل جزأ إلى آخره
قيل أولا ليس هذا هو حجتكم فإنما ادعيتم افتقار إلى الآخر أن أحدهما فاعل للآخر آو علة فاعلة له فهذا باطل بالضرورة فإن المركبات الممكنة ليس أحد أجزائها علة فاعلة للآخر ولا فاعلا له باختياره فلو قدر أن في المركبات ما يكون جزؤه فاعلا لجزئه لم يكن كل مركب كذلك فلا تكون القضية كلية فلا يجب أن يكون مورد النزاع داخلا فيما جزؤه مفتقر إلى جزئه فكيف إذا لم يكن في بعض أجزائه علة فاعلة للجزء الآخر؟
وإن عنيت أن أحد الجزأين لا يوجد إلا مع الجزء الآخر فهذا غنما فيه تلازمهما وكون أحدهما مشروطا بالآخر وذلك دور معي اقتراني وهو ممكن صحيح لا بد منه في كل متلازمين وهذا لا ينافي كون المجموع واجبا بالمجموع
وإذا قيل في كل من الأجزاء هل هو واجب بنفسه أم لا؟
قيل إن أردت هل هو مفعول معلول لعلة فاعلة أم لا؟ فليس في الأجزاء ما هو كذلك بل كل منها واجب بنفسه بهذا الاعتبار وإن عنيت أنه هل فيها في الأجزاء ما هو كذلك بل كل منها واجب بنفسه بهذا الاعتبار وإن عنيت أنه هل فيها ما يوجد بدون وجود الآخر فليس فيها ما هو مستقل فيها ما هو مستقل دون الآخر ولا هو واجب بنفسه بهذا الاعتبار والدليل دل على إثبات واجب بنفسه غنى عن الفاعل والعلة الفاعلة لا على أنه لا يكون شيء غني عن الفاعل مستلزما للوازم
فلفظ الواجب بنفسه فيه إجمال واشتباه دخل بسببه غلط كثير فما قام عليه البرهان من إثبات الواجب بنفسه ليس هو ما فرضه هؤلاء النفاة فإن الممكن هو الذي لا يوجد إلا بموجد يوجده والواجب هو الذي يكون بنفسه لا بموجد يوجده فكونه بنفسه مستلزما للوازم لا ينافي أن يكون ذاتا متصفة بصفات الكمال وكل من الذات والصفات ملازم للأخر وكل من الصفات ملازمة للأخرى وكل ما يسمى جزءا فهو ملازم للآخر
وإذا قيل هذا فيه تعدد الواجب
قيل إن أردتم تعدد الإله الموجود بنفسه الخالق للممكنات فليس كذلك وغن أردتم تعدد معان وصفات له أو تعدد ما سميتموه أجزاء له فلم قلتم إنه كان كل من هذه واجبا بنفسه ن أي هو موجود بنفسه أي هو موجود بنفسه لا بموجد يوجده مع أن وجوده ملزوم لوجود الآخر يكون ممتنعا ولم قلتم إن ثبوت معنيين أو شيئين واجبين متلازمين يكون ممتنعا؟
وهذا كما تقوله المعتزلة إنكم إذا أثبتم الصفات قلتم بتعدد القديم
فيقال لهم إن قلتم إن ذلك بتضمن تعدد آلهة قديمة خالقة للمخلوقات فهذا التلازم باطل
وإن قلتم يستلزم تعدد صفات قديمة للإلهة القديم
فلم قلتم إن هذا محال؟
فعامة ما يلبس به هؤلاء النفاة ألفاظ مجملة متشابهة إذا فسرت معانيها وفصل بين ما هو حق منها وبين ما هو باطل زالت الشبهة وتبين أن الحق الذي لا محيد عنه هو قول أهل الإثبات للمعاني والصفات