الرد عليه من وجوه
الوجه الأول
أن يقال: العلي الأعلى هو الذي ليس فوقه شيء أصلا كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: [ أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ]
وحينئذ فهذا الخلق المذكور: إما أن يكون شيئا موجودا وإما أن يكون شيئا موجودا فإن كان الأول فهو من العالم والله فوقه إذ هو العلي الأعلى الظاهر الذي ليس فوقه شيء وإن لم يكن شيئا موجودا فهذا لا يوصف بأنه فوق غيره ولا تحته ولا يقال: إن تحته شيء ولا فوقه شيء إذ هو عدم محض ونفي صرف فلا يجوز أن يقال: إن فوق الله شيء والعدم ليس بشيء لا سيما العدم الممتنع فإنه ليس بشيء باتفاق العقلاء ويمتنع أن يكون فوق الله شيء فهو عدم ممتنع
الوجه الثاني
أن يقال غاية الكمال في العلو أن لا يكون فوق العالي شيء موجود والله موصوف وما ذكرته من الخلاء إذا قدر أنه لا بد منه لم يقدح ذلك في علوه الذي يستحقه كما أنه سبحانه موصوف على كل شيء قدير والممتنع بنفسه الذي ليس بشيء ولا يدخل في العموم لا يكون عدم دخوله نقص في قدرته الشاملة
وكذلك هو سبحانه بكل شيء عليم فيعلم الأشياء على ما هي عليه فما لم يكن موجودا لا يعلمه موجودا كما قال تعالى { قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض } [ يونس: 18 ] ولا يكون نفي هذا العلم نقصا بل هو من تمام كماله لأنه يقتضي أن يعلم الأشياء على ما هو عليه ونظائر هذا كثيرة
الوجه الثالث
أن يقول له إخوانه الذين يقولون: أنه لا نهاية له في ذاته: قوله: ( إن ما لا يتناهى فكل نقطة منها فوقها نقطة فكل شيء منه سفل ) - لا يقدح في مطلوبنا فإن مقصودنا أن لا يكون غيره أعلى منه بل هو عال على كل موجود ثم بعد ذلك إذا قدرت أنه ما منه شيء إلا وغيره منه أعلى منه لم يقدح هذا في مقصوده ولا في كماله فإنه لم يعل على شيء منه إلا ما هو لا من غيره
وأيضا فإن مثل هذا لا بد منه والواجب إثبات صفات الكمال بحسب الإمكان
وأيضا فإن مثل هذا كمال في العلو ولا يقدح في العالي أن يكون بعضه أعلى من بعض إذا لم يكن بعضه عاليا عليه
وأيضا فإن الناس متنازعون في صفاته: هل بعضها أفضل من بعض مع أنها كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه؟ وهل بعض كلامه أفضل من بعض مع كمال الجميع؟
والسلف والجمهور على أن بعض كلامه أفضل من بعض وبعض صفاته أفضل من بعض مع كونها كلها كاملة لا نقص فيها كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة كقوله تعالى: { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } [ البقرة: 106 ]
وكقوله ﷺ حاكيا عن ربه: إن رحمتي تغلب غضبي ] وفي لفظ: [ سبقت غضبي ]
وقوله: { قل هو الله أحد } [ الإخلاص: 1 ] تعدل ثلث القرآن
وقوله في فاتحة الكتاب: لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها
فنفى أن يكون لها مثل
وقوله عن آية الكرسي أنها أعظم آية في القرآن
وقوله ﷺ: [ أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ]
وقوله: [ يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه والقسط بيده الأخرى يخفض ويرفع ] فأخبر أن الفضل بيده اليمنى والقسط بيده الأخرى مع أن كلا يديه يمين
كما في الصحيح عن النبي ﷺ: [ المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ]
فإذا كانت صفاته كلها كاملة لا نقص فيها وبعضها أفضل من بعض لم يمتنع أن هو العالي علوا مطلقا وإن كان منه ما هو أعلى من غيره
كلام آخر للرازي في لباب الأربعين
وأما قوله: ( إن الشرف الحاصل بسبب الجهة لها بالذات وللحاصل فيها بالعرض )
الرد عليه من وجوه
فجوابه من وجوه :
إن هذا إنما يمكن أن يقال إذا كانت الجهة أمرا وجوديا فأما إذا كانت أمرا عدميا - والمراد بذلك أنه فوق العالم مباين له ليس معه هناك موجود غيره - لم يكن هناك شيء موجود غيره يستحق العلو لا جهة ولا غيرها فضلا عن أن يستحق غيره العلو والشرف والذات
وهؤلاء يتكلمون بلفظ الجهة والحيز والمكان ويعنون بها تارة أمرا معدوما وتارة أمرا موجودا ولهذا كان أهل الإثبات من أهل الحديث والسلفية من جميع الطوائف فمنهم من يطلق لفظ ( الجهة ) ومنهم من لا يطلقه وهما قولان لأصحاب أحمد والشافعي ومالك وأبي حنيفة وغيرهم من أهل الحديث والرأي
وكذلك لفظ ( المكان ) منهم من يطلقه ومنهم من يمنع منه
وأما لفظ ( المتحيز ) فمنهم من ينفيه وأكثرهم لا يطلقه ولا ينفيه لأن هذه ألفاظ مجملة تحتمل حقا وباطلا
وإذا كان كذلك فيقال: قول القائل ( إن الله في جهة أو حيز أو مكان ) إن أراد به شيئا موجودا غير الله فذلك من جملة مخلوقاته ومصنوعاته فإذا قالوا: إن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه امتنع أن يكون محصورا أو محاطا بشيء موجود غيره سواء سمى مكانا أو جهة أو حيزا أو غير ذلك ويمتنع أيضا أن يكون محتاجا إلى شيء من مخلوقاته: لا عرش ولا غيره بل هو بقدرته الحامل للعرش ولحملته فإن البائن عن المخلوقات العالي عليها يمتنع أن يكون في جوف شيء منها
إذا قيل: إنه في السماء كان المعنى إنه في العلو وهو مع ذلك فوق كل شيء ليس في جوف السماوات فإن السماء هو العلو وكل ما علا فهو سماء
يقال: سما يسمو سموا أي علا يعلو علوا وهذا اللفظ يعم كل ما يعلو لم يخص بعض أنواعه بسبب القرينة
فإذا قيل: فليمدد بسبب إلى السماء فقد يراد به السقف وإذا قيل: نزل المطر من السماء كان نزوله من السحاب وإذا قيل: العرش في السماء فالمراد به ما فوق الأفلاك وإذا قيل: الله في السماء فالمراد بالسماء ما فوق المخلوقات كلها أو يراد: أنه فوق السماء وعليها فأما أن يكون في جوف السماوات فليس هذا قول أهل الإثبات أهل العلم والسنة ومن قال بذلك فهو جاهل كمن يقول: إن الله ينزل ويبقى العرش فوقه أو يقول: إنه يحصره شيء من مخلوقاته فهؤلاء ضلال كما أن أهل النفي ضلال
وإن أراد بمسمي الجهة والحيز والمكان أمرا معدوما فالمعدوم ليس شيئا فإذا سمى المسمى ما فوق المخلوقات كلها حيزا وجهة ومكانا كان المعنى: أن الله وحده هناك ليس هناك غيره من الموجودات: لا جهة ولا حيز ولا مكان بل هو فوق كل موجود من الأحياز والجهات والأمكنة وغيرها سبحانه وتعالى
الوجه الثاني
إن يقال: لو عارضكم معارض وقال: الجهة وإن كانت موجودة فهي مخلوقة له مصنوعة وهي مفتقرة إليه وهو مستغن عنها فإن العرش مثلا إذا سمي جهة ومكانا وحيزا فالله تعالى هو ربه وخالقه والعرش مفتقر إلى الله افتقار المخلوق إلى خالقه والله غني عنه من كل وجه فليس في كونه فوق العرش وفوق ما يقال له جهة ومكان وحيز - وإن كان موجودا - إثبات شرف لذلك المخلوق أعظم من شرف الله تعالى
وهذا قد يجيب به من يثبت الخلاء ويجعله مبدعا لله تعالى
الوجه الثالث
إنه إذ كان عاليا على ما يسمى جهة ومكانا كان هو أعلى منه فأي شرف وعلو كان لذلك الموجود بالذات أو بالعرض فعلو فعلو الله أكمل منه
الوجه الرابع
أن يقال: لا نسلم أن العلو الحاصل بسبب الجهة هو لها بالذات ولغيرها بالعرض إذ الجهة تابعة لغيرها سواء كانت موجودة أو معدومة وعلوها تبع لعلو العالي بها فكيف يكون العلو للتابع بالذات وللمتبوع بالعرض؟ !
وقولنا: ( عال بالجهة ) مثل قولنا: عال بالعلو وعالم بالعلم وقادر بالقدرة أو عال علو المكانة أو عال القهر فليس في ذلك ما يوجب أن تكون المكانة والقهر والعلو والعلم أكمل من القاهر العالم العالي ذي المكانة العالية ومهما قدر أنه يسمى جهة فإما أن يكون عدما فلا شرف له أصلا وإما أن يقدر موجودا: إما صفة لله وإما مخلوقا لله وعلى التقديرين فالموصوف أكمل من الصفة والخالق أكمل من المخلوق فكيف تكون الصفات والمخلوقات أكمل من الموصوف الخالق سبحانه وتعالى؟ !
الوجه الخامس
أن الجهة قد نعني بها نسبة وإضافة كاليمين واليسار والأمام والوراء فالعلو إذا سمي جهة بهذا الاعتبار كان العالي بالجهة معناه: أن بينه وبين ما هو عال عليه نسبة وإضافة أوجبت أن يكون هذا فوق هذا فهل يقال: إن هذه النسبة والإضافة التي بها وصف العالي بأنه عال أكمل من ذاته العالية الموصوفة بهذا العلو والنسبة
الوجه السادس
أن يقال: هذا الذي قاله إنما يتوجه في المخلوق إذا علا على سقف أو منبر أو عرش أو كرسي أو نحو ذلك فإن ذلك المكان كان عاليا بنفسه وهذا صار عاليا لما صار فوقه بسبب علو ذلك فالعلو لذلك السقف والسرير والمنبر بالذات ولهذا الذي صعد عليه بالعرض
فكلامهم يتوجه في مثل هذا وهذا في حق الله وهم وخيال فاسد وتمثيل لله بخلقه وتشبيه له بهم من صفات النقص التي يتعالى عنها
وهؤلاء النفاة كثيرا ما يتكلمون بالأوهام والخيالات الفاسدة ويصفون الله بالنقائص والآفات ويمثلونه بالمخلوقات بل بالناقصات بل بالمعدومات بل بالممتنعات فكل ما يضيفونه إلى أهل الإثبات الذين يصفونه بصفات الكمال وينزهونه عن النقائص والعيوب وأن يكون له في شيء من صفاته كفوا أو سمي فما يضيفونه إلى هؤلاء من زعمهم أنهم يحكمون بموجب الوهم والخيال الفاسد أو أنهم يصفون الله بالنقائص والعيوب أو أنهم يشبهونه بالمخلوقات هو بهم أخلق وهو بهم أعلق وهم به أحق فإنك لا تجد أحدا سلب الله ما وصف به نفسه من صفات الكمال إلا وقواه يتضمن لوصفه بما يستلزم ذلك من النقائص والعيوب ولمثيله بالمخلوقات وتجده قد توهم وتخيل أوهاما وخيالات فاسدة غير مطابقة بنى عليها قوله من جنس هذا الوهم والخيال وأنهم يتوهمون ويتخيلون أنه إذا كان فوق العرش كان محتاجا إلى العرش كما أن الملك إذا كان فوق كرسيه كان محتاجا إلى كرسيه
وهذا عين التشبيه الباطل والقياس الفاسد ووصف الله بالعجز والفقر إلى الخلق وتوهم أن استواءه مثل استواء المخلوق أو لا يعلمون أن الله يجب أن نثبت له صفات الكمال وننفي عنه مماثلة المخلوقات؟ وأنه: { ليس كمثله شيء } [ الشورى: 11 ] لا في ذاته ولا في صفاته ولا أفعاله؟ فلا بد من تنزيهه عن النقائص والآفات ومماثلة شيء من المخلوقات وذلك يستلزم إثبات صفات الكمال والتمام التي ليس فيها كفو لذي الجلال والإكرام
وبيان ذلك هنا أن الله مستغن عن كل ما سواه وهو خالق كل مخلوق ولم يصر عاليا على الخلق بشيء من المخلوقات بل هو سبحانه خلق المخلوقات وهو بنفسه عال عليها لا يفتقر إلى علوه عليها إلى شيء منها كما يفتقر المخلوق إلى ما يعلو عليه من المخلوقات وهو سبحانه حامل بقدرته للعرش ولحملة العرش
وفي الأثر: أن الله لما خلق العرش أمر الملائكة بحمله قالوا: ربنا كيف نحمل عرشك وعليه عظمتك؟ فقال: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله
فإنما أطاقوا حمل العرش بقوته تعالى والله إذا جعل في مخلوق قوة أطاق المخلوق حمل ما شاء أن يحمله من عظمته وغيرها فهو بقوته وقدرته الحامل للحامل والمحمول فكيف يكون مفتقرا إلى شيء؟ وأيضا فالمحمول من العباد بشيء عال لو سقط ذلك العالي سقط هو والله أغنى وأجل وأعظم من أن يوصف بشيء من ذلك
وأيضا فهو سبحانه خلق ذلك المكان العالي والجهة العالية والحيز العالي إذا قدر شيئا موجودا كما لو جعل ذلك اسما للعرش وجعل العرش هو المكان العالي كما في شعر حسان :
تعالى علوا فوق عرش إلهنا... وكان مكان الله أعلى وأعظما
فالمقصود أنه خلق المكان وعلاه وبقوته صار عاليا والشرف الذي حصل لذلك المكان العالي منه ومن فعله وقدرته ومشيئته فإذا كان هو عاليا على ذلك وهو الخالق له وذلك مفتقر إليه من كل وجه وهو مستغن عنه من كل وجه فكيف يكون قد استفاد العلو منه ويكون ذلك المكان أشرف منه
وإنما صار له الشرف به والله مستحق للعلو والشرف بنفسه لا بسبب سواه فهل هذا وأمثاله إلا من الخيالات والأوهام الباطلة التي تعارض بها فطرة الله التي فطر الناس عليها والعلوم الضرورية والقصود الضرورية والعلوم البرهانية القياسية والكتب الإلهية والسنن النبوية وإجماع أهل العلم والإيمان من سائر البرية؟
تابع كلام الرازي في لباب الأربعين عن الجهة والعلو
قال الرازي في حجة خصمه: ( ولأن الخلق بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم إليها عند التضرع والدعاء )
وأجاب عن ذلك بأن رفع الأيدي إلى السماء معارض لوضع الجبهة على الأرض
الرد عليه من وجوه
الوجه الأول
أن يقال: وضع الجبهة على الأرض لم يتضمن قصدهم لأحد في السفل بل السجود بها يعقل أنه تواضع وخضوع للمسجود له لا طلب وقصد ممن هو في السفل بخلاف رفع الأيدي إلى العلو عند الدعاء فإنهم يقصدون به الطلب ممن هو في العلو
والاستدلال هو بقصدهم القائم بقلوبهم وما يتبعه من حركات أبدانهم والداعي يجد من قلبه معنى يطلب العلو والساجد لا يجد من قلبه معنى يطلب السفل بل الساجد أيضا يقصد في دعائه العلو فقصد العلو عند الدعاء يتناول القائم والقاعد والراكع والساجد
الوجه الثاني
أن وضع الجبهة على الأرض يفعله الناس لكل من تواضعوا له من أهل الأرض والسماء ولهذا يسجد المشركون للأصنام والشمس والقمر سجود عبادة وقد سجد ليوسف أبواه وإخوته سجود تحية لا عبادة لكون ذلك كان جائزا في شرعهم وأمر الله الملائكة بالسجود لآدم والسجود لا يختص بمن هو في الأرض بل لا يكاد يفعل لمن هو في بطنها بل لمن هو على ظهرها عال عليها وأما توجيه القلوب والأبصار والأيدي عند الدعاء إلى السماء فيفعلونه إذا كان المدعو في العلو فإذا دعوا الله فعلوا ذلك وإن قدر منهم من يدعوا الكواكب ويسألها أو يدعوا الملائكة فإنه يفعل ذلك
فعلم أن قصدهم بذلك التوجه إلى جهة المدعو المسؤول الذي يسألونه ويدعونه حتى لو قدر أن أحدهم يدعو صنما أو غيره مما يكون على الأرض لكان توجه قلبه ووجهه وبدنه إلى جهة معبوده الذي يسأله ويدعوه كما يفعل النصارى في كنائسهم فإنهم يوجهون قلوبهم وأبصارهم وأيديهم إلى الصور المصورة في الحيطان وإن كان قصدهم صاحب الصورة وكذلك من قصد الموتى في قبورهم فإنه يوجه قصده وعينه إلى من في القبر فإذا قدر أن القبر أسفل منه توجه إلى أسفل وكذلك عابد الصنم إذا كان فوق المكان الذي فيه الصنم فإنه يوجه قلبه وطرفه إلى أسفل لكون معبوده هناك
فعلم بذلك أن الخلق متفقون على أن توجيه القلب والعين واليد عند الدعاء إلى جهة المدعو فلما كانوا يوجهون ذلك إلى جهة السماء عند الله علم إطباقهم على أن الله في جهة السماء
الوجه الثالث
أن الواحد منهم إذا اجتهد في الدعاء حال سجوده يجد قلبه بقصد العلو مع أن وجهه يلي الأرض بل كلما ازداد وجهه ذلا وتواضعا ازداد قلبه قصدا للعلو كما قال تعالى: { واسجد واقترب } [ العلق: 19 ]
وقال النبي ﷺ: [ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ]
فعلم أنهم يفرقون بين توجه وجوههم في حال السجود إلى الأرض وتوجيه القلوب في حال الدعاء إلى من في السماء والقلوب حال الدعاء لا تقصد إلا العلو وأما الوجوه والأيدي فيتنوع حالها تارة تكون في حال السجود إلى جهة الأرض لكون ذلك غاية الخضوع وتارة تكون حال القيام مطرقة لكون ذلك أقرب إلى الخشوع وتارة تتوجه إلى السماء لتوجه القلب
وقد صح عن النبي ﷺ [ أنه نهى عن رفع البصر في الصلاة إلى السماء وقال لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم أبصارهم ]
وأما رفع البصر حال الدعاء خارج الصلاة ففيه نزاع بين العلماء وإنما نهي عن رفع البصر في الصلاة لأنه ينافي الخشوع المأمور به في الصلاة
قال تعالى: { فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر * خشعا أبصارهم } [ القمر: 6 - 7 ]
وقال: { يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون * خاشعة أبصارهم } [ المعارج: 43 - 44 ]
وقال: { وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي } [ الشورى: 45 ]
ورأى عمر رضي الله عنه رجلا يصلي وهو يلتفت فقال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه
فخشوع القلب يستلزم خشوع البصر وذله وذلك ينافي رفعه وفي اعتبار هذا في الدعاء نزاع ولهذا يوجد من يخاطب المعظم عنده لا يرفع بصره إليه ومعلوم أنه كانت الجهات بالنسبة إلى الله سواء لم نؤمر بهذا
الوجه الرابع
أن السجود من باب العبادة والخضوع للمسجود له كالركوع والطواف بالبيت وأما السؤل والدعاء ففيه قصد المسؤول المدعو وتوجيه القلب نحوه لا سيما عند الضرورة فإن السائل الداعي يقصد بقلبه جهة المدعو المسؤول بحسب ضرورته واحتياجه إليه
وإذا كان كذلك كان رفع رأسه وطرفه ويديه إلى جهة متضمن لقصده إياه في تلك الجهة بخلاف الساجد فإنه عابد ذليل خاشع وذلك يقتضي الذل والخضوع ليس فيه ما يقتضي توجيه الوجه واليد ونحوه لكن إن كان داعيا وجه قلبه إليه وهذا حجة من فرق بين رفع البصر في حال الصلاة وحال الدعاء
الوجه الخامس
أن يقال: قصد القلوب للمدعو في العلو أمر فطري عقلي اتفقت عليه الأمم من غير مواطأة وأما السجود فأمر شرعي يفعل طاعة للآمر كما تستقبل الكعبة حال العبادة طاعة للآمر
وحينئذ فالاحتجاج بما في فطر العباد من قصد من في العلو وهذا لا معارض له
تابع كلام الرازي في لباب الأربعين عن الجهة والعلو
قال ( واحتج الخصم أيضا بالآيات الواردة الموهمة للجهة كقوله تعالى: { الرحمن على العرش استوى } [ طه: 5 ] وقوله: { يخافون ربهم من فوقهم } [ النحل: 50 ] وقوله: { وهو القاهر فوق عباده } [ الأنعام: 61 ]
قال: ( والجواب أن الظواهر النقلية إذا عارضت الدلائل العقلية لم يمكن تصديقهما ولا تكذيبهما لامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما ولا تصديق النقل وتكذيب العقل لأن العقل أصل النقل فتكذيبه لتصديقه يوجب تكذيبهما فتعين تصديق العقل وتفويض علم النقل إلى الله أو الاشتغال بتأويل الظاهر )
الرد عليه
وجواب هذا أن يقال: القول بأن الله تعالى فوق العالم معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة بعد تدبر ذلك كالعلم بالأكل والشرب في الجنة والعلم بإرسال الرسل وإنزال الكتب والعلم بأن الله بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير والعلم بأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما بل نصوص العلو قد قيل إنها تبلغ مئين من المواضع
والأحاديث عن النبي ﷺ والصحابة والتابعين متواترة موافقة لذلك فلم يكن بنا حاجة إلى نفي ذلك من لفظ معين قد يقال إنه يحتمل التأويل ولهذا لم يكن بين الصحابة والتابعين نزاع في ذلك كما تنطق بذلك كتب الآثار المستفيضة المتواترة في ذلك وهذا يعلمه من له عناية بهذا الشأن أعظم مما يعلمون أحاديث الرجم والشفاعة والحوض والميزان وأعظم مما يعلمون النصوص الدالة على خبر الواحد والإجماع والقياس وأكثر مما يعلمون النصوص الدالة على الشفعة وسجود السهو ومنع نكاح المرأة على عمتها وخالتها ومنع ميراث القاتل ونحو ذلك مما يتلقاه عامة الأمة بالقبول
ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك لأنه عندهم معلوم بالاضطرار من الدين والأمور المعلومة بالضرورة عند السلف والأئمة وعلماء الدين قد لا تكون معلومة لبعض الناس: إما لإعراضه عن سماع ما في ذلك من المنقول فيكون حين انصرافه عن الاستماع والتدبر غير محصل لشرط العلم بل يكون ذلك الامتناع مانعا له من حصول العلم بذلك كما يعرض عن رؤية الهلال فلا يراه مع أن رؤيته ممكنة لكل من نظر إليه وكما يحصل لمن لا يصغي إلى استماع كلام غيره وتدبره لا سيما إذا قام عنده اعتقاد إن الرسول لا يقول مثل ذلك فيبقى قلبه غير متدبر ولا متأمل لما به يحصل له هذا العلم الضروري
ولهذا كان كثير من علماء اليهود والنصارى يؤمنون بأن محمدا رسول الله وأنه صادق ويقولون: إنه لم يرسل إليهم بل إلى الأميين لأنهم أعرضوا عن سماع الأخبار المتواترة والنصوص المتواترة التي تبين أنه كان يقول: إن الله أرسله إلى أهل الكتاب بل أكثرهم لا يقرون بأن الخليل بنى الكعبة هو وإسماعيل ولا أن إبراهيم ذهب إلى تلك الناحية مع أن هذا من أعظم الأمور تواترا لإعراضهم
وكثير من الرافضة تنكر أن يكون أبو بكر وعمر مدفونين عند النبي ﷺ وفي الغالية من يقول: إن الحسن والحسين لم يكونا ولدين لعلي وإنما ولدهما سلمان الفارسي وكثير من الرافضة لا تعلم أن عليا زوج بنته لعمر ولا أنه كان له ابن كان يسمى عمر
وأما دعوى التقية والإكراه فهذا شعار المذهب عندهم
وبعض المعتزلة أنكر وقعة الجمل وصفين وكثير من الناس لا يعلمون وقعة الحرة ولا فتنة ابن الأشعث وفتنة يزيد بن المهلب ونحوها من الوقائع المتواترة المشهورة
بل كثير من الناس بل من المنسوبين إلى العلم لا يعلمون مغازي رسول الله ﷺ المواترة المشهورة وترتيبها وما كان فيه قتال أو لم يكن فلا يعلمون أيما قبل: بدر أو أحد؟ وأيما قبل: الخندق أو خيبر؟ وأيما قبل: فتح مكة أو حصار الطائف؟ ولا يعلمون هل كان في تبوك قتال أو لم يكن؟ ولا يعلمون عدد أولاد النبي ﷺ: الذكور والإناث ولا يعلمون كم صام رمضان وكم حج واعتمر ولا كم صلى إلى بيت المقدس بعد هجرته؟ ولا أي سنة فرض رمضان؟ ولا يعلمون هل أمر بصوم يوم عاشوراء في عام واحد أو أكثر؟ ولا يعلمون هل كان يداوم على قصر الصلاة في السفر أم لا؟ ولا يعلمون هل كان يجمع بين الصلاتين وهل كان يفعل ذلك كثيرا أم قليلا؟
إلى أمثال هذه الأمور التي كلها معلومة بالتواتر عند أهل العلم بأحواله وغيرهم ليس عنده فيها ظن فضلا عن علم بل ربما أنكر ما تواتر عنه؟
ومعلوم أن أئمة الجهمية النفاة والمعتزلة وأمثالهم من أبعد الناس عن العلم بمعاني القرآن والأخبار وأقوال السلف وتجد أئمتهم من أبعد الناس عن الاستدلال بالكتاب والسنة وإنما عمدتهم في الشرعيات على ما يظنونه إجماعا مع كثرة خطئهم فيما يظنونه إجماعا وليس بإجماع وعمدتهم في أصول الدين على ما يظنونه عقليات وهي جهليات لا سيما مثل الرازي وأمثاله الذين يمنعون أن يستدل في هذه المسائل بالكتاب والسنة
واعتبر ذلك بما تجده في كتب أئمة النفاة مثل أبي الحسين البصيري وأمثاله ومثل أبي حامد والرازي وأمثالهما
فأبو الحسين البصيري وأمثاله من المعتزلة يعتمدون في أصول دينهم على أحاديث قد يجمعها عبد الوهاب بن أبي حية البغدادي فيها الكذب والضعف وأضعافها من الأخبار المتواترة لا يعرفونها البتة حتى يعتقدون أنه ليس في الرؤية إلا حديث جرير بن عبد الله البجلي عن النبي ﷺ أنه قال: [ أنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ] ويقولون: هذا لم يروه إلا قيس بن أبي حازم وكان يبغض عليا فيظنون أنه ليس في الرؤية إلا هذا الحديث
وأهل العلم بالحديث يعلمون أحاديث الرؤية متواترة أعظم من تواتر كثير مما يظنونه متواترا وقد احتج أصحاب الصحيح منها أكثر مما خرجوه في الشفعة والطلاق والفرائض وسجود السهو ومناقب عثمان وعلي وتحريم المرأة على عمتها وخالتها والمسح على الخفين والإجماع وخبر الواحد والقياس وغير ذلك من الأبواب الذين يقولون إن أحاديثها متواترة
فأحاديث الرؤية أعظم من حديث كل نوع من هذه الأنواع وفي الصحاح منها أكثر مما فيها من هذه الأنواع
مثل حديث أبي هريرة الطويل في تجليه يوم القيامة ومرورهم على الصراط وهو في الصحيح أيضا من حديث أبي سعيد ومن حديث جابر
وفي الصحيحين حديث أبي موسى في رؤيته في الجنة
وفي الصحيحين في حديث الشفاعة رؤيته لربه
وفي الصحيح حديث صهيب في رؤية أهل الجنة
وأما أحاديث العلو وما يتضمن هذا المعنى فأضعاف أضعاف أحاديث الرؤية
فأبو الحسين وأمثاله من المعتزلة وكذلك الغزالي والرازي وأمثالهما من فروع الجهمية هم من أقل الناس علما بالأحاديث النبوية وأقوال السلف في أصول الدين وفي معاني القرآن وفيما بلغوه من الحديث حتى أن كثيرا منهم لا يظن أن السلف تكلموا في هذه الأبواب
ومن كان له علم بهذا الباب علم أن كلام السلف في هذه المسائل الأصولية كمسائل العلو وإثبات الصفات الخبرية وغير ذلك أضعاف أضعاف كلامهم في مسائل الجد والإخوة والطلاق والظهار والإيلاء وتيمم الجنب ومس المحدث للمصحف وسجود السهو ومسائل الإيمان والنذور والفرائض وغير ذلك مما تواتر به النقل عنهم
وهذا الأصل قد بسطناه في مواضع مثل كلامنا في تواتر معجزات الرسول ﷺ وغير ذلك مما يحتاج إلى معرفة هذا الأصل وأنه قد يتواتر عند أهل العلم بالشيء ما لا يتواتر عند غيرهم
وأهل العلم بالحديث أخص الناس بمعرفة ما جاء به الرسول ومعرفة أقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان فإليهم المرجع في هذا الباب لا إلى من هو أجنبي عن معرفته ليس له معرفة بذلك ولولا أنه قلد في الفقه لبعض الأئمة لكان في الشرع مثل آحاد الجهال من العامة
فإن قيل: قلت إن أكثر أئمة النفاة من الجهمية والمعتزلة كانوا قليلي المعرفة بما جاء عن الرسول وأقوال السلف في تفسير القرآن وأصول الدين وما بلغوه عن الرسول ففي النفاة كثير ممن له معرفة بذلك
قيل: هؤلاء أنواع: نوع ليس لهم خبرة بالعقليات بل هم يأخذون ما قاله النفاة عن الحكم والدليل ويعتقدونها براهين قطعية وليس لهم قوة على الاستقلال بها بل هم في الحقيقة مقلدون فيها وقد اعتقد أقوال السلف أولئك فجميع ما يسمعونه من القرآن والحديث وأقوال السلف لا يحملونه على ما يخالف ذلك بل إما أن يظنوه موافقا لهم وإما أن يعرضوا عنه مفوضين لمعناه
وهذه حال مثل أبي حاتم البستي وأبي سعد السمان المعتزلي ومثل أبي ذر الهروي وأبي بكر البيهقي والقاضي عياض وأبي الفرج بن الجوزي وأبي الحسن علي ابن المفضل المقدسي وأمثالهم
والثاني: من يسلك في العقليات مسلك الاجتهاد ويغلط فيها كما غلط غيره فيشارك الجهمية في بعض أصولهم الفاسدة مع أنه لا يكون له من الخبرة بكلام السلف والأئمة من هذا الباب ما كان لأئمة السنة وإن كان يعرف متون الصحيحين وغيرهما
وهذه حال أبي محمد بن حزم وأبي الوليد الباجي والقاضي أبي بكر بن العربي وأمثالهم
ومن هذا النوع بشر المريسي ومحمد بن شجاع الثلجي وأمثالهما
ونوع ثالث سمعوا الأحاديث والآثار وعظموا مذهب السلف وشاركوا المتكلمين الجهمية في بعض أصولهم الباقية ولم يكن لهم من الخبرة بالقرآن والحديث والآثار ما لأئمة السنة والحديث لا من جهة المعرفة والتمييز بين صحيحها وضعيفها ولا من جهة الفهم لمعانيها وقد ظنوا صحة بعض الأصول العقلية للنفاة الجهمية ورأوا ما بينهما من التعارض
وهذا حال أبي بكر بن فورك والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وأمثالهم
ولهذا كان هؤلاء تارة يختارون طريقة أهل التأويل كما فعله ابن فورك وأمثاله في الكلام على مشكل الآثار
وتارة يفوضون معانيها ويقولون: تجري على ظواهرها كما فعله القاضي أبو يعلى وأمثاله في ذلك
وتارة يختلف اجتهادهم فيرجحون هذا تارة وهذا تارة كحال ابن عقيل وأمثاله
وهؤلاء قد يدخلون في الأحاديث المشكلة ما هو كذب موضوع ولا يعرفون أنه موضوع وما له لفظ يدفع الإشكال مثل أن يكون رؤيا منام فيظنونه كان في اليقظة ليلة المعراج
ومن الناس من له خبرة بالعقليات المأخوذة عن الجهمية وغيرهم وقد شاركهم في بعض أصولها ورأى ما في قولهم من مخالفة الأمور المشهورة عند أهل السنة كمسألة القرآن والرؤية فإنه قد اشتهر عند العامة والخاصة أن مذهب السلف وأهل السنة والحديث: أن القرآن كلام الله غير مخلوق وإن الله يرى في الآخرة فأراد هؤلاء أن يجمعوا بين نصر ما اشتهر عند أهل السنة والحديث وبين موافقة الجهمية في تلك الأصول العقلية التي ظنها صحيحة ولم يكن لهم من الخبرة المفصلة بالقرآن ومعانيه والحديث وأقوال الصحابة ما لأئمة السنة والحديث فذهب مذهبا مركبا من هذا وهذا وكلا الطائفتين ينسبه إلى التناقض
وهذه طريقة الأشعري وأئمة أتباعه كالقاضي أبي بكر وأبي إسحاق الإسفراييني وأمثالهما ولهذا تجد أفضل هؤلاء كالأشعري يذكر مذهب أهل السنة والحديث على وجه الإجمال ويحكيه بحسب ما يظنه لازما ويقول: إنه يقول بكل ما قالوه وإذا ذكر مقالات أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم حكاها حكاية خبير بها عالم بتفصيلها
وهؤلاء كلامهم نافع في معرفة تناقض المعتزلة وغيرهم ومعرفة فساد أقولهم وأما في معرفة ما جاء به الرسول وما كان عليه الصحابة والتابعون فمعرفتهم بذلك قاصرة وإلا فمن كان عالما بالآثار وما جاء عن الرسول وعن الصحابة والتابعين من غير حسن ظن بما يناقض ذلك لم يدخل مع هؤلاء: إما لأنه علم من حيث الجملة أن أهل البدع المخالفين لذلك مخالفون للرسول قطعا وقد علم أنه من خالف الرسول فهو ضال كأكثر أهل الحديث أو علم مع ذلك فساد أقوال أولئك وتناقضها كما علم أئمة السنة من ذلك ما لا يعلمه غيرهم كمالك وعبد العزيز الماجشون وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وسفيان بن عيينة وابن المبارك ووكيع بن الجراح وعبد الله بن إدريس وعبد الرحمن بن مهدي ومعاذ بن معاذ ويزيد بن هارون الواسطي ويحيى بن سعيد القطان وسعيد بن عامر والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم وأبي عبد الرحمن القاسم بن سلام ومحمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن حجاج النيسابوري والدارميين: أبي محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن وعثمان بن سعيد وأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين وأبي داود السجستاني وأبي بكر الأثرم وحرب الكرماني ومن لا يحصى عدده إلا الله من أئمة الإسلام وورثة الأنبياء وخلفاء الرسل
فهؤلاء كلهم متفقون على نقيض قول النفاة كما تواترت الآثار عنهم وعن غيرهم من أئمة السلف بذلك من غير خلاف بينهم في ذلك
الوجه الثاني
أن يقال نصوص ذلك صريحة لا تحتمل التأول بالتأويلات المذكورة في ذلك من جنس تأويلات القرامطة الباطنية وهي باطلة كما قد بين في موضعه بل معلومة الفساد بالضرورة كما بين بطلان تأويل كل من تأول ( استوى ) على غير ما يتضمن علوه على العرش مثل تأويله بالقدرة والمكانة أو غير ذلك
الوجه الثالث
أن يقال: لا نسلم أنه عارض ذلك دليل عقلي أصلا بل العقليات التي عارضتها هذه السمعيات هي من جنس شبه السوفسطائية التي هي أوهام وخيالات غير مطابقة وكل من قالها لم يخل من أن يكون مقلدا لغيره أو ظانا في نفسه وإلا فمن رجع في مقدماتها إلى الفطر السليمة واعتبر تأليفها لم يجد فيما يعارض السمعيات برهانا مؤلفا من مقدمات يقينية تأليفا صحيحا وجمهور من تجده يعارض بها أو يعتمد عليها إذا بينت له فسادها وما فيه من الاشتباه والالتباس قال: هذه قالها فلان وفلان وكانوا فضلاء فكيف خفي عليهم مثل هذا؟ فينتهون بعد إعراضهم عن كلام المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى وإجماع سلف الذين لا يجتمعون على ضلالة ومخالفة عقول بني آدم التي فطرهم الله عليها إلى تقليد رجال يقولون: إن هذه القضايا عقلية برهانية وقد خالفهم في ذلك رجال آخرون من جنسهم مثلهم وأكثر منهم وعامة من تجده من طلبة العلم المنتسبين إلى فلسفة أو كلام أو تصوف أو فقه أو غير ذلك إذا عارض نصوص الكتاب والسنة بما يزعم أنه برهان قطعي ودليل عقلي وقياس مستقيم وذوق صحيح ونحو ذلك إذا حاققته وجدته ينتهي إلى تقليد لمن عظمه إذا كان من الأتباع أو إلى ما افتراه هو - أو توهمه - إن كان من المتبوعين وللطائفتين نصيب مما ذكره الله في أشباههم
قال تعالى: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب * إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب * وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار } [ البقرة: 165 - 167 ]
وقال تعالى: { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا } [ الفرقان: 27 - 29 ]
وقال تعالى: { يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا } [ الأحزاب: 66 - 68 ]
وقال تعالى: { وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار * قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد } [ غافر: 47 - 48 ]
الوجه الرابع
أن يقال: لا نسلم أنه بتقدير ما يذكر من التعارض لا يمكن تصديقهما بل يمكن ذلك فإن ما ينفيه صريح العقل من صفات النقص وإثبات المماثلة بين الخالق وصفاته والمخلوق وصفاته لم يثبته السمع الصحيح وما أثبته السمع الصحيح الصريح لم ينفه عقل صريح
وحينئذ فلا يجوز أن يتعارض العقل الصريح والسمع الصحيح وإنما يظن تعارضهما من غلط مدلولهما أو مدلول أحدهما كمن يعارض الدلالات العقلية الصريحة من السوفسطائية وأمثالهم وكمن يظن تعارض الأدلة السمعية من الملاحدة
وكثيرا ما يشتبه ذلك وتتعارض الدلالتان عند من يكن السفسطة والإلحاد لشبه قامت به فتكون الآفة من إدراكه لا من المدرك كالأحول الذي يرى الواحد اثنين والممرور الذي يجد الحلو مرا وإلا فالسمع الصحيح هو القول الصادق من المعصوم الذي لا يجوز أن يكون في خبره كذب لا عمدا ولا خطأ والمعقول الصحيح هو ما كان ثابتا أو منتفيا في نفس الأمر لا بحسب إدراك شخص معين وما كان ثابتا أو منتفيا في نفس الأمر لا يجوز أن يخبر عنه الصادق بنقيض ذلك بل من شهد الكائنات على ما هي عليه وجدها مطابقة لخبر الصادق
كما قال تعالى: { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } [ فصلت: 53 ] فأخبر أنه سيريهم من الآيات العيانية المشهودة لهم ما يبين لهم أن القرآن حق
وقال تعالى: { ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد } [ سبأ: 6 ] فمن أوتي العلم رأى أن ما أنزل إليه من ربه هو الحق وأما من كان عنده ما يظنه علما - وهو جهل - فذلك يرى الأمر على خلاف ما هو عليه مثل من زاغ فأزاغ الله قلبه وكان في قلبه مرض فزاده الله مرضا وممن يقلب الله أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ومن الصم البكم العمي الذين لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهدى أو لم يكونوا يعقلون بحال
وأمثال هؤلاء قال تعالى فيهم: { والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم } [ الأنعام: 39 ]
وقد ضرب الله مثل هؤلاء وهؤلاء في غير موضوع من القرآن كسورة النور وغيرها
الوجه الخامس
أن يقال: لا نسلم أن تصديق النقل المثبت لعلو الله على خلقه وتكذيب ما يناقض ذلك مما يسمى معقولا يوجب القدح في أصل النقل كما في قوله: ( لأن العقل أصل للنقل فتكذيبه لتصديقه موجب لتكذيبهما )
قلنا: لا نسلم أن المعقول النافي لعلو الله على خلقه أصل للنقل فإنه ليس كل ما يسمى معقولا ولا كل ما يعلم بالعقل يتوقف العلم بصحة السمع عليه فتلك الأمور التي لا يتوقف العلم بصحة السمع عليها ليست أصلا للسمع ولا يجوز أن يقال جنس المعقول به يعلم بالسمع فلا يجوز أن يرد شيئا منه فإن العقلاء متفقون على أن جنس المعقولات لا يلزم من تكذيب بعضها تكذيب السمع وإن قدر أنها عقليات صحيحة مثل مسائل الحساب الدقيقة وغيرها فإنها مع كونها عقليات صحيحة لا يلزم من القدح فيها في السمع فكيف بالمعقولات التي فيها خطأ كثير وتنازع عظيم
بل كل من كان عن الشرائع أبعد كان اضطرابهم في عقلياتهم أكثر كالفلاسفة فإن بينهم من الاختلاف في عقلياتهم - حتى في المنطق والهيئة والطبيعيات - ما لا يكاد يحصى وكلامهم في الإلهيات قليل وعلمهم بها ضعيف ومسائلها عندهم يسيرة وهي مع هذا عندهم لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقي ولا سمين فينتقل
وأساطينهم معترفون بأنه لا سبيل لهم إلى اليقين فيها وإنما يتكلمون فيها بالأولى وألا خلق وهم مع هذا متنازعون فيها أعظم من تنازع كل فرقة من مبتدعة أهل الملل في الأمور الإلهية
وإذا كان جنس ما يسميه هؤلاء عقليات فيه خطأ كثير باتفاق الناس وبالضرورة لم يمكن أن يقبل جنس ما يقال له عقليات فضلا عن أن يعارض به ولو قبل جنس ما يقال له عقليات كله للزم من الجميع بين النقيضين ما شاء الله
فنفاة الجزء - الذي هو الجوهر الفرد - ومثبتوه كل منهم يقول: إن ذلك معلوم بالعقل والقائلون ببقاء بعض الأعراض مع القائلين بفنائها والقائلون بتماثل الأجسام مع القائلين باختلافها والقائلون بوجوب تناهي الحوادث مع القائلين بعدم جواز تناهيها وأضعاف ذلك
بل العقليات الصحيحة: ما كان معقولا للفطر السليمة الصحيحة الإدراك التي لم يفسد إدراكها وهذا القدر لا يزال موجودا في بني آدم وإن فسد رأي القوم لم يلزم فساد رأي آخرين
لكن إذا تنازع الناس وادعى كل فريق أن قولنا هو الذي تشهد به الفطر السليمة لم يفصل بينهم إلا ما يتفقون على صدق شهادته: إما كتاب منزل من السماء يحكم بينهم وإما شهادة فطر تقر الطائفتان أنها صحيحة الإدراك صادقة الخبر فلا يحكم بين المتنازعين إلا حاكم يسلمان لحكمه
والمقصود هنا أنه لا يقول عاقل: إن كل ما يسمى معقولا يجوز قبوله فضلا عن أن يجب فضلا عن أن يعارض به معقول آخر فضلا عن أن يعارض به كتاب منزل من عند الله
وإذا كان كذلك لم يكن في رد كثير مما يسمى معقولا رد لسائرها فإذا رد مما يسمى معقولا ما لا يتوقف العلم بصحة السمع عليه لم يكن في هذا رد للأصل المعقول الذي به يعلم السمع وهو المطلوب
وإذا كان كذلك فالمعقول المذكور هنا الذي عارضوا به الآيات الإلهية والأحاديث النبوية - هو ما ذكروه في نفي علو الله على خلقه وليس شيء من ذلك مما يحتاج في العلم بصحة السمع إليه فإن إثبات موجود لا يمكن أن يشار إليه ولا يكون داخل العالم ولا خارجه ومقدمات ذلك مستلزمه له لا يتوقف العلم بصحة السمع على شيء من ذلك فإن نعلم بالاضطرار بعد تأمل أحوال النبي ﷺ وأصحابه التابعين لهم بإحسان أن الذين أمنوا بالرسول وجزموا بصدقه - وهم باتفاق المسلمون أعلم الأمة بصدقه والصدق ما أخبر به وصحة ذلك - لم يكونوا في إيمانهم وعلمهم بصدقه يستدلون بشيء من هذه المقدمات على صحة ذلك ولو مناظرين به أحدا ولا يقيمون بها حجة على غيرهم فضلا عن أن يكونوا هم لم يعلموا صدقه إلا بعد العلم بهذه المقدمات المستلزمة لوجود موجود لا يشار إليه وأن صانع العلم ليس بداخل العلم ولا خارجه ولا فوق العالم رب ولا على العرش إله
ومما يوضح ذلك أن نعلم بالعادة المطردة أن القضايا التي بها علموا أنه رسول الله الصادق فيما يخبر به الله لو كانت مستلزمة لقول نفاة العلو وأن الله ليس مباينا للعالم ولا هو فوق السماوات ولا يمكن الإشارة إليه ولا عرج أحد من الملائكة ولا محمد إليه نفسه ولا نزل من عنده نفسه شيء: لا ملك ولا غيره - لكانت هذه اللوازم تحصل في نفوسهم كما حصلت على أنفس غيرهم ولا سيما مع كثرة الخلق وانتشار الإسلام ودخول الناس في دين الله أفواجا ولو كانت هذه القضايا مستقرة في أنفسهم لامتنع فيه العادة أن يتكلموا بها فضلا عن أن يتكلموا بنقيضها ولو وجب في العادة أن يعارضوا بها ما دل عليه ظاهر السمع لكانوا يسألونه ويقولون: ما دلت عليه هذه الآيات والأحاديث التي أخبرتنا بها يناقض هذه القضايا التي علمنا بها أنك رسول الله الصادق عليه فما يمكننا أن نجمع بين تصديقك في دعوى الرسالة وبين الإخبار بهذه الأمور بل تصديقك في دعوى الرسالة التي يقتضي تكذيب مقتضى هذه الأخبار فكيف نصنع؟ هل لها تأويل يوافق ما به علما أنك صادق؟: أم نحن مأمورون بأن نقرأ ما ظاهره كفر وكذب يقدح في أصول إيماننا ونعرض بقلوبنا وعقولنا عن فهم ذلك وتدبره والنظر فيه؟
وهذا فيه عذاب عظيم للعقول وفساد عظيم في القلوب إذا كان الرجل مأمورا أن يقرأ في الليل والنهار كلاما يقرأ به في صلاته وغير صلاته ويجزم بأنه صدق لا كذب وأن من كفر بحرف منه فهو كافر وذلك الكلام مشتمل على أن أخبارها ظاهرها ومفهومها يناقض ما به علم وصدق ذلك الكلام بل هو باطل وضلال وكفر فيورثه ذلك الحيرة والاضطراب ويمرض قلبه أعظم مرض ويكون تألمه لذلك ووجع قلبه أعظم بكثير من مرض بدنه ووجع يده ورجله فإنه حينئذ إن قبل ما به صدق هذا الرسول قدح في الكلام الذي أخبر أنه حق وصدق فيكون ذلك الدليل الذي دله على صدقه دله على كذب المفهوم من أخباره وإن صدق المفهوم من أخباره أبطل شاهد صدقه
ومن المعلوم أن أخباره لو عارضت معقولا لهم غير ما به علموا صدقه لأوجب ذلك من الحيرة والألم والفساد ما لا يعلمه إلا الله فكيف إذا كان المعارض له ما به علموا صدقه؟
وقد كان الصحابة يسألون رسول الله ﷺ ويسأل بعضهم بعضا عن أدنى شبهة تعرض في خطابه وخبره مثل ما كان يوم الحديبية لما صالح النبي ﷺ مشركي مكة على أن يرجع ذلك العام بأصحابه الذين قدموا معه معتمرين وبايعهم بيعة الرضوان تحت الشجرة وهم السابقون الأولون وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة فصالح المشركين على أن يرجع بهم ذلك العام ويرد إلى المشركين ما جاءه مؤمنا مهاجرا ولا يرد المشركون من ذهب إليهم مرتدا وامتنعوا من أن يكتبوا في كتاب الصلح: ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وأن يكتبوا: هذا ما قضى عليه محمد رسول الله وأمثال ذلك
والمقصود أن كثيرا من الصحابة اشتد عليهم ذلك وأجلهم عمر فجاء إلى النبي ﷺ: ( فقال: يا رسول الله ألسنا على حق وعدونا على باطل؟ قال: بلى قال فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال: إني رسول الله وهو ناصري ولست أعصيه فقال: ألم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به؟ فقال بلى أقلت لك إنك تأتيه هذا العام؟ قال: لا قال: فإنك آتيه ومطوف به ) ثم ذهب عمر إلى أبي بكر فقال له مثل ما قال للنبي ﷺ وأجابه أبو بكر بمثل ما أجابه النبي ﷺ من غير أن يكون سمع جواب النبي ﷺ
والقصة مستفيضة رواها أهل الصحيح والمسند والمغازي والسير والتفسير والفقه وسائر العلماء
فهذا عمر وهو الذي قال فيه النبي ﷺ: [ أنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر ] أخرجاه في الصحيحين
وقال: [ إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه ]
وقال: [ لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر ] رواه الترمذي
إلى غير ذلك من فضائله وقد اشتبه عليه معنى نص وليس ظاهره ينافي الواقع فإن الله تعالى قال: { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين } [ الفتح: 27 ]
وكان النبي ﷺ أخبرهم بذلك قبل نزول الآية خبرا مطلقا من المعلوم باتفاق الفقهاء أن الرجل إذا قال: والله لأفعلن كذا وكذا ولم يكن هنا سبب ولا نية توجب التعجيل كان له أن يؤخره إلى وقت آخر فلم يكن في ظاهر خطاب الله ورسوله ما يقتضي تعجيل إتيان البيت والطواف به
ومع هذا لما ظن هذا الذي هو أفضل الأمة بعد أبي بكر أن ظاهره يقتضي التعجيل أورده على النبي ﷺ ثم على صديقه وأجاب كل منهما في مغيب الآخر بأنه ليس في الخطاب ما يقتضي التعجيل وإنما الذي فهم ذلك من الخطاب غلط في فهمه فالغلط منه لا لنقص في دلالة الخطاب
وأيضا ففي الصحيح أنه قال ﷺ: [ من نوقش الحساب عذب قالت عائشة: فقلت يا رسول الله أليس الله يقول في كتابه: { فسوف يحاسب حسابا يسيرا } [ الانشقاق: 8 ] فقلت: ذلك العرض ومن نوقش الحساب عذب ]
ومعلوم أن قوله: { فسوف يحاسب حسابا يسيرا } [ الانشقاق: 8 ] لا يدل ظاهره على أن المحاسب يناقش بل الظاهر من لفظ الحساب اليسير أنه لا تكون فيه مناقشة ومع هذا فلما قال: من نوقش عذب فظنت امرأة تحبه ويحبها - وهي أحب النساء إليه وأبوها احب الرجال إليه - أن ظاهر خطابه يعارض تلك الآية - سألته عن ذلك ولم تسكت
وكذلك في الحديث الصحيح أنه قال: [ والذي نفسي بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة قالت حفصة: فقلت يا رسول الله: أليس الله يقول: { وإن منكم إلا واردها } [ مريم: 71 ] فقال: ألم تسمعيه قال: { ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا } [ مريم: 72 ] ]
وقد بين في الحديث الصحيح الذي رواه جابر وغيره أن الورود هو المرور على الصراط ومعلوم أنه إذا كان قد أخبرهم أن جميع الخلق يعبرون الصراط ويردون النار بهذا الاعتبار لم يكن قوله لهم: فلان لا يدخل النار منافيا لهذا العبور ولهذا قال لها: ألم تسمعيه قال: { ثم ننجي الذين اتقوا } فأخبرها أن هذا الورود لا ينافي عدم الدخول الذي أخبرت به فالذين نجاهم الله بعد الورود - الذي هو العبور - لم يدخلوا النار
ولفظ الورود والدخول قد يكون فيه إجمال فقد يقال لمن دخل سطح الدار: أنه دخلها ووردها وقد يقال لمن مر على السطح ولم يثبت فيها: إنه لم يدخلها فإن قيل: فلان ورد هذا المكان الرديء ثم نجاه الله منه وقيل فلان: لم يدخله الله إياه كان كلا الخبرين صدقا لا منافاة بينهما
وقوله تعالى: { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا * ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا } [ مريم: 71 - 72 ] بيان فيه نعمة الله على المتقين: أنهم مع الورود والعبور عليها وسقوط غيرهم فيها نجوا منها والنجاة من الشر لا تستلزم حصوله بل تستلزم انعقاد سببه فمن طلبه أعداؤه ليهلكوه ولم يتمكنوا منه يقال: نجاه الله منهم
ولهذا قال تعالى: { ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم } [ الأنبياء: 76 ]
ومعلوم أن نوحا لم يغرق ثم خلص بل نجي من الغرق الذي أهلك الله به غيره
كما قال: { فأنجيناه وأصحاب السفينة } [ العنكبوت: 15 ]
وكذلك قوله عن لوط: { ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث } [ الأنبياء: 74 ]
ومعلوم أن لوطا لم يصبه العذاب الذي أصابهم من الحجارة والقلب وطمس الأبصار
وكذلك قوله: { ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ } [ هود: 58 ] وقوله: { فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ } [ هود: 66 ]
وأمثال ذلك يبين سبحانه أنه نجى عباده المؤمنين من العذاب الذي أصاب غيرهم وكانوا معرضين له لولا ما خصهم الله من أسباب النجاة - لأصابهم ما أصاب أولئك
فلفظ ( النجاة من الشر ) يقتضي انعقاد سبب الشر لا نفس حصوله في المنجى
فقوله تعالى: { ثم ننجي الذين اتقوا } [ مريم: 72 ] لا يقتضي أنهم كانوا معذبين ثم نجوا لكن يقتضي أنهم كانوا معرضين للعذاب الذي انعقد سببه وهذا هو الورود
فقوله ﷺ: [ لن يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة ] لا ينافي هذا الورود فإن مجرد الورود ليس بعذاب بل هو تعريض للعذاب وهو إنما نفى الدخول الذي هو العذاب لم ينف التقريب من العذاب ولا انعقاد سببه ولا الدخول على سطح مكان العذاب
ومع هذا لما اشتبه ذلك على امرأته سألته عن ذلك وذكرت ما يعارض خبره في فهمها ولم تسكت وقد كان يفعل الأمر فيسألونه: هل هو بوحي فيجب طاعته؟ أو هو رأي يمكن معارضته برأي أصلح منه؟ ويشيرون عليه في الرأي برأي آخر فيقبل منهم ويوافقهم كما سأله الحباب بن المنذر لما نزل ببدر فقال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل الذي نزلته: أهو منزل أنزلكه الله فليس لنا أن نتعداه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: ( بل هو الرأي والحرب والكيدة ) فقال: ليس هذا بمنزل قتال
ولما صالح غطفان عام الخندق على نصف ثمر المدينة لما تألبت عليهم الأحزاب: من قريش وحلفائها وأهل نجد وجموعهم وبني قريظة اليهود جيران المدينة وكانت تلك القضية من أعظم البلاء والمحنة وفيها أنزل الله سورة الأحزاب فلما صالحهم على نصف ثمرها قال له سعد ما مضمونه: إن كان الله أمرك بهذا سمعنا وأطعنا وإن كان رأيا منك أردت به مصلحتنا فقد كنا في الجاهلية وما أحد منهم ينال منها ثمرة إلا بشرى أو قرى فحين أعزنا الله بالإسلام نعطيكم ثمرنا؟ أو كما قال: فبين له النبي ﷺ: ( [ إني لما رأيت الأعداء قد تحزبوا عليكم خشيت أن تضعفوا عنهم فرأيت أن أدفع هؤلاء ببعض الثمر فإذا كنتم ثابتين صابرين فلا حاجة إلى هذا ) ]
وفي الصحيح [ أنهم كانوا في بعض الأسفار فنفد زادهم فاستأذنوه في نحر ظهرهم - وهي الإبل التي يركبونها - فأذن لهم فأتاه عمر وأخبره أنهم إن نحروا ظهرهم تضرروا بذلك وطلب أن تجمع أزوادهم ويدعوا فيها بالبركة ليغنيهم الله بذلك عن نحر ظهرهم ففعل ذلك ]
وكذلك في الصحيح [ أنه أعطى أبا هريرة نعله ليبشر الناس بأن الموحدين في الجنة فلقيه عمر فرده وقال النبي ﷺ: ( إنهم إذا سمعوا ذلك اتكلوا فترك ذلك ) ]
بل كان يأمرهم بالأمر الذي يجب عليهم طاعته فيعارضه بعضهم بما لا يصلح للمعارضة فيجيبهم ( فإن في الصحيح [ أنه نهاهم عن الوصال فقالوا: إنك تواصل فقال: إني لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي ويطعمني ويسقيني ) ]
ومعلوم أن هذه معارضة فاسدة لو أوردها بعض طلبة الفقهاء أجابه آخر بأن أمره ونهيه يجب طاعته فيه وحكمه لازم للأمة باتفاق المسلمين بل ذلك معلوم بالاضطرار من دينه وإن كان بعض الناس ينازع في الأمر المطلق: هل يفيد الإيجاب أم لا؟ فلم ينازع في أنه إذا بين في الأمر أنه للإيجاب يجب طاعته ولا أنه إذا صرح ابتداء بالإيجاب تجب طاعته
ولكن نزاعهم في مراده بالأمر المطلق: هل يعلم به أنه أراد به الإيجاب؟ فهذا نزاع في العلم بمراده لا نزاع في وجوب طاعته فيما أراد به الإيجاب فإن ذلك لا ينازع فيه إلا مكذب به
والمقصود أن حكم النهي لازم للأمة وأما فعله فقد يكون مختصا به باتفاق الأمة بل قد تنازعوا في تعدي حكم فعله إلى غيره على ما هو معروف فإذا أمر المسلمين أو نهاهم أمرا ونهيا علموا به مراده لم يكن لأحد منهم أن يعارض ذلك بفعله باتفاق العلماء وإنما يتكلمون في تعارض دلالة القول والفعل إذا لم يعلموا مراده بالقول كما تكلموا في [ نهيه عن استقبال القبلة واستدبارها بغائط أو بول ] [ مع أنه قد رآه ابن عمر مستقبل الشام مستدبر الكعبة وهو يتخلى ]
فهنا قد يظن بعضهم أن نهيه ليس عاما بل خاص إذا لم يكن حائل ويوفق بين القول والفعل ويظن بعضهم الفرق بين الاستقبال والاستدبار ويظن بعضهم أن أحدهما منسوخ لاعتقاده التعارض ويظن بعضهم أن الفعل خاص له فهذا كله لعدم علمهم بأن النهي عام محكم وأما إذا علموا أن نهيه عام محكم غير منسوخ كانوا متفقين على أنه لا يعارض بفعله فتبين أن من عارض نهيه عن الوصال بقوله: إنك تواصل كانت معارضته خطأ باتفاق العلماء ومع هذا فقد أجابه ببيان الفرق وقال: [ إني لست كأحدكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ]
[ بل لما غير عادته يوم الفتح فصلى الصلوات بوضوء واحد سأله عمر فقال: إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله فقال: عمدا فعلته ]
هذا وأمثاله كثير هذا من المؤمنين به المحبين له فأما معارضة الكفار بما لا يصلح للمعارضة - عند أهل النظر والخبرة بالمناظرة - على سبيل الجدل بالباطل فكثيرة مثل معارضتهم لله لما نزل قوله تعالى: { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } [ الأنبياء: 98 ] فقام ابن الزبعري وغيره فقالوا: قد عبد المسيح فآلهتنا خير أم هو؟
فأنزل الله تعالى: { ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون } [ الزخرف: 57 ]: إي يضجون
{ وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون * إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل } [ الزخرف: 58 - 59 ]
وأنزل الله تعالى: { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون * لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون } [ الأنبياء: 101 - 102 ] وقد ظن طائفة من الناس أن قوله { وما تعبدون } [ الأنبياء: 98 ] لفظ يعم كل معبود من دون الله لكل أمة فيتناول المسيح وغيره وجعلوا هذا مما استدلوا به على عموم الأسماء الموصوفة مثل ( من ) و( ما ) و( الذي ) واستدل بذلك بعضهم على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب
قالوا: لأن اللفظ عام وأخر بيان المخصص إلى أن نزل قوله: { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } [ الأنبياء: 101 ]
وهذا خطأ ولو كان قول هؤلاء صحيحا لكانت معارضته المشركين صحيحة فإن من سمع اللفظ العام ولم يسمع المخصص فأورد على المتكلم كان إراده مستقيما
وهذا سوء ظن ممن قاله بكلام الله ورسوله وحسن ظن المشركين ولكن هؤلاء وأمثالهم الذين يجعلون المفهوم المعقول الظاهر من القرآن مردودا بآرائهم كما رده المشركون بالمسيح فإن قول المشركين إن المسيح لا يدخل النار والملائكة لا تدخل النار كلام صحيح أصح مما يعرض به المعارضون لكلام الله ورسوله
فإن كانت معارض ابن الزبعري باطلة فمعارضة هؤلاء أبطل وهي باطلة قبل نزول القرآن وقبل رد الله عليهم وما نزل من القرآن كان مبينا لبطلانها الذي هو ثابت في نفسه يمكن علمه بالعقل فإن الله إنما خاطب بقوله: { إنكم وما تعبدون من دون الله } [ الأنبياء: 98 ] المشركين الذين يعبدون الأوثان لم يخاطب بذلك أهل الكتاب
بل الآيات المكية عامتها خطاب لمن كذب الرسل مطلقا وأما ما يخاطب به من صدق جنس الرسول من أهل الكتاب والمؤمنين ففي السور المدنية
والقرآن قد فصل بين المشركين وأهل الكتاب في غير موضع كقوله: { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } [ البينة: 1 ]
وقوله: { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا } [ الحج: 17 ]
وقوله لهم: { إنكم وما تعبدون من دون الله } [ الأنبياء: 98 ]
الوجه الخامس
بمنزلة قوله: { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين } [ الأنعام: 156 ]
وبمنزلة قوله: { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا } [ فاطر: 42 ]
وأمثال ذلك مما فيه ضمير المخاطب والغائب وهو متناول لأولئك المشركين لكن يتناول غيرهم من جهة المعنى والاعتبار وتماثل الحالين
فلما قال تعالى: { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون } [ الأنبياء: 98 - 99 ] دليل على انتفاء الإلهية فإن الإله لا يدخل النار والدليل لا ينعكس فلا يلزم أن يكون من لم يدخل النار إلها فمن ورد النار لم يكن إلها وليس كل من لا يردها إله
لكن كانت معرضة الزبعري وأشباهه من جهة المعنى والقياس والاعتبار أي إذا كانت آ لهتنا دخلوا النار لكونهم معبودين وجب أن يكون كل معبود يدخل النار والمسيح معبود فيجب أن يدخلها فعارضوه بالقياس والقياس مع وجود الفارق المؤثر قياس فاسد فبين الله الفرق بأن المسيح عبد حي مطيع لله لا يصلح أن يعبد لأجل الانتقام من غيره بخلاف الأوثان فإنها حجارة فإذا عذبت لتحقيق عدم كونها آلهة وانتقاما ممن عبدها كان ذلك مصلحة ليس فيها عقوبة لمن لا يصلح أن يعاقب
ولهذا قال تعالى: { ولما ضرب ابن مريم مثلا } [ الزخرف: 57 ] أي جعلوه مثلا لآلهتهم فقاسوها به فهذا حال من عارض النص الخبري بالقياس الفاسد وهو حال الذين يعارضون النصوص الإلهية بأقيستهم الفاسدة فيقولون: لو كان له علم وقدرة ورحمة وكلام وكان مستويا على عرشه للزم أن يكون مثل المخلوق الذي له علم وقدرة ورحمة وكلام ويكون مستويا على العرش ولو كان مثل المخلوق للزم أن يجوز عليه الحدوث وإذا جاز عليه الحدوث امتنع وجوب وجوده وقدمه
فهذا من جنس معارضة ابن الزبعري حيث قاس ما أخبر الله عنه بشيء آخر ليس مثله بل بينهما فرق والفرق بين الله وبين مخلوقاته أعظم من الفرق بين المسيح وبين الأوثان فإن كلاهما مخلوق لله تعالى
وأما قياس الخالق بالمخلوق وقول القائل: لو كان متصفا بالصفات والأفعال القائمة به لكان مماثلا للمخلوق المتصف بالصفات والأفعال القائمة به - ففي غاية الفساد فإن تشابه الشيئين من بعض الوجوه لا يقتضي تماثلهما في جميع الأشياء فإذا كان المسيح المشابه لآلهتهم في وجوه كثيرة لا تكاد تحصى - مثل كون هذا كان معدوما وهذا كان معدوما وهذا محدث ممكن وهذا محدث ممكن وهذا مفتقر إلى غيره وهذا مفتقر إلى غيره وهذا يقدر عليه غيره وهذا يقدر عليه غيره وهذا تعترض عليه الآفات والعلل كالتفريق والتجزئة والتبعيض وهذا تعترض عليه الآفات والعلل كالتفريق والتجزئة والتبعيض وهذا يمكن إفساده واستحالته وهذا يمكن إفساده واستحالته وأمثال ذلك من الأمور التي يجب تنزيه الرب عنها - فمع اشتراكهما في هذه الأمور التي يجب تنزع الرب عنها لم يصح قياس أحدهما بالآخر ولا أن يثبت له من الحكم ما ثبت له وإن كانا قد اشتركا في هذه الأمور
فالخالق سبحانه الذي يفارق غيره بأعظم مما فارق به المسيح آلهتهم هو أولى وأحق بأن لا يمثل بخلقه لأجل موافقته في بعض الأسماء والصفات إذ أصل هذا القياس الفاسد أن الشيئين إذا اشتركا وتشابها في بعض الأشياء لزم اشتراكهما وتماثلهما في غير ذلك مما ليس من لوازم المشترك وهذا كله خطأ فاحش وبعضه أفحش من بعض فالشيئان إذا اشتركا في شيء لزم أن يشتركا في لوازمه فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم فأما ما ليس من لوازمه فلا يجب اشتراكهما فيه
فكون المعبود من حصب جهنم ليس من لوازم كونه معبودا بل من لوازم كونه معبودا يصلح دخوله النار والمسيح ونحوه لا يصلح دخولهم النار
وكذلك ثبوت الوجود والحياة والعلم والقدرة والاستواء والنزول ونحو ذلك من الأمور التي يوصف بها الخالق والمخلوق ليس من لوازمها الإمكان والحدوث والآفات والنقائص فإن الإمكان من لوازم ما ليس واجبا بنفسه والحدوث من لوازم المعدوم وإمكان الآفات والنقائص من لوازم ما يقبل ذلك
وهذه الصفات صفات كمال لا تستلزم الآفات بل قد تكون منافية للآفات والنقائص والمنافي للشيء لا يكون من لوازمه بل هو مناقض للوازمه فكيف يجعل المنافي كالملازم؟
والمقصود أن المشركين كانوا يعارضون الرسول بما يتخيلونه مناقضا لقوله وإن لم يكن في ظاهر قوله ما يناقض: لا معقولا ولا منقولا فكيف إذا كان ظاهر قوله يناقض صريح المعقول الذي عليه أئمة أرباب العقول لا سيما إذا كان ذلك المعقول هو الذي لا يمكن تصديقه إلا به؟ فإذا كان قد أظهر ما يطعن في دليل صدقه وشاهده كان معارضته بذلك أولى الأشياء
وكذلك أيضا لما أخبرهم بالإسراء وشجرة الزقوم أنكر ذلك طائفة منهم وزعموا أن العقل ينافي ذلك وأنزل الله تعالى: { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن } [ الإسراء: 60 ]
وفي الصحيح عن ابن عباس أنه قال: [ هي رؤيا عين أريها رسول الله ﷺ ليلة أسري به ]
قال تعالى: { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير } [ الإسراء: 1 ]
وقال: { أفتمارونه على ما يرى * ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى } [ النجم: 12 - 16 ]
وقال تعالى: { وما صاحبكم بمجنون * ولقد رآه بالأفق المبين * وما هو على الغيب بضنين * وما هو بقول شيطان رجيم } [ التكوير: 22 - 25 ]
فإذا كان ما أخبرهم به من رؤية الآيات التي أراها الله إياها ليلة الإسراء قد أنكروها وكذبوه لأجلها واستبعدوا ذلك بعقولهم مع أن ذلك ليس ممتنعا في العقل فكيف بما هو ممتنع في صريح العقل
وكذلك أيضا أنكروا أن يبعث الله بشرا رسولا وجعلوا ذلك منكرا ممتنعا في عقولهم
كما قال تعالى: { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا } [ الإسراء: 24 ]
وقال: { أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس } [ يونس: 2 ]
وقال تعالى: { وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا } [ الفرقان: 41 ]
وقال تعالى: { وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون * ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون } [ الأنعام: 9 ]
وقال تعالى: { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } [ الأنعام: 91 ]
وقد حكى نحو ذلك عمن تقدم من الكفار كقول قوم فرعون: { أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون * فكذبوهما فكانوا من المهلكين } [ المؤمنون: 47 - 48 ]
وقول قوم نوح: { ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا } [ هود: 27 ]
وقالت أصناف الأمم لرسلهم: { إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا } [ إبراهيم: 10 ]
حتى قالت الرسل: { إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده } [ إبراهيم: 11 ] وأمثال هذا
فقد ذكر عن المشركين أنهم أنكروا إرسال رسول من البشر ودفعوا ذلك بعقولهم
وهذا قول من يجحد النبوات من البراهمة مشركي الهند وغيرهم ولهم شبه معروفة يزعمون أنها براهين عقلية تقدح في جواز إرسال الرسل
ولهذا قال تعالى: { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى } [ يوسف: 109 ]
وقال: { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } [ النحل: 43 ]
وقال: { قل ما كنت بدعا من الرسل } [ الأحقاف: 9 ] وأمثال ذلك
وكذلك لما أخبرهم بالمعاد عارضوه بعقولهم وقد ذكر الله تعالى من حججهم التي احتجوا بها في إنكار المعاد ما هو مذكور في القرآن
كقوله تعالى: { وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون * أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم } [ يس: 78 - 81 ]
وقد ذكر طعنهم في الرسالة والمعاد جميعا في قوله تعالى: { ق والقرآن المجيد * بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب * أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد * قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ } [ ق: 1 - 4 ]
ثم ذكر الأدلة عليهم إلى قوله: { أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد } [ ق: 15 ]
وهذه السورة قد تضمنت من أصول الإيمان ما أوجبت أن النبي ﷺ كان يقرأ بها في المجامع العظام فيقرأ بها في خطبة الجمعة وفي صلاة العيد وكان من كثرة قراءته لها يقرأ بها في صلاة الصبح وكل ذلك ثابت في الصحيح
قال تعالى: { وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا * قل كونوا حجارة أو حديدا * أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا * يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا } [ الإسراء: 49 - 52 ]
وقد ذكر نحو ذلك عمن مضى من المكذبين للرسل كقولهم عن رسولهم: { أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون * هيهات هيهات لما توعدون * إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين * إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين } [ المؤمنون: 35 - 38 ]
وقال تعالى: { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون } [ الجاثية: 24 ]
وأمثال هذا في القرآن كثير
وذكر عنهم أنه طعنوا في الرسول بعقولهم بأمور ظنوها لازمة له كقولهم: { وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحور } [ الفرقان: 7 - 8 ]
قال تعالى: { انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا } [ الفرقان: 9 ]
وكذلك قالوا عمن قبله من الرسل كما قال فرعون: { أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين * فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين } [ الزخرف: 52 - 53 ]
وقالوا لشعيب: { إنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز } [ هود: 91 ]
والمقصود هنا أن الرسول ﷺ كان يعارضه من المؤمنين به والكفار من لا يكاد يحصى معارضة لا ترد عليه ولم تكن إلا من جهل المعارض ولم يكن في ظاهر الكلام الذي يقوله لهم ومفهومه ومعناه ما يخالفه صريح المعقول بل كان المعارضون يعارضون بعقولهم ما لا يستحق المعارضة فلو كان فيما بلغهم إياه عن الله من أسمائه وصفاته ونحو ذلك ما يخالف ظاهره صريح المعقول لكان هذا أحق بالمعارضة وكان يمتنع في مستمر العادة أن مثل هذا لا يعارضه أحد: لا معارضة دافع طاعن ولا معارضة مستشكل مسترشد فكيف إذا كان ذلك يعارض القضايا العقلية التي بها علموا نبوته وأنه رسول الله إليهم؟ فكانت تكون المعارضة بذلك أولى أن تقع من الكفار والمسلمين
أما الكفار فيقولون له: نحن لا نعلم صدقك إلا بأن نعلم بعقولنا أمورا تناقض ما يفهم ويظهر مما تخبرنا به فالمصدق لك يكون متناقضا متلاعبا لا يمكنه أن يقبل بعض أخبارك إلا برد بعضها وهذا ليس فعل العالمين الصادقين دائما بل فعل من يكذب تارة ويصدق أخرى أو يصيب تارة ويخطئ أخرى
وأما المسلمون المظهرون للإسلام فقد كان فيهم منافقون وفي المؤمنين سماعون لهم يتعلقون بأدنى شبهة يوقعون بها الشك والريب في قلوب المؤمنين وكان فيهم من له معرفة وذكاء وفضيلة وقراءة للكتب ومدارسة لأهل الكتاب مثل أبي عام الفاسق الذي كان يقال له أبو عامر الراهب الذي أتخذ له المنافقون مسجد الضرار
وأيضا فقد كان اليهود والنصارى يعارضونه بما لا يصلح للمعارضة ويقدحون في القرآن بأدنى شبهة ويخاطبون بذلك من أسلم كما قالوا للمغيرة بن شعبة: أنتم تقرأون في كتابكم: { يا أخت هارون } [ مريم: 28 ] وموسى بن عمران كان قبل عيسى بسنين كثيرة فظنوا أن هارون المذكور هو هارون أخو موسى وهذا من فرط جهلهم فإن عاقلا لا يخفى عليه أن موسى كان قبل عيسى بسنين كثيرة وأن مريم أم عيسى ليست أخت موسى وهارون ولا هو المسيح ابن أخت موسى وليس في من له تمييز - وإن كان من أكذب الناس - من يرى أن يتكلم بمثل هذا الذي يضحك عليه به كل من سمعه فكيف بمن هو أعظم الناس عقلا وعلما ومعرفة غلبت عقول بنى آدم ومعارفهم وعلومهم حتى استجاب له كل ذي عقل مصدقا لخبره مطيعا لأمره وذل له - أو خاف منه - كل من لم يستجيب له وظهر به من العلم والبيان والهدى والإيمان ما قد ملأ الآفاق وأشرق به الوجود غاية الإشراق
فكان النصارى الذين سمعوا هذا - لو كان لهم تمييز - لعلموا أن مثل هذا الرجل العظيم الذي جاء بالقرآن لا يخفى عليه أن المسيح ليس هو ابن أخت موسى بن عمران ولا يتكلم بمثل ذلك ولو كانت أختهما لكان إضافتها إلى موسى أولى من إضافتها إلى هارون فكان يقال لها: يا أخت موسى لكن لما اتفق أن مريم هذه بنت عمران وذانك موسى وهارون ابنا عمران فكان لفظ عمران فيه اشترك والاشتراك غالب على أسماء الأعلام - نشأت الشبهة حتى سأل المغيرة النبي ﷺ عن ذلك فقال: [ ألا قلت لهم إنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم؟ إن هارون هذا كان رجلا في بنى إسرائيل سموه باسم هارون النبي ]
فمن كانوا يعارضونه بمثل هذه المعارضة كيف يسكتون عن معارضته إذا كان الخطاب الذي أخبر به والمفهوم الظاهر منه - بل الصريح منه الذي لا يحتمل التأويل مخالفا لصريح العقل بل مخالفا لما به يعلم صدقه وصدق الأنبياء قبله؟ وهلا كان أهل الكتاب يقولون له: ما جئت به يقدح في نبوات الأنبياء قبلك فإنا لا يمكننا أن نصدقك إلا بقضايا عقلية بها يعلم صدق الرسل وما أظهرته للناس وبينته لهم وأخبرته به يناقض الأصول العقلية التي بها نعلم تصديق الأنبياء؟
واعلم أنه من أمعن النظر في هذا المقام وتوابعه حصل لهم أمور جليلة :
بطلان قول من يقول: العلم بصحة السمع لا يكون إلا بقضايا عقلية مناقضة للمفهوم الظاهر من أخبار الله ورسوله
بل بطلان قول من يجعل صريح العقل مناقضا لأخباره
بل بطلان قول من يدعي أن أقوال الجهمية النفاة لعلو الله على خلقه - مما هي معروفة بصريح العقل سواء كانت موافقة لخبر الرسول أو مخالفة له
وذلك من وجوه :
أحدها: أن إيمان المؤمنين به العالمين بصدقه حصل بدون هذه القضايا
الثاني: أن أحدا منهم لم يورد هذه المعارضة ولم يستشكل هذا الذي هو تناقض في وعم هؤلاء
الثالث: أن المنافقين لم يورد أحد منهم هذا
الرابع: أن المشركين لم يورد أحد منهم هذا
الخامس: أن أهل الكتاب لم يورد أحد منهم هذا
السادس: أنه لم يعهد إليهم أن لا يصدقوا بمضمون هذه الظواهر ولا يعتقدوا موجبها ولا أمرهم بترك تدبرها وفهمها وعقلها ولا بتأويلها تأويلا يصرفها عن المعنى الظاهر المفهوم منها ولا بتفويضها وقولهم: لا نعلم معناها
السابع: أن الصحابة لم يوصوا التابعين بذلك
الثامن: أن التابعين لم يوردوا على الصحابة ولا أورد بعضهم على بعض ظهور هذا التناقض والتعارض ولا سئل بعضهم بعضا: كيف نصنع؟ هل نتبع موجب النصوص أو موجب العقول المعارضة وتناول النصوص؟ أو نصرف قلوبنا عن فهمها وتدبرها وعقلها ونقول: لا ندري ما معناها؟
فإن قيل: فهذا الذي ذكرته ظاهرا لا يخفى على من تأمل أمور الإسلام كيف كانت وكيف ظهر الإسلام ومع هذا فهذه الشبه العقلية التي احتج بها النفاة وقد ضل بها خلق كثير من هذه الأمة ومن أهل الكتاب فهل كانت عقول الكفار أصح من عقول هؤلاء؟ ثم إذا كان الأمر هكذا فكيف إذا وقع في هذه من وقع؟
قيل: المقصود هنا فساد قول من يقول: إن تصديق الرسول لا يمكن إلا بقضايا عقلية تناقض مفهوم ما أخبر به وهذا يلزم من قال ذلك من الجهمية والمعتزلة وأتباعهم من الأشعرية ومن دخل معهم من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة والصوفية: إن تصديق الرسول لا يمكن إلا بأن يستدل على حوادث العالم بحدوث الأجسام وأنه يستدل على ذلك بحدوث ما قام بها من الأعراض مطلقا أو الحركات وأن ذلك مبني على امتناع حوادث لا أول لها وذلك يستلزم نفي الأفعال القائمة بذات الله تعالى المتعلقة بمشيئته واختياره بل نفي صفاته وأن يكون القرآن مخلوقا وأن الله لا يرى في الآخرة ولا يكون فوق العالم
فمن قال: إن تصديقه فيما أخبر به لا يمكن إلا بهذه الطريق كان قوله معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام ولهذا قال الأشعري وغيره: إن هذه الطرق مبتدعة في دين الأنبياء بل محرمة غير مشروعة لا ريب أن عقل من آمن بالله ورسوله كان خيرا من عقل من سلك هذه الطريق من أهل الكلام
وأما عقول الكفار فلا ريب وإن كانت عقول جنس المؤمنين خيرا من عقولهم لكان قد يكون عند الكفار من عقل التمييز ما يمنعه أن يقول ما يقوله كثير من أهل البدع ألا ترى أن أكاذيب الرافضة لا يرضاها أكثر من العقلاء من الكفار؟ فذلك عقول المشركين الذين كانوا على عهد النبي ﷺ لم تكن تقبل أن ترد رسالته بمثل هذا الكلام الذي فيه من الدقة والغموض ما لا يفهمه أكثر الناس ومن فهمه من العقلاء علم أنه من باب الهذيان والبهتان
يبين لك كل ذلك أن العرب مع شركها كانت مقرة بأن الله رب كل شيء وخالقه ومليكه مقرة بالقدر وكانت عقولهم من هذا الوجه خيرا من عقل من جعل كثيرا من المحادثات لم يخلقه الله ولا قدره ولا أراده وكانت العرب أيضا تقر بان الله فاعل مختار ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فكانت عقولهم خيرا من عقول الدهرية والفلاسفة الذين يقولون بأن العالم صدر عن علة تامة موجبة له كما يقول الدهرية والإلهيون
ولا ريب أن من أنكر الصانع وقال بان العالم واجب بذاته فعقله أفسد من عقل هؤلاء والعرب لم تكن تقول بهذا اللهم إلا أن يكون في تضاعيفهم آحاد وتقوله ولكن لم يكن هذا القول ظاهرا فيهم بل الظاهر فيهم الإقرار بالخالق وعلمه وقدرته ومشيئته
وهذه الشبه - شبه الجهمية - هي في الأصل نشأت من ملاحدة الأمم المنكرين للصانع وهؤلاء أجهل الطوائف وأقلهم عقلا فلهذا لم تكن العرب تعارض بمثل هذه الشبه وإنما ذكر الله تعالى نظير قول الجهمية عن مثل فرعون وأمثاله من المعطلة كالذي حاج إبراهيم في ربه
ولا ريب أن المعطلة شر من المشركين والعرب وإن كانوا مشركين لم يكن الظاهر فيهم التعطيل للصانع وإن كان قد يكون في أضعافهم من هو من المرتابين في الصانع أو الجاحدين له كما في تضاعيف كل أمة حتى في المصلين من هو من هؤلاء إذ المنافقون لم يزالوا في الأمة ولم يزالوا على اختلاف أصنافهم
وإذا عرف أن المقصود بيان فساد قول من يزعم أنه لا يمكن تصديق الرسول إلا بالطريق الجهمية المناقضة لإثبات ما اخبر من صفات الله وكلامه وأفعاله حصل المقصود
وأما من قال: إن هذه المعقولات تعارض المفهوم الظاهر من الآيات والأحاديث من غير أن يقول: إن العلم بصدق الرسول موقوف عليها كما يقول من يعتقد صحة هذه الطريق: طريقة الاستدلال على الصانع بحدوث الأعراض وتركيب الأجسام وإن قال إنه يمكن تصديق الرسول بدونها كما يقول الأشعري نفسه وكثير من أصحابه والرازي وأمثاله وكثير من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية يوجد شيء من هذا في كلام المحاسبي وأبي حاتم البستي والخطابي وأبي الحسن التميمي والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وابن الزاغوني وغير هؤلاء - فإن هؤلاء وجمهور المسلمين يقولون: إنه يمكن تصديق الرسل بدون طريقة حدوث الأعراض وتركيب الأجسام
لكن هؤلاء وغيرهم يعتقدون صحة تلك الطريق وإن قالوا: إن تصديق الرسل لا يتوقف عليها
ثم منهم من يقول: إنها لا تعارض النصوص بل يمكن الجمع بينهما