الوجه الثاني من وجوه الرازي في الأربعين
قال الرازي: ( الوجه الثاني: لو كان مشارا إليه لكان متناهيا من جميع الجوانب لما سبق من تناهي الأبعاد ولأن عدم تناهيه إن كان من جميع الجوانب فإنه مخالط للعالم وما فيه من القاذورات تعالى عنه وإن كان من بعضها فالجانب المتناهي إن وافق غير الفصل والوصل وإن خالفه فيها وكل مركب من أجزاء مختلفة الطبائع ففيه أجزاء بسيطة فأمكن على كل منها أن يماس ما على يمينه ويساره وبالعكس فصح عليه الوصل والفصل وكل ما كان كذلك كان تأليفه بمؤلف تعالى عنه وكل متناه من جميع الجوانب أمكن وجوده أزيد وأنقص مما وجد
فاختصاصه بذلك القدر المخصص ولأنه لو كان متناهيا من جميع الجوانب لم يكن فوق كل الموجودات لأنه يكون فوقه أمكنة خالية عنه والخصم ينفيه )
الرد عليه من وجوه
الوجه الأول
قول من يقول: هو فوق العرش ولا يوصف بالتناهي ولا بعدمه إذ لا يقبل واحدا منهما وهو قول من تقدم ممن يقول: هو فوق العرش ولا يوصف بأن له قدرا كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكلام والفقه والحديث والتصوف من الكلابية والكرامية والأشعرية ومن وافقهم من أتباع الأئمة من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم
وإذا قال لهم النفاة: هذا ممتنع في بديهة العقل
قالوا لهم: القول بوجود موجود لا يشار إليه ولا يقبل الوصف بالنهاية وعدمها ولا بدخول العالم ولا بخروج منه أظهر فسادا في بديهة العقل فإنا إذا عرضنا على العقل وجود موجود خارج العالم بائن منه لا يوصف بثبوت النهاية ولا انتفائها ووجود موجود لا داخل العالم لا خارجه ولا بائن ولا محايث ولا متناه ولا غير متناه - كان الثاني أظهر فسادا في العقل كما تقدم نظيره
الوجه الثاني
قول من يقول: هو غير متناه: إما من جانب وإما من جميع الجوانب كما قال ذلك طوائف أيضا من أهل الكلام والفقهاء وغيرهم وحكاه الأشعري في المقالات عن طوائف
فإذا قيل لهم: هذا ممتنع
قالوا: قول منازعينا أظهر امتناعا
وإذا قيل لهم: يلزمكم أن يكون مخالطا للعالم
قالوا: منازعونا منهم من يقول: هو بذاته في كل مكان ومنهم من ينفي ذلك ونحن يمكننا أن نقول كما قال هؤلاء وهؤلاء وإذا ادعى هؤلاء إمكان ذلك من غير مخالطة ادعينا مثل ذلك
الوجه الثالث
قول السلف والأئمة وأهل الحديث والكلام والفقه والتصوف الذين يقولون: له حد لا يعلمه غيره
فإذا قيل لهؤلاء: كل متناه من جميع الجوانب أمكن وجوده أزيد وأنقص مما وجد واختصاصه بذلك القدر المخصص منفصل - منعوا هذا كما تقدم ذكره وقالوا: لا نسلم أن كل ما اختص بقدر افتقر إلى مخصص منفصل عنه ولا نسلم أن كل ما ثبت لواجب الوجود من خصائصه - يمكن أن يوجد بخلاف ذلك
وتقدم الكلام على هاتين المقدمتين واعترف هؤلاء المحتجين بهما بفسادهما
وأما قوله: ( لو كان متناهيا من جميع الجوانب لم يكن فوق كل الموجودات لأنه يكون فوقه أمكنة خالية منه )
فكلام ساقط لأنه ليس هناك شيء موجود: لا مكان ولا غير مكان وإنما هناك: إما خلاء هو عدم محض ونفي صرف ليس شيئا موجودا على قول طائفة وإما أنه لا يقال هناك لا خلاء ولا ملاء
وعلى كل تقدير فليس هناك شيء موجود بل يقال لمن احتج بهذا: أنت تقول ليس فوق العالم شيء موجود ولا وراء العالم شيء موجود مع أنه متناه عندك فكيف يجب أن يكون فوق رب العالمين شيء موجود؟
ثم قال: ( أنتم تزعمون أنكم تحتجون بالمعقولات اليقينية لا بالمقدمات الجدلية فهب أنه لا يكون فوق جميع الموجودات فأين دليلكم العقلي على امتناع هذا
الوجه الرابع
قول بعض هؤلاء النفاة لبعض: لم قلتم: ( إن عدم تناهيه: إن كان من جميع الجوانب فإنه مخالط للعالم وما فيه من القاذورات تعالى عنه ) ولم لا يجوز أن يكون غير متناه من جميع الجوانب وهو غير مخالط؟ فإن قالوا: لأن فرض مشار إليه غير متناه لا يخالط العالم - ممتنع في صريح العقل
قيل: وفرض موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يكون مباينا لغيره ممتنع في صريح العقل
فإن قلتم: هذا في حكم الوهم
قالوا: وإثبات المخالطة لما لا نهاية له من حكم الوهم
وهؤلاء النفاة لمباينته للعالم منهم من يقول: ( إنه جسم وهو في كل مكان وفاضل في جميع الأماكن وهو مع ذلك متناه غير أن مساحته أكبر من مساحة العالم لأنه أكبر من كل شيء
وقال بعضهم: مساحته على قدر مساحة العالم
وقال بعضهم: هو جسم له مقدار في المساحة ولا ندري كم ذلك القدر )
( ومنهم من يقول: إنه جسم تحل الأشياء فيه وهو الفضاء وليس بذي غاية ولا نهاية وقال بعضهم: هو الفضاء وليس بجسم والأشياء قائمة به ) ( وقال بعضهم: ليس لمساحة البارئ نهاية ولا غاية وإنه ذاهب في الجهات الست اليمين والشمال والأمام والخلف والفوق والتحت قالوا: وما كان كذلك لا يقع عليه اسم جسم ولا طويل ولا عريض ولا عميق وليس بذي حدود ولا هيئة ولا قطب )
حكى هذه الأقوال الأشعرية في المقالات وحكى عن زهير الأثري أنه كان يقول: ( إن الله بكل مكان وإنه مع ذلك مستو على عرشه وأنه يرى بالأبصار بلا كيف وأنه موجود الذات بكل مكان وأنه ليس بجسم ولا محدود ولا يجوز عليه الحلول والمماسة ويزعم أنه يجيء يوم القيامة كما قال تعالى: { وجاء ربك والملك صفا صفا } [ الفجر: 22 ] بلا كيف ) وكذلك أبو معاذ التومني
وهذا القول الذي حكاه الأشعري عن هؤلاء يشبه قول كثير من الصوفية والسالمية كأبي طالب المكي وغيره
فهؤلاء القائلون بأنه بذاته في كل مكان على أقوال: منهم من يقول: له قدر ومنهم من يقول: ليس له غاية ولا نهاية ومنهم من يقول: هو جسم ومنهم من يقول: ليس بجسم
ثم من هؤلاء من يقول: إنه غير متناه من جميع الجوانب وهو مع ذلك لا يخالط الأشياء وأيضا فإنهم إذا قالوا: إنه يخالط الأشياء قالوا: هذا لا يقدح في كماله كما أن الشعاع لا يقدح فيه أنه فوق الأقذار
وقول هؤلاء وإن كان باطلا كما قد بين في غير هذا الموضع فالمقصود أن النفاة الذين يقولون: ليس بداخل العالم ولا بخارجه لا يمكنهم إبطال قول هؤلاء بل قد يقول القائل: إن قول هؤلاء الحلولية خير من قول أولئك المعطلة الذين يقولون: لا داخل العالم ولا خارجه
ولهذا قال من قال: ( متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئا ومتعبدة الجهمية يعبدون كل شيء )
ومنهم من يقول هذا تارة وهذا تارة ومنهم من يقول: هذا اعتقادي وهذا ذوقي ووجدي
وإنما يتمكن من إبطال قول هؤلاء كلهم أهل السنة المثبتة الذين يقولون: إنه مباين للعالم فأما بعض هذه الطوائف مع بعضهم فإنهم متناقضون
فإذا قالوا: لا نسلم أنه يجب أن يخالط العلم أو لا نسلم أن في ذلك محذورا بل يمكن عدم المخالطة أو المخالطة بلا نقص ولا عيب - كان قول هؤلاء من جنس أقوال أولئك فإنهم أثبتوا ما يحيله العقل
فإذا قالوا لأولئك: هذا من حكم الوهم لا من حكم العقل كان هذا بمنزلة قول أولئك: إن إحالة موجود لا داخل العالم ولا خارجه من حكم الوهم فإنهم قد قالوا: إنه حكم في غير المحسوس بحكم المحسوس فإن لم يكن في الوجود ما لا يمكن الإحساس به بطل قولهم وإن كان فيه ما لا يمكن الإحساس به وادعى هؤلاء أنه غير متناه من جميع الجوانب وهو غير جسم عند بعضهم وجسم عند آخرين منهم - كان الحكم حينئذ بكونه يكون مخالطا للعالم وأن ذلك ممتنع عليه حكما على غير المحسوس بحكم المحسوس وهم لا يقبلون هذا الحكم
ثم إن الكلام هنا من جهة من يقول: إنه مشار إليه ويقول: إنه متناه وهو مع ذلك جسم أو ليس بجسم وإذا قال هؤلاء: كل مشار إليه فهو جسم كان كقولهم: لو كان فوق العرش لكان مشارا إليه ولكان جسما وقد نازعهم في ذلك طوائف
وتبين أن قول من قال: هو فوق العرش وليس بجسم ليس هو أبعد عن العقل من قول من قال: أنه لا داخل العالم ولا خارجه أصلا فإن هذا أقرب إلى المعدوم من ذلك وكل ما كان أقرب إلى العدم كان أبعد عن الوجود الواجب
فهكذا من قال: يشار إليه وهو غير متناه ولا يخالط أو يخالط ولا نقص في ذلك - فقوله ليس أبعد عن العقل من قول أولئك بل نظير قولهم أن يقال: إنه في كل مكان بذاته ولا يشار إليه ولا نهاية له كما قال بعضهم
فهذه الأقوال حكم ببطلانها حاكم واحد فإن رد حكمه في بعضها رد في سائرها فهذا جواب هؤلاء
الوجه الخامس
قول من يقول: لا نسلم أنه إذا كان متناهيا من بعض الجهات يلزم ما ذكره من المحذور وقوله: ( الجانب المتناهي إن وافق غير المتناهي في الماهية صح عليه أن ينقلب غير متناه وإلا لزم التركيب فيصح الفصل والوصل وما كان كذلك احتاج إلى مؤلف يؤلفه )
قالوا: لا نسلم أنه يجوز عليه الفصل والوصل والحال هذه لإمكان أن يكون ذلك الاتصال من لوازم الذات كقيام الصفات اللازمة لموصوفها وأيضا الموافقة في الماهية إنما تقتضي جواز انقلابه غير متناه إن لو لم يكن المقدار المعين من لوازم وجوده
فإن قال: إن كل مختص بقدر فهو ممكن فهي المقدمة الثانية وقد تقدم إبطالها فلا يمكنه حينئذ تقرير المقدمة الأولى إلا بالثانية فلا يكون قد أقام دليلا على أنه إذا كان متناهيا لزم التناهي من جميع الجوانب إلا لافتقار الاختصاص إلى مخصص وهذا: إن كان دليلا صحيحا فهو كاف سواء قدر التناهي من جميع الجوانب أو بعضها وإن لم يكن صحيحا بطل كلامه على بطلان تناهيه من جميع الجوانب ومن بعضها
الوجه الثالث من وجوه الرازي في لباب الأربعين
قال: الرازي: الوجه الثالث: ( أنه لو كان مشارا إليه فإن صح عليه الحركة والسكون كان محدثا لما سبق في مسألة الحدوث وإلا كان كالزمن المقعد وهو نقص تعالى عنه )
الرد عليه من وجوه
الوجه الأول
أن يقال قد تقدم إبطال هؤلاء لدليل الحركة والسكون كما أبطله الرازي نفسه في كتبه العقلية المحضة وأبطل كل ما احتج به النفاة من غير اعتراض على إبطال ذلك وكذلك أبطله الآمدي والأرموي وغيرهما
الوجه الثاني
قول من يقول: هو مع كونه مشارا إليه لا يقبل الوصف بالحركة والسكون ولا بضد ذلك كما يقولون هم: إنه لا يقبل الوصف بالدخول والخروج والمباينة والمحايثة ونحو ذلك من المتقابلات
فإن قيل لهؤلاء: إثبات مشار إليه لا يقبل ذلك غير معقول
قالوا: هذا أقرب إلى العقل من إثبات موجود قائم بنفسه لا يشار إليه
وهؤلاء إذا قيل لهم: إما أن يكون مباينا وإما أن يكون محايثا
قالوا: هذا من عوارض الجسم فإذا قدر موجود لا يقبل ذلك لم يوصف بمباينة ولا محايثة فيقول لهم هؤلاء: كونه موصوفا بالحركة والسكون فرع على قبوله لذلك فإذا قدر موجود مشار إليه لا يقبل ذلك لم يوصف بأحدهما
ومن الناس من يقول: الحركة من خصائص الجسم ومنهم من يقول: الحركة يوصف بها ما ليس بجسم كمن يقول بإثبات نوع من الحركة للنفس ويقول: إنها غير جسم وكذلك قول من قال مثل ذلك في الواجب
الوجه الثالث
أن يقال: اتصاف المتصف بالحركة والسكون: إما أن يكون صفة كمال أو لا فإن لم يكن صفة كمال لم يكن سلب ذلك نقصا فلا محذور فيه وإن كان صفة كمال أمكن اتصافه بذلك فلا محذور فيه
فإن قيل: هو صفة كمال للجسم دون غيره
قيل: إما أن نعلم ثبوت موجود غير الجسم أو لا نعلمه فإن لم نعلمه لم يمكن إثبات موجود قائم بنفسه: لا تكن الحركة كمالا وإن علمنا وجود موجود ليس بجسم فالعلم بذلك ليس بضروري بل هو نظري فلا بد له من دليل
وحينئذ فإما أن يمكن وجود مشار إليه ليس بجسم أو لا يمكن فإن أمكن جاز أن يشار إلى الباري تعالى ويكون فوق العرش وليس بجسم وإن لم يمكن وجود مشار إليه إلا أن يكون جسما فلا بد من دليل يدل على إثبات وجود موجود لا يمكن الإشارة إليه ولا يكون جسما
وهذه الوجوه هي أدلة ثبوت ذلك
فإذا قيل: لو لم يصح عليه الحركة والسكون لكان كالزمن لم يمكن إثبات ذلك إلا إذا ثبت أن كل مشار إليه يقبل الحركة والسكون وأن كل مشار إليه جسم
وهذا لا يثبت إلا إذا بطل قول من يقول: يمكن أن يشار إليه ولا يكون جسما أو يمكن أن يكون فوق العرش ولا يكون جسما
وهؤلاء لا يمكن إبطال قولهم إلا إذا بطل قول من يقول بوجود موجود قائم بنفسه لا يشار إليه لأنه بتقدير صحة قول هؤلاء يمكن صحة قول أولئك فإنه إذا جاز في العقل إمكان وجود موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يباين غيره ولا يحايثه أمكن وجود موجود قائم بنفسه فوق عرشه لا يشار إليه وكان هذا أقرب إلى العقل من ذلك
فإذا كان إبطال قول هؤلاء مستلزما لبطلان قول المدعي لم يبطل قولهم إلا ببطلان قوله وإذا بطل قوله كانت الحجة على صحته باطلة
فتبين أن هذه الحجة يلزم من صحة مقدمتيها بطلان قول المدعي المحتج بها فلا يمكن الاستدلال بها عليه وهو المطلوب فإنها إن صحت استلزمت بطلان دعواه وإن لم تصح لم يمكن الاستدلال بها على دعواه فبطلت الدلالة على التقديرين وهو المطلوب
الوجه الرابع
أن يقال: كثير من النظار يقولون: صحة الحركة ليست من خصائص كونه مشارا إليه فإن كثيرا من هؤلاء يجوز أن يقوم به ما هو متجدد أو حادث وإن قال: إنه غير مشار إليه وقد تقدم قول الرازي: ( إن عامة الطوائف يلزمهم القول بحلول الحوادث وإن أنكروا ذلك ) مع أن نفاة العلو من هؤلاء يمنعون جواز الإشارة إليه كما يقول ذلك من يقوله من الفلاسفة والمعتزلة والأشعرية وغيرهم بل المتفلسفة يجوزون حلول الحوادث بما ليس بجسم غير الواجب كما يقولون مثل ذلك في النفس الفلكية والإنسانية ثم أكثر أهل الكلام من هؤلاء يقولون: إن ذلك الحادث القائم بالواجب تجدد بعد أن لم يكن فهؤلاء يصفونه بقيام الحوادث به في وقت دون وقت ومع هذا فلا يجعلونه في حال انتفاء ذلك كالزمن المقعد فيقول هؤلاء: يمكن أن تقوم به الحوادث وهو نوع من الحركة ولا يكون مشارا إليه ولا يكون عند انتفاء ذلك كالزمن فإن سلم أولئك لهم إمكان ذلك بطلت الحجة وإن لم يسلموا ذلك لهم: قالوا: هذا أقرب إلى العقل من إثبات موجود قائم بنفسه لا يشار إليه وإن كان هذا من حكم الوهم فكذلك الأول وإلا لزم امتناع موجود قائم بنفسه لا يشار إليه وهو المطلوب
ومما يوضح هذا أن لفظ الحركة قد يعني به الانتقال من حيز إلى حيز وقد يعني به ما هو أعم من ذلك كالحركة في الكيف والكم والوضع مثل مصير النفس عالمة وقادرة ومريدة ومصير الجسم أسود وأحمر وحلوا وحامضا ومثل الاغتذاء والنمو الحاصل في الحيوان والنبات ومثل حركة الفلك في حيز واحد فهذه قد تسمى حركات وإن لم يكن قد خرج الجسم فيها من حيز إلى حيز آخر
وإذا كان لفظ الحركة من جنس لفظ الحدوث كان البحث عن قيام أحدهما به كالبحث عن قيام الآخر به ومعلوم أن كثيرا من النظار يصفونه بذلك ولا يقولون: هو جسم
الوجه الرابع من وجوه الرازي في لباب الأربعين
قال الرازي: ( الوجه الرابع: المكان الذي يزعم الخصم حصوله فيه: إن كان موجودا وهو منقسم كان جسما ولزم قدم الأجسام لذواته وأيضا المكان مستغن في وجوده عن المتمكن لجواز الخلاء وفاقا والباري تعالى عند الخصم يمتنع كونه لا في حيز فكان مفتقرا إلى الحيز وكان المكان بالوجوب والإلهية أولى وإن كان معدوما استحال حصول الوجود فيه ولا يلزم علينا كون الجسم في المكان لأنه المعنى منه كونه يمكن الإشارة إلى أحد جوانبه بأنه غير الآخر ومتصل به وهذا المعنى في الباري يوجب التركيب وتعالى عنه )
الرد عليه من وجوه
الوجه الأول
أن يقال: لا نسلم الحصر بل قد يكون الحيز تارة موجودا وتارة معدوما فإنه إذا كان في الأزل وحده لم يكن معه شيء موجود فضلا عن أن يكون في شيء موجود ثم لما خلق العالم: فإما أن يكون مداخلا للعالم وإما أن يكون مباينا له وإذا امتنع أن يكون هو نفسه داخل العالم أو دخل العالم فيه وجب أن يكون مباينا له وإذا كان مباينا للعالم أمكن أن يكون فوق العالم ويكون ما يسمى حينئذ مكانا أمرا وجوديا ولا يلزم أن يكون ملازما له فلا يلزم قدم المخلوقات ولا افتقاره إلى شيء منها بل كان مستغنيا عنها وما زال مستغنيا عنها وإن كان عاليا عليها فعلوه على العرش وعلى غيره من المخلوقات لا يوجب افتقاره إليه فإن السماء عالية على الأرض وليست مفتقرة إليها والهواء عال على الأرض وليس مفتقرا إليها وكذلك الملائكة عالون على الأرض وليسوا مفتقرين إليها فإذا كان المخلوق العالي لا يجب أن يكون مفتقرا إلى السافل فالعلي الأعلى الخالق لكل شيء والغني عن كل شيء أولى أن لا يكون مفتقرا إلى المخلوقات مع علوه عليها
الوجه الثاني
أن قول القائل: ( إنه في كل مكان ) لفظ فيه إجمال وتلبيس والمثبتون لعلو الله على خلقه لا يحتاجون أن يطلقوا القول بأنه في مكان بل منهم كثير لا يطلقون ذلك بل يمنعون منه لما فيه من الإجمال
فإذا قال قائل: إنه لو كان في مكان لم يخل: إما أن يكون المكان موجودا أو معدوما
قيل له: إذا قيل: إن الشيء في مكان وفسر المكان بأنه معدوم كان حقيقته أنه وحده ليس معه غيره إذ لا يقول عاقل: إنه في مكان معدوم وإنه مع هذا في شيء موجود قد أحاط به أو كان هو فوقه أو غير ذلك إذ هذا كله من صفات الموجودات
وإذا كان كذلك فقول القائل وإن كان المكان معدوما استحال حصول الموجود فيه إنما يلزم لو قدر أن هناك أمرا يكون الواجب فيه فأما إذا فسر ذلك بأنه وحده ليس معه غيره امتنع أن يقال: إنه في غيره
الوجه الثالث
أن يقال: إذا كنت أنت - وعامة العقلاء - تقولون: إن الجسم في مكان ولا يلزم من هذا أن يكون في شيء موجود لأنه يستلزم أبعادا لا تتناهى ولا في معدوم لأن العدم لا يكون فيه شيء - فقولهم أولى بالقبول والجواز
وأما قوله: ( إن المعنى من كون الجسم في المكان كونه بحيث يمكن الإشارة إلى أحد جوانبه بأنه غير الآخر ومتصل به )
فيقال له: وبهذا المعنى فسرت قولهم بأنك قلت: المعنى من اختصاص الشيء بالجهة والمكان أنه يمكن الإشارة الحسية إليه بأنه هنا أو هناك
وأما قولهم: هذا المعنى يوجب التركيب في الباري فهذا هو الحجة الأولى وقد تقدم جوابها فإذن هذه الحجة لا تتم إلا بالأولى فلا تجعل حجة أخرى وحجة التركيب قد تقدم بيان فسادها
الوجه الرابع
أن يقال لفظ الحيز والمكان قد يعني به أمر وجودي وأمر عدمي وقد يعني بالمكان أمر وجودي وبالحيز أمر عدمي ومعلوم أن هؤلاء المثبتين للعلو يقولون: إنه فوق سماواته وعلى عرشه بائن من خلقه وإذا قالوا: إنه بائن من جميع المخلوقات فكل ما يقدر موجودا من الأمكنة والأحياز فهو من جملة الموجودات فإذا كان بائنا عنها لم يكن داخلا فيها فلا يكون داخلا في شيء من الأمكنة والأحياز الوجودية على هذا التقدير ولا يلزم قدم شيء من ذلك على هذا التقدير
وإذا قالوا: إنه فوق العرش لم يقولوا: إن العرش كان موجودا معه في الأزل بل العرش خلق بعد أن لم يكن وليس هو داخلا في العرش ولا هو مفتقر إلى العرش بل هو الحامل بقوته للعرش ولحملة العرش فكيف يلزم على هذا أن يكون معه في الأزل؟ بل كيف يلزم على هذا أن يكون داخلا في العرش أو مفتقرا إليه وإنما يلزم ما ذكره من لا بد له من شيء مخلوق يحتوي عليه وهذا ليس قول من يقول: إنه بائن عن جميع المخلوقات
الوجه الخامس
أن يقال: قوله ( الباري عند الخصم يمتنع كونه لا في حيز ) لفظ مجمل فإن قال: إنه مفتقر عنده إلى حيز وجودي فهذا لم يقله الخصم ولا يعرف أحدا قاله وإن قاله من لا يعرف لم يلتفت إليه ولا ريب عند المسلمين أن الله تعالى غني عن كل ما سواه فكيف يقال: إنه مفتقر إلى حيز عدمي فالعدم ليس بشيء حتى يقال: إن الرب مفتقر إليه أو ليس بمفتقر إليه
وإذا فسر الحيز بأمر عدمي لم يجز أن يقال: إن العدم الذي ليس بشيء أحق بالإلهية من الموجود القائم بنفسه فعلم أن هذه الحجة مغلطة محضة وأن لفظ الحيز لفظ مجمل
وهؤلاء يريدون بالحيز تارة ما هو موجود ويريدون به تارة ما هو معدوم وكذلك لفظ المكان لكن الغالب عليهم أنهم يريدون بالحيز ما هو معدوم وبالمكان ما هو موجود ولهذا يقولون: العالم في حيز وليس في مكان
وإذا كان كذلك فمن أثبت متحيزا في حيز عدمي لم يجعل هناك موجودا غيره سواء كان ذلك واجبا أو ممكنا وإذا كان كذلك لم يجب أن يكون هناك ما يجب أن يكون موجودا معه فضلا عن أن يكون مفتقرا إليه
الوجه السادس
أن يقال: هذه الحجة مبنية على أن كل مشار إليه مركب وإن ذلك ممتنع في الواجب فإن أردت بالتركيب أن غيره ركبه أو أنه يقبل التفريق ونحو ذلك لم تسلم الأولى
وإن عنيت بالتركيب إمكان الإشارة إلى بعضه دون بعض فللناس هنا جوابان :
أحدهما: قول من يقول: هو فوق العالم وليس بمشار إليه أو هو مشار إليه وهو لا يتبعض فيشار إلى بعضه دون البعض لأن الإشارة إلى البعض دون البعض إنما تعقل فيما له أبعاض فإذا قدر مشارا إليه لا يتبعض لم يمكن أن يقال هذا فيه
الثاني: قول من يقول: يمكن الإشارة إلى بعضه دون بعض ويقول: التبعيض المنفي عنه هو مفارقة بعضه بعض وأما كونه يرى بعضه دون البعض فليس هذا منفيا عنه بل هو من لوازم وجوده وإذا قال الثاني: هذا تركيب وهو ممتنع فقد عرف بطلان هذه الحجة
الوجه السابع
أن يقال: إذا كان فوق العرش فلا يخلو: إما أن يلزم أن يكون جسما أو لا يلزم فإن لم يلزم بطل مذهب النفي فإن مدار قولهم على أن العلو يستلزم أن يكون جسما فإذا لم يلزم ذلك لم يكن في كونه على العرش محذور وإن لزم أن يكون جسما فإن لازم هذا القول قدم ما يكون جسما وحينئذ فقول القائل: إن كان المكان موجودا كان جسما ولزم قدم الأجسام لدوامه - لا يكون محذورا على هذا التقدير ولا يصح الاستدلال على انتفاء المكان بهذا الاعتبار
الوجه الثامن
وأما الوجه الثامن: فقوله: ( المكان مستغن في وجوده عن المتمكن لجواز الخلاء وفاقا والباري عند الخصم يمتنع كونه لا في الحيز فكان مفتقرا إلى الحيز ) يعترض عليه الخصم بأنا لا نسلم أنه على هذا التقدير يكون كل مكان مستغنيا عن المتمكن فإنه لا يقول عاقل إن شيئا من الممكنات مستغنية عن الواجب الوجود فإذا جعل ما سمى مكانا من الممكنات المبدعات لله تعالى لم يجز أن يقال: هو مستغن عنه
وأيضا يقال: إن عنيت بكون المكان مستغنيا عن المتمكن أنه لا يفتقر إلى كون المتمكن عليه فهذا مسلم لكنه لا يفيدك إلا إذا قيل: إن المتمكن مفتقر إلى وجود المكان المستغنى عنه وهذا لم يذكره في التقسيم
وإن عنيت أنه يستلزم استغناءه عن فاعل مبدع فهذا ليس بلازم على هذا التقدير فإن الأمكنة كلها مفتقرة إلى فاعل مبدع وإن استغنيت عن متمكن وإذا كان وجوده مستلزما للحيز على هذا التقدير لم يكن مفتقرا إلى ما هو مستغن عنه بل كان وجوده مستلزمة لأمور لازمة له مفتقرة إليه وذلك لا يوجب أن يكون غيره مستغنيا عنه ولا أن يكون مفتقرا إلى ما هو مستغن عنه كما أن الذات إذا كانت مستلزمة للصفات لم يجب أن تكون الصفات أحق بالإلهية
هذا عند من يقول بالصفات وكذلك من يقول بالأحوال من المسلمين ومن نفى الجميع كالفلاسفة الدهرية فعندهم أن وجود الواجب مستلزم لوجود الممكنات مع أنها هي المفتقرة إليه وهو مستغن عنها
ونكتة الاعتراض أنه فرض افتقاره إلى مكان مستغن عنه فلا ريب أن هذا باطل بالاتفاق لأنه يلزم أن يكون الخالق فقيرا إلى ما هو مستغن عنه وهذا ينافي وجوب وجوده وأما إذا كان ما سمي مكانا مفتقرا إليه وهو المبدع الخالق له لم يكن فيما ذكره ما يبطل ذلك
أما إذا قدر أن وجوده لا يستلزم وجود ذلك ولا يشترط فيه ذلك لكن حصل بحكم الجواز لا بحكم الوجوب فهذا ظاهر
وإما إذا قدر أن ذلك لازم له فغايته أن وجوده مستلزم لما يكون الرب ملزوما له وهو مفتقر إلى الرب تعالى وقد عرف كلام الناس في مثل هذا؟
الوجه الخامس من وجوه الرازي في لباب الأربعين
قال الرازي: ( الوجه الخامس في نفي علوه على الخلق أن الأحياز إن تساوت في تمام الماهية كان حصوله في بعضها بدلا عن الآخر جائزا فافتقر فيه إلى مرجح وإن تخالفت فيها كانت متباينة بالعدد والماهية تختص بخواص معينة وصفات معينة وهي غير متناهية فقد وجد في الأزل مع الله أشياء موجودة قائمة بأنفسها غير متناهية ولا يرتضيه مسلم
الرد عليه من وجوه
الوجه الأول
أن يقال: الأحياز أمور عدمية كما قد عرف فإنهم يقولون: العالم في حيز والحيز عندهم عدمي ولو قال قائل: إن الحيز قد يكون وجوديا فالمثبتون يقولون: نحن نقول: أنه فوق العالم وحده كما كان قبل المخلوقات وليس هو في حيز وجودي فإذا سميت ما هناك حيزا كان تسميته للعدم حيزا وهو اصطلاحهم
وحينئذ فالعدم المحض ليس هو أشياء موجودة حتى يقال: إنها متماثلة أو مختلفة
فإن قيل: من الناس من يقول: الحيز جوهر قائم بنفسه لا نهاية له
قيل: هذا القول إن كان صحيحا ثبت قدم الحيز الوجودي وحينئذ فتبطل الحجة التي مبناها على نفي ذلك وإن كان باطلا بطلت الحجة أيضا كما تقدم فهي باطلة على تقدير النقيضين فثبت بطلانها في نفس الأمر
الوجه الثاني
أن يقال: لم لا يجوز أن تكون الأحياز متساوية في الماهية
قوله: ( حصوله في بعضها بدلا عن الآخر جائز فيفتقر إلى مرجح )
يقال له: نعم وإذا افتقر إلى مرجح فإنه يرجح بعضها بقدرته ومشيئته كما ترجح سائر الأمور الجائزة بعضها على بعض وكما يرجح خلق العالم في بعض الأحياز على بعض مع إمكان أن يخلقه في حيز آخر وكما رجح ما خلقه بمقدار على مقدار وصفة على صفة مع إمكان أن يخلقه على قدر وصفة أخرى
الوجه الثالث
أن يقال: ترجح بعض الأحياز على بعض متفق عليه بين العقلاء سواء قالوا بالفاعل بالاختيار أو بالعلة الموجبة فغن القائلين بالعلة الموجبة يقولون: إنها اقتضت وجود العالم في هذا الحيز دون غيره وأما على القول بالفاعل المختار فالأمر ظاهر وإذا كان ترجيح بعض الأحياز على بعض متفقا عليه بين العقلاء لم يكن في ذلك محذور
وإذا قيل: هذا ترجيح لبعضها على بعض في الممكن
قيل: فإذا جاز ذلك في الممكن فهو في الواجب أولى بالجواز فإن المرجح إن كان موجبا بالذات فترجيحه لما يتعلق به أولى من ترجيحه لما يتعلق بغيره وإن كان فاعلا بالاختيار فاختياره لما يتعلق به أولى من اختياره لما يتعلق بظاهره
وإذا قيل: هذا يلزم منه قيام الأمور الاختيارية بذاته
قيل: قد عرف أنهم يعترفون بذلك وهو لازم لعامة العقلاء
الوجه الرابع
أن يقال: أهل الإثبات القائلون بأن الله سبحانه فوق العالم لهم في جواز الأفعال القائمة بذاته المتعلقة بمشيئته وقدرته قولان مشهوران :
أحدهما: قول من يقول: لا يجوز ذلك كما يقول ابن كلاب والأشعري ومن اتبعهما من أصحاب أبي حنيفة وأحمد ومالك والشافعي وغيرهم فهؤلاء يقولون: استواؤه مفعول له فعله في العرش ويقولون: إنه خلق العالم تحته من غير أن يحصل منه انتقال وتحول من حيز إلى حيز ويقولون: أنه خصص العالم بذلك الحيز بمشيئته وقدرته
والقول الثاني: قول من يقول: إنه يفعل أفعالا قائمة بنفسه باختياره ومشيئته كما وصف نفسه في القرآن بالاستواء إلى السماء وعلى العرش وبالإتيان والمجيء وطي السماوات بيمينه وغير ذلك مما هو قول أئمة أهل الحديث وكثير من أهل الكلام ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد فهؤلاء يقولون: إن ما يحصل من الترجيح لبعض الأحياز على بعض بأفعاله القائمة بنفسه هو بمشيئته وقدرته فحصل الجواب عن هذا على قول الطائفتين جميعا
الوجه الخامس
أن يقال: الحيز إما أن يقال: إنه موجود وإما أن لا يقال: إنه معدوم
فإن قيل: هو معدوم لم يلزم أن يكون مع الله في الأزل شيء موجود
وإن قيل: هو موجود فإما أن يكون وجوده في الأزل ممتنعا وإما أن يكون ممكنا فإن كان ممتنعا تعين القسم الأول وهو أن الأحياز متماثلة في تمام الماهية فإن العدم المحض لا يتميز فيه شيء عن شيء وحينئذ في فالتخصيص المفتقر إلى المرجح يحصل: إما بقدرته ومشيئته على قول المسلمين وجمهور الخلق وإما بالذات عند من يجوز نظير ذلك وإن كان وجوده في الأزل ممكنا فلا محذور فيه فبطا انتفاء اللازم
الوجه السادس
أن يقال: التقسيم المذكور غير حاصر وذلك لأن الأحياز: إما أن تكون متماثلة وإما أن تكون مختلفة وعلى التقديرين: فإما أن تكون متناهية وإما أن تكون غير متناهية فإن كان وجود أحياز وجودية غير متناهية ممتنعا بطل هذا التقسيم ولم يلزم بطلان غيره وكذلك أي قسم بطل لم يلزم بطلان غيره وذلك لأن هؤلاء النفاة: منهم من يقول بثبوت أحياز قديمة: إما بنفسها وإما بغيرها كما تقول الطائفة منهم بأن القدماء خمسة: الواجب بنفسه والحيز الذي هو الخلاء والدهر والمادة والنفس ويقول آخرون منهم بثبوت أبعاد لا نهاية لها وإن لم يقولوا بغير ذلك
وما يذكر من هذه الأقوال ونحوها - وإن قيل: أنه باطل - فالقائلون بغير ذلك بهذه الأقوال هم المعارضون لنصوص الكتاب والسنة وهم الذين يدعون أن معهم عقليات برهانية تنافي ذلك فإذا خوطبوا على موجب أصولهم وبين أنه ليس في العقليات ما ينافي النصوص الإلهية على كل مذهب كان هذا من تمام نصر الله لرسوله وإظهار لنوره
الوجه السابع
أن يقال: مقدمات هذه الحجة ليست برهانية فإنه على تقدير تماثل الأحياز إنما يلزم الافتقار إلى المرجح وهذا غير ممتنع وأما على التقدير الثاني فيلزم ثبوت أحياز مختلفة أما كونها غير متناهية فذلك غير لازم
وحينئذ فيقال: إذا قدر أن هذه الأحياز مفتقرة إليه ممكنة بنفسها واجبة به أمكن أن يقال فيها ما يقوله من يجوز أن يكون معه ما هو من لوازم ذاته كما عرف من مذاهب الطوائف ويقال على وجه التقسيم: إن امتنع أن يكون معه ما هو من لوازم ذاته تعين القسم الأول وإلا جاز الثاني
والمقصود بيان فساد أمثال هذه الكلام بالحجج العقلية المحضة فإن هؤلاء النفاة يستعينون على معارضة النصوص الإلهية بأقوال الفلاسفة وغيرها المخالفة لدين المرسلين فإذا احتج لنصر النصوص الإلهية بما هو من هذا الجنس كان ذلك خيرا من فعلهم
الوجه الثامن
أن يقال: الأحياز: إن كانت عدمية لم يكن في ذلك محذور سواء كانت متماثلة أو مختلفة فإن ثبوت أعدام غير متناهية في الأزل غير محذور والمثبت لا يقول: إنه يفتقر إلى حيز وجودي منفصل عنه فإن هذا ليس هو معروفا من أقوال المثبتين وإن قدر قائل يقوله أمكنه أن يقول: هذا من لوازم ذاته وحينئذ فإن جاز أن يلزمه أمر وجودي كان هذا ممكنا وإلا تعين قول من يجعل الحيز عدميا فعلم أنه لا حجة فيما ذكره
الوجه التاسع
أن من المسلمين من يقول: قد قامت به في الأزل معاني لا نهاية لها كعلوم لا نهاية لها وكلمات لا نهاية لها وإرادات لا نهاية لها ونحو ذلك ومن الناس من يقول بثبوت أبعاد لا نهاية لها وحينئذ فإن كان علوه على العالم ممكنا بدون ثبوت أحياز قديمة مختلفة غير متناهية لم يضرهم بطلان هذا اللازم
وإن قيل: إن ذلك يستلزم هذا القول كان نفيه محتاجا إلى دليل وهو لم يذكر دليلا على نفيه وإنما قنع بحجة مسلمة وهي أن المسلمين ليس فيهم من يرتضي أن يوجد معه في الأزل أشياء موجودة قائمة بأنفسها غير متناهية ومعلوم أن هذا لا يرتضيه المسلمون من أهل الإثبات وغيرهم لاعتقادهم أن ذلك ليس من لوازم قولهم فإذا قدر أنه من لوازم قولهم احتاج نفيه إلى دليل ولا يجوز أن يحتج على ذلك بالسمع لأن السمع الدال على علو الله على خلقه أظهر وأكثر وأبين مما يدل على مثل هذا فإن المحتج إذا احتج بمثل قوله تعالى: { الله خالق كل شيء } [ الزمر: 62 ] و: { رب العالمين } [ الفاتحة: 2 ] ونحو ذلك لم يدل إلا على أن الأحياز الموجودة مخلوقة لله وهو ربها وهذا لا ينازع فيه مسلم لكن الاستدلال بالسمع على قدم شيء من ذلك أضعف من الاستدلال على أن الله تعالى ليس فوق العالمين فلا يمكن دفع أقوى الدلالتين بأضعفهما
الوجه العاشر
أن يقال: هذا الرازي وأمثاله يدعون أنه ليس في السمع ما يصرح بأن الله كان وحده ثم ابتدأ إحداث الأشياء من العدم بل يقولون بما هو أبلغ من ذلك كما يذكر مثل ذلك في كتاب المطالب العالية وغير ذلك من كتبه
وأما النصوص الكثيرة الدالة على علو الله على خلقه فلا ينازعون في كثرتها وظهور دلالتها ولا يدعون أنه عارضها نصوص سمعية تدفع موجبها وإنما يدعون أنه عارض العقل
وإذا كان الأمر كذلك لم يجز أن يدفع موجب النصوص الكثيرة الدالة على أن الله فوق بأدلة سمعية ليست في الظهور والكثرة بمنزلتها بل إذا قدر تعارض الأدلة السمعية كان الترجيح مع الأكثر الأقوى دلالة بلا ريب فعلم أنه لا يجوز دفع موجب نصوص العلو بالمقدمة التي أثبتها بالسمع
والمقدمة السمعية: إما نص أو إجماع ولا نص في المسألة وأما الإجماع فهو يقول: أنه لا يمكن العلم بإجماع من بعد الصحابة ومعلوم أنه ليس عن الصحابة بل ولا التابعين ولا الأئمة المشهورين ما يقرر ما يقرر مطلوبه بل النقول المتواترة عنهم توافق إثبات العلو لا نفيه
وأيضا فالإجماع عنده دليل ظني :
ومعلوم أن النصوص الدالة على العلو أكثر وأقوى دلالة من النصوص الدالة على كون الإجماع حجة فكيف يجوز أن تدفع النصوص الكثيرة البينة الدلالة بنصوص دونها في الظهور والكثرة
وبالجملة من بنى كونه تعالى ليس على العرش على مقدمة سمعية فقوله في غاية الضعف كيفما احتج سواء ادعاها نصية أو إجماعية مع أن قوله أيضا في غاية الفساد في العقل عند من خبر حقائق الأدلة العقلية فقوله فاسد في صحيح المنقول وصريح المعقول والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
الوجه السادس من وجوه الرازي في لباب الأربعين
قال الرازي: ( الوجه السادس في العالم كرة فإن الكسوف القمري يرى في البلاد الشرقية في أول الليل في البلاد الغريبة في آخره فلو كان الله في جهة فوق لكان أسفل بالنسبة إلى سكان الوجه الآخر وأنه باطل )
الرد عليه من وجوه
الوجه الأول
أحدها: أن يقال: القائلون بأن العالم كرة يقولون: إن المحيط هو الأعلى وإن المركز الذي هو جوف الأرض هو الأسفل ويقولون: إن السماء عالية على الأرض من جميع الجهات والأرض تحتها من جميع الجهات ويقولون: إن الجهات قسمان: حقيقية وإضافية فالحقيقية جهتان: وهما العلو والسفل فالأفلاك وما فوقها هو العالي مطلقا وما في جوفها هو السافل مطلقا
وأما الإضافية فهي بالنسبة إلى الحيوان فما حاذى رأسه كان فوقه وما حاذى رجليه كان تحته وما حاذى جهته اليمنى كان عن يمينه وما حاذى اليسرى كان عن يساره وما كان قدامه كان أمامه وما كان خلفه كان وراءه
وقالوا هذه الجهات تتبدل فإن ما كان علوا له قد يصير سفلا له كالسقف مثلا: يكون تارة فوقه وتارة تحته وعلي هذا التقدير فإذا علق رجل جعلت رجلاه إلى السماء ورأسه إلى الأرض أو مشت نملة تحت سقف: رجلاها إلى السقف وظهرها إلى الأرض كان هذا الحيوان باعتبار الجهة الحقيقية السماء فوقه والأرض تحته لم يتغير الحكم وأما باعتبار الإضافة إلى رأسه ورجليه فيقال: إن السماء والأرض فوقه
وإذا كان كذلك فالملائكة الذين في الأفلاك من جميع الجوانب - هم باعتبار الحقيقة كلهم فوق الأرض وليس بعضهم تحت بعض ولا هم تحت شيء من الأرض أي الذين في ناحية الشمال ليسوا تحت الذين في ناحية الجنوب وكذلك من كان في ناحية برج السرطان ليس تحت من كان في ناحية برج العقرب وإن كان بعض جوانب السماء تلي رؤوسنا تارة وأرجلنا أخرى وإن كان فلك الشمس فوق القمر وكذلك السحاب وطير الهواء هو من جميع الجوانب فوق الأرض وتحت السماء ليس شيء منه تحت الأرض ولا من في هذا الجانب تحت من في هذا الجانب وكذلك ما على ظهر الأرض من الجبال والنبات والحيوان والأناسي وغيرهم هم من جميع جوانب الأرض فوقها وهم تحت السماء وليس أهل هذه الناحية تحت أهل هذه الناحية ولا أحد منهم تحت الأرض ولا فوق السماء البتة فكيف تكون السماء تحت الأرض أو يكون من هو فوق السماء تحت الأرض؟ ولو كان شيء منهم تحت الأرض للزم أن يكون كل منهم تحت الأرض وفوقها ولزم أن تكون كل من الملائكة وطير الهواء وحيتان الماء ودواب الأرض فوق الأرض وتحت الأرض ويلزم أن يكون كل شيء فوق ما يقابله وتحته ولزم أن يكون كل من جانبي السماء فوق الآخر وتحت الأرض وأن يكون العرش - إذا كان محيطا بالعالم - تحت السماء وتحت الأرض مع أنه فوق السماء وفوق الأرض ولزم أن تكون الجنة تحت الأرض وتحت جهنم مع أنها فوق السماوات وفوق الأرض وفوق جهنم ولزم أن يكون أهل عليين تحت أهل سجين مع أنهم فوقهم
فإذا كانت هذه اللوازم وأمثالها باطلة باتفاق أهل العقل والإيمان علم أنه لا يلزم من كون الخالق فوق السماوات أن يكون تحت شيء من المخلوقات وكان من احتج بمثل هذه الحجة إنما احتج بالخيال الباطل الذي لا حقيقة له مع دعواه أنه من البراهين العقلية فإن كان يتصور حقيقة الأمر فهو معاند جاحد محتج بما يعلم أنه باطل وإن كان لم يتصور حقيقة الأمر فهو من اجهل الناس بهذه الأمور العقلية التي هي موافقة لما أخبرت به الرسل وهو يزعم أنها تناقض الأدلة السمعية فهو كما قيل :
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
الوجه الثاني
أن يقال: هب أنا لا نأخذ بما يقوله هؤلاء أليس من المعلوم عند جميع الناس أن السماوات فوق الأرض والهواء فوق الأرض والسحاب والطير فوق الأرض والحيتان والدواب والشجر فوق الأرض والملائكة الذين في السماوات فوق الأرض وأهل عليين فوق أهل سجين والعرش أعلى المخلوقات
كما في الصحيحين عن النبي ﷺ لأنه قال: [ إذا سألتم الله الجنة فسلوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة وسقفه عرش الرحمن ]
وهذه الأمور بعضها متفق عليه عند جميع العقلاء وما لم يعرفه جميع العقلاء فهو معلوم عند من يقول به ومن يقل أحد من العقلاء: أن هذه الأمور تحت الأرض وسكانها وعلم العقلاء بذلك أظهر من علمكم بكرية الأفلاك لو قدر أن ذلك معارض لهذا فكيف إذا لم يعارضه
وإذا كانت المخلوقات التي في الأفلاك والهواء والأرض لا يلزم من علوها على ما تحتها أن تكون تحت ما في الجانب الآخر من العالم فالعلي الأعلى - سبحانه - أولى أن لا يلزم من علوه على العالم أن يكون تحت شيء منه
الوجه الثالث
أن يقال: هذه الحجة: إما أن تكون سمعية وإما أن تكون عقلية ومن المعلوم أنها ليست سمعية ولو كانت سمعية لكانت السمعيات التي تدل على علو الله تعالى أنص وأكثر وأظهر على ما لا يخفى على مسلم وإن كانت عقلية فلا بد من بيان مقدماتها بالعقل وهو لم يذكر إلا قوله: ( فإن كان الله في جهة فوق لكان أسفل بالنسبة إلى سكان الوجه الآخر من الأرض وأنه باطل ) فذكر مقدمتين لم يدل عليهما: لزوم كونه أسفل بالنسبة إلى بعض المخلوقات وبطلان هذا اللازم والمنازع ينازع في كل من المقدمتين فلا يسلم لزوم السفول وإن سلم لزومه فلا بد من دليل عقلي ينفي به ذلك وهو لم يذكر على ذلك دليلا
ولا يجوز أن يقال: هذا يوجب النقص وهو منزه عنه لوجهين :
أحدهما: أن المثبت لا يسلم أن هذا نقص ألا ترى أن الأفلاك موصوفة بالعلو على الأرض مع لزوم ما ذكر من السفول تحت سكان الوجه الآخر وليس ذلك نقصا فيها؟ وكذلك كل ما يوصف بالعلو على ما تحته مثل الهواء والسحاب والطير والحيوان والنبات والجبال والمعدن ومثل الملائكة والجنة والعرش وغير ذلك فإذا كانت المخلوقات العالية أشرف في النفوس من المخلوقات السافلة ولم يكن ما ذكره من هذا السفول الإضافي مانعا من هذا الشرف والرتبة ولا يوجب ذلك نقصا - علم أن هذا ليس بنقص
فإن قيل: الناحية الأخرى ليس فيها حيوان ونبات ومعادن وجبال وإنما فيها ماء وكذلك السحاب والمطر قد يمنع كونه فيها
قيل: هذا لا يضرنا فإنا نعلم أن الكواكب والشمس والقمر فوق الأرض مطلقا وعلوها على الأرض ليس بنقص فيها وإن قدر ما تخيلوه في السفول وكذلك إذا قدر هناك مثل ما في هذا الوجه ولو كان ما هناك سافلا للزم أن تكون الشمس والقمر والسماوات إذا ظهرت علينا تحت ذلك الجانب من الأرض وتحت ما هناك ولزم أنه لا تزال الأفلاك تحت الكواكب والشمس والقمر تحت الأرض وهذا في غاية الفساد
ومن العجائب أن هؤلاء النفاة يعتمدون في إبطال كتاب الله وسنة أنبيائه ورسله وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها وما فطر الله عليه عباده وجعلهم مضطرين إليه عند قصده ودعائه ونصب عليه البراهين العقلية الضرورية على مثل هذه الحجة التي لا يعتمدون فيها إلا على مجرد خيال ووهم باطل مع دعواهم أنهم هم الذين يقولون بموجب العقل ويدفعون موجب الوهم والخيال
وكل من له معرفة يعلم أن قول القائل: أن الشمس والقمر والكواكب الدائرة في الفلك هي بالليل تحت الأرض هو من حكم الوهم الفاسد والخيال الباطل ليس له حقيقة في الخارج فيريدون بهذا الوهم والخيال الفاسد أن يبطلوا صريح العقل وصحيح المنقول في أعظم الأصول ويحولوا بين القلوب وقصد خالقها وعبادته بمثل هذا الوهم والخيال الفاسد الملتبس على من لا يفهم حقيقة قولهم
الوجه الثاني: أن يقال: أنتم تقولون: لم يقم دليل عقلي على نفي النقص عن الله تعالى كما ذكر ذلك الرازي متلقيا له عن أبي المعالي وأمثاله وإنما ينفون النقص بالأدلة السمعية وعمدتهم فيه على الإجماع وهو ظني عنده والنصوص الدالة عليه دون النصوص الدالة على العلو في الكثرة والقوة
وإذا كان كذلك وكان علو الله تعالى على خلقه ثابتا بالسمع كان السمع مثبتا لما نفيتموه لا نافيا له ولم يكن في السمع ما ينفي هذا المعنى وإن سميتموه ناقصا فإنه إذا كان عمدتهم الإجماع فلا إجماع في موارد النزاع ولا يجوز الاحتجاج بإجماع في معارضة النصوص الخبرية بلا ريب فإن هذا يستلزم انعقاد الإجماع على مخالفة النصوص وذلك ممتنع في الخبريات وإنما يدعيه من يدعيه في الشرعيات ويقولون: نحن نستدل بالإجماع على أن النص منسوخ
الوجه الرابع
أن يقال: إذا قدرنا موجودين أحدهما عظيم كبير أعظم من السماوات والأرض بحيث يمكنه أن يحيط بذلك كله ويحتوي عليه وآخر لا يشار إليه وليس هو داخل العالم ولا خارجه كان من المعلوم بالضرورة أن الأول أكمل وأعظم
فإذا قال قائل: هذه العظمة تقتضي إذا كان محيطا بالعالم أن يكون تحت شيء منه كان من المعلوم أن وصف ذاك له بأنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء ولا يحيط بشيء ولا يوصف بأنه عظيم كبير في نفسه ولا أنه ليس بعظيم كبير في نفسه - أعظم نقصا من وصفه بإحاطة ما يستلزم إحاطته بجميع الموجودات
الوجه الخامس
أن يقال: هب أن العالم كري فلم قلت: إنه إذا كان فوق العالم يلزم أن يكون تحت بعضه فإن هذا إنما يلزم إذا قدر أنه محيط بالعالم كله من جميع الجهات فأما إذا قدر أنه فوق العالم من هذه الجهة التي عليها الحيوان والنبات والمعدن لم يلزم أن يكون تحت العالم من تلك الجهة فلو فرضنا مخلوقين أحدهما مدور والآخر فوق المدور ليس محيطا به كما يجعل الإنسان تحت قدمه حمصة أو بندقة لك يلزم أن يكون الذي فوق المدور تحت المدور بوجه من الوجوه
وإذا قيل: المحيط بالمدور كالفلك التاسع المحيط بالأرض وهو العالي من كل جانب
قيل: هو العالي بالنسبة إلى ما في جوف المدور وأما بالنسبة إلى ما فوق المدور فلا بل المحيط وما في جوفه تحت ذلك الفوقاني مطلقا كما أن الحمصة والبندقة تحت الرجل الموضوعة عليها
ومما يوضح ذلك أن مركز الفلك هو السفل المطلق للفلك والفلك من كل جانب عال عليه فإذا قدر فوق الفلك من الجانب الذي يلي الجانب الذي عليه الأنام ما هو أعلى من الفلك من هذا الجانب وليس محيطا به ولا مركز العال مركزا له - امتنع أن يكون هذا تحت شيء من العالم بل هو قطعا فوق الأفلاك من هذا الجانب وليس تحتها من ذلك الجانب فيلزم أن يكون هو فوقها لا تحتها
وإذا قال القائل: هذا كما لا يوصف بالسفول فهو لا يوصف أيضا بالعلو فإن العالي المطلق هو المحيط إذا ليس إلا المحيط والمركز وهذا إذا لم يكن محيطا لم يكن عاليا
قيل: عن هذا جوابان: أحدهما: أنه على هذا التقدير إذا كان محيطا لم يكن سافلا البتة بل يكون عاليا وعلى هذا فإذا كان هو الظاهر الذي ليس فوقه شيء وهو الباطن الذي ليس دونه شيء ولو أدلى المدلي بحبل لهبط عليه - كان محيطا بالعالم عاليا عليه مطلقا ولم يلزم من ذلك أن يكون فلكا ولا مشابها للفلك فإن الواحد من المخلوقات تحيط قبضته بما في يده من جميع جوانبها وليس شكلها شكل يده بل ولا شكل يده شكلها
وذكر أن بعض الشيوخ سئل عن كون الرب عاليا محيطا بالعالم ممسكا له فقال: بعض مخلوقاته كالباشق مثلا يقبض بيده حمصة فيكون فوقها محيطا بها ممسكا لها فإذا كان هذا لا يمتنع في بعض مخلوقاته فكيف يكون ممتنعا في حقه
الثاني: أنه إذا قدر أنه عال وليس بمحيط لم يلزم أن يكون له مركز ولا أن يكون مركز العالم مركزا له وأن يكون المركز هو السفل بالنسبة إليه وأن يكون العالي هو المحيط بالنسبة إليه بل ذلك إنما يلزم في المحيط والمحاط به فالمركز من المحيط كالنقطة من الدائرة فإذا قدر ما ليس بدائرة ولا هو كرة لم يكن له مركز كنقطة الدائرة
ولهذا لو قدر أن السماوات ليست محيطة بالأرض لم يكن لها مركز مع تقدير الكرة المستديرة فلا بد لها من نقطة في وسطها هو المركز وأما ما ليس بمستدير ولا هو كرة فليس مركز الكرة - وهو النقطة التي وسطها - مركزا له سواء جعل فوق المستدير أو تحته فلا يمتنع أن يكون شيء فوق المستدير وتحته إذا لم يكن مستديرا ولا يكون مع هذا مشاركا للمستدير في أن النقطة التي هي المحيطة مركزا له بل المركز نسبته إلى جميع جهات المحيط واحدة وليست نسبته إلى ما فوق المحيط أو تحته - إذا قدر أن فوقه شيء أو تحته شيء ليس مستدير - نسبة واحدة بل يكون المركز مع المحيط تحت هذا الشيء المعين الذي ليس بمستدير كما قد يمكن أن يكون فوق شيء آخر فالمركز بالنسبة إلى المحيط تحته والمحيط فوقه
وأما ما يقدر فوق المحيط فهو عال على الجميع قطعا ويمتنع أن يقال: إنه ليس فوق المحيط فإنه معلوم بصريح العقل أن الهواء فوق الأرض والسماء فوق الأرض وهذا معلوم قبل أن يعلم كون السماء محيطة بالأرض بل الإحاطة قد يظن أنها مناقضة للعلو لا يقول أحد: إن العلم بالعلو موقوف على العلم بها ولا إن العلو مشروط بها فإن الطير فوق الأرض وليست محيطا بها والسحاب فوق الأرض وليس محيطا بها وكل جزء من أجزاء الفلك هو فوق الأرض وليس محيطا بها فتبين أن العلو معنى معقول مع أنه لا يشترط فيه الإحاطة وإن كانت الإحاطة لا تناقضه
وهؤلاء النفاة حائرون: تارة يجعلون الإحاطة مناقضة للعلو وتارة يجعلونها شرطا في العلو لازمة له ونحن قد بينا خطأهم في هذا وهذا فلا هي مناقضة له ولا هي منافية له
ولهذا كان الناس يعلمون أن السماء فوق الأرض والسحاب فوق الأرض قبل أن يخطر بقلوبهم أنها محيطة بالأرض
وكذلك يعلمون أن الله فوق العالم وإن لم يعلموا أنه محيط به وإذا علموا أنه محيط لم يمنع ذلك علمهم بأنه فوق
فتبين أنه ليس من شرط العلم بكون الشيء عاليا أن يعلم أنه محيط ولو كانت الإحاطة شرطا في العلم امتنع العلم بالمشروط دون شرطه ولكن لما كان في نفس الأمر الأفلاك عالية محيطة كانت الإحاطة والعلو متلازمين في هذا - محال فإن قدر أن كل عال فهو محيط كان العلو والإحاطة متلازمين وإن قدر وجود موجود عال ليس بمحيط لم تكن الإحاطة لازمة للعلو
فقد تبين أنه بتقدير أن يكون الرب عاليا ليس بمحيط فهو عال وبتقدير أن يكون عاليا محيطا فهو عال فثبت علوه على التقديرين وهو المطلوب وإذا كان هذا معقولا في مخلوقين ففي الخالق بطريق الأولى
وقد قررت هذا على وجه آخر بأن يقال: فإن قيل: المحيط لا يتميز منه جانب دون جانب بكونه فوقا وسفلا فلا يمكن إذا قدر شيء خارجا عنه أن يقال: هو فوقه إلا كما يقال: هو سفله وحينئذ ففرض شيء خارج عن المدور المحيط مع كونه فوقه جمع بين الضدين
قيل: الجواب عن هذا من وجوه :
أحدها: أن هذا الكلام إن كان صحيحا لزم بطلان حجتكم وإن لم يكن صحيحا لزم بطلانها فثبت بطلانها على تقدير النقيضين فيلزم بطلانها في نفس الأمر لأن الحق في نفس الأمر لا يخلو عن النقيضين
بيان ذلك أن المحيط إما أن يصح أن يقال: إن بعضه عال وبعضه سافل وإما أن لا يصح فإن لم يصح بطل أن يكون الخارج عنه تحت شيء من العالم بل إذا قدر أنه يحيط به ولو بقبضته له لزم أن يكون عاليا عليه مطلقا ولم يكن سافلا تحت شيء من العالم وإن صح أن يكون بعضه عاليا وبعضه سافلا أمكن أن يكون مباينا للعالم من الجهة العالية فيكون عاليا عليه
وإن قيل: بل المحيط إذا حاذى رؤوسنا كان عاليا وإذا حاذى أرجلنا كان سافلا فلا يزال بعضه عاليا وبعضه سافلا
قيل: فعلى هذا التقدير يكون العالي ما كان فوق رؤوسنا وحينئذ فإذا كان مباينا للعالم من جهة رؤوسنا دون أرجلنا لم يزل عاليا علينا دائما وهو المطلوب
الوجه الثاني: أن يقال: هب أنه محيط بالعالم وفوقه من جميع الجهات فإنما يلزم ما ذكرت أن لو كان من جنس فلك من الأفلاك فإن المتخيل قد يتوهم أن ما استدار وأحاط بالأفلاك كان تحت بعض العالم من بعض الجهات
ومن المعلوم أن الله تعالى ليس مثل فلك من الأفلاك ولا يلزم إذا كان فوق العالم ومحيطا به أن يكون مثل فلك فإنه العظيم الذي لا أعظم منه
وقد قال تعالى: { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } [ الزمر: 67 ]
وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ من غير وجه ما يوافق ذلك مثل حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: [ يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يهزهن ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟ ] وفي رواية: [ أنها تكون بيده مثل الكرة في يد الصبيان ] وروي ما هو أقل من ذلك
والمقصود أنه إذا كان الله أعظم وأكبر وأجل من أن يقدر العباد قدره أو تدركه أبصارهم أو يحيطون به علما وأمكن أن تكون السماوات والأرض في قبضته لم يجب - والحال هذه - أن يكون تحت العالم أو تحت شيء منه فإن الواحد من الآدميين إذا قبض قبضة أو بندقة أو حمصة أو حبة خردل وأحاط بها بغير ذلك لم يجز أن يقال: إن أحد جانبيها فوقه لكون يده لما أحاطت بها كان منها الجانب الأسفل يلي يده من جهة سفلها ولو قدر من جعلها فوق بعضه بهذا الاعتبار لم يكن هذا صفة نقص بل صفة كمال
وكذلك أمثال ذلك من إحاطة المخلوق ببعض المخلوقات كإحاطة الإنسان بما في جوفه وإحاطة البيت بما فيه وإحاطة السماء بما فيها من الشمس والقمر والكواكب فإذا كانت هذه المحيطات لا يجوز أن يقال: إنها تحت المحاط وأن ذلك نقص مع كون المحيط يحيط به غيره فالعلي الأعلى المحيط بكل شيء الذي تكون الأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه كيف يجب أن يكون تحت شيء مما هو عال عليه أو محيط به ويكون ذلك نقصا ممتنعا
وقد ذكر أن بعض المشايخ سئل عن تقريب ذلك إلى العقل فقال للسائل: إذا كان باشق كبير وقد أمسك برجله حمصة أليس يكون ممسكا لها في حال طيرانه وهو فوقها ومحيط بها فإذا كان مثل هذا ممكنا في المخلوق فكيف يتعذر في الخالق
بقية كلام الرازي في لباب الأربعين
قال الرازي: ( واحتج الخصم بالعلم الضروري بأن كل موجودين فإن أحدهما سار في الآخر أو مباين عنه في الجهة )
قال: ( والجواب أن دعوى الضرورة قد سبق بطلانها وبقي القسم الثالث فهذه المقدمة توجب الدور لتوقف ثبوتها على نفيها )
الرد على كلام الرازي
والاعتراض على هذا: أن دعوى الضرورة لا يمكن إبطالها إلا بتكذيب المدعي أو بيان خطئه والمدعون لذلك أمم كثيرة منتشرة يعلم أنها لم يتواطأوا على الكذب فالقدح في ذلك كالقدح في سائر الأخبار المتواترة فلا يجوز أن يقال: إنهم كذبوا فيما أخبروا به عن أنفسهم من العلم الضروري
وأيضا فالمنازع يسلم أن مثل هذا مستقر في فطر جميع الناس وبدائههم وأنهم مضطرون إليه لا يمكنهم دفعه عن أنفسهم إلا كما يمكن دفع أمثاله مما هم مضطرون إليه وإنما يقولون: إن هذه الضرورة خطأ وهي من حكم الوهم
وقد تقدم بيان فساد ذلك وأن هذه قضية كلية عقلية لا خبرية معينة ولو كانت خبرية معينة فالجزم بها كالجزم بسائر الحسيات الباطنة والظاهرة فهي لا تخرج عن العقليات الكلية والحسيات المعينة وكما يمتنع اتفاق الطوائف الكثيرة التي لم تتواطأ على دعوى الكذب في مثل ذلك يمتنع اتفاقهم على الخطأ في مثل ذلك ولو جاز الخطأ في مثل ذلك لم يكن الجزم بما يخبر به الناس عما عرفوه بالحس أو الضرورة لإمكان غلطهم في ذلك فإن غلط الحس الظاهر أو الباطن أو العقل يقع لآحاد الناس ولطائفة حصل بينها مواطأة وتلقي بعضها عن بعض كالمذاهب الموروثة وكقول التابعين لكون هذا معلوما بالضرورة فإنهم أهل مذهب تلقاه بعضهم عن بعض
وأما الجازمون بالضرورة في أن الله فوق العالم أو أنه لا يعقل موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يعقل موجودان ليس أحدهما محايثا للآخر ولا مباينا له وأن مثل هذا ممتنع بالضرورة التي يجدونها في أنفسهم كسائر العلوم الضرورية فهؤلاء أمم كثيرة لم يتواطأوا ولم يتفقوا على مذهب معين
وأما قوله: ( وبقي القسم الثالث فهذه المقدمة توجب الدور لتوقف ثبوتها على نفيها )
فليس الأمر كذلك لأن هذه المقدمة الضرورية لا يتوقف ثبوتها على نفي ما يعارضها كسائر المعارف الضرورية بل نعلم بالضرورة أن ما عارضها من النظريات فهو باطل على سبيل الجملة وإن لم نذكر حل الشبه على وجه التفصيل كما نعلم فساد سائر النظريات السوفسطائية المعارضة للعلوم الضرورية
وإذا قال قائل: لا تثبت هذه المقدمة حتى ينفي المعارض المبطل لها ونفسي ذلك لا يكون إلا بثبوتها
كان قوله ممنوعا غير مقبول باتفاق العقلاء على نظائر ذلك فإن كل مقدمة ضرورية لا يتوقف ثبوتها على نفي ما يقدح فيها والاستدلال بها لا يتوقف على ذلك بل هم يقولون: إن القضايا اليقينية سواء كانت ضرورية أو نظرية لا يتوقف العلم بموجبها على نفي المعارض ولو توقف على ذلك لم يعلم أحد شيئا لأن ما يخطر بالقلوب من الشبهات المعارضة لا نهاية له فكيف يحتاج إلى العلوم الضرورية إلى نفي المعارض
ولهذا كان جميع العقلاء السالمي الفطرة يحكمون بموجب هذه القضية الضرورية قبل أن يعلموا أن في الوجود من ينكرها ويخالفها وأكثر الفطر السليمة إذا ذكر لهم قول النفاة بادروا إلى تجهيلهم وتكفيرهم ومنهم من لا يصدق أن عاقلا يقول ذلك لظهور هذه القضية عندهم واستقرارها في أنفسهم فينسبون من خالفها إلى الجنون حتى يروا ذلك في كتبهم أو يسمعوه من أحدهم
ولهذا تجد المنكر لهذه القضية يقر بها عند الضرورة ولا يلتفت إلى ما اعتقدوه من المعارض لها فالنفاة لعلو الله إذا حزب أحدهم شدة وجه قلبه إلى العلو يدعو الله
ولقد كان عندي من هؤلاء النافين لهذا من هو من مشايخهم وهو يطلب مني حاجة وأنا أخاطبه في هذا المذهب كأني غير منكر له وأخرت قضاء حاجته حتى ضاق صدره فرفع طرفه ورأسه إلى السماء وقال: يا الله فقلت له: أنت محق لمن ترفع طرفك ورأسك؟ وهل فوق عندك أحد؟ فقال: أستغفر الله ورجع عن ذلك لما تبين له أن اعتقاده يخالف فطرته ثم بينت له فساد هذا القول: فتاب من ذلك ورجع إلى قول المسلمين المستقر في فطرهم
كلام الرازي عن الجهة في لباب الأربعين
قال الرازي: ( واحتج الخصم أيضا بأن اختصاص الجسم بالحيز والجهة إنما كان لكون قائما بالنفس ) يعني: وهذا ثابت لكل قائم بنفسه ( وإذا كان في جهة كان في جهة فوق لأن اختصاص الأشرف بالأشرف هو المناسب ولأن الخلق بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم إليها عند التضرع والدعاء ) قال :
( والجواب أن اختصاص الجسم بالحيز والجهة قد يكون لذاته المخصوصة فإنه لا يجب أن يكون اختصاص كل شيء بصفة لصفة أخرى )
الرد عليه
والاعتراض على ذلك أن يقال: إن عنيت بذاته المخصوصة هو ما يمتاز به جسم عن جسم كما يقال: اختصاص الفلك بالحيز لكونه فلكا واختصاص الماء بالحيز لكونه ماء واختصاص الهواء بالحيز لكونه هواء فهذا باطل لا يقوله عاقل فإن جميع الأجسام مشتركة في الاختصاص بالحيز والجهة والحكم العام المشترك بينها لا يكون إلا لما امتاز به بعضها عن بعض فإنه لو كان لما امتاز به بعضها عن بعض وجب أن يختص ببعضها كسائر ما كان من ملزومات المخصصات المميزات
وإذا قيل: إن المختلفات يجوز أن تشترك في لازم عام كاشتراك أنواع الحيوانات المختلفة في الحيوانية فهذا صحيح لكن لا يجوز أن يكون الحكم العام المشترك فيه لأجل ما يخص به كل حيوان
وإذا قيل: إن الحكم الواحد بالنوع يجوز أن يعلل بعلتين مختلفتين كما يعلل حل الدم بالردة والقتل والزنا وكما يعلل الملك بالإرث والبيع والاصطياد وكما يعلل وجوب الغسل بالإنزال والإيلاج والحيض فالوجوب الثابت بهذا السبب ليس هو بعينه الوجوب الثابت بهذا السبب لكنه نظير مع أنهما يختلفان بحسب اختلاف الأسباب فليس الملك الثابت بالإرث مساويا للملك الثابت بالبيع من كل وجه بل له خصائص يمتاز بها عنه وكذلك حل الدم الثابت بالردة ليس مساويا لحل الدم الثابت بالقتل بل بينهما فروق معينة
وكذلك الغسل المشروع بالحيض مخالف للغسل المشروع بالإيلاج من بعض الوجوه وأما الإنزال والإيلاج فهما نوع واحد
وأما ما جزم العقل بثبوته للقدر المشترك فيجب أن يضاف إلى قدر مشترك والعقل يجزم بثبوت الحيز والجهة لكل جسم من غير أن يعلم كل جسم بل لا يعقل حقيقة الجسم عنده إلا مع كونه متحيزا ذا جهة فصار هذا من لوازم القدر المشترك فلا يجوز أن يضاف إلى المخصصات
وقوله: ( لا يجب أن يكون اختصاص كل شيء بصفة لصفة أخرى )
إنما تكون حجة لو قيل: العلة في ثبوت هذه الصفة لصفة أخرى وليس هذا هو المدعي بل المدعي أن هذا من لوازم القدر المشترك سواء قيل: إنه معلول له أو غير لازم غير معلول له وحينئذ فلا يحتاج أن نقول: ثبت لصفة أخرى بل يمكن أن يكون لازما لنفس الذات لكن هو لازم لسائر ما يشابهها في الحيز والجهة فلم يكن لزومه لها من جهة ما يمتاز به عن غيرها بل من جهة القدر المشترك بينها وبين غيرها من الأجسام
فعلم أن اتصاف الجسم بكونه متحيزا وذا جهة لازم له لعموم كونه جسما لا لخصوص المعينات بمعنى أن المشترك مستلزم لهذا الحكم
وإن عنيت بذاته المخصوصة القدر المشترك بين الأجسام فلفظ ( الجسم ) مجمل إن عنيت به كل ما يشار إليه فتسمية مثل هذا جسما مما ينازعك فيه من ينازعك من أهل الإثبات والكلام في المعاني العقلية لا في المنازعات العقلية
وصاحب هذا القول قد يمنع أن كل ما يشار إليه مركب من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة وحينئذ فالناس هنا طوائف: منهم من يقول لك: هو فوق العرش وليس بجسم ومنهم من يقول لك: هو فوق العالم وهو جسم بمعنى أنه يشار إليه لا بمعنى أنه مركب ومنهم من يسلم لك أنه يلزم أن يكون مركبا ومنهم من لا يطلق الألفاظ البدعية في النفي ولا الإثبات بل يراعي المعاني العقلية والألفاظ الشرعية فيقولون لك: القدر مشترك بينهما هو القيام بالنفس فإنها كلها مشتركة في القيام بالنفس وفي التحيز وفي الجهة فهذه أمور متلازمة
ويقول لك كثير منهم أو أكثرهم: لا يعقل قائم بنفسه غير متحيز كما لا يعقل قائم بغيره إلا وهو صفة سواء سمي عرضا أو لم يسم فإثبات المثبت قائما بنفسه لا يشار إليه أمر لا يعقل عند عامة العقلاء كإثباته قائما بغيره ليس صفة له
يوضح ذلك أن الأجسام مختلفة على أصح قولي الناس وإنما اشتركت في مسمى القيام بالنفس والمقدار مع القيام بالنفس فكما أن التحيز والجهة هما من لوازم المقدار العام لا من لوازم ما يختص ببعضها فكذلك هما من لوازم القيام بالنفس العام لا من لوازم ما يختص ببعضها وإن عنيت بلفظ الجسم ما هو مركب من المادة والصورة أو من الجواهر المفردة كما هو قول طوائف من أهل الكلام والفلسفة فهنا المنازعون لك صنفان: منهم من يقول: هو جسم مركب من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة وهؤلاء - وإن كان قولهم باطلا - فليس لك حجة تبطل بها قولهم بل هم على إبطال قولك أقدر منك على إبطال قولهم فإن كل قول يكون أبعد عن الحق تكون حجج صاحبه أضعف من حجج من هو أقل خطأ منه
وقول المعطلة لما كان أبعد عن الحق من قول المجسمة كانت حجج أهل التعطيل أضعف من حجج أهل التجسيم ولما كان مرض التعطيل أعظم كانت عناية الكتب الإلهية بالرد على أهل التعطيل أعظم وكانت الكتب الإلهية قد جاءت بإثبات صفات الكمال على وجه التفصيل مع تنزيهه عن أن يكون له فيها مثيل بل يثبتون له الأسماء والصفات وينفون عنه مماثلة المخلوقات ويأتون بإثبات مفصل ونفي مجمل فيثبتون أن الله حي عليم قدير سميع بصير غفور رحيم ودود إلى غير ذلك من الصفات ويثبتون مع ذلك أنه لا ند له ولا مثل له ولا كفو له ولا سمي له
ويقول تعالى: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } [ الشورى: 11 ] ففي قوله: { ليس كمثله شيء } رد على أهل التمثيل وفي قوله: { وهو السميع البصير } رد على أهل التعطيل
ولهذا قيل: الممثل يعبد صنما والمعطل يعبد عدما
والمقصود هنا أن هؤلاء النفاة لا يمكنهم إقامة حجة على غلاة المجسمة الذين يصفونه بالنقائص حتى الذين يقولون ما يحكى عن بعض اليهود أنه بكى على الطوفان حتى رمد وأنه عض يده حتى جرى منه الدم ندما ونحو ذلك من المقالات التي هي من أفسد المقالات وأعظمها كفرا ليس مع هؤلاء النفاة القائلين بأنه بداخل العالم ولا خارجه حجة عقلية يبطلون بها مثل هؤلاء الأقوال الباطلة فكيف بما هو دونها من الباطل فكيف بالأقوال الصحيحة
وذلك أن عمدتهم على أن هذه الصفات تستلزم التجسيم وهو باطل وعمدتهم في نفي التجسيم على امتناع اتصافه بالصفات ويمسونه التركيب أو على حدوث الجسم الذي مبناه على أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وعلى أن ما اختص بشيء فلا بد له من مخصص من غير فرق بين الواجب بذاته القديم الأزلي وبين غيره مع العلم بأنه لا بد للموجود الواجب من حقيقة يختص بها يتميز بها عما سواه وأن ما اختصت به حقيقته يمتنع أن يكون لها مخصص كما يمتنع أن يكون لوجوده الواجب موجب أو لعلمه معلم أو لقدرته مقدور ونحو ذلك
وإذا كان كذلك فهؤلاء يقولون لك: الاختصاص بالحيز والجهة إنما كان لكون المختص بها قائما بالنفس فيكون كل قائم بنفسه مختصا بالحيز والجهة لذاته المخصوصة فقد ظهر بطلان ذلك
وإن قلت: إنما اختص بالجهة المخصوصة والحيز المخصوص لذاته المخصوصة لم ينازعوك في ذاك بل يقولون: الاختصاص بجنس الجهة والحيز كان لجنس القيام بالنفس فجنس الاختصاص لازم لجنس القيام بالنفس فكل قائم بنفسه مختص بحيز وجهة فقد تبين أن كونه متحيزا ذا جهة لازم لعموم كونه جسما لا لخصوص جسم معين
وحينئذ فإن قلت: كما أن الاختصاص بالجهة والحيز من لوازم القيام بالنفس فهو مستلزم لكونه جسما
قالوا لك: ونحن نقول بذلك
وكذلك إذا قلت لهم: كما لا تعقلون قائما بنفسه إلا مختصا بجهة وحيز فلا تعقلون قائما بنفسه إلا جسما
قالوا لك: ونحن نقوم بذلك
فإذا شرعت معهم في نفي الجسم كان لهم طريقان: أحدهما: أن يقولوا: هذا قدح في الضروريات بالنظريات: فلا نقبله كما تقدم
والثاني: أن يبينوا بطلان أدلة النافية للتجسيم وأن تعترف ببطلانها
فأنت في غير موضع من كتبك ومن تقدمك كالغزالي وغيره تبينون فساد حجج المتكلمين على أن كل جسم محدث وتقدحون فيها بما لا يمكن إبطاله كما فعلت في المباحث المشرقية والمطالب العالية بل كما فعل من بعدك الآمدي والآرموي وغيرهما وأنتم في مواضع أخر تقدحون في حجج من احتج على أن الجسم مركب وكل مركب فهو مفتقر بذاته وتقدحون في أدلة الفلاسفة التي احتجوا بها على إمكان كل مركب كما فعل ذلك الغزالي في تهافت الفلاسفة وكما فعله الرازي والآمدي وغيرهما
وهذه الحجة - وهي الاحتجاج بكون الرب قائما بنفسه على كونه مشارا إليه وأنه فوق العالم - لما كانت حجة عقلية لا يمكن مدافعتها وكانت مما ناظر به الكرامية لأبي إسحاق الإسفراييني فر أبو إسحاق وغيره إلى إنكار كون الرب قائما بنفسه بالمعنى المعقول وقال: لا أسلم أنه قائم بنفسه إلا بمعنى أنه غني عن المحل فجعل قيامه بنفسه وصفا عدميا لا ثبوتيا وهذا لازم لسائرهم
ومعلوم أن كون الشيء قائما بنفسه أبلغ من كونه قائما بغيره فإذا كان العرض القائم بغيره يمتنع أن يكون عدميا فقيام الجسم بنفسه أبلغ في الامتناع وإذا كان المخلوق قائما بنفسه فمعلوم أن هذه صفة كمال تميز بها الجسم عن العرض فخالق الجميع كيف لا يتصف إلا بهذه الصفة الكمالية
بل لا يكون قائما بنفسه ولا بغيره إلا بمعنى عدمي فيكون المخلوق مختصا بصفة موجودة كمالية والخالق لا يتصف إلا بالأمر العدمي فيكون المخلوق متصفا بصفة كمال وجودية والخالق مختصا بالأمر العدمي والعدم لا يكون قط صفة كمال إلا إذا تضمن أمرا وجوديا فما ليس بوجود ولا كمال في الوجود فليس بكمال فإن لم يكن القيام بالنفس متضمنا لأمر وجودي بل لا معنى له إلا العدم المحض لم يكن صفة كمال وعدم افتقاره إلى الغير أمر عدمي والعدمي إن لم يتضمن صفة ثبوتية لم يكن صفة كمال والعدم المحض لا يفتقر إلى محل وكل صفة لا يشاركه فيها المعدوم لم تكن صفة كمال
وأما الصنف الثاني فهم يوافقونك على أن صانع العالم ليس بمركب من الجواهر المفردة ولا من المادة والصورة فليس هو بجسم
وحينئذ فقولك: إن اختصاص الجسم بالحيز والجهة قد يكون لذاته المخصوصة إن عنيت بذاته المخصوصة هذا التركيب فهذا المعنى ممنوع عنده فضلا عن أن يكون علة لهذا الحكم
وإن عنيت بذاته المخصوصة ما هو مشترك بين الأجسام من كونها مشارا إليها فلا يسلم لك أن في الوجود قائما بنفسه غير مشار إليه
بقية كلام الرازي في لباب الأربعين عن الجهة
قال الرازي: في حجة خصمه: ( وإذا كان في جهة كان في جهة فوق لأن اختصاص الأشرف بالأشرف هو المناسب )
قال: ( والجواب: قوله: جهة فوق أشرف الجهات خطابي لا يثبت به العقليات )
قال: ( ولأن العالم كرة فلا فوق إلا وهو تحت بالنسبة ولأنه إن لم يكن لامتداده في جهة العلو نهاية فكل نقطة فوقها نقطة أخرى فلا شيء يفرض فيه إلا وهو سفل وإن كان له نهاية كان فوق طرفه الأعلى خلاء أعلى منه فلم يكن علوا مطلقا ولأن الشرف الحاصل بسبب الجهة للجهة بالذات وللحاصل فيها بالعرض فكان المكان في هذا الباب أشف منه تعالى الله عن ذلك )
الرد على الرازي وبيان تقرير العلو بالأدلة العقلية من طرق
قلت: ولقائل أن يقول: تقرير العلو بالأدلة العقلية ثبت من طرق :
الطريق الأول: أن يقال: إذا ثبت بالعقل أنه مباين للمخلوقات وثبت أن العالم كري وإن العلو المطلق فوق الكرة لزم أن يكون في العلو بالضرورة
وهذه المقدمات عقلية ليس فيها خطابي وذلك لأن العالم إذا كان مستديرا فله جهتان حقيقيتان: العلو والسفل فقط وإذا كان مباينا للعالم امتنع أن يكون في السفل داخلا فيه فوجب أن يكون في العلو مباينا له وقد تقدم أن النافي قال: ( إن العالم كرة ) واستدل على ذلك بالكسوف القمري إذا كان يتقدم في الناحية الشرقية على الغربية
والقول بأن الفلك مستدير هو قول جماهير علماء المسلمين والنقل بذلك ثابت عن الصحابة والتابعين بل قد ذكر أبو الحسين بن المنادي وأبو محمد بن حزم وابن الجوزي وغيرهم: أنه ليس في ذلك خلاف بين الصحابة والتابعين وغيرهم من علماء المسلمين وقد نازع في ذلك طوائف من أهل الكلام والرأي من الجهمية والمعتزلة وغيرهم
وقال الله تعالى: { وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون } [ الأنبياء: 33 ] وقال: { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون } [ يس: 40 ]
قال ابن عباس وغيره: في فلكة مثل فلكة المغزل
وفي حديث جبير بن مطعم عن النبي ﷺ الذي رواه أبو داود والترمذي وغيرهما [ أن أعرابيا قال: يا رسول الله جهدت الأنفس وجاع العيال وهلك المال فادع الله لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك فسبح رسول الله ﷺ حتى عرف ذلك في وجوه الصحابة ثم قال: ( ويحك أتدري ما الله؟ شأن الله أعظم من ذلك إن الله لا يستشفع به أحد من خلقه إن عرشه على سماواته هكذا وقال بأصابعه مثل القبة وأنه ليأط به أطيط الرحل الجديد براكبه ] وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
وإذا كان الخصم قد استدل بذلك كان ذلك حجة عليه فإذا كان العالم كريا - وقد ثبت بالضرورة أنه: إما مداخل له وإما مباين له وليس بمداخل له وجب أن يكون مباينا له وإذا كان مباينا له وجب أن يكون فوقه إذ لا فوق غلا المحيط وما كان وراءه
الطريق الثاني: أن يقال: علو الخالق على المخلوق وأنه فوق العالم أمر مستقر في فطر العباد معلوم لهم بالضرورة كما اتفق عليه جميع الأمم إقرارا بذلك وتصديقا من غير أن يتواطأوا على ذلك ويتشاعروا وهم يخبرون عن أنفسهم أنهم يجدون التصديق بذلك في فطرهم
الطريق الثالث: أن يقال: هم عندنا يضطرون إلى قصد الله وإرادته مثل قصده عند الدعاء والمسألة يضطرون إلى توجه قلوبهم إلى العلو فكما أنهم مضطرون إلى دعائه وسؤاله وهم مضطرون إلى أن يوجهوا قلوبهم إلى العلوم إليه لا يجدون في قلوبهم توجها إلى جهة أخرى ولا استواء الجهات كلها عندها وخلو القلوب عن قصد جهة من الجهات بل يجدون قلوبهم مضطرة إلى أن تقصد جهة علوهم دون غيرها من الجهات
وهذا الوجه يتضمن بيان اضطرارهم إلى قصده في العلو وتوجههم عند دعاءه إلى العلو والأول يتضمن فطرتهم على الإقرار بأنه في العلو والتصديق بذلك فهذا فطرة واضطرار إلى العلم والتصديق والإقرار وذلك اضطرار إلى القصد والإرادة والعمل متضمن للعلم والتصديق والإقرار
الطريق الرابع: أن يقال: قوله ( جهة فوق أشرف الجهات خطابي ) ليس كذلك وذلك لأنه قد ثبت بصريح المعقول أن الأمرين المتقابلين إذا كان أحدهما صفة كمال والآخر صفة نقص فإن الله يوصف بالكمال منهما دون النقص فلما تقابل الموت والحياة وصف بالحياة دون الموت ولما تقابل العلم والجهل وصف بالعلم دون الجهل ولما تقابل القدرة والعجز وصف بالقدرة دون العجز ولما تقابل الكلام والبكم وصف بالكلام دون البكم ولما تقابل السمع والبصر والصمم والعمى وصف بالسمع والبصر دون الصمم والعمى ولما تقابل الغنى والفقر وصف بالغنى دون الفقر ولما تقابل الوجود والعدم وصف بالوجود دون العدم ولما تقابل المباينة للعالم والمداخلة له وصف بالمباينة دون المداخلة وإذا كان مع المباينة لا يخلو إما أن يكون عاليا على العالم أو مسامتا له وجب أن يوصف بالعلو دون المسامتة فضلا عن السفول
والمنازع يسلم أنه موصوف بعلو المكانة وعلو القهر وعلو المكانة معناه أنه أكمل من العالم وعلوه القهر مضمونه أنه قادر على العالم فإذا كان مباينا للعالم كان من تمام علوه أن يكون فوق العالم لا محاذيا له ولا سافلا عنه ولما كان العلو صفة كمال كان ذلك كم لوازم ذاته فلا يكون مع وجود غيره إلا عاليا عليه لا يكون قط غير عال عليه
كما ثبت في الصحيح الذي في صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه كان يقول في دعائه [ أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء ]
ولهذا كان مذهب السلف والأئمة أنه مع نزوله إلى سماء الدنيا لا يزال فوق العرش لا يكون تحت المخلوقات ولا تكون المخلوقات محيطة به قط بل هو العلي الأعلى: العلي في دنوه القريب في علوه
ولهذا ذكر غير واحد إجماع السلف على أن الله ليس في جوف السماوات ولكن طائفة من الناس قد يقولون: إنه ينزل ويكون العرش فوقه ويقولون: إنه في جوف السماء وإنه قد تحيط به المخلوقات وتكون أكبر منه
وهؤلاء ضلال جهال مخالفون لصريح المعقول وصحيح المنقول كما أن النفاة الذين يقولون: ليس داخل العالم ولا خارجه جهال ضلال مخالفون لصريح المعقول وصحيح المنقول فالحلولية والمعطلة متقابلان
الطريق الخامس: أن يقال: إذا كان مباينا للعالم: فإما أن يقدر محيطا به أو لا يقدر محيطا به سواء قدر أنه محيط به دائما أو محيط به في بعض الأوقات كما يقبض يوم القيامة ويطوي السماوات فإن قدر محيط به كان عاليا علو المحيط على المحاط به
وقد تقدم قولهم: ( إن الفلك كري ) فيلزم أن تكون الأفلاك محيطة بالأرض فهي فوقها باتفاق العلماء فما كان محيطا بالجميع أولى بالعلو والارتفاع سبحانه وتعالى وإن لم يكن مماثلا لشيء من المخلوقات ولا مجانسا لأفلاك ولا غيرها
وإن لم يقدر محيطا به فإن كان العالم كريا وليس لبعض جهاته اختصاص بالعلو فإذا كان مباينا له لزم أن يكون عاليا كيفما كان الأمر
وإن قدر أن العالم ليس بكري أو هو كري ولكن بعض جهاته لها اختصاص بالعلو مثل أن تقول: إن الله وضع الأرض وبسطها للأنام فالجهة التي تلي رؤوس الناس هي جهة العلو من العالم دون الأخرى فحينئذ إذا كان مباينا وقدر أنه غير محيط فلا بد من اختصاصه بجهة العلو أو غيرها
ومن المعلوم أن جهة العلو أحق بالاختصاص لأن الجهة العالية أشرف بالذات من السافلة ولهذا اتفق العلماء على أن جهة السماوات أشرف من جهة الأرض وجهة الرأس أشرف من جهة الرجل فوجب اختصاصه بخير النوعين وأفضلهما إذ اختصاصه بالناقص المرجوح ممتنع
وأما قول النافي: ( ولأن العالم كرة فلا فوق إلا وهو تحت بالنسبة )
فيقال له: هذا خطأ لما تقدم من أن المحيط باتفاق العقلاء عال على المركز وأن العقلاء متفقون على أن الشمس والقمر والكواكب إذا كانت في السماء فلا تكون إلا فوق الأرض وكذلك السحاب والطير في الهواء
وأيضا فإن هذا التحت أمر خيالي وهمي لا حقيقة له وليس فيه نقص كالمعلق برجليه لا تكون السماء تحته إلا في الوهم الفاسد والخيال الباطل وكذلك النملة الماشية تحت السقف فالشمس والقمر والنجوم السابحة في أفلاكها لا تكون بالليل تحتنا إلا في الوهم والخيال الفاسد
وأيضا فإنه مع كونه كريا لا يمتنع أن نختص إحدى جهتيه بوصف اختصاص ألا ترى أن الأرض مع قولهم إنها كرية فإن هذه الجهة التي عليها الحيوان والنبات والمعدن أشرف من الجهة التي غمرها الماء؟ وإذا كانت هذه الجهة أشرف جهتي الأرض لم يمتنع أن يكون ما يحاذيها أشرف مما يحاذي الجهة الأخرى فما كان فوق الأفلاك من هذه الجهة أشرف مما يكون من تلك الجهة الأخرى
ومما يوضح ذلك أن مقتضى طبيعة الماء والتراب عند من يعتبر ذلك أن يكون الماء قد غمر الأرض كلها من هذه الناحية كما غمرها من تلك الناحية لأن الماء بالطبع يعلو على التراب ومع هذا اختص هذا الوجه بأن الماء ممنوع عنه
وفي المسند عن النبي ﷺ أنه قال: [ ما من ليلة إلا والبحر يستأذن ربه في أن يغرق بني آدم فيمنعه ربه ]
وأهل الطبع والحساب قد حاروا في سبب جفاف هذا الوجه حتى قالوا: هذا سببه عناية الرب مع أن هذا عندهم إذا قالوه ينقص مذاهبهم
وإذا كان هذا فيما شوهد فما المانع أن يكون فوق الأفلاك من هذا الجانب ما هو مختص بأمر يقتضي اختصاص الرب بالعلو عليه من هذا الوجه؟
تابع لكلام الرازي في لباب الأربعين
وأما قوله: ( إن لم يكن لامتداده في جهة العلو نهاية فكل نقطة فوقها أخرى فلا شيء يفرض فيه إلا وهو سافل وإن كان له نهاية كان فوق طرف العلو خلاء أعلى منه فلم يكن علوا مطلقا )