كلام ابن رشد في مسألة رؤية الله تعالى
قال: ( فإذا تبين هذا فلنرجع إلى حيث كنا فنقول: إن الذي بقي علينا من هذا الجزء من المسائل المشهورة هي مسألة الرؤية فإنه قد يظن أن هذه المسألة هي بوجه ما داخلة في هذا الجزء أعني في الجزء المعدوم ) يعني جزء التنزيه فإنه تكلم في التنزيه بعد تكلمه في الصفات الثبوتية فقال: ( فإنه قد يظن أن هذه المسألة هي بوجه ما داخلة في هذا الجزء أعني في الجزء المعدوم لقوله تعالى: { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } [ الأنعام: 103 ] ولذلك أنكرتها المعتزلة وردت الآثار الواردة في الشرع بذلك مع كثرتها وشهرتها فشنع المر عليهم والسبب في وقوع هذه الشبهة في الشرع أن المعتزلة لما اعتقدوا انتفاء الجسمية عنه سبحانه واعتقدوا وجوب التصريح بهذا لجميع المكلفين وجب عندهم إذا انتفت الجسمية أن تنتفي الجهة وإذا انتفت الجهة انتفت الرؤية إذ كل مرئي في جهة من الرائي فاضطروا لهذا المعنى إلى رد الشرع المنقول وأعلوا الأحاديث بأنها أخبار آحاد وأخبار الآحاد لا توجب العلم مع أن ظاهر القرآن معارض لها أعني قوله: { لا تدركه الأبصار } [ الأنعام: 103 ] )
قال: ( وأما الأشعرية فراموا الجمع بين الاعتقادين أعني بين انتفاء الجسمية وبين جواز الرؤية لما ليس بجسم بالحس فعسر ذلك عليهم ولجأوا في ذلك إلى حجج سوفسطائية مموهة أعني الحجج التي توهم أنها حجج وهي كاذبة وذلك أنه يشبه أن يكون يوجد في الحجج ما يوجد في الناس أعني كما يوجد في الناس الفاضل التام الفضيلة يوجد فيهم من هو دون ذلك في الفضل ويوجد فيهم من يوهم أنه فاضل وليس بفاضل وهو المرائي وكذلك الأمر في الحجج أعني أن منها ما هو في غاية اليقين ومنها ما هو دون اليقين ومنها حجج مرائية وهي التي توهم أنها يقين وهي كاذبة والأقاويل التي سلكها الأشعرية في هذه المسألة منها أقاويل في دفع دليل المعتزلة ومنها أقاويل لهم في جواز إثبات الرؤية لما ليس بجسم وأنه ليس يعرض من فرضها محال فأما ما عاندوا به قول المعتزلة: إن كل مرئي فهو في جهة من الرائي فمنهم من قال: إن هذا إنما هو حكم الشاهد لا حكم الغائب وإن هذا الموضع ليس هو من المواضع التي يجب فيها نقل حكم الشاهد إلى الغائب وإنه جائز أن يرى الإنسان ما ليس في جهة إذ كان جائزا أن يرى الإنسان بالقوة المبصرة نفسها دون عين وهؤلاء اختلط عليهم إدراك العقل مع إدراك البصر فإن العقل هو الذي يدرك ما ليس في جهة أعني في مكان وأما إدراك البصر فظاهر من أمره أن من شرطه أن يكون المرئي منه في جهة أعني في مكان ولا في كل جهة بل في جهة ما مخصوصة ولذلك ليس تتأتى الرؤية بأي وضع اتفق أن يكون البصر من المرئي بل بأوضاع محدودة وشروط محدودة أيضا وهي ثلاثة أشياء: حضور الضوء والجسم الشفاف المتوسط بين البصر والمبصر وكون المبصر ذا لون والرد لهذه الأمور المعروفة بنفسها في الإبصار هو رد للأوائل المعلومة بالطبع للجميع وإبطال لجميع علوم النظر والهندسة وقد قال القوم - أعني الأشعرية - إن أحد المواضع التي يجب فيها أن ينقل حكم الشاهد إلى الغائب هو الشرط مثل حكمنا بأن كل عالم حي لكون الحياة تظهر في الشاهد شرطا في وجود العلم قلنا لهم: وكذلك يظهر في الشاهد أن هذه الأشياء هي شرط في الرؤية فألحقوا الغائب فيها بالشاهد على أصلكم )
قال: ( وقد رام أبو حامد في كتابه المعروف بالمقاصد أن يعاند هذه المقدمة أعني أن كل مرئي في جهة من الرائي بأن الإنسان ينظر ذاته في المرآة وليس ذاته منه في جهة ولا في غير جهة تقابله وذلك أنه لما كان يبصر ذاته وكانت ذاته لا تحال في المرآة التي في الجهة المقابلة فهو يبصر ذاته في غير جهة )
قال: ( وهذه مغالطة فإن الذي يبصر هو خيال ذاته فقط والخيال هو في جهة إذ كان الخيال في المرآة والمرآة في جهة وأما حجتهم التي أتوا بها في إمكان رؤية ما ليس بجسم فإن المشهور عندهم من ذلك حجتان: إحداهما - وهي الأشهر عندهم - ما يقولونه من أن الشيء لا يخلو من أن يرى من جهة أنه متلون أو من جهة أنه جسم أو من جهة أنه لون أو من جهة أنه موجود
وربما عددوا جهات أخر غير هذه الوجوه ثم يقولون: وباطل أن يرى من قبل أنه جسم إذ لو كان كذلك لما رئي ما هو غير جسم وباطل أن يرى من قبل أنه ملون إذ لو كان كذلك لما رئي وباطل أن يرى لمكان أنه لون إذ لو كان كذلك لما رئي الجسم قالوا: وإذا بطلت جميع هذه الأقسام التي تتوهم في هذا الباب لم يبق أن يرى الشيء إلا من قبل أنه موجود )
قال: ( والمغالطة في هذا القول بينة فإن المرئي منه ما هو مرئي بذاته ومنه ما هو مرئي من قبل المرئي بذاته وهذه هي حال اللون والجسم فإن اللون مرئي بذاته والجسم مرئي من قبل اللون وكذلك ما لم يكن له لون لم يبصر ولو كان الشيء إنما يرى من حيث هو موجود فقط لوجب أن يبصر الأصوات وسائر المحسوسات الخمس فكان يكون السمع والبصر وسائر الحواس الخمس حاسة واحدة وهذا كله خلاف ما يعقل وقد اضطر المتكلمون لمكان هذه المسألة - وما أشبهها - إلى أن يسلموا أن الألوان ممكنة أن تسمع والأصوات ممكنة أن لا تسمع وهذا كله خروج عن الطبع وعما يمكن أن يعقله الإنسان فإن من الظاهر أن حاسة البصر غير حاسة السمع وأن محسوس هذه غير محسوس تلك وأن آلة هذه غير آلة تلك وأنه ليس يمكن أن ينقلب البصر سمعا كما لا يمكن أن يعود اللون صوتا والذين يقولون: إن الصوت يمكن أن يبصر في وقت فقد وجب أن يسألوا فيقال لهم: ما هو البصر؟ فلا بد أن يقولوا: هو قوة تدرك بها المرئيات: الألوان وغيرها ثم يقال لهم: ما هو السمع؟ فلا بد أن يقولوا: هو قوة تدرك بها الأصوات فإذا وضعوا هذا قيل لهم: فهل البصر عند إدراكه الأصوات هو بصر فقط أو سمع فقط؟ فإذا قالوا: سمع فقط فقد سلموا أنه لا يدرك الألوان وإن قالوا: بصر فقط فليس يدرك الأصوات وإذا لم يكن بصرا فقط لأنه يدرك الأصوات ولا سيما فقط لأنه يدرك الألوان فهو بصر وسمع معا وعلى هذا فتكون الأشياء كلها شيئا واحدا حتى المتضادات وهذا شيء - فيما أحسبه - يسلمه المتكلمون من أهل ملتنا أو يلزمهم تسليمه - يعني هؤلاء الأشعرية )
قال: ( وهو رأي سوفسطائي لأقوام مشهورين بالسفسطة وأما الطريقة الثانية التي سلكها المتكلمون في جواز الرؤية فهي الطريقة التي اختارها أبو المعالي في كتابه المعروف بالإرشاد وتلخيصها أن الحواس إنما تدرك ذوات الأشياء وما تنفصل به الموجودات بعضها من بعض فهي أحوال ليست بذوات فالحواس لا تدركها وإنما تدرك الذات والذات هي نفس الوجود المشتركة لجميع الموجودات فإذا الحواس إنما تدرك الشيء من حيث هو هو موجود )
قلت: هذه الحجة من جنس الأولى لكن هذه على قول مثبتة الأحوال وتلك على رأي نفاة الأحوال لكن ذكرها على هذا الوجه فيه تناقض حيث جعل الأحوال لا ترى بل إنما يرى الوجود والوجود حال عند مثبتة الأحوال لكن مضمون ذلك أنها تدرك الحال المشتركة وهي الوجود لا لما اختصت به
ثم قال ابن رشد: ( وهذا كله في غاية الفساد ومن أبين ما يظهر به فساد هذا القول أنه لو كان البصر إنما يدرك الأشياء لوجودها لما أمكنه أن يفرق بين الأبيض والأسود لأن الأشياء لا تفترق بالشيء الذي تشترك فيه ولكان في الجملة لا يمكن في الحواس: لا في البصر أن يدرك فصول الألوان ولا في السمع أن يدرك فصول الأصوات ولا في الطعم أن يدرك فصول المطعومات وللزم أن يكون مدارك المحسوسات بالحس واحدا فلا يكون فرق بين مدرك السمع ومدرك البصر وهذا كله في غاية الخروج عما يعقله الإنسان وإنما تدرك الحواس وذوات الأشياء المشار إليها بتوسط إدراكها لمحسوساتها الخاصة بها فوجه المغالطة في هذا هو أنه ما يدرك ثانيا أخذ أنه يدرك بذاته )
قال: ( ولولا النشأ على هذه الأقاويل وعلى التعظيم للقائلين بها لما أمكن أن يكون فيها شيء من الإقناع ولا وقع بها التصديق لأحد سليم الفطرة )
قال: ( والسبب في مثل هذه الحيرة الواقعة في الشريعة - حتى ألجأت القائلين بنصرتها في زعمهم إلى مثل هذه الأقاويل الهجينة التي هي ضحكة عند من عنى بتمييز أصناف الأقاويل أدنى عناية - هو التصريح في الشرع بما لم يأذن به الله ورسوله وهو التصريح بنفي الجسمية للجمهور وذلك أنه من العسير أن يجتمع في اعتقاد واحد أن ههنا موجودا ليس بجسم وأنه مرئى بالأبصار لأن مدرك الأبصار هي في الأجسام أو أجسام وكذلك رأى قوم أن هذه الرؤية هي مزيد علم في ذلك الوقت وهذا لا يليق أيضا الإفصاح به للجمهور فإنه لما كان العقل من الجمهور لا ينفك عن التخيل بل ما لا يتخيلون هو عندهم عدم وكان تخيل ما ليس بجسم لا يمكن والتصديق بوجود ما ليس بمتخيل غير ممكن عندهم عدل الشرع عن التصريح لهم بهذا المعنى ووصف لهم نفسه سبحانه بأوصاف تقرب من قوة التخيل مثل ما وصفه به من السمع والبصر والوجه وغير ذلك مع تعريفهم أنه لا يجانسه شيء من الموجودات المتخيلة ولا يشبهه ولو كان القصد تعريف الجمهور أنه ليس بجسم لما صرح لهم بشيء من ذلك بل لما كان أرفع الموجودات المتخيلة هو النور ضرب المثال به إذ كان النور هو أشهر الموجودات عند الحس والتخيل وبهذا النحو من التصور أمكن أن يفهموا المعاني الموجودات في المعاد أعني تلك المعاني مثلت لهم بأمور متخيلة محسوسة فإذا متى أخذ الشرع في أوصاف الله على ظاهره لم تعرض فيه هذه الشبهة ولا غيرها لأنه إذا قيل: إنه نور وإن له حجابا من نور كما جاء في القرآن والسنن الثابتة ثم قيل: إن المؤمنين يرونه في الدار الآخرة كما ترى الشمس لم يعرض في هذا كله شك ولا شبهة في حق الجمهور ولا حق العلماء وذلك أنه قد تبرهن عند العلماء أن تلك الحال مزيد علم لكن متى صرح به للجمهور بطلت عندهم الشريعة كلها أو كفروا المصرح لهم بها فمن خرج عن منهاج الشريعة في هذه الأشياء فقد ضل عن سواء السبيل وأنت إذا تأملت الشرع وجدته مع أنه قد ضرب للجمهور في هذا المعنى المثالات التي لم يمكن تصورها إياها دونها فقد نبه العلماء على تلك المعاني أنفسها التي ضرب مثالاتها للجمهور فيجب أن يوقف عند حد الشرع في نحو التعليم الذي خص به صنفا صنفا من الناس لئلا يختلط التعليمان كلاهما فتفسد الحكمة الشرعية النبوية ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: [ إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم وأن نخاطبهم على قدر عقولهم ] ومن جعل الناس شرعا واحدا في التعليم فهو كمن جعلهم شرعا واحدا في عمل من الأعمال وهذا كله خلاف المحسوس والمعقول )
قال: ( وقد تبين لك من هذه أن الرؤية معنى ظاهر وأنه ليس يعرض فيه شبهة إذا أخذ الشرع على ظاهره في حق الله تبارك وتعالى أعني إذا لم يصرح فيه بنفي الجسمية ولا إثباتها )
تعليق ابن تيمية على كلام ابن رشد في مناهج الأدلة
قلت: هذا الرجل قد ذكر في كتابه أن أصناف الناس أربعة: الحشوية والأشعرية والمعتزلة والباطنية: باطنية الصوفية وهو يميل إلى باطنية الفلاسفة الذين يوجبون إقرار الجمهور على الظاهر كما يفعل ذلك من يقول بقولهم من أهل الكلام والفقه والحديث ليس هو من باطنية الشيعة كالإسماعيلية ونحوهم الذين يظهرون الإلحاد ويتظاهرون بخلاف شرائع الإسلام وهو في نفي الصفات أسوأ حالا من المعتزلة وأمثالهم بمنزلة إخوانه الفلاسفة الباطنية حتى أنه يجعل العلم هو العالم والعلم هو القدرة وهو مع موافقته لابن سينا على نفي الصفات يبين فساد طريقته التي احتج بها وخالف بها قدماء الفلاسفة وهو أن ما يشهد به الوجود من الموجود الواجب يمتنع كونه موصوفا لأن ذلك تركيب ووافق أبا حامد - مع تشنيعه عليه - على أن استدلال ابن سينا على نفي الصفات بأن وجوب الوجود مستلزم لنفي التركيب المستلزم لنفي الصفات - طريقة فاسدة واختار طريقة المعتزلة وهي أن ذلك تركيب والمركب يفتقر إلى مركب وهي أيضا من نمط تلك في الفساد
وكذلك أيضا زيف طريقهم التي استدلوا بها على نفي التجسيم: زيف طريقة ابن سينا وطرق المعتزلة والأشعرية بكلام طويل واعتمد هو في نفي التجسيم على إثبات النفس الناطقة وأنها ليست بجسم فيلزم أن يكون الله ليس بجسم
ولا ريب أن هذه الحجة أفسد من غيرها فإن الاستدلال على نفي كون النفس جسما أضعف بكثير من نفس ذلك في الواجب والمنازعون له في النفس أكثر من المنازعين له في ذلك لكن مما يطمعه ويطمع أمثاله في ذلك ضعف مناظرة أبي حامد لهم في مسألة النفس فإن أبا حامد بين فساد أدلتهم التي استدلوا بها على نفي كون الواجب ليس بجسم وبين أنه لا حجة لهم على ذلك وغنما الحجة على ذلك طريق المعتزلة: طريقة الأعراض والحوادث وأما في مسألة النفس فهو موافق لهم على قولهم لاعتقاده صحة طريقهم
وابن رشد يذم أبا حامد من الوجه الذي يمدحه به علماء المسلمين ويعظمونه عليه ويمدحه من الوجه الذي يذمه به علماء المسلمين وإن كانوا قد يقولون: إنه رجع عن ذلك لأن أبا حامد يخالف الفلاسفة تارة ويوافقهم أخرى فعلماء المسلمين يذمونه بمن وافقهم فيه من الأقوال المخالفة للحق الذي بعث الله به محمدا ﷺ الموافقة لصحيح المنقول وصريح المعقول كما وقع من الإنكار عليه أشياء في كلام رفيقه أبي الحسن المرغيناني وأبي نصر القشيري وأبي بكر الطرشوشي وأبي بكر بن العربي وأبي عبد الله المازري وأبي عبد الله الذكي ومحمود الخوارزمي وابن عقيل وأبي البيان الدمشقي ويوسف الدمشقي وابن حمدون القرطبي القاضي وأبي الفرج بن الجوزي وأبي محمد المقدسي وأبي عمرو بن الصلاح وغير واحد من علماء المسلمين وشيوخهم
والمتفلسفة الذين يوافقون ما ذكره من أقوالهم يذمونه لما اعتصم به من دين الإسلام ووافقه في الكتاب والسنة كما يفعل ذلك ابن رشد الحفيد هذا وابن الطفيل صاحب رسالة حي بن يقظان وابن سبعين وابن هود وأمثالهم
وهؤلاء وأمثالهم يعظمون ما وافق فيه الفلاسفة كما يفعل ذلك صاحب خلع النعلين وابن عربي صاحب الفصوص وأمثالهم ممن يأخذ المعاني الفلسفية يخرجها في قوالب المكاشفات والمخاطبات الصوفية ويقتدي في ذلك بما وجده من ذلك في كلام أبي حامد ونحوه
وأما عوام هؤلاء فيعظمون الألفاظ الهائلة مثل: لفظ الملك والملكوت والجبروت وأمثال ذلك مما يجدونه في كلام هؤلاء وهم لا يدرون هل أراد المتكلم بذلك ما أراده الله ورسوله أم أراد بذلك ما أراده الملاحدة كابن سينا وأمثاله
والمقصود هنا أن ابن رشد هذا مع اعتقاده أقوال الفلاسفة الباطنية - لا سيما الفلاسفة المشائين أتباع أرسطو صاحب التعالىم الذين لهم التصانيف المعروفة في الفلسفة - ومع أن قول ابن رشد هذا في الشرائع من جنس قول ابن سينا وأمثاله من الملاحدة من أنها أمثال مضروبة لتفهيم العامة ما يتخيلونه في أمر الإيمان بالله واليوم الاخر وأن الحق الصريح الذي يصلح لأهل العلم فإنما هو أقوال هؤلاء الفلاسفة وهذه عند التحقيق منتهاها التعطيل المحض وإثبات وجود مطلق لا حقيقة له في الخارج غير وجود الممكنات وهو الذي انتهى إليه أهل الوحدة والقائلون بالحلول والاتحاد كابن سبعين وأمثاله ممن حقق هذه الفلسفة ومشوا على طريقة هؤلاء المتفلسفة الباطنية من متكلم ومتصوف وممن أخذ بما يوافق ذلك من كلام أبي حامد وأمثاله وزعموا أنهم يجمعون بين الشريعة الإلهية والفلسفة اليونانية كما زعم ذلك أصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم من هؤلاء الملاحدة
وابن رشد هذا مع خبرته بكلام هؤلاء وموافقته لهم يقول: إن جميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك وقرر ذلك بطريق عقلية من جنس تقرير ابن كلاب والحارث المحاسبي وابن العباس القلانسي والأشعري والقاضي أبي بكر وأبي الحسن التميمي وابن الزاغوني وأمثالهم ممن يقول إن لله فوق العرش وليس بجسم
وقال هؤلاء المتفلسفة كما يقوله هؤلاء المتكلمون الصفاتية: إن إثبات العلو لله لا يوجب إثبات الجسمية بل ولا إثبات المكان وبناء ذلك على أن المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي الملاقي للسطح الظاهر من الجسم المحوي وهذا قول أرسطو وأتباعه فهؤلاء يقولون: مكان الإنسان هو باطن الهواء المحيط به وكل سطح باطن من الأفلاك فهو مكان للسطوح الظاهرة مما يلاقيه
ومعلوم أنه ليس وراء الأجسام سطح جسم باطن يحوي شيئا فلا مكان هناك على اصطلاحهم إذ لو كان هناك محوى لسطح الجسم لكان الحاوي جسما وإذا كان كذلك فالموجود هنالك لا يكون في مكان ولا يكون جسما ولهذا قال: ( فإذا إن قام البرهان على وجود موجود في هذه الجهة فواجب أن يكون غير جسم فالذي يمتنع وجوده هناك هو وجود جسم لا وجود ما ليس بجسم ) فقرر إن كان ذلك كما قرر إثباته كما ذكره من أنه لا بد من نسبة بينه وبين العالم المحسوس
والذي يمكن منازعوه من الفلاسفة أن يقولوا له: لا يكمن أن يوجد هناك شيء: لا جسم ولا غيره أما الجسم فلما ذكره وأما غيره فلأنه يكون مشارا إليه بأنه هناك وما أشير إليه فهو جسم
وهذا كما يقول المعتزلة للكلابية وقدماء الأشعرية ومن وافقهم من أهل الحديث كالتميميين وأمثالهم أتباعهم فيقول ابن رشد لهم ما تقوله الكلابية للمعتزلة وهو أن وجود موجود ليس هو وراء أجسام العالم ولا داخل فيها إما أن يكون ممكنا وإما أن لا يكون فإن لم يكن ممكنا بطل قولهم وإن كان ممكنا فوجد موجود هو وراء أجسام العالم وليس الجسم أولى بالجواز لأنه إذا عرضنا على العقل وجود موجود قائم بنفسه لا في العالم ولا خارجا عنه ولا يشار إليه وعرضنا عليه وجود موجود يشار إليه فوق العالم ليس بجسم كان إنكار العقل للأول أعظم من إنكاره للثاني فإن كان الأول مقبولا وجب قبول الثاني وإن كان الثاني مردودا وجب رد الأول فلا يمكن منازعو هؤلاء أن يبطلوا قولهم مع إثباتهم لموجود قائم بنفسه لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه
وما ذكره ابن رشد من أن: هذه الصفة - صفة العلو - لم يزل أهل الشريعة في أول الأمر يثبتونها لله تعالى حتى نفتها المعتزلة ثم تبعهم على نفيها متأخرو الشريعة - كلام صحيح وهو يبين خطأ من يقول: إن النزاع في ذلك ليس إلا مع الكرامية والحنبلية وكلامه هذا أصح مما زعمه ابن سينا حيث ادعى أن السنن الإلهية منعت الناس عن شهرة القضايا التي سماها ( الوهميات ) مثل أن: كل موجود فلا بد أن يشار إليه فإن تلك السنن ليست إلا سنن المعتزلة والرافضة والإسماعيلية ومن وافقهم من أهل البدع ليست سنن الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين
وما نقله ابن رشد عن هذه الأمة فصحيح وهذا مما يرجع أن نقله لأقوال فلاسفة أصح من نقا ابن سينا ولكن التحقيق أن الفلاسفة في هذه المسألة على قولين وكذلك في مسالة ما يقوم بذاته من الأفعال وغيرها من الأمور للفلاسفة في ذلك قولان
والرازي إذا قال: ( اتفق الفلاسفة ) فإنما عنده ما في كتاب ابن سينا وذويه وكذلك الفلاسفة الذين يرد عليهم أبو حامد إنما هم هؤلاء
ولا ريب أن مسائل الإلهيات كالنبوات ليس لأرسطو وأتباعه فيها كلام طائل أما النبوات فلا يعرف له فيها كلام وأما الإلهيات فكلامه فيها قليل جدا وأما عامة كلام الرجل فهو في الطبيعيات والرياضيات ولهم كلام في الروحانيات من جنس كلام السحرة والمشركين وأما كلامهم في واجب الوجود نفسه فكلام قليل جدا مع ما فيه من الخطأ وهم لا يسمونه واجب الوجود ولا يقسمون الوجود إلى واحب وممكن وإنما فعل هذا ابن سينا وأتباعه ولكن يسمونه المحرك الأول والعلة الأولى كما قد بسط أقوالهم في موضع آخر
وعلم ما بعد الطبيعة عندهم هو العلم الناظر في الوجود ولواحقه وتلك الأمور كلية عامة مطلقة تتناول الواجب وغيره وبعض كلامهم في ذلك خطأ وبعضه صواب وغالبه تقسيم لأجناس الجواهر والأعراض ولهذا كانوا نوعين: نوعا نظارين مقسمين للكليات ونوعا متأهلين بالعبادة والزهد على أصولهم أو جامعين بين الأمرين كالسهروردي والمقتول وأتباع ابن سبعين وغيرهم
وأما كلامهم في نفس العلة الأولى فقليل جدا ولهذا كانوا على قولين: منهم من يثبت موجودا واجبا مباينا للأفلاك ومنهم من ينكر ذلك وحجج مثبتي ذلك على نفاته منهم حجج ضعيفة وقدماؤهم كأرسطو كانوا يستدلون بأنه لا بد للحركة من محرك لا يتحرك وهذا لا دليل عليه بل الدليل يبطله
وابن سينا سلك طريقته المعروفة وهو الاستدلال بالوجود على الواجب ثم دعواه أن الواجب لا يجوز أن يتعدد ولا تكون له صفة وهذه أيضا طريقة ضعيفة ولعلها أضعف من طريقة أولئك أو نحوها أو قريبة منها
وإذا كان كلام قدمائهم في العلم بالله تعالى قليلا كثير الخطأ فإنما كثر كلام متأخريهم لما صاروا من أهل الملل ودخلوا في دين المسلمين واليهود والنصارى وسمعوا ما أخبرت به الأنبياء من أسماء الله وصفاته وملائكته وغير ذلك فأحبوا أن يستخرجوا من أصول سلفهم ومن كلامهم ما يكون فيف موافقة لما جاءت به الأنبياء لما رأوا في ذلك من الحق العظيم الذي لا يمكن جحده والذي هو أشرف المعارف وأعلاها فصار كل منهم يتكلم بحسب اجتهاده فالفارابي لون وابن سينا لون وأبو البركات صاحب المعتبر لون وابن رشد الحفيد لون والسهروردي المقتول لون وغير هؤلاء ألوان أخر
وهم في هواهم بحسب ما تيسر لهم من النظر في كلام أهل الملل فمن نظر في كلام المعتزلة والشيعة كابن سينا وأمثاله فكلامه لون ومن خالط أهل السنة وعلماء الحديث كأبي البركان وابن رشد فكلامه لون آخر أقرب إلى صريح المعقول وصحيح المنقول من كلام ابن سينا
لكن قد يخفى ذلك على من يمعن النظر ويظن أن قول ابن سينا أقرب إلى المعقول كما يظن أن كلام المعتزلة والشيعة أقرب إلى المعقول من كلام الأشعرية والكرامية وغيرهم من أهل الكلام ومن نظار أهل السنة والجماعة ومن المعلوم - بعد كمال النظر واستيفائه - أن كل من كان إلى السنة وإلى طريق الأنبياء أقرب كان كلامه في الإلهيات بالطرق العقلية أصح كما أن كلامه بالطرق النقلية أصح لأن دلائل الحق وبراهينه تتعاون وتتعاضد لا تناقض وتعارض
وما ذكره ابن رشد في اسم المكان يتوجه من يسلم له مذهب أرسطو وأنا المكان هو السطح الداخل الحاوي المماس للسطح الخارج المحوي ومعلوم أن من الناس من يقول: إن للناس في المكان أقوالا آخر منهم من يقول: إن المكان هو الجسم الذي يتمكن غيره عليه ومنهم من يقول: إن المكان هو ما كان تحت غيره وإن لم يكن ذلك متمكنا عليه ومنهم من يزعم أن المكان هو الخلاء وهو أبعاد
والنزاع في هذا الباب نوعان: أحدهما معنوي كمن يدعي وجود مكان هو جوهر قائم بنفسه ليس هو الجسم وأكثر العقلاء ينكرون ذلك
والثاني نزاع لفظي وهو من يقول المكان من يحيط بغيره يقول آخر: ما يكون غيره عليه أو ما يتمكن عليه
ولا ريب أن لفظ ( المكان ) يقال على هذا وهذا ومن هنا نشأ تنازع أهل الإثبات: هل يقال: أن الله تعالى في مكان أم لا؟ هذا كتنازعهم في الجهة والحيز لكن قد يقر بلفظ الجهة من لا يقر بلفظ ( الحيز ) أو ( المكان ) وربما أقر بلفظ الحيز أو المكان ومن لا يقر بالآخر وسبب ذلك إما إتباع ما ورد أو اعتقاد في أحد اللفظين من المعنى المردود ما ليس في الآخر
وحقيقة الأمر في المعنى أن ينظر إلى المقصود فمن اعتقد أن المكان لا يكون إلا ما يفتقر إليه المتمكن سواء كان محيطا به أو كان تحته فمعلوم أن الله سبحانه ليس في مكان بهذا الاعتبار ومن اعتقد أن العرش هو المكان وأن الله فوقه مع غناه عنه فلا ريب أنه في مكان بهذا الاعتبار
فمما يجب نفيه بلا ريب وافتقار الله إلى ما سواه فإنه سبحانه غني عن ما سواه وكل شيء فقير إليه فلا يجوز أن يوصف بصفة تتضمن افتقاره إلى ما سواه وأما إثبات النسب والإضافات بينه وبين خلقه فهذا متفق عليه بين أهل الأرض وأما علوه على العالم ومباينته للمخلوقات فمتفق عليه بين الأنبياء والمرسلين وسلف الأمة وأئمتها وبين هؤلاء الفلاسفة كما ذكر ذلك عنهم لكن آخرون من الفلاسفة ينازعون في ذلك
فصل مذهب السلف والأئمة في العلو والمباينة
فهذا ونحوه بعض كلام رؤوس أهل الكلام والفلسفة في هذا الباب يبين خطأ من جعل النزاع في ذلك مع الكرامية والحنبلية ويبين أن أكثر طوائف العقلاء يقولون بالعلو وبامتناع وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه وأما كلام من نقل مذهب السلف والأئمة فأكثر من أن يمكن سطره
كلام أبي نصر السجزي في كتاب الإبانة
قال الشيخ أبو نصر السجزي في كتاب الإبانة له: فأئمتنا كسفيان الثوري مالك سفيان بن عيينة حماد بن سلامة حماد بن زيد عبد الله بن المبارك فضيل بن عياض أحمد بن حنبل إسحق بن إبراهيم الحنظلي متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش وأن علمه بكل مكان وأنه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش وإنه ينزل إلى سماء الدنيا وأنه يغضب ويرضى ويتكلم بما شاء فمن خالف شيئا من ذلك فهو منهم بريء وهم منه براء
وأبو نصر هذا كان مقيما بمكة في أثناء المائة الخامسة
كلام أبي عمر الطلمنكي في الوصول إلى معرفة الأصول
وقال قبله الشيخ أبو عمر الطلمنكي المالكي أحد أئمة وقته بالأندلس في كتاب الوصول إلى معرفة الأصول قال: وأجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله تعالى: { وهو معكم أين ما كنتم } [ الحديد: 4 ] ونحو ذلك من القرآن: أن ذلك علمه وأن الله فوق السماوات بذاته مستو على عرشه كيف شاء
وقال أيضا: ( قال أهل السنة في قوله: { الرحمن على العرش استوى } [ طه: 5 ] أن الاستواء من الله على عرشه المجيد في الحقيقة لا على المجاز
كلام نصر المقدسي في الحجة على تارك المحجة
وقال الشيخ نصر المقدسي الشافعي السيخ المشهور في كتاب الحجة له: ( إن قال قائل: قد ذكرت ما يجب على أهل الإسلام من اتباع كتاب الله وسنة رسوله وما أجمع عليه الأئمة والعلماء والأخذ بما عليه أهل السنة والجماعة فاذكر مذهبهم وما أجمعوا عليه من اعتقادهم وما يلزمنا من المصير إليه من إجماعهم فالجواب: أن الذي أدركت عليه أهل العلم ومن لقيته وأخذت عنهم ومن بلغني قوله من غيرهم ) فذكر جمل اعتقاد أهل السنة وفيه ( أن الله مستو على عرشه بان من خلقه كما قال في كتابه: { أحاط بكل شيء علما } [ الطلاق: 12 ] { وأحصى كل شيء عدد } [ الجن: 28 ]
كلام أبي نعيم الأصبهاني ي عقيدته
وقال قبله الحافظ أبي نعيم الأصبهاني المشهور صاحب التصانيف المشهورة كحلية الأولياء وغيرها في عقيدته المشهورة عنه: ( طريقتنا طريقة المتبعين للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة فما اعتقدوه اعتقدناه فما اعتقدوه أن الأحاديث التي تثبت عن النبي ﷺ في العرش واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه وأن الله بائن عن خلقه والخلق بائنون منه لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم وهو مستو على عرشه في سماواته من دون أرضه )
كلام أبي أحمد الكرخي في عقيدته
وقال الشيخ أبو أحمد الكرخي الإمام المشهور في أثناء المائة الرابعة في العقيدة التي ذكر أنها اعتقاد أهل السنة والجماعة وهي العقيدة التي كتبها للخليفة القادر بالله وقرأها على ( الناس وجمع الناس عليها وأقرتها طوائف أهل السنة وكان قد استتاب من خرج عن السنة من المعتزلة والرافضة ونحوهم سنة ثلاث عشرة وأربعمائة وكان حينئذ قد تحرك ولاة الأمور لإظهار السنة لما كان الحاكم المصري وأمثاله من أئمة الملاحدة قد أنتشر أمرهم وكان أهل ابن سينا وأمثالهم من أهل دعوتهم وأظهر السلطان محمود بن سبكتكين لعنة أهل البدع على المنابر وأظهر السنة وتناظر عنده ابن الهيصم وابن فورك في مسألة العلو فرأى قوة كلام ابن الهيصم فرجح ذلك ويقال إنه قال لابن فورك: فلو أردت تصف المعدوم كيف كنت تصفه بأكثر من هذا؟ أو قال: فرق لي بين هذا الرب الذي تصفه وبين المعدوم؟ وأن ابن فورك كتب إلى أبي إسحق الأسفراييني يطلب الجواب عن ذلك فلم يكن الجواب إلا أنه لو كان فوق العرش للزم أن يكون جسما ومن الناس من يقول: إن السلطان لما ظهر له فساد قول ابن فورك سقاه السم حتى قتله وتناظر عنده فقهاء الحديث من أصحاب الشافعي وغيرهم وفقهاء الرأي فرأى قوة مذهب أهل الحديث فرجحه وغزا المشركين بالهند وهذه العقيدة مشهورة وفيها: ( كان ربنا وحده ولا شيء معه ولا مكان يحويه فخلق كل شيء بقدرته وخلق العرش لا لحاجته إليه فاستوى على استواء استقرار كيف شاء وأراد لا استقرار راحة كما يستريح الخلق وهو يدبر السماوات والأرض ويدبر ما فيهما ومن في البر والبحر لا مدبر غيره ولا حافظ سواه يرزقهم ويمرضهم ويعافيهم ويميتهم والخلق كلهم عاجزون: الملائكة والنبيون والمرسلون وسائر الخلق أجمعين وهو القادر بقدرة والعلم بعلم أزلي غير مستفاد وهو السميع بسمع والبصير ببصر تعرف صفتهما من نفسه لا يبلغ كنهها أحد من خلقه متكلم بكلام يخرج منه لا بآلة مخلوق كآلة المخلوقين لا يوصف إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به نبيه ﷺ وكل صفة وصف بها نفسه أو وصف بها نبيه فهي صفة حقيقية لا صفة مجاز )
كلام ابن عبد البر في كتاب التمهيد
قال أبو عمر بن عبد البر في كتابه التمهيد في شرح الموطأ لما تكلم على حديث النزول قال: ( هذا حديث ثابت من جهة النقل صحيح الإسناد لا يختلف أهل الحديث في صحته وهو منقول من طرق سوى هذه من أخبار العدول عن النبي ﷺ وفيه دليل على أن الله في السماء على العرش فوق سبع سماوات كما قالت الجماعة وهو من حجتهم على أن المعتزلة في قولهم: إن الله بكل مكان )
قال: ( والدليل على صحة قول أهل الحق قوله تعالى ) وذكر عدة آيات إلى أن قال: ( هذا أشهر وأعرف عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم )
وقال أبو عمر أيضا: ( أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل قوله تعالى: { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } [ المجادلة: 7 ]: هو على العرش وعلمه في كل مكان وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله )
وقال أيضا ( أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يجدون فيه صفة محصورة وأما أهل البدع: الجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل منها شيئا على الحقيقة ويزعم أن من أقر بها مشبه وهم عند من أقر بها نافون للمعبود بلاشون والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة )
كلام معمر بن أحمد الأصبهاني في وصيته
قال الشيخ العارف معمر بن أحمد الأصبهاني أحد شيوخ الصوفية في أواخر المائة الرابعة: ( أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة وموعظة من الحكمة وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين )
قال فيها: ( وأن الله استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل والاستواء معقول والكيف فيه مجهول وأنه عز وجل مستو فيه على عرشه بائن من خلقه والخلق منه بائنون بلا حلول ولا ممازجة ولا اختلاط ولا ملاصقة لأنه الفرد البائن من الخلق الواحد الغني عن الخلق وأن الله سميع بصير عليم خبير يتكلم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكا وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء فيقول: هل من داع فأستجب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ حتى يطلع الفجر )
قال: ( ونزول الرب إلى السماء بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل فمن أنكر النزول وتأول فهو مبتدع ضال )
كلام ابن أبي حاتم
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: ( سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة يعني في أصول الدين - وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار فقالوا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازا وعراقا ومصرا وشاما ويمنا فكان من مذاهبهم أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته )
إلى أن قال: ( وأن الله على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بلا كيف أحاط بكل شيء علما )
كلام أبي محمد المقدسي
وقال الشيخ أبو محمد المقدسي: ( إن الله وصف نفسه بالعلو في السماء ووصفه بذلك رسوله خاتم الأنبياء وأجمع على ذلك جميع العلماء من الصحابة والأتقياء والأئمة من الفقهاء فتواترت الأخبار بذلك على وجه حصل به اليقين وجمع الله عليه قلوب المسلمين وجعله مغروزا في طباع الخلق أجمعين فتراهم عند نزول الكرب يلحظون السماء بأعينهم ويرفعون نحوها للدعاء أيديهم وينتظرون مجيء الفرج من ربهم وينطقون بذلك بألسنتهم ولا ينكر ذلك إلا مبتدع غال في بدعته أو مفتون بتقليده واتباعه على ضلالته )
قال: ( وأنا ذاكر في هذا الجزء بعض ما بلغني في ذلك عن رسول الله ﷺ وصحابته والأئمة المقتدين بسنته على وجه يحصل القطع واليقين بصحة ذلك عنهم ونعلم تواتر الرواية بوجوه منهم يزداد من وقف عليه من المؤمنين إيمانا وننبه من خفي ذلك عليه حتى يصير كالمشاهد له عيانا )
كلام أبي عبد الله القرطبي في شرح معنى الاستواء
وقال أبو عبد الله القرطبي المالكي لما ذكر اختلاف الناس في تفسير ( الاستواء ) قال: ( وأظهر الأقوال ما تظاهرت عليه الآي والأخبار والفضلاء الأخيار: أن الله على عرشه كما أخبر في كتابه وعلى لسان نبيه بلا كيف بائن من جميع خلقه هذا مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقات )
وقال أيضا في كتابه الكبير في التفسير لما تكلم على آية الاستواء قال: ( هذه مسألة الاستواء وللعلماء فيها كلام وأجزاء وقد بينا أقوال العلماء فيها في شرح الأسماء الحسنى وذكر فيها أربعة عشر قولا ) وذكر قول النفاة من المتكلمين فقال: وأنهم يقولون: ( إذا وجب تنزيه الرب عن الحيز فمن ضرورة ذلك ولواحقه له تنزيه الرب عن الجهة فليس بجهة فوق عندهم لأنه يلزم من ذلك عندهم متى اختص بجهة أن يكون في مكان وحيز ويلزم على المكان والحيز الحركة والسكون ويلزم من ذلك التغير والحدوث )
وذكر أقوال هؤلاء المتكلمين وقال: ( قد كان السلف الأول لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة وإنما جهلوا كيفية الاستواء )
كلام أبي بكر النقاش
وأما كلام السلف أنفسهم فأكثر من أن يمكن حصره قال أبو بكر النقاش صاحب التفسير والرسالة: ( حدثنا أبو العباس السراج قال: سمعت قتيبة بن سعيد يقول: هذا قول الأئمة في الإسلام والسنة والجماعة: نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه كما قال: { الرحمن على العرش استوى } [ طه: 5 ]
كلام أبي بكر الخلال في كتاب السنة
وروى أبو بكر الخلال في كتاب السنة ( أنبأ أبو بكر المروذي ثنا محمد بن الصباح النيسابوري ثنا سليمان بن داود أبو داود الخفاف قال: قال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه قال الله تعالى { الرحمن على العرش استوى } [ طه: 5 ] إجماع أهل العلم أنه فوق العرش ويعلم كل شيء في أسفل الأرضين السابعة وفي قعور البحار ) وفي رواية: ( وفي رؤوس الآكام وبطون الأودية وفي كل موضع كما يعلم علم ما في السماوات السبع وما دون العرش أحاط بكل شيء علما فلا تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس وإلا وقد عرف ذلك كله وأحصاه ولا يعجزه معرفة شيء من معرفة غيره )
كلام عبد الله بن أحمد في كتاب السنة
وروى عبد الله بن أحمد في كتاب السنة وعبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية عن سعيد بن عامر الضبعي إمام أهل البصرة علما ودينا من طبقة شيوخ الشافعي وأحمد وإسحاق: أنه ذكر عنده الجهمية فقال ( هم شر قولا من اليهود والنصارى وقد اجتمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله فوق العرش وقالوا هم: ليس عليه شيء )
ورويا أيضا عن عبد الرحمن بن مهدي الإمام المشهور وهو من هذه الطبقة قال: ( أصحاب جهم يريدون أن يقولوا: أن الله لم يكلم موسى ويريدون أن يقولوا: ليس في السماء شيء وأن الله ليس على العرش أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا )
وروى عبد الله بن أحمد عن عباد بن العوام الواسطي من تلك الطبقة قال: كلمت بشر المريسي وأصحابه فرأيت آخر كلامهم ينتهي إلى أن يقولوا: ليس في السماء شيء )
ورويا عن علي بن عاصم شيخ البخاري وغيره قال: ناظرت جهميا فتبين من كلامه أنه لا يرى أن في السماء ربا )
وروى عبد الله بن أحمد عن سليمان بن حرب قال: سمعت حماد بن زيد وذكر هؤلاء الجهمية فقال: إنما يحاولون أن يقولوا: ليس في السماء شيء )
وروى عبد الله وغيره عن أبيه أحمد بن حنبل: ثنا شريح بن النعمان سمعت عبد الله بن نافع الصائغ سمعت مالك بن أنس يقول: الله في السماء وعلمه في كل مكان
وروى هذا الكلام مالك مكي خطيب قرطبة فيما جمعه من تفسير مالك نفسه وكل هذه الأسانيد صحيحة
كلام أبي بكر البيهقي في الأسماء والصفات
وروى أبو بكر البيهقي بإسناد صحيح عن الأوزاعي قال: ( كنا نحن والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى فوق العرش ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته )
فقد ذكر الأوزاعي وهو أحد الأئمة في عصر تابعي التابعين الذي كان فيه مالك وابن الماجشون وابن أبي ذئب ونحوهم أئمة أهل الحجاز والليث بن سعد ونحوه أئمة أهل مصر والثوري وابن أبي ليلى وأبو حنيفة ونحوهم أئمة أهل الكوفة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة ونحوهما أئمة أهل البصرة وهؤلاء ونحوهم أئمة الإسلام شرقا وغربا في ذلك الزمان وقد حكى الأوزاعي عن شهرة القول بذلك في زمن التابعين وهم أيضا متطابقون على ما كان عليه التايعون كما ذكرنا قوا مالك وحماد بن زيد وغيرهما
كلام أبي حنيفة في كتاب الفقه الأكبر
وقال أبو حنيفة في كتاب الفقه الأكبر المعروف المشهور عند أصحابه الذي رووه بالإسناد عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي قال: قال أبو حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فقال: قد كفر لأن الله يقول: { الرحمن على العرش استوى } [ طه: 5 ] وعرشه فوق سبع سماوات قال أبو مطيع: قلت: فإن قال: إنه على العرش ولكنه يقول: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر لأنه أنكر أن يكون في السماء لأنه تعالى في أعلى عليين وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل ) وفي لفظ: قال: ( سألت أبا حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض قال قد كفر لأن الله يقول: { الرحمن على العرش استوى } [ طه: 5 ] وعرشه فوق سبع سماوات
قال: ( فإنه يقول: على العرش استوى ولكنه لا يدري العرش في الأرض أم في السماء قال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر )
كلام عبد الله بن المبارك الذي رواه عته البخاري
وروى عبد الله بن أحمد وغيره بأسانيد صحيحة عن عبد الله بن المبارك أنه قيل له: بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه ولا نقول كما يقول الجهمية بأنه ههنا في الأرض )
ومنن ذكر هذا عن ابن المبارك البخاري في كتاب خلق أفعال العباد
وهكذا قال الإمام أحمد وغيره
كلام ابن خزيمة
وقال محمد بن إسحق بن خزيمة - الملقب بإمام الأئمة -: ( من لم يقل بأن الله فوق سماواته وأنه على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة ) وهذا معروف عنه رواه الحاكم في تاريخ نيسابور وأبو عثمان النيسبوري في رسالته المشهورة
كلام ربيعة بن أبي عبد الرحمن
وروى الخلال بإسناد كلهم ثقات عن سفيان بن عيينة قال: ( سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله: { الرحمن على العرش استوى } [ طه: 5 ] قال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التصديق )
كلام مالك بن أنس
وهذا الكلام مروي عن مالك بن أنس صاحب ربيعة من وجوه متعددة يقول في بعضها: الاستواء معلوم وفي بعضها: غير مجهول وفي بعضها: استواؤه غير مجهول فيثبت العلم بالاستواء وينفي العلم بالكيفية
كلام آخر لبعض الأئمة
وروى ابن أبي حاتم عن هشام بن عبيد الله الرازي أنه حبس رجلا في التجهم فتاب فجيء به إلى هشام ليمتحنه فقال له: أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه؟ قال: لا أدري ما بائن من خلقه قال ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب بعد
وروى أيضا عن عبد الله بن أبي جعفر الرازي أنه جعل يضرب قرابة له بالنعل على رأسه يرى رأي جهم ويقول: لا حتى يقول: الرحمن على العرش استوى بائن من خلقه
وعن جرير بن عبد الحميد الرازي أنه قال: كلام الجهمية أوله عسل وآخره سم وإنما يحاولون أن يقولوا: ليس في السماء إله
وجميع الطوائف تنكر هذا إلا من تلقى ذلك عن الجهمية كالمعتزلة ونحوهم من الفلاسفة فأما العامة من جميع الأمم فلا يستريب اثنان في أن فطرهم مقرة بأن الله فوق العالم وأنهم إذا قيل لهم: لا هو داخل العالم ولا خارجه ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء ولا يقرب إليه شيء ولا يقرب هو من شيء ولا يحجب العباد عنه شيء ولا ترفع إليه الأيدي ولا تتوجه القلوب إليه طالبة له في العلو فإن فطرهم تنكر ذلك وإذا أنكروا هذا في هذه القضية المعينة التي هي المطلوب فإنكارهم لذلك في القضايا المطلقة العامة التي تتناول هذا وغيره أبلغ وأبلغ وأما خواص الأمم فمن المعلوم أن قول النفاة لم ينقل عن نبي من الأنبياء بل جميع المنقول عن الأنبياء موافق لقول أهل الإثبات وكذلك خيار هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم ينقل عنهم إلا ما يوافق قول أهل الإثبات
وأول من ظهر عنه قول النفاة هو الجعد بن درهم والجهم بن صفوان وكانا في أوائل المائة الثانية فقتلهما المسلمون وأما سائر أئمة المسلمين مثل مالك والثوري والأوزاعي ووأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم فالكتب مملوءة بالنقل عنهم لما يوافق قول أهل الإثبات
وكذلك شيوخ أهل الدين مثل الفضيل بن عياض وبشر الحافي وأحمد بن أبي الحواري وسهل بن عبد الله التستري وعمرو بن عثمان المكي والحارث المحاسبي ومحمد بن خفيف الشيرازي وغير هؤلاء
وكتب أهل الآثار مملوءة بالنقل عن السلف والأئمة لما يوافق قول أهل الإثبات ولم ينقل عن أحد منهم حرف واحد صحيح يوافق قول النفاة فإذا كان سلف الأئمة وأئمتها وأفضل قرونها متفقين على قول أهل الإثبات فكيف يقال: ليس هذا إلا قول الكرامية والحنبلية؟
ومن المعلوم أن ظهور قول أهل الإثبات قبل زمن أحمد بن حنبل كان أعظم من ظهوره في هذا الزمان فكيف يضاف ذلك إلى أتباعه
وأيضا فعبد الله بن سعيد بن كلاب والحارث المحاسبي وأبو العباس القلانسي وأبو الحسن بن مهدي الطبري وعامة قدماء الأشعرية يقولون: إن الله بذاته فوق العرش ويردون على النفاة غاية الرد وكلامهم في ذلك كثير مذكور في غير هذا الموضع
والمقصود هنا التنبيه على بطلان ما يعارض به النفاة من الحجج العقلية وأما النفي فلم يكن يعرف إلا عن الجهمية كالمعتزلة ونحوهم ومن وافقهم من الفلاسفة وإلا فالمنقول عن أكثر الفلاسفة هو قول أهل الإثبات كما نقله ابن رشد الحفيد عنهم وهو من أعظم الناس انتصارا لهم وسلوكا لطريقتهم لا سيما لأرسطو وأتباعه كما أنه يميل إلى القول بقدم العالم أيضا
الوجه الثاني من وجوه الرد على الوجه الأول من كلام الرازي الوجه الثاني
من أجوبة قوله: ( لو كان بديهيا لامتنع اتفاق الجمع العظيم على إنكاره وهم ما سوى الحنابلة )
هو أن يقال: لم يطبق على ذلك إلا من أخذه بعضهم عن بعض كما اخذ النصارى دينهم بعضهم عن بعض وكذلك اليهود والرافضة وغيرهم
فأما أهل الفطر التي لم تغير فلا ينكرون هذا العلم وإذا كان كذلك فأهل المذاهب الموروثة لا يمتنع إطباقهم على جحد العلوم البديهية فإنه ما من طائفة من طوائف الضلال - وإن كثرت - إلا وهي مجتمعة على جحد بعض العلوم الضرورية
الوجه الثالث
أن يقال: ما من طائفة من طوائف الكلام والفلسفة إلا وجمهور الناس يقولون: إنهم جحدوا العلوم الضرورية
فالقائلون بأن الممكن قد يترجح أحد طرفيه بلا مرجح من القادر أو غيره يقول جمهور العقلاء: إنهم جحدوا العلوم الضرورية
والقائلون بأن الأجسام لا تبقى والأعراض لا تبقى يقول جمهور الناس: إنهم جحدوا العلوم الضرورية
والقائلون بأن الأصوات المتعاقبة تكون قديمة أزلية الأعيان باقية وأن الأصوات المسموعة من الآدميين هي قديمة يقول جمهور العقلاء: إنهم خالفوا العلم الضروري
والقائلون بأن الكلام هو معنى واحد: هو الأمر بكل ما أمر به والخبر عن كل ما أخبر به وأنه وإن عبر عنه بالعربية كان هو القرآن وإن عبر عنه بالعبرية كان هو التوراة يقول جمهور العقلاء إنهم جحدوا العلم الضروري
والقائلون بأن العالم هو العلم والمعلوم والعاقل هو العقل والمعقول والعاشق هو العشق والمعشوق واللذة هي الملتذ والعلم هو القدرة والقدرة هي الإرادة يقول جمهور العقلاء: إنهم خالفوا العلوم الضرورية
والقائلون بأن الوجود الواجب وجود مطلق بشرط الإطلاق أو لا بشرط يقول جمهور العقلاء: إنهم خالفوا العلوم الضرورية
والقائلون بأن النفس لا تدرك إلا الكليات دون الجزئيات يقول جمهور العقلاء: إنهم خالفوا العلم الضروري
والقائلون بأن كل موجود يجوز أن تتعلق به الإدراكات الخمسة وأن الصوت يرى والطعم يسمع واللون يشم يقول جمهور العقلاء: إنهم خالفوا العلم الضروري
والقائلون بأنه يحدث إرادة لا في محل أو يحدث فناء لا في محل يقول جمهور العقلاء: أن فساد قولهم معلوم بالضرورة
والقائلون بأن الإرادة تحدث في الإنسان من غير سبب يوجب حدوثها مما يقول جمهور العقلاء: إن فساد قولهم معلوم بالضرورة
والقائلون بأنه حي عليم قدير من غير حياة ولا علم ولا قدرة مما يقول جمهور العقلاء: إن فساد قولهم معلوم بالضرورة
والقائلون بأن النبي ﷺ نص على علي بالخلافة نصا جليا أشاعه بين المسلمين فكتموه ولم يظهروه يقول جمهور العقلاء: إن قولهم معلوم الفساد بالضرورة
والقائلون بان للأمة إماما معصوما عمره سنتان - أو ثلاث أو أربع - دخل السرداب من أكثر من أربعمائة سنة أو أن عليا لم يمت وأمثال ذلك يقول جمهور الناس: إن قولهم معلوم الفساد بالضرورة
وكذلك قول القائلين بأن الأعراض لا تبقى زمانين مما يقول جمهور العقلاء: إن فساده معلوم بالضرورة
وكذلك من يقول: إن النبي ﷺ كان يسمي المنافقين مؤمنين ويجعل إيمانهم كإيمان المؤمنين غير المنافقين وهم مع ذلك مخلدون في النار مما يعلم جمهور العقلاء المسلمين فساده بالاضطرار من دين الإسلام
وكذلك القائلون بأن القرآن العزيز زيد فيه زيادات ونقص منه أشياء مما يعلم بالضرورة امتناعه في العادة
وقول النصارى: إن الكلمة اتحدث بالمسيح وإنها ليس هي الآب الجامع للأقانيم وهي مع ذلك الرب الذي يخلق ويرزق وهي جوهر والجوهر عندهم واحد ليس إلا الآب مما يقول الناس: إنه معلوم الفساد بالضرورة
ومثل هذا إذا تتبعناه كثير
فوجده الأقوال التي يقول جمهور الناس: إنها معلومة الفساد بالضرورة في قول طوائف كثيرة من الناس أكثر من أن تستوعب فكيف يقال: لا يجوز إطباق الجمع الكثير على إنكار ما علم بالبديهة؟
ولكن إذا قيل: ما الفرق بين هذا وبين ما لا يمكن التواطؤ عليه من إثبات منف أو نفي ثابت كما في خبر أهل التواتر
كان الجواب: أن الفطر التي لم تتواطأ يمتنع اتفاقها على جحد ما يعلم بالبديهة فأما مع المواطأة فلا يمتنع اتفاق خلق كثير على الكذب الذي يعلمون كلهم أنه كذب وإن تضمن من جحد الحسيات والضروريات وإثبات نقيضها ما شاء الله وأما في المذاهب فقد يجتمع على جحد الضروريات جمع كثير إذا كان هناك شبهة أو هوى فيكون عامتهم لم يفهموا ما قاله خاصتهم مثل التعبير عن هذه المسألة بنفي الجهة والحيز والمكان فيظن عامتهم أن مرادهم تنزيه الله تعالى عن أن يكون محصورا في خلقه أو مفتقرا إلى مخلوق فيوافقون على هذا المعنى الصحيح ظانين أنه مفهوم تلك العبارة فأما إذا فهموا هم حقيقة قولهم وهو أنه ما فوق السماوات رب ولا وراء العالم شيء موجود فهذا لا يوافقهم عليه - بعد - فهمه - أحد بفطرته وإنما يوافقهم عليه من قامت عنده شبهة من شبه النفاة لا سيما إن كان له هوى وغرض
وإذا كان المتفقون على هذا النفي - بعد فهمه - إنما قالوه لما قامت عندهم من حجج النفاة أمكن غلطهم في ذلك وخطؤهم واتفاقهم على جحد ما يخالف ذلك وإن كان معلوما بالضرورة كما وقع مثل ذلك في عامة فرق أهل الضلال ومع هذا فلا يكاد بوجد منهم من يرجع إلى فطرته بلا هوى إلا وفطرته تنكر إثبات موجود لا مباين ولا محايث لكن يقهر فطرته بالشبهة أو العادة أو التقليد كما يقهر النصراني فطرته إذا أنكرت أن يكون الله هو المسيح ابن مريم
وعامة هؤلاء إذا أصابت أحدا منهم ضرورة تلجئه إلى دعاء الله وجد في قلبه معنى يطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة ففطرته وضرورته تقر بالعلو وينكر وجود موجود لا محايث ولا مباين وعقيدته التي اعتقدها تقليدا أو عادة أو شبهة تناقض فطرته وضرورته
الوجه الرابع
أن يقال: هذا معارض بما هو أبلغ منه فإن الجموع الكثيرة يقولون: إنهم يجدون في أنفسهم عند الضرورة معنى يطلب العلو في توجه قلوبهم إلى الله ودعائه وأنه يمتنع في عقولهم وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه وأن هذا معلوم لهم بالضرورة فإن امتنع اتفاق الجمع العظيم على مخالفة البديهة فتجب الحجة المثبتة فيبطل نقيضها وإن لم تمتنع بطلت حجة النفاة فيثبت بطلانها على التقديرين
فصل الوجه الثاني من كلام الرازي في الأربعين
وأما الوجه الثاني فقوله: إن مسمى الإنسان المشترك بين الأشخاص ممتنع أن يكون له قدر معنى وحيز معنى وما أوردوه من أن هذا لا وجود له إلا في العقل وأن النزاع في الموجودات الخارجية وجوابه بأن الغرض تعقل أمر لا يثبت العقل له جهة ولا قدرا وهذا يمنع كون تلك المقدمة بديهية
الرد عليه من وجوه
الوجه الأول
أن المثبتين إنما ادعوا أنه لا يوجد في الخارج موجودان إلا ولا بد أن يكون أحدهما محايثا للآخر أو مباينا له وأما ما في النفس من العلوم الكلية فلم ينفوه ومن المعلوم أنه لا يلزم من كون العلوم الكلية ثابتة في النفس إمكان ثبوتها في الخارج وإذا لم يلزم ذلك لم يلزم إمكان وجود موجود في الخارج لا محايث للاخر ولا مباين له
وأما قوله: المقصود أنه ممكن تعقل أمر لا يثبت له العقل جهة ولا قدرا
فيقال: بتقدير صحة ذلك هذا يفيد إمكان تعقل ثبوته في النفس لا يفيد إمكان تعلقه في الخارج فمورد النزاع لا دليل عليه وما أثبته ليس مورد النزاع
الوجه الثاني
أن يقال: هذه المعاني الكلية هي كلية باعتبار مطابقتها لمفرداتها كما يطابق اللفظ العام لأفراده وأما في نفسها فأعراض معينة كل منها عرض معين قائم في نفس معينة كما يقوم اللفظ المعين بالفم المعين والخط المعين بالورق المعين فالخط يطابق اللفظ واللفظ يطابق المعنى الذهني والمعنى يطابق الموجود الخارجي وكل من تلك الثلاثة قد يقال له: عام وكلي ومطلق باعتبار شموله للأعيان الموجودة في الخارج وأما هو في نفسه فشيء معين مشخص
وإذا كان كذلك فالإنسان المطلق من حيث هو الذي تصوره الذهن هو علم وعرض معين في محل معين فإذا قدر أن محل العلم وغيره من صفات الإنسان كالحب والرضا والبغض وغير ذلك مما يشار إليه إشارة حسية كما يقوله جمهور الخلق كانت الإشارة إلى ما فيه من الأعراض كالإشارة إلى كل عرض قائم بمحله وحينئذ فإذا كان المشار إليه حسيا له قدر معين وحيز معين فلمحل الصورة الذهنية قدر معين وحيز معين وله أيضا جهة
والكليات ثابتة في النفس كالجزئيات الثابتة فيها فالنفس تعلم الإنسان المطلق والإنسان المعين والإشارة إلى أحدهما كالإشارة إلى الآخر فلا فرق حينئذ بين تصور الإنسان المشترك الكلي والإنسان المعين الجزئي من هذه الجهة لكن أحدهما لا يوجد إلا في النفس والآخر يوجد في الخارج ويوجد تصوره في النفس
الوجه الثالث
أن يقال: هذه الماهية المطلقة من حيث هي هي إما أن يقال: هي ثابتة في الخارج وإما أن لا يقال هي ثابتة في الخارج فإن من الناس من يقول بثبوت الماهيات المجردة منفردة عن الأعيان كالقائلين بالمثل الأفلاطونية
ومن الناس من يقول بثبوتها مقارنة للمعينات والمطلق جزء من المعين ويقولون: المطلق لا بشرط موجود في الخارج وأما المطلق بشرط الإطلاق فليس موجودا في الخارج ويسمون المطلق لا بشرط الكلي الطبيعي والمطلق بشرط الإطلاق هو العقلي وكونه كليا ومطلقا هو الكلي المنطقي إذ العقل عندهم مركب من الطبيعي والمنطقي فيقول: الإنسان من حيث هو - مع قطع النظر عن جميع قيوده - هو الطبيعي وكونه عاما وكليا ومطلقا هو المنطقي والمؤلف منهما هو العقلي
وآخرون يقولون: ليس في الخارج ما هو كلي في الخارج أصلا بل ليس في الخارج إلا ما هو معين مخصوص ولكن ما كان في النفس كليا يوجد في الخارج ولا يوجد في الخارج إلا معينا
فإذا قيل: الكلي الطبيعي موجود في الخارج وأريد به: أن الطبيعة التي يجردها العقل كلية توجد في الخارج ولا توجد فيه إلا معينة فهذا صحيح وإذا قيل: إن الطبيعة الكلية مع كونها كلية توجد في الخارج أو أن الكلي الذي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه جزء من المعين الذي يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه أو أن هذا الإنسان المعين مركب من جوهرين: أحدهما حيوان والآخر ناطق أو من عرضين: حيوانية وناطقية أو نحو هذه المقالات فهذا كله باطل وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن يقال: هذه الكليات: إما أن يقال: إنها ثابتة في الخارج وإما أن لا يقال فإن لم يقل بذلك لم يكن فيها حجة على إمكان وجود موجود في الخارج لا يشار إليه وإذا قيل بثبوتها في الخارج فمن المعلوم أن هذا ليس من العلوم البديهية الأولية بل لم يقل هذا إلا طائفة من أهل المنطق اليوناني وهم متناقضون في ذلك ويقولون القول ويقولون ما يناقضه وبعضهم ينكر على بعض إثبات ذلك
وإذا كان كذلك لم يصلح أن يجعل مثل هذه القضية مقدمة في إبطال قضية اعترف بها جماهير الأمم واعترفوا بأنها مركوزة في فطرهم مغروزة في أنفسهم وأنهم مضطرون إليها لا يمكنهم دفعها عن أنفسهم
لكن طائفة منهم تقول: إنها مع هذا خطأ لاعتقادهم أنها - وإن كانت ضرورية في فطرتهم - ففطرتهم تسلم مقدمات تنتج نقيضها وهؤلاء لا ينازعون أنها فطرية مبتدأة في النفوس ولكن يقدحون فيها بطرق نظرية
فإذا قال لهم المثبتون: نحن لا نقبل القدح في القضايا المبتدأة في النفس بالقضايا النظرية أو قالوا: نحن لا نسلم لكم المقدمات التي تستدلون بها على نقيض هذه القضايا كما لا نسلم لكم ثبوت الكليات في الخارج ونحو ذلك ظهر انقطاع المعارض لهم وأنهم يريدون دفع القضايا الضرورية بمجرد الدعاوى الوهمية الخيالية
فصل الوجه الثالث من كلام الرازي في الأربعين
وأما الوجه الثالث: فقوله ( إن الخيال والوهم لا يمكنهما أن يستحصرا لأنفسهما صورة وشكلا ولا للقوة الباصرة وغيرها من القوى )
كلام ابن سينا في الإشارات
فهذه الحجة من جنس حجة ابن سينا على ذلك فإنه قال في إشاراته في الحجة الثانية: ( لو كان موجودا بحيث يدخل في الوهم والحس لكان الحس والوهم يدخل في الحس والوهم ولكان العقل - الذي هو الحكم الحق - يدخل في الوهم ومن بعد هذه الأصول فليس شيء من العشق والخجل والوجل والغضب والشجاعة والجبن مما يدخل في الحس والوهم وهي من علائق الأمور المحسوسة فما ظنك بموجودات إن كانت خارجة الذوات عن درجة المحسوسات وعلائقها )
الرد عليه من وجوه
الوجه الأول
أن يقال: الوهم والخيال والقوة الباصرة وغير ذلك من القوى هي من باب الأعراض الباطنة في الإنسان وكذلك العشق والخجل والوجل ونحوهما
ومن المعلوم أن أحدا لم يقل: إن كل عرض له شكل وصورة وإنما غاية من يقول ذلك أن يقوله في الجسم القائم بنفسه لا في العرض بل الأعراض الظاهرة المشهودة كالألوان والحركات والطعوم والروائح ليس لها في أنفسها شكل وصورة قائمة بنفسها فكيف بالأعراض الباطنة
فإن قال: بل هذه لها صورة وشكل: إما باعتبار محلها وصورتها وشكلها بحسب الجسم الذي قامت به أو يجعل نفس العرض القائم بالجسم له صورة وشكل
يقال: وهذا يمكن أن يقال في الأعراض الباطنة القائمة بباطن الإنسان كحسه الباطن وحركته الباطنة وتوهمه وتخيله القائم بدماغه ونفسه ونحو ذلك فإن هذه أعراض قائمة ببعض بدن الإنسان وبروحه التي هي النفس الناطقة أو بهما وذلك جسم له شكل وصورة فلها من الشكل والصورة من جنس ما للطعم واللون والحركات
الوجه الثاني
أن هذه الأمور: إما أن تكون قائمة بنفسها وإما أن تكون قائمة بغيرها فإن قال: هي قائمة بنفسها مثل أن يريد بالوهم والخيال الروح الباطن في الدماغ الذي تقوم به هذه القوى أو جسما آخر فمعلوم أن ذلك له ما لغيره من الأجسام من الشكل والصورة وإن كانت قائمة بهذه الأجسام فلها حكم أمثالها من الأعراض القائمة بالأجسام
فعلى التقديرين لم يثبت بذلك إمكان وجود موجود لا جسم ولا قائم بجسم فضلا عن أن يثبت وجود ما ليس في جهة وما لا يمكن الإشارة إليه
وهكذا القوى في الخجل والوجل وسائر الأعراض النفسية
فإن قال: هذه الأعراض عندي قائمة بالنفس الناطقة وتلك ليست جسما ولا قوة في جسم ولا يمكن الإشارة إليها وليست داخل السماوات والأرض ولا خارج السماوات والأرض ولا تصعد ولا تنزل ولا تتحرك ولا تسكن
فيقال له: هذا منتف في التخيل والتوهم ونحو ذلك مما يعرف بأن محله قائم بنفسه وهو جسم
ثم يقال: إن ثبت ما تقوله في النفس الناطقة كان ذلك حجة في إثبات موجود لا يمكن الإشارة إليه وإن لم يثبت ذلك لم يكن في مجرد الدعوى حجة لك في إثبات موجود قائم بنفسه لا يمكن الإشارة إليه وقال لك المنازع: جميع هذه الأعراض عندي يمكن الإشارة إليها بالإشارة إلى محلها كما يشار إلى غيرها من الأعراض ويمكن الإحساس بها وإن كنت الآن لا أحس بها كما لا أحس ببعض أعضاء بدني الباطنة والظاهرة
وأهل الملل يعلمون أن الملائكة والجن موجودون في الخارج وجمهور العباد لا يحسون بهم والعقلاء لا يرتابون في إمكان أن يكون فوق الأفلاك ما لا نشاهده نحن الآن وهذا معلوم بالضرورة
الوجه الثالث
أن يقال: المثبتون قالوا: إنه لا يمكن وجود موجودين إلا أن يكون أحدهما مباينا للآخر أو محايثا له أو قالوا: لا يمكن وجود موجود لا يمكن الإشارة إليه أو لا يمكن وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه ونحو ذلك فهذه قضية كلية لا تبطل - إن قبلت البطلان - إلا بثبوت نقيضها
وقول القائل: إن الخيال والوهم لا يمكنهما أن يستحضرا لأنفسهما صورة ولا شكلا ولا للقوة الباصرة وغيرها من القوى - كلام أجنبي لا يقدح في مقصودهم سواء كان حقا أو باطلا إلا أن يثبت أن ما لا يمكن الوهم والخيال أن يثبت له صورة وشكلا لا يمكن الإشارة إليه بل يكون لا محايثا لغيره ولا مباينا له ونحو ذلك
ومعلوم أن هذا باطل فإن القوة الباصرة وغيرها من القوى قائمة بالجسم يشار إليها كما يشار إلى كل عرض قائم بالجسم وهي محايثة لمحلها كما تحايث الأعراض للجواهر وتحايث سائر الأرض القائمة لمحلها كما يحايث العرض العرض فليست خارجة عن المباينة والمحايثة فلم يكن في إثبات ذلك ما يناقض دعواهم الكلية التي قالوا: إنها معلومة بالضرورة
الوجه الرابع
أن يقال: قول القائل: إن الوهم والخيال والقوة الباصرة وغيرها من القوى والعشق والخجل والوجل والغضب والشجاعة لا تدخل في الحس والوهم والخيال: إما أن يعني به أنه لا يمكن الإنسان أن يحس هذه الأمور أو لا يمكن الإحساس بها بحال
فإن أراد الأول لم يكن فيه حجة
وإن أراد الثاني معه المنازع ذلك وقال: بل هذا مما يمكن الإحساس به وطالبه بالدليل على أنه لا يمكن الإحساس به
الوجه الخامس
أن يقال: حكم الإنسان بأن هذه الأعراض والقوى أو النفس الحاملة لها لا يتصور أن تحس بها أضعف من حكمة بأن كل موجودين فلا بد أن يكون أحدهما مباينا للآخر أو محايثا له وبأن كل موجود قائم بنفسه مشار إليه ونحو ذلك
بل يقال بأن العاقل إذا رجع إلى فطرته وقيل له: هل يمكن أن يخلق الله في الإنسان قوة يحس بها - إما بالمشاهدة وإما باللمس وإما بغير ذلك - ما في باطن غيره من القوى والأعراض ومحل ذلك وعرض على فطرته وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه - كان جزمه بامتناع هذا أقوى من جزمه بامتناع الأول
فإذا كان كذلك لم يمكن أن يجزم بامتناع الأول ويجعل امتناعه دليلا على إمكان الثاني
الرد على الوجه الرابع من كلام الرازي من وجوه
الوجه الأول
أن ما يتصوره العقل من النفي والإثبات: إما أن يكون معينا أو مطلقا فإن كان إثبات معين ونفيه كان تصوره تبعا لذلك المعين فإذا كان ذلك المعين محايثا لغيره أو مباينا كان تصوره كذلك فإذا كان العقل يجزم بانتفاء وجود موجودين لا متباينين ولا متحايثين نفى الثالث وإن تصور النفي المطلق والإثبات المطلق كان هذا من القضايا العامة الكلية والكليات وجودها في الأذهان لا في الأعيان وقد تقدم أن الكلام إنما هو في الوجود الخارجي لا الذهني
الوجه الثاني
أن يقال: لا نسلم أنه لا يحكم بكون أحدهما محايثا للآخر بل تصوره للنفي والإثبات محله الذهن وتصور أحدهما هو حيث هو تصور الآخر ولا نعني بالمحايثة إلا هذا
الوجه الثالث
أن يقال: هو عبر عن قول هؤلاء بعبارة لا يقولونها فإنهم لا يقولون: إن كل موجودين لا بد أن يكون أحدهما ساريا على الآخر أو مباينا عنه فإن الأعراض المجتمعة في محل واحد ليس كل منهما مباينا للآخر ولا يقال: إن العرض سار في العرض بل يقال: إن الأعراض سارية في المحل اللهم إلا أن يعبر معبر بلفظ السريان عن كون أحد العرضين بحيث هو الآخر فإن هذا قد يسمى محايثة ومداخلة ومجامعة ونحو ذلك وإذا كان كذلك فتصور النفي وتصور الإثبات يجتمعان كما تجتمع سائر التصورات والتصورات محلها كلها محل العلم من الإنسان وهذه كلها متحايثة متجامعة قائمة بمحل واحد
الرد على الوجه الخامس من كلام الرازي من وجوه
الوجه الأول
أن يقال: مجرد تقدير الذهن للأقسام لا يدل على إمكانها في الخارج فإن يقدر أن الشيء: إما موجود وإما معدوم وإما لا موجود ولا ومعدوم وأن الموجود: إما أن يكون واجبا وإما أن يكون ممكنا وإما أن يكون لا واجبا ولا ممكنا وأنه: إما قديم وإما محدث وإما قائم بنفسه أو بغيره أو لا قائم بنفسه ولا بغيره وأمثال ذلك من التقديرات ثم لم يكن هذا دليلا على إمكان كل هذه الأقسام في الخارج فكذلك تقديره لأن الشيء: إما محايث وإما مباين وإما لا محايث ولا مباين لا يدل على إمكان كل من الأقسام في الخارج
الوجه الثاني
أن يقال: القوم لا يقولون: إما ساري وإما مباين ولكن يقولون: إما أن يكون مباينا له وإما أن يكون محايثا له - أي بحيث هو سواء كان ساريا فيه سريان الصفة في الموصوف وإما أن يكون جميعا ساريين في موصوف واحد كالحياة والقدرة القائمة لموصوف واحد
وحينئذ فلا يسلم توقف العقل عن نفي القسم الثالث فإن من يقول: أنا أعلم بالضرورة أن الموجودين: إما أن يكونا متباينين وإما أن يكونا متحايثين يجزم بانتفاء موجود لا يكون مباينا للموجود الآخر ولا محايثا له
الوجه الثالث
أن يقال: القسم الثالث: إما أن يقول: إنه ممكن إمكانا ذهنيا أو خارجيا والإمكان الذهني معناه عدم العلم بالامتناع والثاني معناه العلم بالإمكان في الخارج
وهو قد فسر مراده بالأول وهو عدم العلم حتى يقوم الدليل وحينئذ فيقال: مجرد الإمكان الذهني - وهو عدم العلم بالامتناع - لا يدل على الإمكان الخارجي ولا العلم به وإنما غايته أن يقول: إني لا أعرف إمكانه ولا امتناعه والمدعي يقول: أنا أعلم امتناعه بالضرورة وقد ذكرنا أنهم طوائف متفرقون اتفقوا على ذلك من غير مواطأة وذلك يقتضي أنهم صادقون فيما يخبرون به عن فطرهم
ومعلوم أن العلوم الضرورية لا يقدح فيها نفي النافي لها فكيف يقدح فيها شك الشاك فيه
الوجه الرابع
أن يقال: لا نسلم توقف العقل بعد التصور التام بل لا يتوقف إلا لعدم التصور أو لوجود ما يمنع من الحكم لظن أو هوى كسائر المنازعين في القضايا الضرورية من أهل الجحود والتكذيب
ومعلوم أن هؤلاء كثيرون في بني آدم فإن الله قد أخبر عن قوم فرعون أنهم جحدوا بآياته واستيقنتها أنفسهم
وقال تعالى عن اليهود: { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } [ البقرة: 146 ] وقال تعالى: { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون } [ البقرة: 75 ]
وقال عن المشركين: { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } [ الأنعام: 33 ] وقال موسى لفرعون: { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر } [ الإسراء: 102 ]
وقد أخبر عن كذب طوائف وإذا كان كثير من الطوائف يتعمدون الكذب والتكذيب بما يعلمون أنه حق وهذا جحد لما علموه وتيقنوه علم أن في الطوائف من قد يتفقون على جحد ما يعلمونه وكل طائفة جاز عليها المواطأة على الكذب جاز عليها ذلك ويجوز أيضا أن يشتبه عليها الحق بالباطل حتى تجحد ما هو حق في نفسه لاشتباهه عليها وإن كان معلوما بالضرورة عند غيرها فإنه إذا جاز تعمد الكذب عليهم فجواز الخطأ عليهم أولى
ومعلوم أن الحس قد يغلط والعقل قد يغلط فيجوز على الطائفة المعينة غلط حسهم أو عقلهم وإذا كانت المعاني دقيقة وفيها ألفاظ مجملة وقد ألقى بعضهم إلى بعض أن هذا القول باطل وكفر أمكن أن لا يتصوروه على وجهه وإن كان غيرهم يتصوره لسلامته من الهوى ومن الاعتقاد المانع من ذلك
الرد على الوجه السادس من كلام الرازي من وجوه
الوجه الأول
ما أجاب به بعض أصحابهم حيث قال: هذا لا يرد عليهم لأن الأعداد أمور ذهنية والكلام في أمور خارجية
الوجه الثاني
أن يقال: العدد مع المعدود والتقدير مع المقدر كالحد مع المحدود والاسم مع المسمى والعلم مع المعلوم ونحو ذلك فالعلم والقول والعدد والحد الذي هو القول الدال والتقدير ونحو ذلك هي قائمة بالعالم القائل العاد الحاد المقدر وإذا العدد هو معنى يقوم بالعاد كان حكمه حكم سائر ما يقوم بالإنسان من هذه الأمور وموضع ذلك نفس الإنسان وأما مقدورها فهو تابع لمحلها كأمثالها من الأعراض
الوجه الثالث
أن يقال: هذه الأعداد هي من جملة الكليات والقول فيها كالقول في كليات الأنواع ومن المعلوم أن أصحاب فيثاغورس لما أثبتوا عددا مجردا قائما بنفسه أنكر ذلك عليهم جماهير العقلاء من إخوانهم وغيرهم وكانوا أضعف قولا من أصحاب أفلاطون الذي أثبتوا الحقائق المجردة الكلية قائمة بأنفسها التي يسمونها ( المثل الأفلاطونية )
فإذا كان قد تقدم بطلان حجة من احتج بكليات الحقائق فبطلان حجة من احتج بكليات العدد أولى وأحرى
فصل تابع كلام الرازي في الأربعين
قال الرازي: ( وإذا عرفت ذلك فنقول: المعنى من اختصاص الشيء بالجهة والمكان: أنه يمكن الإشارة الحسية إليه بأنه هنا أو هناك والعالم مختص بالجهة والمكان بهذا المعنى فإن كان الباري كذلك كان مماسا للعالم أو محاذيا له قطعا ثم قول أكثر الكرامية: إنه مختص بجهة فوق مماس للعرش أو مباين عنه ببعد متناه وقالت الهيصمية: هو مباين عنه ببعد غير متناه )
الرد عليه
فيقال: الناس لهم في هذا المقام أقوال: منهم من يقول: هو نفسه فوق العرش غير مماس ولا بينه وبين العرش فرجة وهذا قول ابن كلاب والحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي والأشعري وابن الباقلاني وغير واحد من هؤلاء وقد وافقهم على ذلك طوائف كثيرة من أصناف العلماء ومن أتباع الأئمة الأربعة وأهل الحديث والصوفية وغيرهم
وهؤلاء يقولون: إنه بذاته فوق العرش وليس بجسم ولا هو محدود ولا متناه
ومنهم من يقول: هو نفسه فوق العرش وإن كان موصوفا بقدر لا يعلمه غيره ثم من هؤلاء من لا يجوز عليه مماسة العرش ومنهم من يجوز ذلك وهذا قول أهل الحديث والسنة وكثير من أهل الفقه والصوفية والكلام غير الكرامية فأما أئمة أهل السنة والحديث وأتباعهم فلا يطلقون لفظ ( الجسم ) نفيا ولا إثباتا وأما كثير من أهل الكلام فيطلقون لفظ ( الجسم ) كهشام بن الحكم وهشام الجواليقي وأتباعهما
وجوه للرازي في الأربعين
الوجه الأول
قال الرازي: لما وجوه: الأول: لو كان مشارا إليه فإن لم ينقسم كان في الحقارة كالجوهر الفرد وتعالى عنه وفاقا وإن انقسم كان مركبا وقد سبق بطلانه )
قال ( وعبر أصحابنا عن هذا بأنه لو كان فوق العرش فإن كان أكبر منه أو مثله كان منقسما لكون العرش منقسما وإن كان أصغر فإن بلغ إلى صغر الجوهر الفرد جاءت الحقارة المنزه عنها وفاقا وإلا لزم التركيب ثم من قال بأن كل متحيز قابل للقسمة كفاه أن يقول: كل متحيز فإن يمينه غير يساره وقدامه غير خلفه ولزم التركيب )
الرد عليه من وجوه
الوجه الأول
قول من يقول: هو فوق العرش وليس بمنقسم ولا متحيز ولا له يمين ولا يسار يتميز منه بعضه عن بعض كما يقول ذلك من يقوله من الكلابية والكرامية والأشعرية ومن وافقهم من أهل الحديث والصوفية الذين يقولون: هو فوق العرش وليس بجسم كالتميميين والقاضي أبي يعلى وأتباعه كابن الزاغوني وغير ذلك وكما يقول ذلك من يقول من الفلاسفة كما حكاه ابن رشد عن الحكماء كما تقدم بعض ذلك
وهؤلاء خلق كثيرون فإن هؤلاء يقولون: لا نسلم أنه إذا لم ينقسم كان الجوهر الفرد ويقولون: لا نسلم أنه يلزم أنه يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساويا فإن هذه الأقسام الثلاثة إنما تلزم إذا كان جسما متحيزا محدودا فإذا كان فوق العرش وليس بجسم مقدر محدود لم يلزم لا هذا ولا هذا مع أنه مشار إليه
فإن قال النفاة: فساد هذا معلوم بالضرورة فإنا نعلم بالضرورة أن ما كان فوق غيره فإما أن يكون أكبر منه أو أصغر منه أو بقدره ونعلم أنه يتميز منه جانب عن جانب وهذا هو الانقسام
قالت لهم المثبتة: تجويز هذا أقرب إلى العقل من تجويز وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه وتجويز وجود موجودين ليس أحدهما محايثا للآخر ولا مباينا له وأنتم تقولون: إن الحكم بكون الشيء أكبر من غيره وأصغر ومساويا وأنه مباين له ومحايث له ومشار إليه ونحو ذلك هو من حكم الوهم التابع للحس وتقولون: إن حكم الوهم لا يقبل في غير الأمور الحسية وتزعمون أن الكلام في صفات الرب تعالى من هذا الباب
فيقال لكم: إن كان مثل هذا الحكم غير مقبول لم يقبل حكمكم بأنه إما أكبر وإما أصغر وإما مساو فإن هذا حكم على ذوات المقدار فإذا قدر ما لا مقدار له وهو فوق غيره لم يلزمه شيء من الأقسام الثلاثة وإن كان مثل هذا الحكم مقبولا لزم الحكم بأن كل موجودين فلا بد أن يكون أحدهما محايثا للآخر أو مباينا له
ومن المعلوم بضرورة العقل أنا إذا عرضنا على العقل أو الوهم أو الخيال أو الحس - أو ما شئت فقل - قولين: أحدهما يتضمن إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه والآخر يتضمن إثبات موجود خارج العالم ليس بجسم ولا منقسم ولا يكون أكبر من العالم ولا أصغر - كان إنكار العقل - إن أنكر القولين - للأول أعظم وتجويزه - إن جوز القولين - للثاني أعظم
فإن ادعى المدعي أن فساد قول من يثبت موجودا خارج العالم ولا أكبر ولا أصغر ولا مساويا معلوم بالضرورة
قيل له: وفساد قول من يثبت موجودا لا داخل العالم ولا خارجه هو معلوم بالضرورة بطريق الأولى وقد تقدم بيان قول من يقول: إن فساد هذا القول معلوم بالضرورة وإن المنازعون له يقولون: هذا حكم الوهم لا حكم العقل فهكذا يقول هؤلاء: إن قولكم هذا فاسد من حكم الوهم لا من حكم العقل
ولكن هؤلاء النفاة فيهم جهل وظلم فإنهم يحتجون على منازعيهم بحجة هي لهم ألزم ويثبتون قولهم بحجة هي على قول منازعيهم أدل وهذا القول مع أنه أقرب إلى العقل فهو أقرب للسمع فإن صاحبه لا يحتاج أن يتأول النصوص المثبتة للعلو والفوقية والاستواء فيكون قوله أقرب إلى اتفاق الشرع والعقل وأقرب إلى الشرع منفردا فيكون أرجح من قولهم على كل تقدير
وهكذا هو عند أهل الإسلام فإن الكلابية والكرامية والأشعرية أقرب إلى السنة والحق من جهمية الفلاسفة والمعتزلة ونحوهم باتفاق جماهير المسلمين وعوامهم
الوجه الثاني
أنه يقال له: ما تعني بقولك: إن كل مشار إليه فإما أن ينقسم أو لا ينقسم؟ أتعني بالانقسام إمكان تفريقه وتجزئته وتبعضه؟ أم تعني به أن كل مشار إليه إذا لم يكن بقدر الجوهر الفرد فإنه يكون مركبا من الجواهر المنفردة؟ أو تعني به أنه يشار إلى شيء منه دون شيء ويرى منه شيء دون شيء ويتميز منه شيء عن شيء
فإن أردت الأول لازم التقدير الأول فإنه لا يلزم من كونه لا يمكن تفريقه وتبعيضه وتقسيمه أن يكون صغيرا بقدر الجوهر الفرد فإنا نعلم بالاضطرار إمكان كون الشيء كبيرا عظيما مع أنه لا يمكن تفريقه وتبعيضه وتقسيمه بل قد تنازع الناس في كثير من المخلوقات: هل تقبل التفريق أو لا تقبله؟ ومن قال: إنها تقبله أثبته بالدليل لم يقل: إنه معلوم بالضرورة
وكذلك إن عنى به أنه مركب من المادة والصورة كما يقول بعض الفلاسفة فأكثر العقلاء ينكرون ذلك والصواب قول من ينكر ذلك كما هو مذكور في غير هذا الموضع وبتقدير تسليمه ينازع من سلمه في صحة المقدمة الثانية ويمنع صحة انتفاء اللازم
وإن أردت به المعنى الثالث: وهو أنه يتميز منه شيء عن شيء
فيقال لك: هذا القول لازم لجميع الخلائق أما الصفاتية فإنهم يثبتون العلم والقدرة والإرادة والكلام ومن المعلوم أن هذه المعاني متميزة في أنفسها ليس كل واحد منها هو الآخر وأما غيرهم فيعلمون الفرق بين كونه عالما وكونه قادرا وكونه حيا ونحو ذلك والمتفلسفة يعلمون الفرق بين كونه موجودا وكونه واجبا وكونه عاقلا وعقلا وعاشقا وعشقا ولذيذا وملتذا ونحو ذلك ففي الجملة لزوم مثل هذه المعاني المتعددة المتكثرة لازم لجميع الخلائق وهذه مسألة الصفات
فإذا قال النفاة: عندنا العلم هو الإرادة والإرادة هي القدرة والوجوب هو الوجود ونحو ذلك
كان لهم جوابان: أحدهما أن يقال: هذا معلوم الفساد بالضرورة كما تقدم ولا يرتاب عاقل في فساد مثل هذا بعد تصوره
والثاني أن يقال: إذا جاز لكم أن تثبتوا معاني متعددة ومتغايرة في الأحكام واللوازم والأسماء ليس التغاير بينها تغاير العموم والخصوص كاللون والسواد وتقولون: إنه لا تعدد فيها ولا كثرة ولا انقسام جاز لمنازعكم أن يثبت ذاتا فوق العالم لا انقسام فيها ولا تركيب وكان هذا أقرب إلى العقل
فإن جاز أن تقولوا: لا يتميز العلم عن القدرة ولا الإرادة عن الحياة جاز أن يقول: لا يتميز ما يحاذي يمين العرش عما يحاذي يسار العرش
ومن المعلوم أن التعدد في الصفات أظهر من التعدد في المقدر فإن كان ذلك مقبولا كان هذا أولى بالقبول وإن كان هذا مردودا كان ذلك أولى بالرد ولا يمكن أحد من العقلاء أن يرد ما يثبت أنه من المعاني المتعددة المعلومة بصريح العقل ومع نطق الشرع بذلك في غير موضع فإن الله تعالى أثبت لنفسه من الأسماء الحسنى التي تتعدد معانيها: كالعليم والقدير والرحيم والعزيز وغير ذلك وأثبت له من الكلمات التي لا تعادلها ما شهد به الكتاب العزيز فقد أثبت تعدد أسمائه وكلماته وفي ضمن ذلك تعدد صفاته وهو الواحد المسمى بأسمائه الحسنى المنعوت بصفات العلى الصادق العدل في كلماته التامات صدقا وعدلا وإذا كانت هذه الحجة مبنية عل نفي الصفات فقد علم فساد أصلها
الوجه الثالث
أن يقال: قولك: ( وإن انقسم كان مركبا وقد سبق بطلانه ) قد سبق قولك: أنه ليس بمتحيز لأن كل متحيز منقسم لذاته بناء على نفي الجزء وكل منقسم لذاته ممكن لافتقاره إلى جزئه الذي هو غيره وكون المفتقر إلى الغير ممكنا بالذات
ومعلوم أن هذه الحجة قد تبين فسادها بطريق البسط في مواضع متعددة وبين أن مبناها على ألفاظ مجملة مشتبهة وهي أصل توحيد الفلاسفة وقد بين نظار المسلمين فسادها كما بين ذلك أبو حامد الغزالي وغيره
جواب الرازي في نهاية المعقول على حجة التركيب في مسألة الصفات
والرازي أجاب الفلاسفة عن حجة التركيب في مسألة الصفات فقال في نهاية العقول: ( قوله: يلزم من إثبات الصفات وقوع الكثرة في الحقيقة الإلهية فتكون تلك الحقيقة ممكنة قلنا: إن عنيتم به احتياج تلك الحقيقة إلى سبب خارجي فلا يلزم لاحتمال استناد تلك الصفات إلى الذات الواجبة لذاتها وإن عنيتم به توقف الصفات في ثبوتها على تلك الذات المخصوصة فذلك مما يلتزمه فأين المحال؟ وأيضا فعندكم الإضافات صفات وجودية في الخارج فيلزمكم ما ألزمتمونا في الصفات وفي الصور المرتسمة في ذاته من المعقولات )
وقال أيضا: ( مما يحقق فساد قول الفلاسفة أنهم قالوا: إن الله عالم بالكليات وقالوا: إن العلم بالشيء عبارة عن حصول صورة مساوية للمعلوم في العالم وقالوا: إن صورة المعلومات موجودة في ذات الله تعالى حتى ابن سينا قال: إن تلك الصفة إذا كانت غير داخلة في الذات بل كانت م لوازم الذات ومن كان هذا مذهبا له كيف يمكنه أن ينكر الصفات؟ وفي الجملة فلا فرق بين الصفاتية وبين الفلاسفة إلا أن الصفاتية يقولون: إن الصفات قائمة بالذات والفلاسفة يقولون: إن هذه الصور العقلية عوارض متقومة بالذات والذي تسميه الصفاتية صفة يسميه الفلسفي عارضا والذي يسميه الصفاتي قياما يسميه الفلسفي قواما وتقوما فلا فرق إلا بالعبارة وإلا فلا فرق في المعنى )
الوجه الرابع
أن يقال: ( إذا كان لفظ: التحيز والانقسام والجزء والافتقار والغير ألفاظا مجملة فلفظ ( المتحيز ) يراد به ما حازه غيره من الموجودات وليس مرادهم بهذا ويراد به ما كان منحازا عن غيره أو ما كان بحيث يشار إليه وإن لم يكن معه موجود سواه وهذا مرادهم بلفظ ( المتحيز ) ولهذا يقولون: العالم متحيز
ولفظ ( الانقسام ) يراد به الانقسام المعروف الذي يتضمن تفريق الأجزاء وليس هذا مرادهم ويراد به ما يتميز منه شيء عن شيء أو جانب عن جانب وهذا مرادهم
ولفظ ( الجزء ) يراد به ما كان منفردا فانضم إليه غيره أو ما أمكن التفريق بينه وبين غيره وليس هذا مرادهم ويراد به ما حصل الامتياز بينه وبين غيره وهذا مرادهم ولفظ ( الافتقار ) يراد به أن يكون الشيء مفتقرا إلى فاعل يفعله وليس هذا مرادهم هنا ويراد به أن يكون ملازما لغيره فلا يوجد أحدهما مع الآخر وهذا مرادهم وقد يقال: إنه يراد به كون الشيء مفتقرا إلى أمر منفصل عنه وليس هذا مرادهم هنا ويراد به أن يكون الشيء لا يتم إلا بما يدخل فيه مما يقال: إنه جزء كالصفة وهذا مرادهم هنا
وإذا عرف ذلك كان مضمون كلامهم أنه لو كان مشارا إليه للزم أن لا يوجد إلا بلوازمه التي لا يوجد إلا بها الداخلة في مسمى اسمه ومعلوم أن ما كان كذلك لم يمتنع أن يكون واجب الوجود بنفسه المستلزمة لهذه اللازمات والمتصفة بهذه الصفات بل إذا كانت حقيقته متصفة بصفات الكمال الوجودية كانت أحق بالوجود من أن لا يوصف إلا بأمور سلبية يستلزم أن تكون ممتنعة الوجود مشبهة بالمعدومات والجمادات فما لا يتصف بشيء من صفات الكمال فلا بد أن تكون له حياة ولا علم ولا قدرة ولا كلام ولا فعل ولا عظمة ولا رحمة بل يكون موجودا مطلقا أو مجردا - كان ممتنع الوجود لا واجب الوجود وما لا يكون إلا كاملا لا يكون إلا بكماله وما يجب أن يكون حيا عليما قديرا لا يكون إلا بحياته وقدرته وعلمه وليس لزوم صفات الكمال له واستلزامه إياها موجبا لكونه لا يكون موجودا بنفسه
وتسمى المسمى هذا جزءا وبعضا ونحو ذلك غايته أن يقال: لا يمكن وجود الكل إلا بوجود بعضه ومن المعلوم أن وجود الكل لا يوجد إلا بوجود الكل فيكون الكل موجودا بالكل ولا يتضمن ذلك افتقارا له إلى غيره فإذا كان قول القائل: إنه مفتقر إلى نفسه أو كله لا يقدح في وجوب وجوده فقوله: هو مفتقر إلى صفته أو بعضه أولى أن لا يقدح في وجوب وجوده
ومما يبين ذلك أن هؤلاء المتفلسفة يقولون: إن وجوده مستلزم لوجود المعلولات الممكنات فلا يتصور وجوده بدون وجودات ممكنة معلولة منفصلة عنه وذلك لا يقدح عندهم في وجوب وجوده بنفسه فكيف يقدح في وجوب وجوده كونه مستلزما لصفات كمال لازمة له قائمة بنفسه؟ فإن كان استلزامه لغيره افتقارا إليه فافتقاره إلى معلوله المنفصل أعظم امتناعا وإن لم يكن افتقارا إلى اللازم لم يكن استلزامه الصفات افتقارا إليها
ومثل هذا التناقض كثير في كلام المخالفين للسنة تحقيقا لقوله تعالى: { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } [ النساء: 82 ]