الوجه الثالث والأربعون
أن يقال: المعارضون للكتاب والسنة بآرائهم لا يمكنهم أن يقولوا: إن كل واحد من الدليلين المتعارضين هو يقيني وقد تناقضا على وجه لا يمكن الجمع بينهما فإن هذا لا يقوله عاقل يفهم ما يقوله ولكن نهاية ما يقولونه: إن الأدلة الشرعية لا تفيد اليقين وإن ما ناقضها من الأدلة السمعية الشرعية ويثبتونه لما ناقضها من أدلتهم المبتدعة التي يدعون أنها براهين قطعية
ولهذا كان لازم قولهم والإلحاد والنفاق والإعراض عما جاء به الرسول والإقبال على ما يناقض ذلك كالذين ذكرهم الله تعالى في كتابه من مجادلي الرسل كما قال: { وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب } [ غافر: 5 ]
وقوله تعالى: { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد } [ غافر: 4 ]
وقوله تعالى: { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون * ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون } [ الأنعام: 112 - 113 ] وأمثال ذلك وهذا باب واسع في كتاب الله
ومقصودنا تنبيه المؤمنين على حال مثل هؤلاء الكفار في كتاب الله وإلا فالمقصود هنا دفعهم عن الرسل ومن جاهد الكفار والمنافقين لم يحتج عليهم بأقوال من كذبوه من المرسلين ولكن المؤمن بالرسل يستفيد بهذا: أن جنس هؤلاء هم المكذبون للرسل
وأما طريق الرد عليهم فلنا فيه مسالك :
الأول: أن نبين فساد ما ادعوه معارضا للرسول ﷺ من عقلياتهم
الثاني: أن نبين أن ما جاء به الرسول معلوم بالضرورة من دينه أو معلوم بالأدلة اليقينية وحينئذ فلا يمكن مع تصديق الرسول أن نخالف ذلك وهذا ينتفع به كل من آمن بالرسول
الثالث: أن نبين أن المعقول الصريح يوافق ما جاءت به الرسل لا يناقضه إما بأن ذلك معلوم بضرورة العقل وإما بأنه معلوم بنظره وهذا أقطع لحجة المنازع مطلقا سواء كان في ريب من الإيمان بالرسول وبأنه أخبر بذلك أو لم يكن كذلك فإن هؤلاء المعارضين منهم خلق كثير في قلوبهم ريب في نفس الإيمان بالرسالة وفيهم من في قلبه ريب في كون الرسول أخبر بهذا
وهؤلاء الذين تكلمنا على قانونهم والذين قدموا فيه عقلياتهم على كلام الله ورسوله عادتهم يذكرون ذلك في مسائل العلو لله ونحوها فإن النصوص التي في الكتاب والسنة بإثبات علو الله على خلقه كثيرة منتشرة قد بهرتهم بكثرتها وقوتها ولي سمعهم في نفي ذلك لا آية من كتاب الله ولا حديث عن رسول الله ﷺ ولا قول أحد من سلف الأمة إلا أن يرووا في ذلك ما يعلم أنه كذب كحديث عوسجة وأمثاله وإما أن يحتجوا بما يعلم أنه لا دلالة له على مطلوبهم كاستدلالهم بأنه أحد والأحد لا يكون فوق العرش لأنه لو كان فوق العرش لم يكن أحدا بناء على أن ما فوق العرش يكون جسما والجسم منقسم فلا يكون أحدا والأجسام متماثلة فيكون له كفو ونظير
وقد بين فساد مثل هذه الأدلة السمعية بوجوه كثيرة في غير هذا الموضع وبينا أن اسم الواحد والأحد لا يقع في لغة العرب إلا على نقيض مطلوبهم كقوله تعالى: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } [ التوبة: 6 ] وقوله: { ذرني ومن خلقت وحيدا } [ المدثر: 11 ] وقوله: { وإن كانت واحدة فلها النصف } [ النساء: 11 ] وقوله: { يود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب } [ البقرة: 266 ] وقوله: { فابعثوا أحدكم بورقكم } [ الكهف: 19 ] وقوله: { ولا يشعرن بكم أحدا } [ الكهف: 19 ] وقوله: { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت } [ البقرة: 185 ] وقوله: { شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت } [ المائدة: 106 ] وقوله: { يود أحدهم لو يعمر ألف سنة } [ البقرة: 96 ] وقوله: { ولم يكن له كفوا أحد } [ الإخلاص: 4 ] وقوله: { قل إني لن يجيرني من الله أحد } [ الجن: 22 ] وقوله: { ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } [ الكهف: 110 ] وأمثال ذلك كثير وأن لفظ المثل والمساوي منتفيان في لغة العرب عما ادعوا هم تماثلهما وتساويهما
كقوله تعالى: { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } [ محمد: 38 ] فقد نفى التماثل عن صنفين من بنى آدم فنفي التماثل عن الحيوان والإنسان والفلك والتراب أولى
فعلم أنه ليست في لغة العرب أن يكون كل ما كان متحيزا مماثلا لكل ما هو متحيز وإن ادعى بعض المتكلمين تماثل ذلك عقلا فالمقصود أن هذا ليس مثلا في اللغة
والقرآن نزل بلغة العرب فلا يجوز حمله على اصطلاح حادث ليس من لغتهم لو كان معناه صحيحا فكيف إذا كان باطلا في العقل
وقوله تعالى: { وما يستوي الأعمى والبصير } [ فاطر: 19 ] { وما يستوي الأحياء ولا الأموات } [ فاطر: 22 ] وقوله: { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة } [ الحشر: 20 ] وعقلاؤهم يعلمون فساد ما يستدلون به من الأدلة الشرعية وكلهم يعترف بأن مثل هذه الأدلة لا تعارض ما في القرآن من إثبات العلو والفوقية ونحو ذلك
ولهذا لم يكن معهم على نفي ذلك أصل يعتصمون منه من جهة الرسول ﷺ وإنما يتمسكون بما يظنونه من العقليات فيحتاجون إلى بيان تقديم ذلك على الأدلة الشرعية
وإذا كان كذلك فنحن نبين أن الأدلة العقلية موافقة للأدلة النقلية لا معارضة لها ونذكر ما ذكروه هم في ذلك ليكون أبلغ في الحجة
كلام الرازي عن الجهة والمكان
قالوا: وهذا لباب ما ذكره الرازي في ( الأربعين ) قال: ( إنه تعالى ليس من جهة ولا مكان ) قال: ( وادعى كثير من المخالفين العلم البديهي بأن موجودين لا بد من كون أحدهما ساريا في الآخر كالعرض والجوهر أو مباينا عنه في الجهة كالجوهرين )
قال: وهذا باطل لوجوه
أحدهما: لو كان بديهيا لامتنع إطباق الجمع العظيم على إنكاره وهم ما سوى الحنابلة والكرامية
الثاني: أن مسمى الإنسان مشترك بين الأشخاص ذوات الأحياز المختلفة والمقادير المختلفة فهو من حيث هو ممتنع أن يكون له قدر معين وحيز معين وإلا لم يكن مشتركا فيه بين كل الأشخاص فإن قلت: فالإنسان من حيث هو إنسان لا وجود له إلا في العقل والكلام في الموجودات الخارجية قلت: الغرض: منه أنه لا يمتنع تعقل أمر لا يثبت العقل له جهة ولا قدرا وهذا يمنع كون تلك المقدمة بديهية
الثالث: أن الخيال والوهم لا يمكننا أن نستحضر لنفسيهما صورة ولا شكلا ولا للقوة الباصرة وغيرها من القوى
الرابع: أن العقل يتصور النفي والإثبات ثم يحكم بتناقضهما مع أنه لا يحكم بكون أحدهما ساريا على الآخر أو مباينا عنه في الجهة أو لا ساريا ولا مباينا ثم أنا نجد العقل يتوقف عن القسم الثالث إلا لبرهان يثبته أو ينفيه وأن العقل يدرك ماهيات مراتب الأعداد مع أنه لا يمكنه أن يحكم على أحد منها بأن موضوعها كذا ومقدارها كذا
إذا عرفت ذلك فنقول: المعني من اختصاص الشيء بالجهة والمكان: أنه يمكن الإشارة الحسية إليه بأنه هنا أو هناك والعالم مختص بالجهة والمكان بهذا المعنى فإن الباري كذلك كان مماسا للعالم أو محاذيا له قطعا
ثم قالت الكرامية: إنه تعالى مختص بجهة فوق مماسا للعرش أو مباينا عنه ببعد متناه وهو قول اكثر طوائفهم وإما مباينا عنه ببعد غير متناه وهو قول الهيصمية وهذا لا يعقل مع إثبات الجهة لأنه إذا كان في جانب والعالم في جانب كان البعد بينهما محصورا فهذا ما ذكروه
تعليق ابن تيمية
فيقال: قد ذكرتم عمن ذكرتموه من منازعيكم أنهم ادعوا العلم البديهي ببطلان قولكم وصحة نقيضه حيث جوزتم وجود موجود لا يشار إليه بأنه هنا أو هناك وأنه يجوز وجود موجودين ليس أحدهما ساريا في الآخر ولا مباينا عنه بالجهة
فقال هؤلاء المنازعون: نحن نعلم بالبديهة بطلان هذا فاحتجتم إلى مقامين
أحدهما: أن تبينوا أن بطلان هذا ليس معلوما بالبديهة وإلا فإذا كان بطلان القول معلوما بالبديهة لم يمكن إقامة الدليل على صحته لأن النظريات لا تعارض الضروريات بل ما عارضها كان من باب السفسطة
والمقام الثاني: بيان ثبوت ذلك فإنه لا يلزم من عدم العلم بامتناعه أو العلم بإمكانه ثبوت ذلك في الخارج
وإذا ثبت هذان المقامان لكم فإما أن يمكن مع ذلك القول بمقتضى النصوص من أن الله فوق العرش أو لا يمكن فإن أمكن ذلك لم يكن بين ما ذكرتموه من المعقولات وبين النصوص الإلهية تعارض وإن لم يمكن ذلك ثبت التعارض بينهما فقد تبين أن ثبوت التعارض مبني على هذه المقدمات الثلاث فإن لم تثبت الثلاث بطل كلامكم فكيف إذا تبين بطلان واحدة منها فكيف إذا تبين بطلانها كلها
وبيان ذلك في كل مقام
المقام الأول
أما المقام الأول: فإن المثبتين قالوا: إنهم يعلمون بالبديهة امتناع وجود موجودين لا يكون أحدهما ساريا في الآخر ولا مباينا له بالجهة وانه لا يمكن وجود موجود قائم بنفسه لا يمكن الإشارة إليه بل قد يقولون: إن علمتم بأن الله فوق العالم علم ضروري فطري وأن الخلق كلهم إذا حزبهم شدة أو حاجة في أمر وجهوا قلوبهم إلى الله يدعونه ويسألونه وأن هذا أمر متفق عليه بين الأمم التي لم تغير فطرتها لم يحصل بينهم بتواطئ واتفاق ولهذا يوجد هذا في فطرة الأعراب والعجائز والصبيان من المسلمين واليهود والنصارى والمشركين ومن لم يقرأ كتابا ولم يتلق مثل هذا عن معلم ولا أستاذ وهذا القدر ما زال يذكره المصنفون في هذا الباب من أهل الكلام والحديث وغيرهم
قالوا: وإذا كان مما يجيز هؤلاء الذين لم يتواطئوا بثبوته عندهم كانوا صادقين فإنه يمتنع على الجمع الكثير الكذب من غير تواطئ وبمثل هذا علم ثبوت ما يخبر به أهل التواتر مما يعلم بالحس والضرورة فإن المخبر إذا لم يكن خبره مطابقا فإما أن يكون متعمدا للكذب وإما أن يكون مخطئا وتعمد الكذب يمتنع في العادة على الجمع الكثير من غير تواطئ والخطأ على الجمع الكثير ممتنع في الأمور الحسية والضرورية قالوا: وهذا بخلاف إثبات موجودين ليس أحدهما داخلا في الآخر ولا خارجا عنه فإن هذا لا تقوله إلا طائفة يذكرون أنهم علموا ذلك بالنظر لا بالضرورة وقد تلقاه بعضهم عن بعض فهو قول تواطئوا عليه ولهذا لا يقول ذلك من لم ينظر في كلام النفاة
وإما الإقرار بعلو الله تعالى: ورفع الأيدي إليه فهو مما اتفقت عليه الأمم الذين يقولون ذلك ويفعلونه من غير اتفاق ولا مواطأة
وحينئذ فالجمع الكثير: إما أن يجوز عليهم الاتفاق على مخالفة البديهيات وإما أن لا يجوز فإن لم يجز ذلك عليهم ثبت أن هذه المقدمة بديهة لأنه اتفق عليها أمم كثيرة بدون التواطؤ وإن جاز ذلك عليهم بطل احتجاجهم على أن هذه المقدمة ليست بديهية فإن الجمع الكثير أنكروها وإذا بطلت حجتهم على أنها ليست بديهية بقي أحد المتناظرين يقول: إن مقدمته معلومه له بالبديهة والآخر لا يمكنه إبطال قوله فلا تكون له حجة عقلية على بطلان قوله وهو المطلوب
فكيف والنفاة لا يدعون بديهيات فطرية ولا سمعيات شرعية وإنما يدعون نظريات عقلية والمثبتون يقولون: معنا نظريات عقلية مع البديهيات الفطرية ومع السمعيات اليقينية الشرعية النبوية
وأيضا فيقال: إذا قال المنازعون المثبتون: إن قولنا معلوم بالبديهة لم يمكن أن يناظر بقضية نظرية لأنه لا يمكن القدح بالنظريات في الضروريات كما لا يقبل قدح السوفسطائي بنظره فيما يقول الناس إنه معلوم بالبديهة ولا يقبل مجرد قوله على منازعه بل المرجع في القضايا الفطرية الضرورية إلى أهل الفطر السليمة التي لم تتغير فطرتهم بالاعتقادات الموروثة والأهواء
ومن المعلوم أن هذه المقدمة مستقرة في فطر جميع الناس الذين لم يحصل لهم ما يغير فطرتهم من ظن أو هوى
والنفاة لا ينازعون في أن هذا ثابت الفطرة لكن يزعمون أن هذا من حكم الوهم والخيال وأن حكم الوهم والخيال إنما يقبل في الحسيات لا في العقليات
قالوا: ويتبين خطأ الوهم والخيال في ذلك بأن يسلم للعقل مقدمات تستلزم نقيض حكمه مثل أن يسلم للعقل مقدمات تستلزم ثبوت موجود ليس بجسم ولا في جهة فيعلم حينئذ أن حكمه الأول باطل
والمثبتون يقولون: هذا كلام باطل لوجوه :
أحدها: أنه إذا جاز أن يكون في الفطرة حكمان بديهيان أحدهما مقبول والآخر مردود كان هذا قدحا في مبادئ العلوم كلها وحينئذ لا يوثق بحكم البديهية
الثاني: أنه إذا جوز ذلك فالتمييز بين النوعين: إما أن يكون بقضايا بديهية أو نظرية مبنية على البديهية وكلاهما باطل فإنا إذا جوزنا أن يكون في البديهيات ما هو باطل لم يمكن العلم بأن تلك البديهية المميزة بين ما هو صحيح من البديهيات الأولى وما هو كاذب مقبول التمييز حتى يعلم أنها من القسم الصحيح وذلك لا يعلم إلا ببديهية أخرى مبينة مميزة وتلك لا يعلم أنها من البديهيات الصحيحة إلا بأخرى فيفضي إلى التسلسل الباطل أو ينتهي الأمر إلى بديهية مشتبهة لا يحصل بها التمييز فلا يبقى طريق يعلم به الحق من الباطل وذلك يقدح في التمييز والنظريات موقوفة على البديهيات فإذا جاز أن تكون البديهيات مشتبهة: فيها حق وباطل كانت النظريات المبنية عليها أولى بذلك وحينئذ فلا يبقى علم يعرف به حق وباطل وهذا جامع كل سفسطة
وبتقدير ثبوت السفسطة لا تكون لنا عقليات يثبت بها شيء فضلا عن أن تعارض الشرعيات
الثالث: أن قول القائل: إن الوهم يسلم للعقل قضايا بديهية تستلزم إثبات وجود موجود تمتنع الإشارة الحسية إليه ممنوع
الرابع: أنه بتقدير التسليم بكون المقدمة جدلية فإن الوهم إذا سلم للعقل مقدمة لم ينتفع العقل بتلك القضية إلا أن تكون معلومة له بالبديهة الصحيحة فإذا لم يكن له سبيل إلى هذا انسدت المعارف على العقل وكان تسليم الوهم إنما يجعل القضية جدلية لا برهانية وهذا وحده لا ينفع في العلوم البرهانية العقلية
الخامس: أن قول القائل: إن حكم الوهم والخيال إنما يقبل في الحسيات دون العقليات إنما يصح إذا ثبت أن في الخارج موجودات لا يمكن أن تعرف بالحس بوجه من الوجوه وهذا إنما يثبت إذا ثبت أن في الوجود الخارجي ما لا يمكن الإشارة الحسية إليه وهذا أول المسألة فإن المثبتين يقولون: ليس في الوجود الخارجي إلا ما يمكن الإشارة الحسية إليه أو لا يعقل موجود في الخارج إلا كذلك
فإذا قيل لهم: حكم الوهم والخيال مقبول في الحسيات دون العقليات والمراد بالعقليات موجودات خارجة قائمة بأنفسها لا يمكن الإشارة الحسية إليها
قالوا: إبطال لحكم الفطرة الذي سميتموه الوهم والخيال موقوف على ثبوت هذه العقليات وثبوتها موقوف على إبطال هذا الحكم وإذا لم يثبت هذا إلا بعد هذا ولا هذا بعد هذا كان هذا من الدور الممتنع
السادس: أن يقال: إن أردتم بالعقليات ما يقوم القلب من العلوم العقلية الكلية ونحوها فليس الكلام هنا في هذه ونحن لا نقبل مجرد حكم الحس ولا الخيال في مثل هذه العلوم الكلية العقلية موجودات خارجة لا يمكن الإشارة الحسية إليها فلم قلتم: إن هذا موجود فالنزاع في هذا ونحن نقول: إن بطلان هذا معلوم بالبديهية
السابع: أن يقال: الوهم والخيال يراد به ما كان مطابقا وما كان مخالفا فأما المطابق مثل توهم الإنسان لمن هو عدوه أنه عدوه وتوهم الشاة أن الذئب يريد أكلها وتخيل الإنسان لصورة ما رآه في نفسه بعد مغيبه ونحو ذلك فهذا الوهم والخيال حق وقضاياه صادقة وأما غير المطابق: فمثل أن يتخيل الإنسان أن في الخارج ما لا وجود له في الخارج وتوهمه ذلك مثل من يتوهم فيمن يحبه أنه يبغضه ومثل ما يتوهم الإنسان أن الناس يحبونه ويعظمونه والأمر بالعكس والله لا يحب كل مختال فخور فالمختال الذي يتخيل في نفسه أنه عظيم فيعتقد في نفسه أكثر مما يستحقه وأمثال ذلك
قالوا: وإذا كان الأمر كذلك فلم قلتم: إن حكم الفطرة بأن الموجودين إما متباينان وإما متحايثان من حكم الوهم والخيال الباطل ونحن نقول: إنه من حكم الوهم والخيال المطابق
فإذا قلتم: إن العقل دل على أنه باطل كان الشأن في المقدمات التي ينبني عليها ذلك وتلك المقدمات أضعف في الفطرة من هذه المقدمات فكيف يدفع الأقوى بالأضعف
الثامن: أن المثبتين قالوا: بل المقدمات المعارضة لهذا الحكم هي من الوهم والخيال الباطل مثل إثبات الكليات في الخارج وتصور النفي والإثبات المطلقين ثابتين في الخارج وتصور الأعداد المجردة ثابتة في الخارج فإن هذه المتصورات كلها لا تكون إلا في الذهن ومن اعتقد أنها ثابتة في الخارج فقد توهم وتخيل ما لا حقيقة له وجعل هذا التوهم والخيال الباطل مقدمة في دفع القضايا البديهية
التاسع: أن يقال: لا نسلم أن في الفطرة قضايا تستلزم نتائج تناقض ما حكمت به أو لا كما يدعونه فإن هذا مبني على أن المقدمات المستلزمة ما يناقض الحكم الأول مقدمات صحيحة وليس الأمر كذلك كما سنبينه إن شاء الله تعالى فإن هذه المقدمات هي النافية لعلو الله على خلقه ومباينته لعباده والمقدمات المستلزمة لهذا ليست مسلمة فضلا عن أن تكون بديهية
الوجه العاشر: أن الذين جعلوا هذه القضايا من حكم الوهم الباطل هم طائفة من نفاة الصفات الجهمية من المتكلمين والمتفلسفة ومن تلقى ذلك عنهم وهذا معروف في كتب ابن سينا ومن اتبعه من أهل المنطق
وكثير من أهل المنطق كابن رشد الحفيد وغيره يخاف ابن سينا فيما ذكره في هذا الباب من الإلهيات والمنطقيات ويذكر أن مذهب الفلاسفة المتقدمين بخلاف ما ذكروه وأما الأساطين قبله فالنقل عنهم مشهور بخلافهم في هذا الباب
كلام ابن سينا في الإشارات عن الخيال والوهميات
والمقصود أن هذا الكلام عامة من تكلم به من المتأخرين أخذوا من ابن سينا ومن تدبر كلامه وكلام أتباعه فيه وجده في غاية التناقض والفساد فإنه قال في ( إشارته ) التي هي كالمصحف لهؤلاء المتفلسفة الملحدة - لما ذكر مواد القياس وتكلم عن القضايا من جهة ما يصدق بها وذكر أن: أصناف القضايا المستعملة فيما بين القائسين ومن يجري مجراهم أربعة: مسلمات ومظنونات وما معها ومشتبهات بغيرها ومتخيلات
قلت: المتخيلات هي مواد القياس الشعري والمشتبهات هي مواد السوفسطائي وما قبل ذلك هو مواد البرهان والخطابي والجدلي
قال: والمسلمات: إما معتقدات وإما مأخوذات والمعتقدات أصنافها ثلاثة: الواجب قبولها والمشهورات والوهميات والواجب قبولها: أوليات ومشاهدات ومجربات وما معها من الحدسيات والمتواترات وقضايا أقيستها معها
وتكلم عن القضايا الواجب قبولها بما ليس هذه موضعه وقد بسط الكلام فيما في منطقهم اليوناني من الفساد - مثل كلامهم في الفرق بين الذاتيات اللازمة للماهية ودعواهم أن الحد الحقيقي يفيد تعريف الماهية وأن الحقائق مركبة من الأجناس والفصول وكلامهم في الكليات الخمسة وما ذكروه في مواد البرهان ودعواهم أن التصورات المكتسبة لا تنال إلا بحدهم والتصديقات المكتسبة لا تحصل إلا بمثل قياسهم وغير ذلك مما ليس هذا موضعه
والمقصود هنا أنه قال: ( وأما القضايا الوهمية الصرفة فهي قضايا كاذبة إلا أن الوهم الإنساني يقضي بها قضاء شديد القوة لأنه ليس يقبل ضدها ومقابلها بسبب أن الوهم تابع للحس فما لا يوافق المحسوس لا يقبله الوهم ومن المعلوم أن المحسوسات إذا كان لها مبادئ وأصول كانت تلك قبل المحسوسات ولم تكن محسوسة ولم يكن وجودها على نحو وجود المحسوسات فلم يمكن أن يتمثل ذلك الوجود في الوهم ولهذا كان الوهم مساعدا للعقل في الأصول التي تنتج وجود تلك المبادئ فإذا تعديا معا إلى النتيجة نكص الوهم وامتنع عن قبول ما سلم موجبه وهذا الصنف من القضايا أقوى في النفس من المشهورات التي ليست بأولية وتكاد تشاكل الأوليات وتدخل في المشبهات بها وهي إحكام للنفس في أمور متقدمة على المحسوسات أو أعم منها على نحو ما يجب أن لا يكون لها وعلى نحو ما يجب أن يكون أو يظن في المحسوسات مثل اعتقاد المعتمد أنه لا بد من خلاء ينتهي إليه الملاء إذا تناهى وانه لا بد في كل موجود أن يكون مشارا إلى جهة وجوده
وهذه الوهميات لولا مخالفة السنن الشرعية لها لكانت تكون مشهورة وإنما يثلم في شهرتها الديانات الحقيقية والعلوم الحكمية ولا يكاد المدفوع عن ذلك يقاوم نفسه في دفع ذلك لشدة استيلاء الوهم على أن ما يدفعه الوهم ولا يقبله إذا كان في المحسوسات فهو مدفوع منكر بل إنه باطل شنع بل تكاد أن تكون الأوليات والوهميات التي لا تزاحم من غيرها مشهورة ولا تنعكس )
قلت: وقد ذكر في غير هذا الموضع شرح أقوى الدراكة وذكر القوى التي تتخيل بها المحسوسات والتي تحفظ بها وسمى الأولى على اصطلاحهم ( الحس المشترك ) والثانية ( الخيال )
قال: وأيضا فالحيوانات - ناطقها وغير ناطقها - تدرك في المحسوسات الجزئية معاني جزئية غير محسوسة ولا متأدية من طريق الحواس مثل إدراك الشاة معنى في الذئب غير محسوس وإدراك الكبش معنى في النعجة غير محسوس: إدراكا جزئيا يحكم به كما يحكم الحس بما يشاهده فعندك قوة هذا شأنها وأيضا فعندك وعند كثير من الحيوانات العجم قوة تحفظ هذه المعاني بعد حكم الحاكم بها غير الحافظ للصور ) وهذه هي الذاكرة
قال: ( وتجد قوة أخرى لها أن تركب وتفصل ما يليها من الصور المأخوذة عن الحس والمعاني المدركة بالوهم وتركب أيضا الصور بالمعاني وتفصلها عنها وتسمى عند استعمال العقل مفكرة وعند استعمال الوهم متخيلة وكأنها قوة ما للوهم وبتوسط الوهم للعقل )
قلت: والمقصود أن يعرف اصطلاحهم ومرادهم بلفظ الخيال والوهم ونحو ذلك وأن الخيال هو تصور الأعيان المحسوسة في الباطن والوهم تصور المعاني التي ليست محسوسة في تلك الأعيان كلاهما تصور معين جزئي والعقل هو الحكم العام الكلي الذي لا يختص بعين معينة ولا معنى معين
وإذا عرف ذلك فيقال: هذه القوة في الباطن بمنزلة القوة الحسية في الظاهر والقدح فيها كالقدح في الحسيات وهذه القوة لا يجوز أن يناقض تصورها للمعقول كما لا يناقض سائر القوى الحسية للمعقول لأن المعقولات أمور كلية تتناول هذا المعين وهذا المعين سواء كان جوهرا قائما بنفسه أو معنى في الجوهر والحس الباطن والظاهر لا يتصور إلا أمورا معينة فلا منافاة بينهما فالحس الظاهر يدرك الأعيان المشاهدة وما قام بها من المعاني الظاهرة كالألوان والحركات والذي سموه الوهم جعلوه يدرك ما في المحسوسات من المعاني التي لا تدرك بالحس الظاهر كالصداقة والعداوة ونحو ذلك والتخيل هو بمثل تلك المحسوسات في الباطن ولهذا جعلوا الإدراكات ثلاثة: الحس والتخيل والعقل
قال ابن سينا: ( والشيء يكون محسوسا عندما يشاهد ثم يكون متخيلا عند غيبته بتمثل صورته في الباطن كزيد الذي أبصرته مثلا إذا غاب عنك فتخيلته وقد يكون معقولا عندما يتصور من زيد مثلا معنى الإنسان الموجود أيضا لغيره وهو عندما يكون محسوسا تكون غشيته غواش غريبة عن ماهيته لو أزيلت عنه لم تؤثر في كنه ماهيته مثل: أين ووضع وكيف ومقدار بعينه لو توهمت بدله غيره لم يؤثر في حقيقة ماهية إنسانيته والحس ينال من حيث هو مغمور في هذه العوارض التي تلحقه بسبب المادة التي خلق منها لا يجردها عنه ولا يناله إلا بعلاقة وضعية بين حسه ومادته ولذلك لا يتمثل في الحس إلا ظاهر صورته إذا زال وأما الخيال الباطن فيتخيله مع تلك العوارض لا يقتدر على تجريده المطلق عنها لكنه يجرده عن تلك العلاقة المذكورة التي يتعلق بها الحس فهو يتمثل صورته مع غيبوبة حاملها وأما العقل فيقتدر على تجريد الماهية المكنوفة باللواحق الغريبة المشخصة مستثبتا إياها حتى كأنه عمل بالمحسوس عملا جعله معقولا وأما ما هو في ذاته بريء عن الشوائب المادية ومن اللواحق الغريبة التي لا تلزم ماهيته عن ماهيته فهو معقول لذاته ليس يحتاج إلى عمل يعمل به يعده لأن العقل ما من شانه أن يعقله بل لعله في جانب ما من شانه أن يعقله )
قلت: هذا الكلام هو من أصول أقوالهم ومنه وقعوا في الاشتباه والالتباس حتى صاروا في ضلال عظيم
الرد المفصل على كلام ابن سينا
فإنه يقال: قوله: ( وقد يكون معقولا عندما يتصور من زيد مثلا معنى الإنسان الموجود أيضا لغيره )
أتعني به أن ذلك الإنسان المعقول الذي يكون لهذا وهذا وهو شيء ثابت في الخارج هو بعينه لهذا المعين ولهذا المعين مغاير للإنسان المعين ولصفاته القائمة به؟ أم تعني به الإنسان المعقول الكلي الثابت في العقل الذي يتناول المعينات تناول اللفظ العام لمفرداته؟
فإن أردت الأول فهذا باطل لا حقيقة له ونحن نعلم بالضرورة أن هذا الإنسان المعين ليس فيه شيء من الإنسان المعين الآخر بل كل منهما مختص بذاته وصفاته ولم يشتركا في شيء ثابت في الخارج أصلا ولهذا يكون أحدهما موجودا مع عدم الآخر وبالعكس ويموت أحدهما مع حياة الآخر وبالعكس ويتألم أحدهما مع لذة الآخر وبالعكس
كلام الرازي في شرح الإشارات
ولهذا قال الشارحون لكلامه كالرازي: ( إن الشخص المعين إما أن يدرك بحيث يمنع نفس إدراكه من الشركة وإما أن لا يكون كذلك
والأول لا يخلو: إما أن يتوقف حصول ذلك الإدراك على وجود ذلك المدرك في الخارج أو لا يتوقف
فهذه أقسام ثلاثة: أولها الإدراك الذي يجتمع فيه الأمران وهو أن يكون مانعا من الشركة ويكون متوقفا على وجود المدرك في الخارج وهذا هو إدراك الحس فإني إذا أبصرت زيدا فالمبصر يمنع لذاته من أن يكون مشتركا فيه بين كثيرين وهذا الإبصار لا يحصل إلا عند حصول المدرك في الخارج
وثانيها: أن يحصل فيه أحد الموضعين دون الآخر فيكون مانعا من الشركة ولكنه لا يتوقف على الوجود الخارجي وهو التخيل فإني إذا شاهدت زيدا ثم غاب فإني أتخيله على ما هو عليه من الشخصية فنفس ما تخيلته يمنع من الشركة وأما هذا الإدراك فإنه لا يتوقف على وجود المدرك في الخارج فإني يمكنني أن أتخيله بعد عدمه
وثالثهما: أن يخلو عن الموضعين جميعا فلا يكون مانعا من الشركة ولا موقوفا على وجود المدرك في الخارج وهو المسمى بالإدراك العقلي )
تعليق ابن تيمية عود لمناقشة ابن سينا
قلت: فقد بينوا أن الإدراك العقلي هو ما لا يمنع الشركة ولا يشترط فيه وجود المدرك من خارج ومعلوم أن هذا هو إدراك الكليات الثابتة في العقل وإذا كان كذلك فقوله: ( وهو عندما يكون محسوسا تكون غشيته غواش غريبة عن ماهيته لو أزيلت عنه لم تؤثر في كنه ماهيته ) كلام يستلزم أن يكون في الخارج شيئان: أحدهما: ماهية مجردة عن المحسوسات والثاني: محسوسات غشيت تلك الماهية المجردة المعقولة الثابتة في الخارج وهذا باطل يعلم بطلانه بالضرورة من تصور ما يقول
فإنه إن كان المعقول المجرد لا يكون إلا في النفس فكيف يكون في الخارج معقول مجرد تقارنه المعينات المحسوسة واحدا بعد واحد أو تقارنه تارة وتفارقه تارة أخرى؟ وقوله: ( مثل أين ووضع وكيف ومقدار بعينه لو توهمت بدله غيره لم يؤثر في حقيقة ماهية إنسانيته )
يقال له: نعم إذا تصورنا بدل المعنى غيره لم يؤثر فيما في النفس من الإنسان المعقول الكلي المجرد فإن مطابقته لهذا المعين كمطابقته لهذا المعين كما لا يؤثر ذلك في لفظ الإنسان المطلق فإن مطابقته لهذا المعين كمطابقته لهذا المعين فشمول اللفظ ومعناه الذي هو في الذهن سواء لكن ذلك المعين إذا توهمنا بدله غيره لم يكن في ذلك البدل من هذا المعين أصلا بل كان البدل نظيره وشبيهه ومثله فإما أن يكون هو إياه أو يكون في الخارج حقيقة معينة في هذا المعين هي نفسها حقيقة ثابتة في هذا المعين فهذا هو محل الغلط
ويقال لمن ظن هذا: لما خلق الله هذا المعين كانت تلك الحقيقة موجودة قبله أو حدثت معه
فإن حدثت معه فهي معينة لا مطلقة كلية لأن الكلي لا يتوقف على وجود هذا المعين وإن كانت موجودة قبله فإن كانت مجردة من الأعيان لم يحتج فيها إلى شيء من المعينات وإلا فالقول في مقارنتها لذلك المعين كالقول في هذا
وأيضا فإنه يقال: هل انتقلت من غيره وقارنته؟ أو قامت به وغيره؟ فإن انتقلت من غيره فارقت ذلك المعين فثبت أن المعين لا يحتاج إلى مطلق يقارنه وإن قامت به وبغيره فإما أن يكون جوهرا أو عرضا فإن كانت عرضا فالعرض الواحد لا يكون في محلين وإن كانت جوهرا فالجوهر الواحد لا يكون في محلين
فإن قال: هذا في الجواهر المحسوسة وأما الجواهر المعقولة فقد تقدم بمحلين
قيل: إن أردت بالجواهر المعقولة ما في القلوب فتلك أعراض لا جواهر وإن أردت هذه الكليات التي تدعي وجودها في الخارج فتلك لا محل لها عندك فضلا عن أن تقوم بمحلين
وهذا أيضا مما يناقض قولهم: إن المطلق جزء من المعين فكيف يكون ما لا يتخصص بحيز ولا مكان ولا جزءا مما يتخصص بحيز ومكان
وإذا قال القائل: المعقول الذي لا حيز له ولا مكان ولا جهة ولا يشار إليه جزء وبعض وداخل في هذا الجسم المتحيز الذي له مكان وجهة وحيز - لعلم كل عاقل فساد ما يقول وهذا حقيقة قول هؤلاء
وأيضا فتلك الحقيقة المجردة المطلقة إذا كانت كلية والكلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وكانت جزءا من المعين - كان في كل معين كليات كثيرة لا يمنع تصورها من وقوع الشركة فيها فيكون في كل إنسان معين حيوان كلي وناطق كلي وإنسان كلي وجسم كلي وحساس كلي وقائم بنفسه كلي وجوهر كلي وموجود كلي ومخلوق كلي وآكل كلي وشارب كلي ومتنفس كلي وأمثال ذلك مما يمكن أن يوصف به الإنسان
ومن المعلوم بصريح العقل أن الكلي الذي قد يعم جزئيات كثيرة لا يكون بعض جزئي واحد فإن الكثير لا يكون بعض القليل وجزءه ولا يكون ما يتناول أمورا كثيرة ويشملها ويعمها أو يصلح لذلك بعض واحد لا يقبل العموم والشركة
وقوله: ( والحس ينال من حيث هو مغمور في هذه العوارض التي تلحقه بسبب المادة التي خلق منها لا يجردها عنه ولا يناله إلا بعلاقة وضعية )
فيقال: هذا مبني على أن في الخارج شيئا موجودا في هذا الإنسان المعين عرض له هذا الإنسان المعين وهذا مكابرة للحس والعقل والمادة التي خلق منها بدنه ليست موجودة الآن بل استحالت وعدمت وليس فيه الساعة مني أصلا
وقوله: ( لا يجردها عنه ) إنما يصح لو كان هنا مادة موجودة مغايرة لهذا البدن المشهود حتى يمكن تجريد أحدهما على الآخر نعم إن أريد بالمادة البدن وأن الروح مقارنة للبدن فهذا كلام صحيح
لكن الروح معينة والبدن معين ومقارنة أحدهما الآخر ممكن وهؤلاء يشتبه عليهم مقارنة الروح للبدن وتجريدها عنه بمقارنة الكليات المعقولة لجزئياتها وتجريدها عنها والفرق بين هذا وهذا أبين من أن يحتاج إلى بسط
وهم يلتبس عليهم أحدهما بالآخر فيأخذون لفظ ( التجريد ) و( المقارنة ) بالاشتراك ويقولون: العقول المفارقة للمادة ولا يميزون بين كون الروح قد تكون مقارنة للبدن وبين المعقولات الكلية التي لا تتوقف على وجود معين فإن الروح - التي هي النفس الناطقة - موجودة في الخارج قائم بنفسه إذا فارقت البدن
وأما العقليات الكلية المنتزعة من المعينات فإنما هي في الأذهان لا في الأعيان فيجب الفرق بين تجريد الروح عن البدن وتجريد الكليات عن المعينات
وأما قوله: ( وكذلك لا يتمثل في الحس إلا ظاهر صورته )
فسبب هذا أن الحس لا يدركه كله وإن كان كله محسوسا بمعنى أنه يمكن إحساسه ورؤيته في الجملة ولكن باطنه ليس بمحسوس لنا عند رؤية ظاهره لا لعدم إمكان إحساسه لكن لاحتجاب باطنه أو لمعنى آخر
وهذا أيضا من مثارات غلطهم فإنهم قد لا يفرقون في المحسوس بين ما هو محسوس بالفعل لنا وبين ما يمكنه إحساسه وإن كنا الآن لا نستطيع أن نحسه فإن عنى بالمحسوس الأول فلا ريب أن الأعيان منها ما هو محسوس ومنها ما ليس بمحسوس وما أخبرتنا به الأنبياء من الغيب ليس محسوسا لنا فلا نشهده الآن بل هو غيب عنا ولكن هو مما يمكن إحساسه ومما يحسه الناس بعد الموت
ولهذا كانت عبارة الأنبياء عليهم السلام تقسم الأمور إلى غيب وشهادة قال تعالى: { الذين يؤمنون بالغيب } [ البقرة: 3 ] وقال: { تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك } [ هود: 49 ] وقال: { هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم } [ الحشر: 22 ]
وأما هؤلاء فيقسمونها إلى محسوس ومعقول والمعقول في الحقيقة: ما كان في العقل وأما الموجودات الخارجية فيمكن أن ينالها الحس وأن يوقف الإحساس بها على شروط متيقنة الآن
وأما قوله: ( وأما الخيال الباطن فيتخيله مع تلك العوارض لا يقتدر على تجريده المطلق عنها لكنه يجرده عن تلك العلاقة المذكورة التي تعلق بها الحس فهو يتمثل صورته مع غيبوبة حاملها )
فيقال له: هذه حجة عليكم فإن ما يتخيله الإنسان في نفسه إنما هو موجود في نفسه فالصورة الخيالية ليست موجودة في الخارج ولا يشترط في التخيل ثبوت المتخيل في الخارج
وقولكم: ( يتخيله مع تلك العوارض ) إثبات لشيئين ولا حقيقة لذلك بل لم يتخيل إلا الصورة التي هي عرض قائم بنفسه
وقولكم: ( فهو يتمثل صورته مع غيبوبة حاملها ) كلام ملتبس فإن الصورة التي تخيلها في نفسه ليس لها حامل في الخارج وحامل الصورة التي في الخارج هو موجود معها فالصورة المحمولة في الخارج ليست عين ما في نفسه وما في نفسه ليست الصورة المحمولة
والتحقيق أنه يتخيل الصورة مع غيبوبتها بالكلية عن حسه الظاهر وليس مع غيبوبة حاملها قط سواء عني بالصورة نفس الشخص المتصور أو نفس الشكل القائم به
وقوله: إن الخيال يتخيله مع تلك العوارض لا يقدر على تجريده المطلق عنها لكنه يجردها عن تلك العلاقة المذكورة التي تعلق بها الحس وأما العقل فيقدر على تجريد الماهية المكنوفة باللواحق الغريبة المشخصة مستثبتا إياها حتى كأنه عمل بالمحسوس عملا جعله معقولا )
فقد يعترض على بذلك بأن يقال: إنه يقتضي أن تجريد الخيال الكلي من جنس تجريد العقل فإن ما يتخيله المختال هو مثال المحسوس المعين فلم يجرد منه معنى كلي أصلا لكن إن ارتسم فيه صورة تشاكله كما ترتسم في الحائط صورة تشاكل الصورة المعينة ثم قد يتخيل المعين بجميع صفاته وقد يتخيل بعضها دون بعض وقد يتصور عينه مع مغيب صورة بدنه - كان المتصور حقيقة المعينة كالروح دون الإنسانية المطلقة
وأما العقل فقد يراد به عقل الصورة المعينة فهو من جهة كونه تصورا معينا من جنس التخيل ومن جهة كونه لا يختص بشكل معين من جنس تصور العقل
وقد يراد بالعقل تصور الكلي المطلق كتصور الإنسان المطلق وجوابه أن الإنسان المطلق قد يتخيل مطلقا والبهائم لها تخيل كلي ولهذا إذا رأت الشعير حنت إليه ولولا أن في خيالها صورة مطلقة مطابقة لهذا الشعير وهذا الشعير لم تطلب هذا المعين حتى تذوقه فطلبها له إذا رأته يقتضي أنها أدركت أن مثل الأول وإنما تدرك التماثل إذا كان في النفس صورة تطابق المتماثلين يعتبر بها تماثلهما
لكن يقال: فحينئذ لا فرق بين التخيل والتعقل من جهة كون كل منهما يكون معينا ويكون مطلقا وكل منهما ليس عين ما فيه هو عين الموجود في العقل بل مثاله
فقوله: ( حتى كأنه عمل بالمحسوس عملا جعله معقولا )
تحقيقة أن المحسوس لم يعمل به شيء أصلا ولا فيه معقول أصلا بل العقل تمثل معقولا يطابق المحسوس وأمثاله
وقوله: ( وأما ما هو في ذاته بريء عن الشوائب المادية وعن اللواحق الغريبة التي لا تلزم ماهيته عن ماهيته فهو معقول لذاته )
ففيه كلامان :
أحدهما: أن يقال: ثبوت مثل هذا المعقول تبع لثبوت المعقول المنتزع من المحسوس وذلك ليس إلا في العقل لا وجود له في الخارج فيكون المعقول المجرد كذلك وحينئذ فليس في ذلك ما يقتضي أن يكون في الخارج معقول مجرد
الثاني: أن يقال: ثبوت هذه المعقولات المجردة في الخارج فرع إمكان وجودها وإمكان وجودها مبني على إمكان وجود ما لا يمكن الإحساس به فلا يجوز إثبات إمكان وجود ذلك بناء على وجود هذه المجردات لأن ذلك دور قبلي وهو ممتنع
والمقصود أن في كلامهم ما يقتضي أنه ليس في المعقولات إلا ما يعقله العاقل في نفسه مثل العلم الكلي وقد يدعون ثبوت هذه المعقولات في الخارج فيتناقضون وهذا موجود في كلام أكثرهم يقولون كلهم: الكليات وجودها في الأذهان لا في العيان ثم يقول بعضهم: إن الكليات تكون موجودة في الخارج ولهذا كثيرا ما يرد بعضهم على بعض في هذا الموضع وهو من أصول ضلالتهم ومجازاتهم وكلامهم في المعقولات المجردة من هذا النمط وليس لهم دليل على إثباتها وإذا حرر ما يجعلونه دليلا لم تثبت إلا أمور معقولة في الذهن
واسم ( الجوهر ) عندهم يقال على خمسة أنواع على: العقل والنفس والمادة والصورة والجسم وهم متنازعون في واجب الوجود: هل هو داخل في مسمى ( الجوهر ) على قولين فأرسطو وأتباعه يجعلونه من مقولة الجوهر وابن سينا وأتباعه لا يجعلونه من مقولة الجوهر وإذا حرر ما يثبتونه من العقل والنفس والمادة والصورة لم يوجد عندهم إلا ما هو معقول في النفس أو ما هو جسم أو عرض قائم بجسم كما قد بسط في موضعه
والمراد هنا أن يعرف أن المعقولات التي هي العلوم الكلية الثابتة في النفس لا ينازع فيها عاقل وكذلك تصور المعينات الموجودة في الخارج سواء كان المتصور عينا قائمة بنفسها أو معنى قائما بالعين وسواء سمي ذلك التصور تعقلا أو تخيلا أو توهما فليس المقصود النزاع في الألفاظ بل المقصود المعاني
وإذا عرف أن الإنسان يقوم به تصور لأمور معينة موجودة في الخارج وتصور كلي مطابق للمعينات تبين ما وقع من الاشتباه في هذا الباب
فقول القائل: إن حكم الوهم أو الخيال قد يناقض حكم العقل: إذا أراد به أن التصور المعين الذي في النفس لما هو محسوس أو لما يحسه كالعداوة والصداقة قد يناقض العقل الذي حكمه كلي عام - كان هذا باطلا
وإن أراد به أن العقل يثبت أمورا قائمة بنفسها تقوم بها معاني وتصوره للمحسوسات ولما قام بها يناقض ذلك - كان هذا أيضا باطلا فإنه لا منافاة بين هذا وهذا وذلك لأن الكلام ليس في مناقضة تصور الجزئيات للكليات بل في تناقض القضايا الكلية بالسلب والإيجاب
وإذا أراد به أن ما سماه الوهم والخيال يحكم حكما كليا يناقض حكما كليا للعقل وهذا هو مرادهم - كان هذا تناقضا منهم وذلك أنهم قد فسروا حكم الوهم المناقض للعقل عندهم بأنه يقضي قضاء كليا يناقض القضاء الكلي المعلوم بالعقل مثل أنه يقضي أنه ما من موجود إلا ويمن الإشارة إليه وما من موجودين إلا وأحدهما محايث للآخر أو مباين له ويمنع وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه وأمثال ذلك
فيقال لهم: هذه قضايا كلية وأحكام عامة وأنتم قلتم: إن الوهم هو الذي يدرك في المحسوسات الجزئية معاني جزئية غير محسوسة ولا متأدية من طريق الحس كإدراك الصداقة والعداوة إدراكا جزئيا يحكم به كما يحكم الحس بما نشاهده
وكذلك الخيال عندكم يحفظ ما يتصوره من المحسوسات الجزئية فإذا كان الوهم والخيال إنما يدرك أمورا جزئية بمنزلة الحس وهذه القضايا التي تزعمون أنها تعارض حكم العقل قضايا كلية علم بذلك أن هذه ليست من إدراك الوهم والخيال كما أنها ليست من إدراك الحس وإنما هي قضايا كلية عقلية بمنزلة أمثالها من القضايا الكلية العقلية وهذا لا محيد لهم عنه وهذا بمنزلة الحكم بأن كل وهم وخيال فإنما يدرك أمورا جزئية
فهذه القضية الكلية عقلية وإن كانت حكما على الأمور الوهمية الخيالية وكذلك إذا قلت: كل صداقة فإنها ضد العداوة فهذا حكم بما في عقل كل الأفراد التي هي وهمية
وكذلك إذا قلنا: كل محسوس فإنه جزئي فهذه قضية كلية عقلية تتناول كل حسي
ومعلون أنه كل ما كان الحكم أعم كان أقرب إلي العقل فقولنا: كل موجود قائم بنفسه فإنه يشار إليه وكل موجودين فإما أن يكونا متباينين وإما أن يكونا متحايثين من أعم القضايا وأشملها فكيف تكون من الوهميات التي لا تكون إلا جزئية
وحينئذ فقولهم: إن حكم الوهم والخيال قد يناقض حكم العقل بمنزلة قولهم: إن حكم الحس قد يناقض حكم العقل وبمنزلة قولهم: إن حكم العقل يناقض حكم العقل وليس الكلام في الحس والوهم والخيال والعقل إذا كان فاسدا عرضت له آفة فإن هذا لا ريب في إمكان تناقض أحكامه وإنما الكلام في الحس المطلق وتوابعه مما سموه توهما وتخيلا
كلام آخر لابن سينا في الإشارات
وأيضا فقد قال ابن سينا في مقامات العارفين: أول درجات حركات العارفين ما يسمونه هم الإرادة وهو ما يعتري المستبصر باليقين البرهاني أو الساكن النفس إلى العقد الإيماني من الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى فيتحرك سره إلى القدس لينال من روح الاتصال فما دامت درجته هذه فهو مريد ثم إنه يحتاج إلى الرياضة والرياضة موجهة إلى ثلاثة أغراض: الأول تنحية ما سوى الحق عن مستن الآثار والثاني تطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة لتنجذب قوى التخيل والتوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي منصرفة عن التوهمات المناسبة للأمر السفلي والثالث: تلطيف السر للتنبيه
والأول: يعين عليه الزهد والاني يعين عليه العبادة المشفوعة بالفكر ثم الألحان المستخدمة لقوى النفس الموقعة لما يلحن بها من الكلام موقع القبول في الأوهام
والثالث: يعين عليه الفكر اللطيف والعشق العفيف )
تعليق ابن تيمية
قلت: وقد تكلمنا على ما في هذا الكلام من حق وباطل في غير هذا الموضوع والمقصود هنا انه جعل من الأمور التي يحتاج إليها العارف ما يجذب فوى التخيل والوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي من العبادة وسماع الألحان وسماع الوعظ فإن كان الأمر القدسي أمرا معقولا مجردا لا داخل العالم ولا خارجه وقوى الوهم والتخيل لا تناسب إلا الأمور الحسية دون العقلية المجردة كان هذا من الكلام الذي يناقض بعضه بعضا
بل كان الواجب على العارف أن يعرض عما يحكم به الوهم والخيال لينال معرفة الأمر القدسي المعقول المجرد الذي يناقض حكم الوهم والخيال لا يناسبه
ولكن ما ذكره في مقدمات العارفين هو الأمر الفطري فإن القلوب الطالبة لله إذا تحركت بما يصرف إرادتها إلى العلو ويصرف إرادتها عن السفل كان هذا مناسبا لمطلوبها ومرادها ومحبوبها ومعبودها فإن الله الذي هو العلي الأعلى هو المعبود المحبوب المراد المطلوب فإذا حركت النفس بما يصرف قواها إلى أرادته انصرفت قواها إلى العلو وأعرضت عن السفل
والذي يبين هذا أن هذه القوة الوهمية وفعلها الذي هو الوهم لا يريدون به أن يتوهم في الشيء ما ليس فيه وهو الوهم الكاذب
وكذلك لفظ ( التخيل ) لا يريدون تخيل ما لا وجود له في الخارج بل هذا وهذا يتناول عندهم توهم ما لا وجود في الخارج وتخيل ما له وجود في الخارج وهو إدراك صحيح صادق مطابق
وذلك لأن لفظ ( الوهم ) و( الخيال ) كثيرا ما يطلق على تصور ما لا حقيقة لا له في الخارج بل هذا المعنى هو المعروف من لغة العرب
قال الجوهري: ( وهمت في الحساب أوهم وهما إذا غلطت فيه وسهوت ووهمت في الشيء بالفتح أوهم وهما إذا ذهب وهمك إليه وأنت تريد غيره وتوهمت: أي ظننت وأوهمت غيري إيهاما والتوهم مثله واتهمت فلانا بكذا والاسم التهمة بالتحريك ويقال: أوهم في الحساب مائة أي أسقط وأوهم في صلاته ركعة ويقال: قد أيهم إذا صار به الريبة )
قلت: فهذا أبو نصر الجوهري قد نقل في صحاحه المشهور في لغة العرب أن مادة هذه اللفظ تستعمل في جهة الغلط بمعنى الخطأ تارة وتستعمل بمعنى الظن تارة ولم ينقل أنها تستعمل بمعنى اليقين وهم يستعملونها في تصور يقيني وهو تصور المعاني التي ليست بمحسوسة ولا ريب في ثبوتها كعداوة الذئب للنعجة وصداقة الكبش لها وهو في لغة العرب يقال في هذه المعاني: تصورتها وعملتها وتحققتها وتيقنتها وتبينتها ونحو ذلك من الألفاظ الدالة على العلم ولا يقال: توهمتها وإلا إذا لم تكن معلمه فاصطلاحهم مضاد معروف في لغة العرب بل وفي سائر اللغات
وإذا كان كذلك فلإدراك الصحيح الذي يسمونه هم توهما وتخيلا هو نوع من التصور والشعور والمعرفة
كلام ابن سينا في إثبات القوة الوهمية وتعليق ابن تيمية عليه
يوضح ذلك أنهم قالوا في إثبات القوة الوهمية: كما قال ابن سينا: ( الحيوانات ناطقها وغير ناطقها - تدرك في المحسوسات الجزئية معاني جزئية غير محسوسة ولا متأدية من طريق الحواس مثل إدراك الشاة معنى في الذئب غير محسوس وإدراك الكبش معنى في النعجة غير محسوس: إدراكا جزئيا: يحكم به كما يحكم الحس بما يشاهده فعندك قوة هذا شأنها وعند كثير من الحيوانات العجم قوة تحفظ هذه المعاني بعد حكم الحاكم بها غير الحافظ للصورة )
فقد تبين أن هذه القوة تدرك معاني غير محسوسة وغير متأدية في الحس ففرق بينها وبين الحسية والخيالية بأن الخيالية إدراك ما تأدى من الحس
وقد فسر الشارحون ما دل عليه كلامه فقالوا هذا بيان إثبات الوهم والحافظة: أما الوهم فقوة يدرك الحيوان بها معاني جزئية لم تتأد من الحواس إليها كإدراك العداوة والصداقة والموافقة والمخالفة في أشخاص جزئية فإدراك تلك المعاني دليل على وجود قوة تدركها وكونها مما لا يتأدى من الحواس دليل على مغايرتها للحس المشترك ووجودها في الحيوانات العجم دليل على مغايرتها للنفس الناطقة
قالوا: وقد يستدل على ذلك أيضا بأن الإنسان ربما يخاف شيئا يقتضي عقله الأمن منه كالموتى وما يخالف عقله فهو غير عقله
وقال ابن سينا في إشاراته: ( كل ملتذ به فهو سبب كمال يحصل للمدرك هو بالقياس إليه خير ثم لا يشك أن الكمالات وإدراكاتها متفاوتة فكمال الشهوة مثلا أن يتكيف العضو الذاتي بكيفية الحلاوة مأخوذة عن مادتها ولو وقع مثل ذلك لا عن سبب خارج كانت اللذة قائمة وكذلك الملموس والمشموم ونحوهما وكمال القوة الغضبية: أن تتكيف النفس بكيفية غضب أو بكيفية شعور بأذى يحصل من المغضوب عليه والوهم والتكيف بهيئة ما يرجوه أو يذكره وعلى هذا حال سائر القوى )
والمقصود أنه جعل كمال الوهم اتصافه بصفة ما يرجوه أو يذكره والمرجو في المستقبل والمذكور في الماضي: كلاهما لا بد أن يكون هنا مما يوافقه ويحبه فإن الكمال - كما قد ذكروه - إنما يكون بإدراك الملائم لا المنافي
والقوة الوهمية هي التي تدرك بها الصداقة والعداوة والموافقة والمخالفة والصداقة هي الولاية التي أصلها المحبة والعداوة أصلها البغض
فالقوة الوهمية عندهم هي التي يدرك بها الحيوان ما يحبه وما يبغضه من المعاني التي لا تدرك بالحس والخيال ثم يكون حبه وبغضه لمحل ذلك المعنى تبعا لحبه وبغضه ذلك المعنى فالشاة إذا توهمت أن في الذئب قوة تنافرها أبغضته والتيس إذا توهم أن في الشاة قوة تلائمه أحبها فهذه القوة هي التي تدرك المحبوبات والمكروهات من المعاني القائمة بالمحسوسات وهي التي يحصل بها الرجاء والخوف فيرجو حصول المحبوب ويخاف حصول المكروه ولهذا علقوا الرجاء والخوف بها كما تقدم من كلامهم وجعلوا كمالها في التكييف بهيئة ما ترجوه أو تذكره وقالوا: إن خوف الإنسان من الموتى ونحوهم هو بهذه القوة
وعلى هذا فكل حب وبغض ورجاء وخوف لما لم يحسه الحيوان بحسه الظاهر فهو بهذه القوة
كلام ابن سينا في الشفاء عن قوة الوهم
ولهذا عظموا شأنها فقال ابن سينا في شفائه في القوة المسماة بالوهم: ( هي الرئيسة الحاكمة في الحيوان حكما ليس فصلا كالحكم العقلي ولكن حكما تخييليا مقرونا بالجزئية وبالصورة الحسية وعنه تصدر أكثر الأفعال الحيوانية )
وقال أيضا في شفائه: ( ويشبه أن تكون القوة الوهمية هي بعينها المفكرة المتخيلة والمتذكرة وهي بعينها الحاكمة فتكون بعينها حاكمة وبأفعالها وحركاتها متخيلة بما تعمل من الصور والمعاني والمتذكرة بما ينتهي إليه عملها وأما الحافظة فهي قوة خزانتها )
تعليق ابن تيمية
فهذه ألفاظه ومن الناس من قال: هذا يدل على اضطرابه في أمر هذه القوى وليس المقصود هنا الكلام فيما يتنازعون فيه وهو أن هذه الإدراكات الجزئية والأفعال الجزئية: هل هي للنفس وإن كان بواسطة الجسم أو هي للجسم وهل محل هذه شيء واحد أو أشياء متعددة؟ وهل هو بقوة واحدة أو بقوى متعددة؟
فإن الكلام في هذا مما لم يتعلق بالمقصود في هذا المكان فإنه لا خلاف بين العقلاء أن الإنسان - بل وغيره من الحيوان - يتصور في غيره ما يحبه ويواليه عليه ويرجو وجوده ويتصور ما يبغضه ويعاديه عليه ويخاف وجوده
فهذا التصور أمر معلوم في الإنسان وفي الحيوان وهم سموا التصور وهما وقالوا إنه يحصل بقوة تسمى الوهمية
والناس متنازعون في إدراك الحيوان وأفعاله: كالسمع والبصر والتفكير والعقل وغير ذلك من أنواع التصورات والأفعال سواء كان تصور ولاية أو عداوة أو غير ذلك: هل هو بقوى في الحيوان أم لا؟
فالأول: قول الجمهور والثاني: قول من يقول: إنه ليس للعبد قدرة مؤثرة في مقدوره
والأولون على قولين: منهم من يخص القوى بالأفعال الاختيارية ومنهم من يجعله في جميع الحوادث
وهؤلاء نوعان: منهم من يقول بقول المتفلسفة الذين يقولون: إن الله موجب بذاته بدون مشيئة وعلمه بالجزئيات وهذا باطل شرعا وعقلا ومنهم من يقول: إن الله خالق ذلك كله بمشيئته وعلمه وقدرته
وهذا مذهب سلف الأمة وأئمتها وجمهور علمائها: يثبتون ما في الأعيان من القوى والطبائع ويثبتون للعبد قدرة حقيقة وإرادة ويقولون: عن هذه الأمور جعلها الله أسبابا لأحكامها وهو يفعل بها كما قال تعالى: { حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات } [ الأعراف: 57 ]
وقال تعالى: { وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها } [ البقرة: 164 ] إلى غير ذلك من نصوص الكتاب والسنة
وكلام السلف والأئمة المذكور في غير هذا الموضع ولهذا نص أحمد بن حنبل والحارثي والمحاسبي وغيرهما أن العقل غريزة في الإنسان
ولكن من قال بالقول الأول من نفاة الأسباب والقوى الذين سلكوا مسلك الأشعري في نفي ذلك قالوا: إنما العقل هو نوع من العلوم الضرورية كما قال ذلك القاضي أبو بكر بن طيب والقاضي أبو يعلى والقاضي أبو بكر بن العربي وغيرهم
والمقصود أن هذا التصور لمعان في الأعيان المشهودة: كتصور أن هذا يوافقني ويواليني وينفعني وفيه ما أحبه وهذا يخالفني ويعاديني ويضرني وفيه ما أبغضه أمر متفق عليه بين العقلاء سواء قيل بتعدد القوى أو اتحادها أو عدمها وسواء قيل: المدرك هو النفس أو البدن
إذا كان كذلك فيقال إذا كان ( الوهم ) مفسرا عندهم بما ذكروه من تصور معنى ( غير محسوس في الأعيان المحسوسة وألا يتأدى من الحس فمعلوم أن هذا تدخل فيه كل صفة تقوم بالحي من الصفات الباطنة: كالقدرة والإرادة والحب والبغض والشهوة والغضب وأمثال ذلك
فإن القدرة في القادر كالعداوة في العدو والصداقة في الصديق بل قد يكون ظهور الولاية والعداوة والحب والبغض إلى الحس الظاهر أقرب من ظهور القدرة
وعلى هذا فيكون تصور الملك والملك هو أيضا من الوهم فإن كون الشخص المعين ملكا لغيره أو مالكا لغيره: هو تصور معنى في الشخص المحسوس وذلك المعنى غير محسوس ولا يتخيل تخيل المحسوسات
وكذلك تصور الشهوة والنفرة: يكون أيضا من باب التصور الوهمي في اصطلاحهم وكذلك تصور الألم في الغير واللذة فيه هو من الباب فإن ما يجده الحيوان في نفسه من اللذة والألم غير محسوس
فإن قيل: هذه الأمر تدرك بآثار تظهر يدرك الحس تلك الظواهر فلا يقال: هي موهومة
قيل: إن كان هذا كافيا فمعلوم أن تصور الشاة صورة الذئب المحسوسة إدراك لتلك الصورة فتلك الصورة مستلزمة للعداوة وكذلك إدراك التيس صورة الشاة وكذلك إدراك الإنسان شعار صديقه وعدوه مثل إدراك كل من الطائفتين المقتتلتين شعار الأخرى المسموعة بالأذن كالشعائر المتداعي بها والمرئية كالرايات المرئية هي أيضا مما يدرك بالحس ويستدل بها على الولاية والعداوة التي ليست بمحسوسة بل هي في الأشخاص المحسوسة
ففي الجملة ليس من شرط الصورة الوهمية عندهم أن يدركها الوهم بلا توسط شيء محسوس بل لا تدرك تلك المعاني إلا في الأشياء المحسوسة ولا بد أن تدرك تلك الأشياء المحسوسة فيكون الوهم مقارنا للحس لا بد من ذلك وإلا فلو أدرك الوهم ما يدركه مجردا عن الحس لكان يدرك ما يدركه لا في أعيان محسوسة فلا بد أن يدرك بباطنه وهو القوة المسماة بالوهم عندهم وبظاهره وهو الحس: ما في المدرك من الأمر الباطن وهو المعنى كالصداقة والعداوة والظاهر وهو الشخص الذي هو محل ذلك
وعلى هذا فميل كل جنس إلى ما يناسبه في الباطن هو بسبب إدراك هذه القوة كما يتفق في المتحابين والمتباغضين والمتحابون قد يكون تحابهم لاشتراكهم في التعاون على ما ينفعهم ودفع ما يضرهم كما يوجد في أجناد العساكر وأهل المدينة الواحدة وأهل الدين الواحد والنسب الواحد ونحو ذلك
وفي الجملة فميل الحيوان إلى ما يظن أنه ينفعه ونفوره عما يظن أنه يضره: بسبب هذه القوة فإن إدراكه كون هذا نافعا له موافقا له ملائما له وكون هذا ضارا له مخالفا له منافرا له: هو بهذه القوة
وعلى هذه فينبغي إن يكون إدراك ما في الأغذية والأدوية من الملائمة هو بهذه القوة فإن الإنسان يتوهم في الخبز أنه يلائمه إذا أكله كما يتوهم الفرس ذلك في الشعير ويتوهم في السيف أنه يضره إذا ضرب به كما يتوهم الحمار ذلك في العصا
وفي الجملة فتصور الإنسان - بل والحيوان - لما ينفعه ويضره هو بهذه القوة على موجب اصطلاحهم فإن الإنسان إذا رأى بئرا محفورة يتصور أنه إن وقع فيها عطب - كان هذا بهذه القوة لأن الحس إنما شهد مكانا عميقا أما كونه يضر الإنسان إذا سقط فيه فهذا لا يعلم بالحس ولهذا كان من لا تمييز له يسقط في مثل هذا المكان كالصبي والمجنون والبهيمة وإن كان له حس فالذي يسميه الناس عقلا سماه هؤلاء وهما وتصور الإنسان أن هذا ماله وهذا مال غيره وهذه الدار داره وهذه دار غيره هو بهذه القوة لأن الحس الظاهر لا يميز بين هذا وهذا وإنما يعرف هذا من هذا بقوة باطنة تتصور في المحسوس ما ليس بمحسوس وهو أن هذه الدار أو المال له أو لأقاربه أو لأصدقائه وتلك الدار أو المال للأجانب أو الأعداء فإن هذه المعاني هي في المحسوس وليست محسوسة وإدراك كون هذا الإنسان عادلا جوادا رحيما شجاعا وهذا ظالما بخيلا قاسيا جبانا هو على موجب اصطلاحهم وهم فإن هذا إدراك أمور غير محسوسة في المحسوسات
وكذلك سائر الأخلاق التي بها مدح وقدح مثل البر والفجور والعفة والصدق والكذب والكرم واللؤم وأمثال ذلك فإن هذه معان تقوم بالشخص المحسوس ونفس الأخلاق القائمة فيه ليست بمحسوسة وإنما يحس بالأفعال الظاهرة الصادرة عنها كما يحس بالأفعال الظاهرة الصادرة عن الصداقة والعداوة
ومعلوم أن إدراك هذه الأمور هي مما يدخل في مسمى العقل والعلم والمعرفة عند عامة العقلاء بل إدراك كون المعروف معروفا وكون المنكر منكرا هو أيضا مما يدخل في ( الوهم ) على اصطلاحهم فإن المعروف هو المحبوب الموافق الملائم والمنكر هو المكروه المخالف المنافي وما يدرك به هذه المعاني من الأمور الحسية وهم بل على قولهم كل معنى يدرك في الأعيان المحسوسة فإدراكه بالوهم ولا يبقى فرق بين الوهميات والعقليات في مثل هذا إلا كون الوهميات جزئية والعقليات كلية
ومعلوم أن إدراك كثير من هذه المعاني من خواص العقل ومما يبين هذا أن الرجل إذا رأى امرأته مع من يظن به السوء كان هذا إدراكا لأمر غير محسوس في المحسوس وهو إدراك ما ينافيه وهو ميل الأجنبي إلى امرأته وميل امرأته إليه وكذلك المرأة إذا وجدت مع زوجها امرأة أخرى فظنت أن بينهما اتصالا وحصلت لها الغيرة فالغيرة إنما تحصل بهذه القوة فإن الغيرة من باب كراهة المؤذي وبغضه وهو من جنس إدراك العداوة فيما يغار منه كما أن الرجل يميل إلى أبيه وأمه وزوجته لما يستشعره من محبتهم ومودتهم وإدراك ما منهم من المحبة والمودة هو أيضا عندهم وهم لأنه إدراك في المحسوس بما ليس بمحسوس وهو الولاية التي بينهما كما قالوا في إدراك التيس معنى الشاة وإذا رأى إنسان امرأة أجنبية فقد يدرك منها أنها تميل إليه فيكون كإدراك التيس معنى في الشاة وقد يدرك منها أنها تنفر عنه فيكون كإدراك الشاة معنى في الذئب وهذا باب واسع
والمقصود أن يجمع بين هذا وببن ما قاله ابن سينا في مقامات العارفين وهو خاتمة مصحفهم وقد قال الرازي: ( هذا الباب أجل ما في هذا الكتاب فإنه رتب علم الصوفية ترتيبا ما سبقه إليه من قبله ولا يلحقه من بعده )
وأقره الطوسي على هذا الكلام وقال: ( قد ذكر الفاضل الشارح أن هذا الباب أجل ما في هذا الكتاب فإنه رتب فيه علوم الصوفية ترتيبا ما سبقه إليه من قبله ولا لحقه من بعده )
وهذا الذي هو غاية ما عند هؤلاء من معارف الصوفية إذا تدبره من يعرف ما بعث الله به رسوله وما عليه شيوخ القوم - المؤمنون بالله ورسوله - المتبعون لكتاب والسنة تبين له أن ما ذكره في الكتاب بعد كمال تحقيقه لا يصير به الرجل مسلما فضلا عن أن يكون وليا لله وأولياء الله هم المؤمنون المتقون فإنه غايته هو الفناء في التوحيد الذي وصفه وهو توحيد غلاة الجهمية المتضمن نفي الصفات مع القول بقدم أفلاك وأن الرب موجب بالذات لا فاعل بمشيئتة ولا يعلم بالجزئيات ولو قدر أنه فناء في توحيد الربوبية المتضمن للإقرار بما بعث الله به رسوله من الأسماء والصفات لم يكن هذا التوحيد وحده موجبا لكون الرجل مسلما فضلا عن أن يكون عارفا وليا لله إذ كان هذا التوحيد يقر به المشركون عباد الأصنام فيقرون بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه وإنما يجعل الفناء في هذا التوحيد هو غاية العارفين صوفية هؤلاء الملاحدة كابن طفيل صاحب رسالة حي بن يقظان وأمثاله ولهذا يستأنسون بما يجدونه من كلام أبي حامد موافقا لقولهم إذ كان في كثير من كلامه ما يوافق الباطل من قول هؤلاء كما في كثير من كلامه رد لكثير من باطلهم
ولهذا صار كالبرزخ بينهم وبين المسلمين فالمسلمون ينكرون ما وافقهم فيه من الباطل عند المسلمين وهم ينكرون عليه ما خالفهم فيه من الباطل عند المسلمين
ومن أسباب ذلك أن هؤلاء جعلوا غاية الإنسان وكماله في مجرد أن يعلم الوجود أو يعلم الحق فيكون عالما معقولا مطابقا للعالم الموجود وهو التشبه بالإله على قدر الطاقة وجعلوا ما يأتي به من العبادات والأخلاق إنما هي شروط وأعوان على مثل ذلك فلم يثبتوا كون الرب تعالى معبودا مألوها يحب لذاته ويكون كمال النفس أنها تحبه فيكون كمالها في معرفته ومحبته بل جعلوا الكمال في مجرد معرفة الوجود عند أئمتهم أو مجرد معرفته عند من يقرب إلى الإسلام منهم
فهذا أحد نوعي ضلالهم والنوع الآخر أنه لو قدر كمالها في مجرد العلم فما عندهم ليس بعلم بل كثير منه جهل
والقدر الذي حصل لهم من العلم لا تحصل به النجاة فضلا عن حصول السعادة الكبرى فهم أبعد من الكمال البشري وعن النجاة في الآخرة والسعادة من اليهود والنصارى من حيث هم كذلك وإن كان من اليهود والنصارى من هو أبعد عن ذلك ممن كان أقرب إلى الإسلام من اليهود والنصارى إذ النجاة والسعادة باتباع الرسل علما وعملا
وكتبهم ليس فيها إيمان بنبي معين ولا كتاب معين: لا توراة ولا إنجيل ولا قرآن ولا إبراهيم ولا موسى ولا عيسى بل ولا فيها إثبات رب معين وإنما فيها إثبات موجود كلي وأمور كلية ولا فيها الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له والنهي عن عبادة ما سواه ومعلوم أن النجاة والسعادة لا تحصل إلا بذلك بل ليس عندهم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت ولا الإيمان بأن الله قدر مقادير العباد فإنه عندهم لا يعلم الجزئيات فكيف يقدرها؟ ومعلوم أن السعادة لا تحصل إلا بذلك
وهؤلاء لما كان قولهم مخالفا للفطرة التي فطر الله عليها عباده: من الإقرار به ومن محبته كان ما ذكروه من كمال النفس منافيا لهذا ولهذا
ولهذا اضطرب كلامهم في هذا الباب فتارة يحتاجون أن يثروا بما يوجب محبته وموالاته مع الإقرار به سبحانه وبعلوه على خلقه وتارة يدعون ما يوجب انتفاء هذا وهذا
وقد تقدم أقوالهم في الوهم ومعناه عندهم والقضايا الوهمية والمقصود أن يجمع بين النظر في ذلك وبين ما ذكروه في مقامات العارفين الذي هو أجل ما عندهم وكثير منه أو أكثره كلام جيد ولكن الاقتصار عليه وحده مع ما عندهم لا يوجب نجاة النفوس من العذاب فضلا عن حصول السعادة لها ولكن كل ما قالوه - هم وغيرهم - من حق مقبول ويتبين من ذلك الحق وغيره بطلان ما يناقضه من الباطل الذي قالوه أيضا
عود إلى كلام ابن سينا في مقامات العارفين في الإشارات
قال ابن سينا: ( العارف يريد الحق الأول لا لشيء غيره ولا يؤثر سيئا على عرفانه وتعبده له فقط ولأنه مستحق للعبادة ولأنها نسبة شريفة إليه لا رغبة لرغبة ولا لرهبة وإن كانتا فيكون المرغوب فيه أو المهروب عنه هو الداعي وفيه المطلوب ويكون الحق ليس الغاية بل الواسطة إلى شيء غيره وهو الغاية وهو المطلوب دونه )
تعليق ابن تيمية
فيقال: هذا الذي قاله من كون الحق تعالى عند العارف هو المراد المعبود لنفسه لا يراد لغيره فيكون هو الواسطة إلى ذلك الغير ويكون ذلك الغير هو الغاية - كلام صحيح وهو مبادئ ما يتكلم فيه أهل الإيمان والإرادة بل هو من شعائرهم ومن أشهر الأمور عندهم
وقد قال تعالى: { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } [ الأنعام: 52 ]
وقال تعالى: { وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى * ولسوف يرضى } [ الليل: 19 - 21 ]
وقال تعالى: { وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما } [ الأحزاب: 29 ]
وقال تعالى: { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } [ المائدة: 54 ]
وقال: { والذين آمنوا أشد حبا لله } [ البقرة: 165 ]
وقال تعالى: { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا } [ التوبة: 24 ]
وقد قال تعالى: { ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا } [ النساء: 125 ]
وفي الصحيح عن النبي ﷺ من غير وجه أنه قال: [ إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ]
وفي الصحيحين أنه قال: [ ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذا أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار ]
وفي الصحيحين عنه ﷺ [ ويعلم أنه قال: والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ]
وفي الصحيح أن عمر رضي الله عنه قال: [ والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال: لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال: والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من نفسي فقال: الآن يا عمر ]
فإذا كان هذا حب الرسول التابع لحب الله فكيف في حب الله الذي إنما وجب حب الرسول لحبه والذي لا يجوز أن نحب شيئا من المخلوقات مثل حبه؟ بل ذلك من الشرك
قال تعالى: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } [ البقرة: 165 ] وهذا هو دين الإسلام الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه وهو أن يعبد الله وحده لا شريك له
والعبادة تجمع كمال الحب مع كمال الذل فلا يكون أحد مؤمنا حتى يكون الله أحب إليه من كل ما سواه وأن يعبد الله مخلصا له الدين
فهذا الذي ذكره في مقامات العارفين هو أول قدم يضعه المؤمن في الإيمان ولا يكون مؤمنا من لم يتصف بهذا وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وعلماؤها على أن الله يحب لذاته لم ينازع في ذلك إلا طائفة من أهل الكلام والرأي الذين سلكوا مسلك الجهمية في بعض أمورهم فقالوا: إنه لا يحب ولا يحب
وابن سينا والفلاسفة وإن كانوا يردون على هؤلاء كما يرد عليه أئمة الدين فهم أقرب إلى الحق من ابن سينا وأتباعه كما سنبينه إن شاء الله تعالى
وقال طائفة من النظار: إن الإرادة لا تتعلق إلا بمعدوم محدث وهو ما يراد أن يفعل فأما القديم الواجب بنفسه فلا تتعلق به الإرادة
وقالوا: قول القائل: ( أريد الله ) أي: أريد عبادته ونحو ذلك
وقال آخرون: بل الإرادة تتعلق بنفس القديم الواجب بنفسه كما نطقت به النصوص
والتحقيق أنه لا منافاة بين القولين فإن كون الشيء محبوبا لذاته مرادا لذاته: هو أن المحب المريد لم يطلب إرادته لما سواه بل كان هو أقصى مراده وإنما يكون الشيء مرادا محبوبا لما للمحب المريد في الاتصال بذلك من السرور واللذة إذ المحبة لا تكون إلا لما يلائم المحب فما يحصل عند ذكره ومعرفته والنظر إليه من اللذة هو مطلوب المحب المريد المحب لذاته
كما ثبت في صحيح مسلم عن صهيب رضي الله عنه قال: [ قال رسول الله ﷺ: ( إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه وهو الزيادة ]
وفي السنن عن النبي ﷺ: [ اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك ]
فقد بين الرسول ﷺ أن الله لم يعط أهل الجنة شيئا أحب إليهم من النظر إليه وهذا غاية مراد العارفين وهذا موجب حبهم إياه لذاته لا لشيء آخر؟
فمن قال: إنه لا يحب لذاته ولا يتلذذ بالنظر إليه كما تزعمه طائفة من أهل الكلام والرأي فقط أخطأ ومن قال: إن محبة ذاته وإرادة ذاته لا تتضمن حصول لذة العبد بحبه ولا يطلبه العبد ولا يريده بل يكون العبد محبا مريدا لما لا يحصل له لذة به فقط أبطل
ومن قال: إن العبد يفنى عن حظوظه وإرادته وأراد بذلك أنه يفنى عن حظوظه وإرادته المتعلقة بالمخلوقات فقد أصاب وأما إن أراد أن يفنى عن كل إرادة وحب وتبقى جميع الأمور عنده سواء فهذا مكابر لحسه ونفسه
وكل مراد محبوب لذاته فلا معنى لكونه مرادا محبوبا لذاته إلا أن ذاته هو غاية مطلب الطالبين بمعنى أن ما يحصل لهم من النعيم واللذة هو غاية مطلوبهم لا يطلبونها لأجل غيرها فأما بتقدير أن تنتفي كل لذة فلا يتصور حب فإن حب ما لا لذة في الشعور به ممتنع
وعلى هذا فقول القائل: ( العارف يريد الحق الأول لا لشيء غيره ولا يؤثر شيئا على عرفانه ) لا منافاة بينهما
وكذلك قوله: ( وتعبده له فقط ) لا ينافي قوله ( ولأنه مستحق للعبادة ولأنها نسبة شريفة إليه ) بل كونه تعبده له فقط إنما كان محمودا لأنه مستحق للعبادة وإنما انبغى للعبد أن يفعلها لأنها نسبة شريفة وإلا فلو فعل العبد ما لا خير فيه كان مذموما لكن يفرق بين من يكون قد عرف الله معرفة أحبه لأجلها وبين من سمع مدح أهل المعرفة فاشتاق إلى كونه منهم لما في ذلك من الشرف فإن هذا في الحقيقة إنما مراده تعظيم نفسه وجعل المعرفة طريقا إليها
وكذلك كل من أراد الله لأمر من الأمور كما حكي أن أبا حامد بلغه أن من أخلص لله أربعين يوما تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه قال: ( فأخلصت أربعين يوما فلم يتفجر شيء فذكرت ذلك لبعض العارفين فقال: لي: إنك إنما أخلصت للحكمة لم تخلص لله )
وذلك لأن الإنسان قد يكون مقصوده نيل العلم والحكمة أو نيل المكاشفات والتأثيرات أو نيل تعظيم الناس له ومدحهم إياه أو غير ذلك من المطالب
وقد عرف أن ذلك يحصل بالإخلاص لله وإرادة وجهه فإذا قصد أن يطلب ذلك بالإخلاص لله وإرادة وجهه كان متناقضا لن من أراد شيئا لغيره فالثاني هو المراد المقصود بذاته والأول يراد لكونه وسيله إليه فإذا قصد أن يخلص لله ليصير عالما أو عارفا أو ذا حكمة أو متشرفا بالنسبة إليه أو صاحب مكاشفات وتصرفات ونحو ذلك فهو هنا لم يرد الله بل جعل الله وسيله له إلى ذلك المطلوب الأدنى وإنما يريد الله ابتداء من ذاق حلاوة محبته وذكره
وفطر العباد مجبولة على محبته لكن منهم من فسدت فطرته
قال تعالى: { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } [ الروم: 30 ]
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم: { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } [ الروم: 30 ] ]
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن النبي ﷺ [ فيما يرويه عن ربه قال: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ]
وأما قول القائل: ( لا للرغبة والرهبة )
فهذا له ثلاث معان :
أحدهما: أن يراد به: لا لرغبة في حصول مطلوب المحب من المحبوب لذاته ولا لرهبة من ذلك وهذا ممتنع فإنه ما من عبد مريد محب إلا وهو يطلب حصول شيء ويخاف فواته
والثاني: أنه لا يرغب في التمتع بمخلوق ولا يخاف من التضرر بمخلوق فيمكن أن يعبد الله من يعبده بدون هذه الرغبة والرهبة
كما قال عمر رضي الله عنه: نعم العبد صهيب لو لم يخاف الله لم يعصه
وفي الأثر: [ لو لم أخلق جنة ولا نارا أما كنت أهلا أن أعبد ] وقد ثبن في الصحيح [ أن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس ]
وكذلك الملائكة فلولا تمتع أهل الجنة بذلك التسبيح الذي هو لهم كالنفس لم يكن الأمر كذلك
وقد ثبت في الحديث الصحيح المتقدم قوله: [ فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه ]
والثالث: أن يراد: أن العبد لا يرهب مما يضره كألم العذاب ولا يرغب فيما يحتاج إليه كالطعام والشراب فهذا ممتنع فإن ما جعل الله العبد محتاجا إليه متألما إذا لم يحصل له لا بد أن يرغب في حصوله ويرهب من فواته وما كان ملتذا به غير متألم بفواته كأكل أهل الجنة وشربهم فهذا يرغب فيه ولا يرهب من فواته فوجود تلك اللذة العليا الحاصلة بمعرفة الله ورؤيته لا ينافي وجود لذات أخر حاصلة بإدراك بعض المخلوقات ومن نفى الأولى من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم فقط أخطأ ومن نفى الثانية من المتفلسفة والمتصوفة على طريقهم فقد أخطأ ومع أن هؤلاء المتفلسفة لا يثبتون حقيقة الأولى فإنهم لا يثبتون أن الرب تحبه الملائكة والمؤمنون وإنما يجعلون الغاية تشبههم به لا حبهم إياه وفرق بين أن تكون الغاية كون هذا مثل هذا وبين أن تكون الغاية كون هذا يحب هذا محبة عبودية وذل
ولهذا قالوا: ( الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة ) ولهذا كان مطلوب هؤلاء إنما هو نوع من العلم والقدرة الذي يحصل لهم به شرف فمطلوبهم من جنس مطلوب فرعون بخلاف الحنفاء الذين يعبدون الله محبة له وذلا له
وهم أيضا لا يثبتون معرفة تحصيل بها النجاة والسعادة بعد الموت بل المعروف عندهم وجود مطلق أو مقيد بالسلوب ولا يثبتون بعد الموت تجدد نظر إليه إذ المفارقات عندهم ليس فيها حركة أصلا لا من الناظر ولا من المنظور إليه وهو خلاف ما دلت عليه الدلالة الشرعية والعقلية
فصل تابع كلام ابن سينا في الإشارات عن مقامات العارفين
ثم قال: ( إشارة: المستحيل بوسيط الحق مرحوم من وجه فإن لم يطعم لذة البهجة به فيستطعمها إنما معارفته مع اللذات المخدجة فهو حنون إليها غافل عما وراءها وما مثله بالقياس إلى العارفين إلا مثل الصبيان بالقياس إلى المحتنكين فإنهم لما غفلوا عن طيبات يحرص عليها البالغون واقتصرت بهم المباشرة على طيبات اللعب صاروا يتعجبون من أهل الجد إذا ازوروا عنها عائقين لها عاكفين على غيرها كذلك من غض النقص بصره عن مطالعة بهجة الحق أعلى كفيه بما يليه من اللذات: لذات الزور فتركها في دنياه من كره وما تركها إلا ليستأجل أضعافها وإنما يعبد الله ويطيعه ليخوله في الآخرة ويشبعه منها فيبعث إلى مطعم شهي ومشرب هني ومنكح بهي إذا بعثر عنه فلا مطمح لبصره في أولاه وآخرته إلا إلى لذات قبقبه وذبذبه والمستبصر بهداية القدس في شجون واجب الإيثار قد عرف اللذة الحق وولى وجهه سمتها مترحما على هذا المأخوذ عن رشده إلى ضده وإن كان ما يتوخاه بكده مبذولا له حسب وعده )
تعليق ابن تيمية
فيقال: ينبغي أن يفرق بين كون الإنسان محبا مريدا وبين كونه يعرف أنه محب مريد وكذلك يفرق بين كونه سامعا رائيا عالما وبين كونه عالما بكونه كذلك ذاكرا له
مثال ذلك: أن الإنسان لا يفعل فعلا اختياريا وهو يعلم أنه يفعله إلا بإرادة فكل من شهد المسجد ليصلي فيه الصلاة الحاضرة وهو يعلم أنها الجمعة أو الفجر امتنع أن يصلي إلا وهو ناو لهذه الصلاة ومع هذا فقد يظن كثير من الناس أنه لا ينوي أو لا تحصل له نية حتى يتكلم بذلك وربما كرر ذلك ورفع صوته به وآذى من حوله وأصابه من جنس ما يصيب الجنون
وكذلك المعرفة بالله فطرية ضرورية كما قد بسط في موضعه وكذلك حب الله ورسوله حاصل لكل مؤمن ويظهر ذلك بما إذا خير المؤمن بين أهله وماله وبين الله ورسوله فإنه يختار الله ورسوله
والمؤمنون متفاضلون في هذه المحبة ولكن المنافقون - الذين أظهروا الإسلام ولما يدخل الإيمان في قلوبهم - ليسوا من هؤلاء وما من مؤمن إلا وهو إذا ذكر له رؤية الله اشتاق إلى ذلك شوقا لا يكاد يشتاقه إلى شيء
وقد قال الحسن البصري: لو علم العابدون أنهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابت أنفسهم في الدنيا
والحب لله يقوى بسبب قوة المعرفة وسلامة الفطرة ونقصها من نقص المعرفة ومن خبث الفطرة بالأهواء الفاسدة
ولا ريب أن النفوس تحب اللذة بالأكل والشرب والنكاح وقد تشغل النفوس بأدنى المحبوبين عن أعلاهما لقوة حاجته العاجلة إليه كالجائع الشديد الجوع فإن ألمه بالجوع قد يشغله عن لذة مناجاته لله في الصلاة
ولهذا قال ﷺ في الحديث الصحيح: [ لا يصلين أحدكم بحضرة طعام ولا وهو يدافع الأخبثين ]
وإن كانت الصلاة قرة عين العارفين والإنسان إنما يشتاق إلى من يشعر به من المحبوبات فأما ما لم يشعر به فهو لا يشتاق إليه وإن كان لو شعر به لكان شوقه إليه أشد من شوقه إلى غيره
ولما كانت الجنة فيها كل نعيم يتنعم به من غير تنغيص مما يعرفونه وما لا يعرفونه
كما قال تعالى: { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } [ السجدة: 17 ]
وقال: { وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين } [ الزخرف: 71 ]
وفي الصحيح عن النبي ﷺ قال: [ يقول الله تعالى: إني أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما أطلعتم عليه ثم قرأ { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } [ السجدة: 17 ] الآية ]
وكان النعيم الذي فيها منه ما له نظير عند المخاطبين إذا ذكر اشتاقوا إليه ومنه ما لا نظير له عندهم - أخبرهم الله تعالى منه بما له نظير فإنه بذلك يحصل شوقهم ورغبتهم فيما أمروا به ثم إذا فعلوا ما أمروا به نالوا بذلك ما لم يخطر بقلوبهم كما أخبر بذلك الكتاب والسنة
ولذة النظر وإن كانت أفضل اللذات وسببها - وهو حب الله ورسوله - موجود في قلب كل مؤمن لكن الظاهر من الحب والشهوات ومعرفة الناس لكون ذلك مشتهاة ومرغوبا فيها وان محبتها غالبة وذكرهم لذلك أظهر من معرفتهم بما في حب الله ورسوله
والنظر إليه من ذلك ومن ذكرهم لذلك وإن كان ذلك موجودا فيهم فوجود الشيء غير معرفته وذكره وظهوره فذكر الله في كتابه من اللذات الظاهرة كالأكل والشرب والنكاح ما يعرف كل أحد أنه لذة وما تشتاق إليه كل نفس ويعرفون أنه مما يرغب فيه وذلك لا ينال إلا بعبادة الله وطاعته
وهم إذا عبدوا الله فقد يحصل لهم من حلاوة المعرفة والعبادة ما هو اعظم من ذلك وإذا كشف الحجاب في الآخرة فنظروا إليه كان ذلك أحب إليهم من جميع ما أعطاهم فكان ترغيبهم في العبادة بذلك شائقا لهم إلى هذا وكان كمن أسلم رغبة في الدنيا فلم تغرب الشمس إلا والإسلام أحب إليه مما طلعت عليه الشمس وكمن دخل في العلم والدين لرغبه في مال أو جاه أو رهبة من عزل أو عقوبة أو أخذ مال فلما ذاق حلاوة العلم والإيمان كان ذلك أحب إليه مما طلعت عليه الشمس
وإذا كان هذا في الدنيا فما الظن بما في الآخرة؟ وإذا عرفت هذا عرفت شيئين: أحدهما: أن كل مؤمن تحقق إيمانه فإنما يعبد الله والله أحب إليه من كل ما سواه وإن كان لا يستشعر هذا في نفسه بل يكون ما يرجوه من الأكل والشرب النكاح وما يخافه من العقاب باعثا له على العبادة لكن إذا ذاق حلاوة الإيمان وطعم العبادة كان الله أحب إليه من كل شيء وإن كان يغيب عن علمه بحاله حتى لا يرغب ولا يرهب إلا من غير ذلك فما كل محبوب واجب يستحضر في كل وقت ولا تحصل به الرغبة ولا من فواته الرهبة بل تحصل الرغبة والرهبة بالمحبوب الأدنى والمرهوب الأدنى ويقوده ذلك إلى المحبوب الأعلى وهذا موجود فيمن ذاق طعم المحبوب الأعلى فإنه قد يعترض له هوى في محبوب أدنى فيكون حضوره ودواعي الشهوة إليه يوجب تقديمه مع علمه بأنه يفوته بذل ما هو أحب إليه منه وكمن يشتهي شيئا فيتناوله وهو بعلم أنه يضره وأنه يفوته به ما هو أحب إليه بل يعلم أنه يوجب له ما يضره فإذا حصل له ترهيب يصده عن ذلك أو رغبة فيما ترغب فيه نفسه حتى يترك ذاك كان هذا دواء نافعا له يشتاق به إلى المحبوب الأعلى
والله قد أنزل كتابه شفاء لما في الصدور وهدى للخلق ورحمة لهم وبعث رسوله بالحكمة
وأما ما ذكره هذا الرجل من الكلام المزخرف الذي قال الله فيه: { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون * ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون } [ الأنعام: 112 - 113 ]
وذلك أنه عظم من يعبد الحق لذاته وعبادة الحق تعالى لذاته أصل عظيم وهو أصل الملة الحنيفية وأساس دعوة الأنبياء لكن هذا حاصل فيما جاءت به الرسل لا في طريق الصحابة فإن أصحابه لا يعبدون الله بل ولا يحبونه أصلا بل ولا يطيعونه وإنما العبادات عندهم رياضة للنفوس لتصل إلى علمهم الذي يدعون أنه كمال النفس والكمال عندهم في التشبه به لا في أن يكون محبوبا مرادا
ولهذا لم يتكلم أحد منهم في مقامات العارفين بمثل هذا الكلام الذي تكلم به ابن سينا وهو أراد أن يجمع بين طريقهم وطريق العارفين أهل التصوف فأخذ ألفاظا مجملة إذا فسر مراد كل واحد منها تبين أن القوم من أبعد الناس عنه محبة الله وعبادته وأنهم أبعد عن ذلك من اليهود والنصارى بكثير كثير
ولهذا يظهر فيهم من إهمال العبادات والأوراد والأذكار والدعوات ما لا يظهر في اليهود والنصارى ومن سلك منهم مسلك العبادات فإن لم يهده الله إلى حقيقة دين الإسلام وإلا صار آخر أمره ملحدا من الملاحدة من جنس ابن عربي وابن سبعين وأمثالهما
وأيضا فإنه استحقر ما وعد الناس به في الآخرة من أنواع النعيم وطلب تزهيد الناس فيما رغبهم الله فيه وهو مضادة للأنبياء وهو في الحقيقة منكر لوجود ذلك كما هو في الحقيقة منكر لوجود محبة الله ومعرفته والنظر إليه وإنما الذي أثبته من ذلك خيال كما أن الذي أثبته من لذة المعرفة إنما هو مجرد كونه عالما معقولا موازيا للعالم الموجود وظن أنه بهذا تحصل اللذة التي يسعد بها في الآخرة وينجو بها من العذاب وهذا ضلال عظيم
وقد أعرض الرازي عن الكلام على هذا فلم يمدحه ولم يذمه وأما الطوسي فمدحه عليه لأنه ملحد من جنسه والكلام على هؤلاء مبسوط في موضعه