حول إبطال القول بعدم النهاية
قال: ( وأما المتكلم فله في إبطال القول بعدم النهاية طرق الأول: ما أسلفناه من الطريقة المذكورة ويلزم عليه ما ذكرناه ما عدا التناقض اللازم للفيلسوف من ضرورة اعتقاد عدم النهاية فيما ذكرناه من الصور وعدم اعتقاد المتكلم لذلك غير أن المناقضة لازمة للمتكلم من جهة اعتقاده عدم النهاية في معلومات الله تعالى ومقدوراته مع وجود ما ذكرناه من الدليل الدال على وجوب النهاية فيها )
قال: ( وما يقال: من أن المعني بكون المعلومات والمقدورات غير متناهية صلاحية العلم لتعلقه بما يصح أن يعلم وصلاحية القدرة لتعلقها بكل ما يصح أن يوجد وما يصح أن يعلم ويوجد غير متناه لكنه من قبيل التقديرات الوهمية والتجويزات الإمكانية وذلك مما لا يمتنع كونه غير متناه بخلاف الأمور الوجودية والحقائق العينية فلا أثر له في القدح أيضا فإن هذه الأمور - وإن لم تكن من موجودات الأعيان غير أنها متحققة في الأذهان ولا يخفى أن نسبة ما فرض استعماله فيما له وجود ذهني على نحو استعماله فيما له وجود عيني )
تعليق ابن تيمية
قلت: التفريق بين الشيئين يحتاج إلى ثبوت الوصف الفارق وثبوت تأثيره والآمدي سلم لهم الوصف ونازعهم في كونه مؤثرا والتحقيق أن ما ذكروه من الوصف متوحه في القدرة فإن تعلقها بالمعدوم من باب التجويز بخلاف العلم فإن فساد تعلقه بالمعدوم ليس من باب التجويز فإن المعدوم هنا معلوم للعالم ليس المراد بذلك أن ثم صفة تصلح أن يعلم بها المعدوم إذا وجد بل هو معلوم قبل وجوده بخلاف القدرة فإن تعلقها بالمعدوم معناه أنها صفة صلاحة لتعلق المعدوم إذا وجد
قلت: وأيضا فإن قول القائل: المعني بكون المعلومات والمقدروات غير متناهية هو صلاحية العلم والقدرة للتعلق وهو وإن سلم في القدرة فلا يسلم في العلم فإن الكلام ليس هو في إمكان العلم بها بل في العلم الذي يقال إنه علم موجود أزلي متعلق بما لا نهاية له وهذا أمر موجود
وعن هذه الشبهة صار طائفة من النظار إلى استرسال العلم على آحاد نوع العرض كما قاله أبو المعالي وحكي ذلك عن أبي الحسين البصري وداود الجواربي
قال أبو المعالي: ( الأجسام جنس واحد والأعراض أجناسها محصورة وأفراد الجنس غير محصورة ) قال: ( فلا يجوز وجود أجناس لا تتناهى لأنه يجب حينئذ وجود ما لا يتناهى في العلم والدليل دال على نفي النهاية في هذا وهذا ) قال: ( وأما آحاد الأعراض فإن العلم يسترسل عليها استرسالا وأما الجواب بصلاحية التعلق فهو جواب الشهرستاني ونحوه )
الثاني
قال: ( الطريق الثاني - يعني في بيان امتناع ما لا نهاية له - قوله: لو وجد أعداد لا نهاية لها لم تخل: إما أن تكون شفعا أو وترا أو شفعا ووترا معا أو لا شفعا ولا وترا فإن كانت شفعا فهي تصير وترا بزيادة واحد وإن كانت وترا فهي تصير شفعا بزيادة واحد وإعواز الواحد لما لا يتناهى محال وإن كانت شفعا ووترا فهو محال لأن الشفع ما يقبل الانقسام بمتساويين والوتر غير قابل لذلك والعدد الواحد لا يكون قابلا وغير قابل له معا وإن لم يكن شفعا ولاوترا فيلزم منه وجود واسطة بين النفي والإثبات وهو محال وهذه المحالات إنما لزمت من القول بعدد لا نهاية له فالقول به محال )
قال: ( وهو محال من النمط الأول في الفساد لوجهين: الأول: قد نسلم استحالة الشفعية أو الوترية فيما لا نهاية له والقول بأن ما لا يتناهى لا يعوزه الواحد الذي به يصير شفعا إن كان وترا أو وترا إن كان شفعا فدعوى مجردة ومحض استبعاد لا دليل عليه
الوجه الثاني: أنه يلزم عليه عقود الحساب ومعلومات الله تعالى ومقدوراته فإنها غير متناهية إمكانا مع إمكان إجراء الدليل المذكور فيها )
تعليق ابن تيمية
قلت: ولقائل أن يقول: أما الوجه الأول فضعيف فإن كون ما لا يتناهى معوزا للواحد كالمعلوم فساده بالضرورة بل يمكن أن يقال: ما لا يتناهى لا يمكن أن يكون لا شفعا ولاوترا لأن الشفع والوتر نوعا جنس العدد المحصور الذي له طرفان: مبدأ ومنتهى فأما إذا قدر ما لا مبدأ ولا منتهى له فليس عددا محصورا فلا يكون شفعا ولا وترا كما يقولوه المسلمون وغيرهم من أهل الملل فيما يحدثه الله تعالى في المستقبل من نعيم الجنة: إنه لا شفع ولا وتر
وهذا أيضا قول الفلاسفة الطبيعية والإلهية: إن ما لا نهاية له لا يكون شفعا ولا وترا وذلك أن ما لا نهاية له ليس طرفان والشفع: ما يقبل الانقسام بقسمين متساويين وهذا إنما يعقل فيما له طرفان منتهيان وإذا لم يمكن أن يكون شفعا لم يمكن أن يكون وترا
وأما عقود الحساب فالمقدر منها في الذهن محصور متناه وما لا يتناهى لا تقدره الأذهان بل كل مايضعفه الذهن من عقود الحساب فهو متناه والمراتب في نفسها متناهية ولكن إحدى المرتبتين لو وجدت أفرادها في الخارج لكانت أكثر من الأولى وليس ذلك تفاوتا في أمور موجودة ولا في الأذهان ولا في الأعيان
الثالث
قال أبو الحسن الآمدي: ( الطريق الثالث: أنه لو وجد أعداد لا نهاية لها فكل واحد منها محصور بالوجود فالجملة محصورة بالوجود وما لا يتناهى لا ينحصر بحاصر )
قال: ( وهو أيضا فاسد لثلاثة أوجه :
الأول: لا نسلم أن الوجود زائد على الموجود حتى يقال: يكون الوجود حاصرا له بل الوجود هو ذات الموجود وعينه على ما يأتي
الثاني: وإن كان زائدا على كل واحد من آحاد الجملة فلا نسلم كونه حاصرا بل عارض مقارن لكل واحد من الآحاد والمعارض المقارن للشيء لايكون حاصرا له
الثالث: سلمنا أن الوجود حاصر لكل واحد من آحاد الجملة ولكن لا نسلم أن الحكم على الآحاد يكون حكما على الجملة ولهذا يصدق أن يقال لكل واحد من آحاد الجملة: إنه جزء الجملة ولا يصدق على الجملة أنها جزء الجملة )
تعليق ابن تيمية
ولقائل أن يقول: في إفساد هذا الوجه أيضا: قول القائل ( إنه محصور في الوجود ) أيريد به أن هناك سورا موجودا حصر ما يتناهى أو ما لا يتناهى بين طرفيه أم يريد به أنه موصوف بكونه موجودا؟ فإن أراد الأول فهو باطل فإنه ليس للموجودات شيء خارج عن الموجودات يحصرها سواء قيل: إنها متناهية أو غير متناهية وإن قيل: إن كل واحد مما لا يتناهى من الموجودات فهو موجود فهذا حق
فإذا سمى المسمى هذا حصرا كان هذا إطلاقا لفظيا وكان قوله حينئذ ( ما لا يتناهى لا يكون محصورا ) بمنزلة قوله ( لا يكون موجودا ) وهذا محل النزاع فقد غير العبارة وصادر على المطلوب ثم ما لا يتناهى في المستقبل موجود باتفاق أهل الملل وعامة الفلاسفة ولم ينازع في ذلك إلا من شذ كالجهم وأبي الهذيل ونحوهما ممن هو مسبوق بإجماع المسلمين محجوج بالكتاب والسنة مخصوم بالأدلة العقلية مع مخالفة جماهير العقلاء من الأولين والآخرين وهو مع هذا محصور بالوجود كما أن ما لا يتناهى في الماضي محصور بالوجود لكنهم يفرقون بأن الماضي دخل في الوجود بخلاف المستقبل ومنازعوهم يقولون: الماضي دخل ثم خرج فصارا جميعا معدومين والمستقبل لم يدخل في الوجود وهة تفريق صوري حقيقته أن الماضي كان وحصل والمستقبل لم يحصل بعد
فيقال لهم: ولم قلتم: إن كل ما حصل وكان يمتنع أن يكون دائما لم يزل؟ وهو وإن كان متناهيا من الجانب الذي يلينا فالمستقبل أيضا متناه في هذا الواجب وإنما الكلام في الطرفين الآخرين
وأيضا فالحوادث الماضية عدمت بعد وجودها فهي الآن معدومة كما أن الحوادث المستقبلة الآن معدومة فلا هذا موجود ولا هذا موجود الآن وكلاهما له وجود في غير هذا الوقت ذاك في الماضي وهذا في المستقبل وكون الشيء ماضيا ومستقبلا أمر إضافي بالنسبة إلى ما يقدر متأخرا عن الماضي ومتقدما على المستقبل وإلا فكل ماض قد كان مستقبلا وكل مستقبل سيكون ماضيا كما أن كل حاضر قد كان مستقبلا وسيصير ماضيا
الرابع
قال الآمدي: ( الطريق الرابع: أنه لو وجد ما لا يتناهى فما من وقت يقدر إلا وهو متناه في ذلك الوقت وانتهاء ما لا يتناهى محال )
قال: ( وهو أيضا غير سديد فإن الانتهاء من أحد الطرفين - وهو الأخير - وإن سلمه الخصم فلا يوجب النهاية في الطرف الآخر ثم يلزم عليه عقود الحساب ونعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار فإنه وإن كان متناهيا من طرف الابتداء فغير متناه إمكانا في طرف الاستقبال )
تعليق ابن تيمية
قلت: هذا الوجه من جنس الوجه السادس الذي ذكره الرازي وهو أنه: ( لو كانت الحوادث الماضية غير متناهية كان وجود اليوم موقوفا على انقضاء ما لا نهاية له وانقضاء ما لا نهاية له محال والموقوف على المحال محال )
وقد اعترض عليه الأرموي بما اعترض به هو وغيره بأن انقضاء ما لا نهاية له محال
وأما انقضاء ما لا بداية له ففيه النزاع وهو من جنس جواب الآمدي فإن الانتهاء الذي يسلمه الخصم هو من أحد الطرفين دون الآخر والآخر هو الابتداء وقد تقدم ذلك
كلام آخر للآمدي
ثم قال الآمدي: ( والأقرب في ذلك أن يقال: لو كانت العلل والمعلولات غير متناهية وكل واحد منها ممكنا على ما وقع به الفرض فهي: إما متعاقبة وإما معا فإن كانت متعاقبة فقد قيل: إن ذلك محال لوجوه ثلاثة
الأول: أن كل واحد منها يكون مسبوقا بالعدم والجملة مجموع الآحاد فالجملة مسبوقة بالعدم وكل جملة مسبوقة بالعدم فلوجودها أول تنتهي إليه وكل ما لوجوده أول ينتهي إليه فالقول غير متناه محال
الثاني: أن كل واحد منها يكون مشروطا في وجوده علته قبله ولا يوجد حتى توجد علته وكذلك الكلام في علته بالنسبة إلى علتها وهلم جرا
فإذا قيل بعدم النهاية فقد تعذر الوقوف على شرط الوجود فلا وجود لواحد منها وهذا كما إذا قيل: لا أعطيك درهما إلا وقبله درهم فإنه لما كان إعطاء الدرهم مشروطا بإعطاء درهم قبله وكذلك في إعطاء كل درهم يفرض إلى غير النهاية كان الإعطاء محالا
الثالث: هو أن القول بتعاقب العلل والمعلولات يجر إلى تأثير العلة بعد عدمها في معلولها وتأثير المعدوم في الموجود محال )
قال: ( وهذه الحجج مما لا مثبت لها
أما الأولى فلأنه لا يلزم من سبق على كل واحد من الآحاد سبقه على الجملة فإن الحكم على الآحاد لا يلزم أن يكون حكما على الجملة كما سبق تحقيقه
وأما الثاني فإنما يلزم أن لو كان ما توقف عليه الموجود وهو شرط في الوجود غير موجود كما في المثال المذكور وأما إن كان موجودا فلا يلزم امتناع وجود المشروط والقول بأن الشرط غير موجود محل النزاع فلا تقبل الدعوى به من غير دليل
وأما الثالثة فإنما تلزم أيضا أن لو كان معنى التعاقب وجود المعلول بعد عدم علته وليس كذلك بل معناه: وجود المعلول متراخيا عن وجود علته مع بقاء علته موجودة إلى حال وجوده وبقائه موجودا بعد عدم علته وكذلك في كل علة مع معلولها وذلك لا يلزم منه تأثير المعدوم في الموجود ولا أن تكون العلل والمعلولات موجودة معا وذلك متصور في العلل الفاعلة بالاختيار )
قال: ( والأقرب في ذلك أن يقال: لو كانت العلل والمعلولات متعاقبة فكل واحد منها حادث لا محالة وعند ذلك فلا يخلو: إما أن يقال بوجود شيء منها في الأزل أو لا وجود لشيء منها في الأزل فإن كان الأول ممتنع لأن الأزلي لا يكون مسبوقا بالعدم والحادث مسبوق بالعدم فلو كان شيء منها في الأزل لكن مسبوقا بالعدم ضرروة كونه حادثا وغير حادث ضرورة كونه أزليا وإن كان الثاني فجملة العلل والمعلولات مسبوقة بالعدم ضرورة أن لا شيء منها في الأزل ويلزم من ذلك أن يكون لها ابتداء ونهاية غير متوقف على سبق غيره عليه وهو المطلوب )
تعليق ابن تيمية
قلت: هذا الوجه هو الوجه الثالث الذي ذكره الرازي حيث قال: ( إما أن يقال: حصل في الأزل شيء من هذه الحركات أو لم يحصل فإن لم يحصل في الأزل شيء من هذه الحركات وجب أن يكون لمجموع هذه الحركات والحوادث بداية وأول وهو المطلوب وإن حصل في الأزل شيء من هذه الحركات فتلك الحركة الحاصلة في الأزل إن لم تكن مسبوقة بغيرها كانت تلك الحركة أول الحركات وهو المطلوب وإن كانت مسبوقة بغيرها لزم أن يكون الأول مسبوقا بغيره وهو محال )
وقد اعترض أبو الثناء الأرموي على هذا بأنه ( ليس من الحركات الجزئية أزليا بل كل واحدة منها حادثة وإنما القديم الحركة الكلية بتعاقب الأفراد الجزئية وهي ليست مسبوقة بغيرها فلا يلزم أن يكون لكل الحركات الجزئية أول )
وبيان هذا الاعتراض - فيما ذكره الآمدي - أن يقال: قوله: ( إما ان يقال بوجود شيء منها في الأزل أو لا وجود لشيء منها في الأزل ) جوابه: أنه ليس شيء بعينه موجودا في الأزل ولكن الجنس لم يزل متعاقبا وحيئنذ يندفع ما ذكره على التقديرين: أما الأول فإنه قال: لو كان شيء منها موجودا في الأزل لكان مسبوقا بالعدم غير مسبوق بالعدم وهذا إنما يلزم إذا قيل في واحد من الحوادث المتعاقبة: إنه قديم أزلي وهذا لا يقوله عاقل
وأما التقدير الثاني: فقوله: ( وإن كان الثاني فقول القائل: العلل والمعلولات المتعاقبة أو غيرها من الحوادث المتعاقبة تكون مسبوقة بالعدم ) إنما يلزم إذا قيل: إن جنسها ليس بقديم ولا أزلي وهذا محل النزاع
وحقيقة الأمر أن قول القائل: ( إما أن يقال بوجود شيء منها في الأزل أولا وجود لشيء منها في الأزل ) معناه: إما أن شيئا منها قديم أزلي أو ليس شيء منها قديما أزليا وهذا اللفظ محتمل فإن أراد به أن واحدا من الحوادث المتعاقبة يكون قديما أزليا فهذا لا يقولونه وإن أراد أن جنسها لم يزل يحدث شيئا بعد شيء وأنه لا أول للجنس بل الجنس قديم أزلي فهذا هو الذي يقولون وحينئذ فلا يلزم من نفي الأزلية عن واحد نفيها عن الجنس
وذلك أن معنى الأزل ليس هو شيئا له ابتداء محدود حتى يقال: هل حصل شيء منها في ذلك المبدأ المحدود؟ بل معنى الأزل هو معنى القدم ومعناه: ما لا ابتداء لوجوده ولا يقدر الذهن غاية إلا كان قبل تلك الغاية فإذا قال القائل: ( هل وجد شيء من هذه الحوادث في الأزل ) كان معناه: هل منها قديم لا أول لوجوده لم يزل موجودا؟
والمثبت لذلك إنما يقول: لم يزل الجنس موجودا شيئا بعد شيء كما يقوله المسلمون وجمهور الناس غيرهم في الأبد فيقولون: إنه لا يزال جنس الحوادث يحدث شيئا بعد شيء فلو قال القائل: ( الحوادث المنقضية لا تكون أبدية ولاتكون فيما لا يزال لأنه إما أن يوجد شيء منها في الأبد أو لا وجود لشيء منها في الأبد فإن كان الأول فهو ممتنع لأن الأبدي لا يكون منقضيا بل لا يزال موجودا وإن كان الثاني فجملة المنقضيات ملحوقة بالعدم وما كان ملحوقا بالعدم لم يكن أبديا لأن الأبدي هو ما لا يلحقه العدم كما أن الأزلي ما لا يسبقه العدم ) كان الجواب عن قول هذا القائل بأن يقال: الأبدي هو جنس الحوادث المنقضية لا واحد واحد منها والجنس لا يلحقه العدم وإن لحق آحاده كما قال تعالى { إن هذا لرزقنا ما له من نفاد } ( ص: 54 ) وقال تعالى: { أكلها دائم } ( الرعد: 35 ) فالدائم: هو الجنس وكذلك الذي لا نفاد له هو الجنس لا كل واحد من أعيان الرزق والمأكولات
قول آخر عن الآمدي
وقد أورد الآمدي على نفسه سؤالا وأجاب عنه فقال: ( قولكم: إن لم يوجد شيء منها في الأزل فلها أول وبداية فنقول: لا يلزم من كون كل واحد من العلل والمعلولات غير موجود في الأزل أن تكون الجملة غير أزلية فإنه لا يلزم من الحكم على الآحاد أن يكون حكما على الجملة بل جاز أن يكون كل واحد من أحاد الجملة غير أزلي والجملة أزلية بمعنى تعاقب آحادها إلى غير النهاية ) وقال في الجواب عن هذا: ( قلنا إذا كان كل واحد من الآحاد لا وجود له في الأزل وهو بعض الجملة فليس بعض من أبعاض الجملة يكون موجودا في الأزل وإذا لم يكن شيء من الأبعاض موجودا في الأزل فالجملة غير موجودة في الأزل فإنه لا وجود للجملة دون وجود أبعاضها )
تعليق ابن تيمية
قلت: ولقائل أن يقول: قوله: ( لا وجود للجملة دون وجود أبعاضها ) أيعني به وجود أبعاضها معها؟ أو وجود أبعاضها ولو كانت متعاقبة؟
أما الأول فلا يصح لأن ما فرض متعاقبا لايمكن أن تكون أبعاضه موجودة معه وليس له وجود مجتمع في زمن واحد حتى يمكن اجتماع أبعاضه معه بل وجود أبعاضه - وهو متعاقب مع جملته - جمع بين النقيضين
وإن عنى به وجود ابعضاها كيفما كان فيقال له: هذا صحيح والمنتفي إنما هو وجود شيء من أبعاضها في الأزل ولا يلزم من انتفاء كون الواحد من أبعاضها قديما أزليا أن لا يكون موجودا فإذا كان وجود الجملة موقوفا على وجود أبعاضها فوجود أبعاض المتعاقب ممكن وإن قال: ( إن وجود الجنس المتعاقب الذي هو قديم أزلي أبدي موقوف على كون الواحد من آحاده قديما أزليا أو أبديا ) فهذا محل النزاع
فتبين أن الجواب فيه مغلطة وحقيقة الجواب أنه يجب الحكم على الجملة بما يحكم به على أفرادها وقد بين هو وغيره فساد هذا الجواب فإنه إذا لم يكن بعض الجملة أزليا كان ذلك سلبا للأزلية عن أفراد الجنس ونفي الأزلية هو لحدوث فيصير معنى الكلام: إذا كان كل واحد من الأفراد أو الأبعاض المتعاقبة حادثا وجب أن يكون الجنس المتعاقب حادثا وقد عرف فساد هذا الكلام
وأبو الحسن الآمدي وغيره أدخلوا هذه المقدمة - أعني منع العلل المتعاقبة - في إثبات واجب الوجود ولا حاجة بهم إليها وهي مبنية على مقدمتين إحداهما: أن العلة قد تتقدم المعلول وقد ذكر هو في كتابه المسمى بـ ( دقائق الحقائق ) نقيض ما ذكره هنا في كتابه المسمى ( أبكار الأفكار ) وذكر في إثبات واجب الوجود هذه الطريقة التي تقدمت حكايتها عنه وقال فيها: إن كانت العلل والمعلولات غير متناهية فإما أن تكون متعاقبة أو معا لا جائز أن يقال بالأول إذ قد بينا امتناع الافتراق بين العلة والمعلول فيما تقدم )
والذي قاله فيما تقدم هو أن العلة أو الفاعل لا يفتقر في كونه علة لمعلوله ولا كون المعلول معلولا إلى سبق العدم فإن ما كان من المعلولات الوجودية مسبوقا بالعدم: إما أن يكون وجوده بإيجاد العلة له في حال وجوده أو في حال عدمه لا جائز أن يكون ذلك له في حال عدمه لامتناع اجتماع الوجود والعدم فلم يبق إلا أن يكون موجودا له في حال وجوده لا بمعنى أنه أوجد بعد وجوده بل بمعنى أن ما قدر له من الوجود غير مستغن عن العلة بل يستند إليها ولولاها لما كان وإذا ذاك الفرق بين أن يكون المعلول وجوده مسبوقا بالعدم أو غير مسبوق بالعدم
تعليق ابن تيمية
قلت: هذه الحجة هي حجة ابن سينا وأمثاله على أن المعلول يكون مع العلة في الزمان وهي حجة فسادة وبتقدير صحتها لا تنفع الآمدي في هذا المقام فإن الناس لهم في مقارنة المعولل لعلته والمفعول لفاعله ثلاثة أقوال :
الأقوال في مقارنة المعلول لعلته الثانية
قيل: يجب أن يقارن الأثر ولتأثيره بحيث لا يتأخر الأثر عن التأثير في الزمان فلا يتعقبه ولا يتراخى عنه وهذا قول هؤلاء الدهرية القائلين بأن العالم قديم عن موجب قديم وقولهم أفسد الأقوال الثلاثة وأعظمها تناقضا فإنه إذا كان الأثر كذلك لزم أن لا يحدث في العالم شيء فإن العلة التامة إذا كانت تسلتزم مقارنة معلولها لها في الزمان وكان الرب علة تامة في الأزل - لزم أن يقارنه كل معلول وكل ما سواه معلول له: إما بواسطة وإما بغير واسطة فيلزم أن لا يحدث في العالم شيء
وأيضا فما يحدث من الحوادث بعد ذلك يفتقر إلى علة تامة مقارنة له فيلزم تسلسل علل أو تمام علل ومعلولات في آن واحد وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء وإن قدر أن الرب لم يكن علة تامة في الأزل بطل قولهم
وقيل: بل يجب تراخي الأثر عن المؤثر التام كما يقوله أكثر أهل الكلام ويلزم من ذلك أن يصير المؤثر مؤثرا تاما بعد أن لم يكن مؤثرا تاما بدون سبب حادث أو أن الحوادث تحدث بدون مؤثر تام وأن الممكن يرجح وجوده على عدمه بدون المرجح التام
وهذا قول كثير من أهل الكلام منهم من يقول: القادر يرجح أحد المقدورين بلا مرجح
ومنهم من يقول: بل يرجح بالإرادة القديمة الأزلية
ومن هؤلاء وهؤلاء من يقول: بل يرجح مع كون الرجحان أولى لا مع وجوبه وهو قول محمود الخوارزمي من الأولين وهو قول محمد بن الهيثم الكرامي وغيره من الآخرين فإن الكرامية مع الأشعرية والكلابية يقولون: المرجح هو الإرادة القديمة الأزلية ويقولون: إن الإرادة لا توجب المراد لكن منهم من يقول: من شأن الإرادة أن ترجح بلا مزية للترجيح بل مع تساوي الأمرين كما تقوله الأشعرية: ومنهم من يقول: ترجيح أولوية الترجيح وهذا قول الكرامية
والقول الثالث: أن المؤثر التام يستلزم وجود أثره عقبه لا معه في الزمان ولا متراخيا عنه كما قال تعالى: { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } ( النحل: 40 ) وعلى هذا فيلزم حدوث كل ما سوى الرب لأنه مسبوق بوجود التأثير ليس زمنه زمن التأثير والقادر المريد يستلزم مع وجود القدرة والإرادة وجود المقدور المراد والقدرة والإرادة حاصلان قبل المقدور المراد ومع وجود المقدور المراد هما مستلزمان له وهذا قول أكثر أهل الإثبات
وعلى هذا فيجب الفرق بين وجود العلة والفاعل والمؤثر عند وجود الأثر في الزمان فإن هذا لا بد منه وبين وجود العلة التي هي الفعل والتأثير في الزمان فإن هذا هو الذي يتعقبه المفعول المعلول الذي هو الأثر
ومن الناس من فرق بين التأثير القادر المختار وتأثير العلة الموجبة فزعم أن الأول لا يكون إلا مع تراخي الأثر والثاني لا يكون إلا مع مقارنة الأثر للمؤثر
وهذا أيضا غلط فإن الأدلة الدالة توجب التسوية لو قدر أنه يمكن أن يكون المؤثر غير قادر مختار فكيف إذا كان ذلك ممتنعا؟
وكون المعلول والمفعول لا يكون مفعولا معلولا إلا بعد عدمه هو من القضايا الضرورية التي اتفق عليها عامة العقلاء من الأولين والآخرين وكل هؤلاء يقولون: ما كان معلولا يمكن وجوده ويمكن عدمه لا يكون إلا حادثا مسبوقا بالعدم
وممن قال ذلك أرسطو وأتباعه حتى ابن سينا وأمثاله صرحوا بذلك لكن ابن سينا تناقض مع ذلك فزعم أن الفلك هو قديم أزلي مع كونه ممكنا يقبل الوجود والعدم وهذا مخالف لما صرح به هو وصرح به أئمته وسائر العقلاء وهو مما أنكره عليه ابن رشد الحفيد وبين أن هذا مخالف لما صرح به أرسطو وسائر الفلاسفة وأن هذا لم يقله أحد قبله
وأرسطو لم يكن يقسم الوجود إلى واجب وممكن ولا يقول: إن الأول موجب بذاته للعالم بل هذا قول ابن سينا وأمثاله وهو - وإن كان أقرب إلى الحق مع فساده وتناقضه - فليس هو قول سلفه بل قول أرسطو وأتباعه: إن الأول إنما افتقر إليه الفلك لكونه يتحرك للتشبه به لا لكون الأول علة فاعلة له
وحقيقة قول أرسطو وأتباعه: أن ما كان واجب الوجود فإنه يكون مفتقرا إلى غيره فيكون جسما مركبا حاملا للأعراض فإن الفلك عندهم واجب بذاته وهو كذلك كما قد بسط كلامهم والرد عليهم في غير هذا الموضع وبين ما وقع من الغلط في نقل مذاهبهم وأن أتباعهم صاروا يحسنون مذاهبهم فمنهم من يجعل الأول محدثا للحركة بالأمر وليس هذا قولهم فإن الأول عندهم لا شعور له بحركة ولا إرادة وإنما الفلك يتحرك عندهم للتشبه به فهو يحركه كتحريك الإمام للمؤتم به أو المعشوق لعاشقه لا تحريك الآمر لمأموره كما يزعمه ابن رشد وغيره
ومنهم من يقول: بل هو علة مبدعة فاعلة للأفلاك كما يقوله ابن سينا وأتباعه وليس هذا أيضا قولهم
ولكن كثير من هؤلاء المتأخرين لا يعرفون من مذاهب الفلاسفة إلا ما ذكره ابن سينا وأتباعه وليس هذا أيضا قولهم
ولكن كثير من هؤلاء المتأخرين لا يعرفون من مذاهب الفلاسفة إلا ما ذكره ابن سينا كأبي حامد الغزالي والرازي والآمدي وغيرهم ويذكرون ما ذكره ابن سينا من حججه كما ذكره الآمدي في هذا الموضع حيث قال: ( إن العلة أو الفاعل لا يفتقر في كونه علة إلى سبق العدم لأن تأثير العلة في المعلول إنما هو في حال وجود المعلول )
فيقال لهم: ليس في هذا ما يدل على أن المعلول يجوز أن يكون قديما أزليا غير مسبوق بالعدم بل قولكم: ( وإذ ذاك فلا فرق بين أن يكون المعلول وجوده مسبوقا بالعدم أو غير مسبوق ) دعوى مجردة
فتبين أن ما ذكره الآمدي وغيره من امتناع الافتراق بين العلة والمعلول في الزمن ووجوب مقارنتهما في الزمن من أضعف الحجج بل ما ذكره لا يدل على جواز الإقتران فضلا عن أن يدل على وجوب الاقتران بل غاية ما ذكره أن سبق العدم ليس بشرط في إيجاد العلة ولا يلزم من كونه ليس بشرط وجوب الاقتران بل قد يقال بجواز الاقتران وجواز التأخير
وحينئذ فلقائل أن يقول: هذا الذي ذكرته وإن كان باطلا كما قد بسط في غير هذا الموضع وبين فيه أن للناس في هذا المقام ثلاثة أقوال :
قيل: يجوز أن يقارن المعلول العلة في الزمان فيقترن الأثر بالمؤثر في الزمان كما يقوله ابن سينا ومتابعوه
وقيل: بل يجب تراخي الأثر عن المؤثر وتأثيره كما يقوله أكثر المتكلمين
وقيل: بل الأثر يتعقب التأثير ولا يكون معه في الزمان ولا يكون متراخيا عنه وهذا هو الصواب كما قال تعالى: { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } ( النحل: 40 ) لهذا يقال: طلقت المرأة فطلقت وأعتقت العبد فعتق فالعتق والطلاق عقب التطليق والإعتاق لا يقترن به ولا يتأخر عنه
وبين أن من قال باقتران الأثر بالمؤثر كما يقوله هؤلاء المتفلسفة فإن ذلك يستلزم أن لا يكون لشيء من الحوادث فاعل ويستلزم أن لا يحدث شيء في العالم ومن قال بالتراخي فقوله يستلزم أن المؤثر التام لا يستلزم الأثر بل يحدث الحادث بلا سبب حادث وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن هذا الجواب الذي ذكره هو مأخوذ من كلام ابن سينا وهو مع فساده غايته أن المعلول يجوز أن يقارن وجوده وجود العلة لا يجب أن يكون مسبوقا بالعدم مع وجود العلة وليس في هذا بيان أنه يمتنع تأخر وجوده عن وجود العلة
والأقسام الممكنة ثلاثة: إما أن يقال بوجوب المقارنة أو بوجوب التأخر أو بجواز الأمرين وما ذكرته لا يدل على شيء من ذلك ولو دل فإنما يدل على جواز الاقتران لا على وجوبه وأنت فيما ذكرته هناك جوزت تأخر المعلول فلا منافاة بين الأمرين
وذلك أن غاية ما ذكرته أن المؤثر - أي: المعلول الذي هو المصنوع المفعول - إما أن تكون تأثيراته قديمة كواجب الوجود وذلك لا ينفي أن يكون التأثير به هو الأحداث فإن فاعل هذه الحادثات تأثيره فيها في حال الوجود مع كونها محدثة فليس كون التأثير فيها في حال وجودها مما ينفي أنه لا بد أن تكون محدثة
وقولك: ( إذا كان التأثير فيها في حال وجودها فلا فرق بينه أن يكون وجودها مسبوقا بالعدم أو غير مسبوق ) دعوى مجردة لاستواء الحالين والعقلاء يعلمون - بضرورة عقلهم - أن المبدع الفاعل لا يعقل أن يبدع القديم الأزلي الذي لم يزل موجودا وإنما يعقل إبداع ما لم يكن ثم كان بل العقلاء متفقون على أن الممكن الذي يمكن وجوده ويمكن عدمه لا يكون إلا حادثا بعد عدمه ولا يكون قديما أزليا
وهذا مما اتفق عليه الفلاسفة مع سائر العقلاء وقد صرح به أرسطو وجميع أتباعه حتى ابن سينا وأتباعه ولكن ابن سينا وأتباعه تناقضوا فادعوا في موضع آخر أن الممكن الذي يمكن وجوده وعدمه قد يكون قديما أزليا ومن قبله من الفلاسفة - حتى الفارابي - لم يدعو ذلك ولا تناقضوا وقد حكينا أقوالهم في غير هذا الموضع
وأما المقدمة الثانية التي بنوا عليها امتناع العلل المتعاقبة فهي مبينة على امتناع حوادث لا أول لها والمتفلسف لا يقول بذلك فلم يمكنهم أن يجعلوها مقدمة في إثبات واجب الوجود
والتحقيق أنه لا يحتاج إليها بل ولا يحتاج في إثبات واجب الوجود إلى هذه الطريقة كما قد بينا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع
وهؤلاء تجدهم - مع كثرة كلامهم في النظريات والعقليات وتعظيمهم للعلم الإلهي الذي هو سيد العلوم وأعلاها وأشرفها وأسناها - لا يحققون ما هو المقصود منه بل لا يحققون ما هو المعلوم لجماهير الخلائق وإن أثبتوه طولوا فيه الطريق مع إمكان تقصيرها بل قد يورثون الناس شكا فيما هو معلوم لهم بالفطرة الضرورية
والرسل صلوات الله عليهم وسلامه بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها لا بإفسادها وتغييرها قال تعالى: { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون * منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون } ( الروم: 30 - 32 )
وفي الصحيحين [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم قال أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم { فطرة الله التي فطر الناس عليها } قالوا: يا رسول الله أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير؟ فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين ]
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: [ يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ]
فالإقرار بالخالق سبحانه وتعالى والاعتراف بوجود موجود واجب الوجود قديم أزلي كما أنه مركوز في الفطرة مستقر في القلوب فبراهينه وأدلته متعددة جدا ليس هذا موضعها وهؤلاء عامة ما يذكرونه من الطرق: إما أن يكون فيه خلل وإما أن يكون طويلا كثير التعب والغالب عليهم الأول
إثبات الرازي للصانع
فالرازي أثبت الصانع بخمسة مسالك وهي كلها مبنية علىمقدمة واحدة
الأول
الاستدلال بحدوث الذوات كالاستدلال بحدوث الأجسام المبني على حدوث الأعراض كالحركة والسكون وامتناع ما لا نهاية له وهذا طريق المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية كأبي المعالي - بناء على أن أجسام العالم محدثه وكل محدث فله محدث
تعليق ابن تيمية
أما المقدمة الأولي فقد تبين كلامهم فيها ومناقضة بعضهم بعضا وأنهم التزموا لأجلها: إما جحد صفات الله وأفعاله القائمة به وإما جحد بعض ذلك وأنهم اشترطوا في خلق الله تعالى للعالم ما ينافي خلق العالم فسلطوا عليهم أهل الملل والفلاسفة جميعا
وأما الثاني فهي أظهر وأعرف وأبده في العقول من أن تحتاج إلي بيان فبنوها على أن كل محدث فهو ممكن الوجود وأن الممكن يحتاج في وجوده إلى مؤثر موجود وكل من هاتين المقدمتين صحيحة في نفسها مع أن القول بافتقار المحدث إلى المحدث أبين وأظهر في العقل من القول بافتقار الممكن إلى المؤثر الموجود فبتقدير بيانهم للمقدمتين يكونون قد طولوا وداروا بالعقول دورة تبعد على العقول معرفة الله تعالى والإقرار بثبوته وقد يحصل لها في تلك الدورة من الآفات ما يقطعها عن المقصود فكانوا كما قيل لبعض الناس: أين أذنك؟ فرفع يده وأدارها على رأسه ومدها وتمطى وقال: هذه أذني وكان يمكنه أن يشير إليها بالطريق المستقيم القريب ويقول: هذه أذني وهو كما قيل :
أقام يعمل أياما رويته... وشبه الماء بعد الجهد بالماء
وهو نظير ما يذكر عن يعقوب بن إسحاق الكندي فيما حكاه عنه السيرافي من قوله: هذا من باب فقد عدم الوجود وفقد عدم الوجود هو الوجود فكيف وقد ذكروا في افتقار الممكن إلى الواجب بنفسه مع ظهوره وبيانه كما قد بيناه في غير هذا الموضع: ما هو نقيض المقصود: من التعليم والبيان: وتحرير الأدلة والبراهين وقد تكلمنا على تقرير ما يتعلق بهذا المقام في غير هذا الموضع
الثاني
قال الرازي: ( المسلك الثاني: الاستدلال بإمكان الأجسام على وجود الصانع سبحانه وتعالى وهو عمدة الفلاسفة قالوا: الأجسام ممكنة وكل ممكن فل بد له من مؤثر أما بيان كونها ممكنة فبالطريق المذكورة في مسألة الحدوث وأما بيان أن الممكن لا بد له من مؤثر فبالطريق المذكورة هنا )
تعليق ابن تيمية
قلت: وهذه الطريقة هي طريقةابن سينا وأمثاله من المتفلسفة وليست طريقة أرسطو والقدماء من الفلاسفة وابن سينا كان يعجب بهذه الطريقة ويقول: إنه أثبت واجب الوجود من نفس الوجود من غير احتياج إلى الاستدلال بالحركة كما فعل أسلافه الفلاسفة ولا ريب أن طريقته تثبت وجودا واجبا لكن لم تثبت أنه مغاير للأفلاك إلا ببيان إمكان الأجسام كما ذكره الرازي عنهم وإمكان الأجسام هو مبني على توحيدهم المبني على نفي صفات الله تعالى كما تقدم التنبيه عليه وهو من أفسد الكلام كما قد بين ذلك في غير موضع
ومن طريقهم دخل القائلون بوحدة الوجود وغيرهم من أهل الإلحاد القائلين بالحلول والإتحاد كصاحب الفصوص وأمثاله الذين حقيقة قولهم: تعطيل الصانع بالكلية والقول بقول الدهرية الطبيعية دون الإلهية
الثالث
قال: ( المسلك الثالث: الاستدلال بإمكان الصفات على وجود الصانع سواء كانت الأجسام واجبة وقديمة أو ممكنة وحادثة )
قال: ( وتقريره أن يقال: اختصاص كل جسم بما له من الصفات: إما أن يكون لجسميته أو لما يكون حالا في الجسمية أو لما يكون محلا لها أو لما لا يكون حالا فيها ولا محلا لها وهذا القسم الأخير: إما أن يكون جسما أو جسمانيا أولا جسما ولا جسمانيا وتبطل كل هذه الأقسام سوى القسم الأخير بما مر تقريره في إثبات المسلك الأول في مسألة حدوث العالم )
تعليق ابن تيمية
قلت: وهذا هو القول بتماثل الأجسام وأن تخصيص بعضها بالصفات دون بعض يفتقر إلى مخصص والقول بتماثل الأجسام في غاية الفساد والرازي نفسه قد بين بطلان ذلك في غير موضع وهذا الذي أحال عليه ليس فيه إلا أن الجسم لا يكون اختصاصه بالحيز واجبا بل جائزا وبتقدير ثبوت هذا في التحيز لا يلزم مثله في سائر الصفات
وما ذكره من الدليل لا يصح وذلك أنه قال: ( اختصاصه بذلك إن كان واجبا ): فإما أن يكون الوجوب لنفس الجسمية أولأمر للجسمية أو لأمر الجسمية عرضت له أو لأمر غير عارض لها ولا معروض لها والأول يوجب اشتراك الأجسام في تلك الصفة وإن كان لعارض: فإما أن يكون ممتنع الزوال وهو اللازم أو ممكن الزوال وهو العارض فإن العرض في اصطلاحهم أعم من العرض فإن كان ممتنع الزوال: فإن كان الامتناع لنفس الجسمية عاد الإشكال الأول وإن كان لغيرها أفضى للتسلسل وإن كان لمعروض الجسمية لم يصح لأن المعقول من الجسمية الذهاب في الجهات فلو كان في محل لكن ذلك المحل يجب أن يكون ذاهبا في الجهات فيكون محل الجسمية جسما لأنه إن لم يكن ذاهبا في الجهات لم يكن له اختصاص بالحيز فلا يعقل حصول الجسم المختص بالحيز في محل غير مختص بالحيز وإذا كان محله ذاهبا في الجهات كان جسما وحينئذ فالقول في اختصاصه بذلك الحال فيه كالقول في الحيز لا يجوز أن يكون للجسمية أو لوازمها بل لأمر عارض ممكن الزوال فيكون ذلك الحيز ممكن الزوال وهو المقصود )
قلت: ولقائل أن يقول: هذا الدليل مبني على تماثل الأجسام وأكثر العقلاء على خلافه وقد قرر الرازي في موضع آخر أنها مختلفة لا متماثلة وهو مبني أيضا على الكلام في الصورة والمادة ونحو ذلك مما ليس هذا موضع بسط الكلام فيه لكن يبين فساده ببيان موضع المنع في مقدماته
قوله: ( إن كان الامتناع لغير الجسمية أفضى إلى التسلسل ) ممنوع فإن الأجسام إذا كانت مشتركة في مسمى الجسمية وقد اختص بعضها بصفات أخرى لم يجب في ذلك التسلسل كما في سائر الأمور التي تشترك في شيء وتفترق في شيء فالمقادير والحيوانات إذا اشتركت في مسمى القدر والحيوانية واختص بعضها عن بعض بشيء آخر لازم له لم يلزم التسلسل سواء قيل بتماثل الأجسام أو اختلافها فإنه إن قيل باختلافها كانت ذات كل واحد موصوفة بصفات لازمة لها لا توجد في الآخر كسائر الحقائق المختلفة وإن قيل بتماثلها كتماثل أفراد النوع فالموجب لوجود كل فرد من تلك الأفراد هو الموجب لصفاته اللازمة له لا تفتقر صفاته اللازمة له إلى موجب غير الموجب لذاته وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين فيه فساد ما يقوله المنطقيون: من أن اختلاف أفراد النوع إنما هو بسبب المادة القابلة ونحو ذلك فإنهم بنوه على أن للحقيقة الموجودة في الخارج سببا غير سبب وجودها وهذا غلط لا يستريب فيه من فهمه مع أنه لاحاجة بنا هنا إلى هذا بل نقول: مجرد اشتراك الاثنين في كون كل منهما جسما أو متحيزا أو موصوفا أو مقدرا أو غير ذلك لا يمنع اختصاص أحدهما بصفات لازمة له وليس إذا احتاج اختصاصه بالحيز إلى سبب غير الجسمية المشتركة يلزم أن يكون ذلك المخصص له مخصص آخر بل المشاهد خلاف ذلك فإن اختصاص الأجسام المشهودة بأحيازها ليس للجسمية المشتركة بل لأمر يخصها هو من لوازمها بمعنى أن المقتضي لذاتها هو المقتضى لذلك اللازم
وأيضا فقوله: ( إن كان الامتناع لمعروض الجسمية فهو محال ) ممنوع
وقوله: ( لأن المعقول من الجسمية الامتداد في الجهات فمحله لا بد أن يكون له ذهاب في الجهات )
يقال له: محل الامتداد في الجهات هو الممتد في الجهات كما أن محل التحيز هو المتحيز ومحل الطول والعرض والعمق هو الطويل العريض العميق ومحل المقدار هو المقدر وكذلك محل السواد والبياض هو الأسود والأبيض وهذا في كل ما يوصف بصفة فمحل الصفة هو الموصوف وهكذا جميع مسميات المصادر وغيرها من الأعراض محلها الأعيان القائمة بنفسها فإذا كانت الجسمية هي الامتداد في الجهات التي هي الطول والعرض والعمق مثلا كان محلها هو الشيء الممتد في الجهات الذي هو الطويل العريض العميق وحينئذ فمحلها له اختصاص بالحيز ويكون ذلك المعروض للجسمية الذي هو محل لها الممتد في الجهات هو المقتضي لاختصاصه بما اختص به من الصفات اللازمة وهو مستلزم لذلك كما هو مستلزم للامتداد في الجهات فجنس الجسم مستلزم لجنس الامتداد وجنس الأعراض والصفات فالجسم المعين هو مستلزم للامتداد المعين في الجهات المعينة ومستلزم للصفات المعينة التي يقال: إنها لازمة له حتى إنه متى قدر عدم تلك اللوازم فقد تبطل حقيقته فالموجب لها هو الموجب لحقيقته وهذا مطرد في كل ما يقدر من المواصفات المستلزمة لصفاتها كالحيوانية والناطقية للإنسان وكذلك الإغتذاء والنمو للحيوان والنبات مثلا فإن كون النبات ناميا متغذيا هو صفة لازمة له لعموم كونه جسما ولا لسبب غير حقيقته التي يختص بها بل حقيقته مستلزمة لنموه وأغتذائه وهذه الصفات أقرب إلى أن تكون داخلة في حقيقته من كونه ممتدا في الجهات وإن كان ذلك أيضا لازما له فإنا نعلم أن النار والثلج والتراب والخبز والإنسان والشمس والفلك وغير ذلك كلها مشتركة في أنها متحيزة ممتدة في الجهات كما أنها مشتركة في أنها موصوفة بصفات قائمة بها وفي أنها حاملة لتلك الصفات وما به افترقت وامتاز بعضها عن بعض أعظم مما فيه اشتركت فالصفات الفارقة بينها الموجبة لاختلافها ومباينة بعضها لبعض أعظم مما يوجب تشابهها ومناسبة بعضها لبعض فمن يقول بتماثل الجواهر والأجسام يقول: إن الحقيقة هي ما اشتركت فيه من التحيزية والمقدارية وتوابعها وسائر الصفات عارضة لها تفتقر إلى سبب غير الذات
ومن يقول باختلافها يقول: بل المقدارية للجسم والتحيزية للمتحيز كالموصوفية للموصوف واللونية للملون والعرضية للعرض والقيام بالنفس للقائمات بأنفسها ونحو ذلك ومعلوم أن الموجودين إذا اشتركا في أن هذا قائم بنفسه وهذا قائم بنفسه: لم يكن أحدهما مثلا للآخر وإذا اشتركا في أن هذا لون وهذا لون وهذا طعم وهذا طعم وهذا عرض وهذا عرض: لم يكن أحدهما مثلا للآخر وإذا اشتركا في أن لهذا مقدارا ولهذا مقدارا ولهذا حيزا ومكانا ولهذا حيزا ومكانا: كان أولى أن لا يوجب هذا تماثلهما لأن الصفة للموصوف أدخل في حقيقته من القدر للمقدر والمكان للمتمكن والحيز للمتحيز فإذا كان اشتراكهما فيما هو أدخل في الحقيقة لا يوجب التماثل فاشتراكهما فيما هو دونه في ذلك أولى بعدم التماثل والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا: التنبيه على مجامع ما أثبتوا به الصانع
الرابع
قال الرازي: ( المسلك الرابع الاستدلال بحدوث الصفات والأعراض على وجود الصانع تعالى مثل صيرورة النطفة المتشابهة الأجزاء إنسانا فإذا كانت تلك التركيبات أعراضا حادثة والعبد غير قادر عليه فلا بد من فاعل آخر ثم من ادعى العلم بأن حاجة المحدث إلى الفاعل ضروري ادعى الضرورة هنا ومن استدل على ذلك بالإمكان أو القياس على حدوث الذوات فكذلك يقول أيضا في حدوث الصفات )
قال: ( والفرق بين الاستدلال بإمكان الصفات وبين الاستدلال لحدوثها أن الأول يقتضي أن لا يكون الفاعل جسما والثاني لا يقتضي ذلك )
تعليق ابن تيمية
قلت: هذه الطريقة جزء من الطريقة المذكورة في القرآن وهي التي جاءت بها الرسل وكان عليها سلف الأمة وأئمتها وجماهير العقلاء من الآدميين فإن الله سبحانه يذكر في آياته ما يحدثه في العالم من السحاب والمطر والنبات والحيوان وغير ذلك من الحوادث ويذكر في آياته خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار ونحو ذلك لكن القائلون بإثبات الجوهر الفرد من المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم يسمون هذا استدلالا بحدوث الصفات بناء على أن هذه الحوادث المشهود حدوثها لم تحدث ذواتها بل الجواهر والأجسام التي كانت موجودة قبل ذلك لم تزل من حين حدوثها بتقدير حوادثها ولا تزال موجودة وإنما تغيرت صفاتها بتقدير حدوثها كان تتغير صفات الجسم إذا تحرك بعد السكون وكما تتغير ألوانه وكما تتغير أشكاله وهذا مما ينكره عليهم جماهير العقلاء من المسلمين وغيرهم
وحقيقة قول هؤلاء الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم: أن الرب لم يزل معطلا لا يفعل شيئا ولا يتكلم بمشيئته وقدرته ثم إنه أبدع جواهر من غير فعل يقوم به وبعد ذلك ما بقي يخلق شيئا بل إنما تحدث صفات تقوم بها ويدعون أن هذا قول أهل الملل: الأنبياء وأتباعهم وبينهم وبين الفلاسفة في مثل هذا نزاع أخطأ فيه كل من الفرقين فإن الفلاسفة يقولون بإثبات المادة والصورة ويجعلون المادة والصورة جوهرين وهؤلاء يقولون: ليست الصورة إلا عرضا قائما بجسم
والتحقيق: أن المادة والصورة لفظ يقع على معان كالمادة والصورة الصناعية والطبيعية والكلية والأولية
فالأول: مثل الفضة إذا جعلت درهما وخاتما وسبيكة والخشب إذا جعل كرسيا واللبن والحجر إذا جعل بيتا والغزل إذا نسج ثوبا ونحو ذلك فلا ريب أن المادة هنا التي يسمونها الهيولى: هي أجسام قائمة بنفسها وأن الصورة أعراض قائمة بها فتحول الفضة من صورة إلى صورة هو تحولها من شكل إلى شكل مع أن حقيقتها لم تتغير أصلا
وبهذا يظهر لك خطأ قول القائل: إن من أثبت افتقار المحدث إلى الفاعل بالقياس على حدوث الذوات قال هنا كذلك وهذه الطريقة طريقة أبي علي وأبي هاشم ومن وافقهما
فيقال: هؤلاء إنما قاسوا على افتقار الكتابة إلى كاتب والبناء إلى بان ونحو ذلك ومعلوم أن البناء والكاتب لم يبدع جسما وإنما أحدث في الأجسام تأليفا خاصا وهو عرض من الأعراض فكيف يجعل مثل هذا محدثا للذوات ويجعل الذي خلق الإنسان من نطفة والشجرة من نواة إنما أحدث الصفات؟ لكن المعتزلة لا يقولون: إن الجسم يحدث جسما وإنما يحدث عرضا
والثاني: من معاني المادة والصورة: هي الطبيعية وهي صورة الحيوانات والنباتات والمعادن ونحو ذلك فهذه إن أريد بالصورة فيها نفس الشكل الذي لها فهو عرض قائم بجسم وليس هذا مراد الفلاسفة وإن أريد بالصورة نفس هذا الجسم المتصور فلا ريب أنه جوهر محسوس قائم بنفسه
ومن قال: ( إن هذا عرض قائم بجوهر ) من أهل الكلام فقد غلط وحينئذ فيقول المتفلسف: إن هذه الصورة قائمة بالمادة والهيولى إن أراد بذلك ما خلق منه الإنسان كالمني - وهو لم يرد ذلك - فلا ريب أن ذاك جسم آخر فسد واستحال وليس هو الآن موجودا بل ذاك صورة وهذا صورة والله تعالى خلق إحداهما من الأخرى وإن أراد أن هنا جوهرا بنفسه غير هذا الجسم المشهود الذي هو صورة وأن هذا الجسم المشهود - الذي هو صورة - قائم بذلك الجوهر العقلي فهذا من خيالاتهم الفاسدة
ومن هنا تعرف قولهم في الهيولى الكلية حيث ادعوا أن بين أجسام العالم جوهرا قائما بنفسه تشترك في الأجسام ومن تصور الأمور وعرف ما يقول علم أنه ليس بين هذا الجسم المعين وهذا الجسم المعين قدر مشترك موجود في الخارج أصلا بل كل منهما متميز عن الآخر بنفسه المتناولة لذاته وصفاته ولكن يشتركان في المقدارية وغيرها من الأحكام اللازمة للأجسام وعلم أن اتصال الجسم بعد انفصاله هو نوع من التفرق والتفرق والاجتماع هما من الأعراض التي يوصف بها الجسم فالإتصال والإنفصال عرضان والقابل لهما نفس الجسم الذي يكون متصلا تارة ومنفصلا تارة أخرى كما يكون مجتمعا تارة ومفترقا أخرى ومتحركا تارة وساكنا أخرى وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
الخامس
قال الرازي: ( والطريقة الخامسة - وهي عند التحقيق عائدة إلى الطرق الأربع - وهي الاستدلال بما في العالم من الإحكام والإتقان على علم الفاعل والذي يدل على علم الفاعل هو بالدلالة على ذاته أولى )
تعليق ابن تيمية
قلت: والمقصود هنا التنبيه على أن ما جاء به الرسول ﷺ هو الحق الموافق لصريح المعقول وأن ما بينه من الآيات والدلائل والبراهين العقلية في إثبات الصانع سبحانه ومعرفة صفاته وأفعاله هو فوق نهاية العقول وأن خيار ما عند حذاق الأولين والآخرين من الفلاسفة والمتكلمين هو بعض ما فيه لكنهم يلبسون الحق بالباطل فلا يأتون به على وجهه كما أن طريقة الاستدلال بحدوث المحدثات على إثبات الصانع الخالق هي طريقة فطرية ضرورية وهي خيار ما عندهم بل ليس عندهم طريقة صحيحة غيرها لكنهم أدخلوا فيها من الاختلال والفساد ما يعرفه أهل التحقيق والانتقاد الذي آتاهم الله الهدى والسداد
وقد بسط الكلام على هذه المطالب في غير الموضع
فصل
وأما ما تكلموا به في وجود واجب الوجود وتحيرهم فيه هل وجوده حقيقة أو زائد على حقيقته؟ وفي صفاته وأفعاله؟ فهذا بحر واسع قد بسطناه في غير هذا الموضع
وقد اعترف الرازي بحيرته في مسائل الذات والصفات والأفعال وهو تارة يقول بقول هؤلاء وتارة يقول بقول هؤلاء والآمدي متوقف في مسائل الوجود والذات ونحو ذلك مع أنه لم يذكر دليلا على إثبات واجب الوجود البتة فإنه ظن أن الطرق المذكورة ترجع إلى الاستدلال بالإمكان على المرجع الموجب فلم يسلك في إثبات واجب الوجود إلا هذه الطريقة التي هي طريقة ابن سينا لكن ابن سينا وأتباعه قرروها أحسن من تقرير الآمدي فإن أولئك أثبتوا أثبتوا واجب الوجود بالبرهان العقلي الذي لا ريب فيه لكن احتجوا على مغايرته للموجودات المحسوسة بطريقتهم المبنية على نفي الصفات وهي باطلة
كلام الآمدي في الأبكار في أثبات واجب الوجود
وأما الآمدي فلم يقرر إثبات واجب الوجود بحال بل قال في كتاب أبكار الأفكار في أعظم مسائل الكتاب وهي مسألة إثبات واجب الوجود: مذهب أهل الحق من المتشرعين وطوائف الإلهيين القول بوجوب وجود وجوده لذاته لا لغيره وكل ما سواه فمتوقف في وجوده عليه خلافا لطائفة شاذة من الباطنية ومنشأ الاحتجاج على ذلك ما نشاهده من الموجودات العينية ونتحققه من الأمور الحسية فإنه إما أن يكون واجبا لذاته أو لا يكون واجبا لذاته فإن كان الأول فهو المطلوب وإن كان الثاني فك موجود لا يكون واجبا لذاته فهو ممكن لذاته لأنه لو كان ممتنعا لذاته لما كان موجودا وإذا كان ممكنا فالوجود والعدم عليه جائزان عند ذلك فإما أن يكون في وجوده مفتقرا إلى مرجح أو غير مفتقر إليه فإن لم يكن مفتقرا إلى المرجح فقد ترجح أحد الجائزين من غير مرجح وهو ممتنع وإن افتقر إلى المرجح فذلك المرجح إما واجب لذاته أو لغيره فإن كان الأول فهو مطلوب وإن كان الثاني فذلك الغير إما أن يكون معلولا لمعلوله أو لغيره فإن كان الأول فيلزم أن يكون كل واحد منهما مقوما للآخر ويلزم من ذلك أن يكون كل واحد منهما مقوما لمقوم نفسه فيكون كل فليحج منهما مقوما لنفسه لأن مقوم المقوم مقوم وذلك يوجب جعل كل واحد من الممكنين متقوما بنفسه والمقوم بنفسه لا يكون ممكنا وهو خلاف الفرض ولأن التقويم إضافة بين المقوم والمقوم فيستدعى المغايرة بينهما ولا مغايرة بين الشيء ونفسه وإن كان الثاني: وهو أن يكون ذلك الغير معلولا للغير فالكلام في ذلك الغير كالكلام في الأول وعند ذلك فإما أن يقف الأمر على موجود هو مبدأ الموجودات غير مفتقر في وجوده إلى غيره أو يتسلسل الأمر إلى غير النهاية فإن كان الأول فهو المطلوب وإن كان الثاني فهو ممتنع
ثم ذكر الأدلة المتقدمة على إبطال التسلسل وبين فسادها كلها كما تقدم حكاية قوله واختار الحجة المذكورة عنه التي حكيناها فقال وإن كانت العلل والمعلولات المفروضة موجودة معا فلا يخفى أن النظر إلى الجملة غير النظر إلى كل واحد واحد من آحادها فإن حقيقة الجملة غير حقيقة كل واحد من الآحاد وعند ذلك فالجملة موجودة وهي إما أن تكون واجبة لذاتها أو ممكنة لا جائز أن تكون واجبة وإلا لما كانت آحادها ممكنة وقد قيل: إنها ممكنة كما سبق وإن كانت واجبة فهو مع الاستحالة عين المطلوب وإن كانت ممكنة فلا بد لها من مرجح والمرجح إما أن يكون داخلا فيها أو خارجا عنها لا جائز أن يقال بالأول فإن المرجح للجملة للجملة مرجح لآحادها يلزم أن يكون مرجحا لنفسه ضرورة كونه من الآحاد ويخرج بذلك عن أن يكون ممكنا وهو خلاف الفرض وأن يكون مرجحا لعلته لكونه من الآحاد وفيه جعل العلة معلولا والمعلول علة وهو دور ممتنع وأن كان المرجح خارجا عنها فهو إما ممكن أو واجب فإن كان ممكنا فهو من الجملة وهو خلاف الفرض فلم يبق إلا أن يكون واجبا لذاته وهو المطلوب
قلت: فهذه الطريقة التي ذكرها لم يذكر غيرها في إثبات الصانع ثم أورد على نفسه أسئلة كثيرة منها قول المعترض: لا نسلم وجود ما يسمى جملة في غير المتناهي ليصح ما ذكرتموه ولا يلزم من صحة ذلك في المتناهي مع إشعاره بالحصر صحته في غير المتناهي سلمنا أن مفهوم الجملة حاصل فيما لا يتناهى وأنه ممكن ولكن لا نسلم أنه زائد على الآحاد المتعاقبة إلى غير النهاية وعند ذلك فلا يلزم أن يكون معللا بغير علة الآحاد سلمنا أنه زائد على الآحاد ولكن ما لمانع أن يكون مترجحا بآحاد الداخلة فيه لا بمعنى أنه مترجح بواحد منها ليلزم ما ذكرتموه بل طريق ترجحه بالآحاد الداخلة فيه ترجح كل واحد من الآحاد بالآخر إلى غير النهاية وعلى هذا فلا يلزم افتقاره إلى مرجح خارج عن الجملة ولا أن يكون المرجح للجملة مرجح لنفسه ولا لعلته
ثم قال في الجواب: قولهم: لا نسلم أن مفهوم الجملة زائد على الآحاد المتعاقبة إلى غير النهاية قلنا: إن أردتم أن مفهوم الجملة هو نفس المفهوم من كل واحد من الآحاد فهو ظاهر الإحالة وإن أردتم به الهيئة الاجتماعية من آحاد الأعداد فلا خفاء بكونه زائدا على كل واحد من الآحاد وهو المطلوب قولهم: ما لمانع من أن يكون الجملة مترجحة بآحادها الداخلة فيها كما قرروه؟ قلنا: إما ان يقال: تترجح الجملة بمجموع الآحاد الداخلة فيها أو بواحد منها فإن كان بواحد منها فالحال الذي ألزمناه حاصل وإن كان بمجموع الآحاد فهو نفس الجملة المرفوضة وفيه ترجح الشيء بنفسه وهو محال
تعليق ابن تيمية
فهذا ما ذكره في كتابه المشهور بأبكار الأفكار المصنف في الكلام وليس في هذا تعرض لإبطال علل ومعلولات ممكنة مجتمعة لا نهاية لها ولكن فيه إثبات واجب الوجود خارجا عنها وقد ذهب طائفة من أهل الكلام كأصحاب معمر إلى إثبات معان لانهاية لها مجتمعة وهي الخلق وهي شرط في الحدوث
ثم إنه في كتابه المسمى بدقائق الحقائق في الفلسفة ذكر هذه الحجة وزاد فيها إبطال إثبات علل ومعلولات لا نهاية لها ولكنه اعتراض عليها باعتراض وذكر أنه لا جواب له عنه فبقيت حجته على إثبات واجب الوجود موقوفة على هذا الجواب
فقال بعد أن ذكر ما ذكره هنا الجملة إما أن تكون باعتبار ذاتها واجبة أو ممكنة إذا كانت الآحاد ممكنة ومعناه افتقار كل واحد إلى علته وكانت الجملة هي مجموع الآحاد فلا مانع من إطلاق الوجوب وعدم الإمكان عليها بمعنى أنها غير مفتقرة إلى أمر خارج عن ذاتها وإن كانت أبعاضها مما يفتقر بعضها إلى بعض فتوهم ساقط فإنه إذا قيل إن الجملة غير ممكنة فقد بينا في المنطقيات أن كل ما ليس بممكن بالمعنى الخاص فإما واجب بذاته وإما ممتنع لا جائز أن يقال بالامتناع وإلا لما كانت موجودة بقي أن تكون واجبة بذاتها وإذا كانت الجملة هي مجموع آحادها وكل واحد من الآحاد ممكن فالجملة أيضا ممكنة بذاتها والواجب باعتبار ذاته يستحيل أن يكون ممكنا باعتبار ذاته وإن كانت ممكنة فلا بد لها من مرجح لضرورة كونها موجودة والمرجح فإما أن يكون ممكنا أو واجبا لا جائز أن يكون ممكنا إذ هو من الجملة ثم يلزم أن يكون مرجحا لنفسه لكونه مرجحا للجملة والمرجح للجملة مرجح لآحادها وهو من آحادها وذلك محال ثم يلزم أن يكون علة علته وهو دور ممتنع وإن كان واجبا لذاته غير مفتقر إلى علة في وجوده فإما أن يكون علة للجملة أو لبعضها فإن كان علة للجملة لزم أن يكون علة لكل واحد من آحادها إذ الجملة هي مجموع الآحاد وهو محال من جهة إفضائه إلى كون كل واحد من آحاد الجملة المفروضة معللا بعلتين وهي العلة الواجبة الوجود وما قيل إنه علة له من آحاد الجملة وإن كان علة لبعض منها لا يكون معلولا لغيره فهو خلاف الفرض
وهذه المحالات إنما لزمت من القول بعدم النهاية فهو محال كيف وكل علل ومعلولات قيل باستنادها إلى علة لا علة لها فالقول بكونها غير متناهية محال وجمع بين متناقضين وهو القول بأن ما من علة إلا ولها علة والقول بانتهاء العلل والمعلولات إلى علة لا علة لها
فإذا قد اتضح بما مهدنا امتناع كون العلل والمعلولات غير متناهية وإن القول بان لا نهاية لها محال
ثم قال: ولقائل أن يقول: إثبات الجملة لما لا يتناهى وإن كان غير مسلم لكن ما المانع من كون الجملة ممكنة الوجود ويكون ترجحها بترجح آحادها وترجح آحادها كل واحد بالآخر إلى غير النهاية على ما قيل
قال: وهذا إشكال مشكل وربما يكون عند غيري حله
قلت: فهذا استدلاله على واجب الوجود لم يذكر في كتبه غيره وأما حدوث العالم فأبطل طرق الناس وبناه على أن الجسم لا يخلو من الأعراض الحادثة إذ العرض لا يبقى زمانين واستدل على امتناع حوادث لا أول لها بعد ان أبطل وجوه غيره بالوجه الذي تقدم وتقدم ما فيه من الضعف الذي بينه الأرموي وغيره ثم إذا ثبت حدوث العالم فإنه لم يستدل بالحدوث على المحدث إلا بطريقة الذين بنوا ذلك على الإمكان وهو ان ذلك يتضمن التخصيص المفتقر إلى مخصص لأنه ترجيح لأحد طرفي الممكن فهو لا يستدل بالحدوث على المحدث إلا بناء على أن ذلك ممكن يفتقر إلى واجب ولا يجعل الممكن دالا على الواجب إلا بناء على نفي التسلسل والتسلسل قد أورد عليه السؤال الذي قال إنه لا جواب له عنه
وكل هذه المقدمات التي ذكرها لا يفتقر إثبات الصانع إليها وبتقدير افتقاره إليها فأبطال التسلسل ممكن فتتم تلك المقدمات وذلك أن إثبات الصانع لا يفتقر إلى حدوث الأجسام كما تقدم بل نفس ما يشهد حدوثه من الحوادث يغنى عن ذلك والعلم بأن الحادث يفتقر إلى المحدث هو من أبين العلوم الضرورية وهو أبين من افتقار الممكن إلى المرجح فلا يحتاج أن يقرر ذلك بان الحدوث ممكن أو أنه كان يمكن حدوثه على غير ذلك الوجه فتخصيصه بوجه دون وجه ممكن جائز الطرفين فيحتاج إلى مرجح مخصص بأحدهما
وهذه الطريقة يسلكها من متأخري أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم على ذلك من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم
وقد نبهنا على أنها وإن كانت صحيحة فإنها تطويل بلا فائدة فيه واستدلال على الأظهر بالأخفى وعلى الأقوى بالأضعف كما لا يحد الشيء بما هو أخفى منه وإن كان الحد مطابقا للمحدود مطردا منعكسا يحصل به التمييز مع أن الحد والاستدلال بالأخفى قد يكون فيه منفعة من وجوه أخرى مثل من حصلت له شبهة أو معاندة في الأمر الجلي فيبين له بغيره لكون ذلك أظهر عنده فإن الظهور والخفاء أمر نسبي إضافي مثل من يكون من شانه الاستخفاف بالأمور الواضحة البينة فإذا كان الكلام طويلا مستغلقاها به وعظمة كما يوجد في جنس هؤلاء إلى غير ذلك من الفوائد لكن ليس هذا مما يتوقف العلم والبيان عليه مطلقا وهذا هو المقصود هنا وهؤلاء كثيرا ما يغلطون فيظنون أن المطلوب لا يمكن معرفته إلا بما ذكروه من الحد والدليل وبسبب هذا الغلط يضل من يضل حتى يتوهم أن ذلك الطريق المعين إذا بطل انسد باب المعرفة
ولهذا لما بني الآمدي وغيره على هذه الطريقة التي تعود إلى طريقة الإمكان وبنوا طريقة الإمكان على نفي التسلسل حصل ما حصل فكان مثل هؤلاء مثل من عمد إلى أمراء المسلمين وجندهم الشجعان الذين يدفعون العدو ويقاتلونهم فقطعهم ومنعهم الرزق الذي به يجاهدون وتركوا واحدا ظنا أنه يكفي في قتال العدو وهو أضعف الجماعة وأعجزهم ثم أنهم مع هذا قطعوا رزقه الذي به يستعين فلم يبق بإزاء العدو أحد
ومثل نهر كبير كدجلة والفرات كان عليه عدة جسور فقطعها كلها ولم يترك إلا واحد طويلا بعيدا ضعيفا ثم إنه خرقه في أثنائه حتى انقطع الطريق ولم يبق لأحد طريق إلى العبور وهو مع هذا يستعمل الناس في الآلات التي يصنع بها الجسور ويشعر الناس أنه لا يمكن أحدا أن يعبر إلا بما يصنعه
أو مثل رجل كان لمدينته أسوار متداخلة سور خلف سور كل سور منه يحفظ المدينة فعمد المتولي فهدم تلك الأسوار كلها وترك سورا هو أضعفها وأطولها وأصعبها حفظا ثم إنه مع ذلك خرق منه ناحية يدخل منها العدو فلم يبق للمدينة سور يحفظها
فيقال إن إثبات الصانع ممكن بطرق كثيرة منها الاستدلال بالحدوث على المحدث وهذا يكفى فيه حدوث الإنسان نفسه أو حدوث ما يشاهد من المحدثات كالنبات والحيوان وغير ذلك ثم إنه يعلم بالضرورة أن المحدث لا بد من محدث وإذا قدر أنه أثبت الصانع بحدوث العالم لزم أن المحدث لا بد من محدث ثم إذا قدر أنه استدل بطريقة الإمكان إما ابتداء وإما مع طريقة الحدوث فالعلم بأن الممكن يفتقر إلى الواجب علم ضروري لا يفتقر إلى نفي التسلسل
إبطال التسلسل
وأيضا فإبطال التسلسل له طرق كثيرة وذلك أنه يمكن أن يقال فيه وجوه :
الوجه الأول
أحدها: أن الموجودات بأسرها إما أن تكون واجبة الوجود أو ممكنة الوجود أو ممتنعة الوجود والأقسام الثلاثة باطلة فلزم أن يكون بعضها واجبا وبعضها ممكنا
أما الثالث فهو باطل لأن ما وجد لا يكون ممتنع الوجود
والثاني: باطل أيضا لأن ممكن الوجود هو الذي وجوده وعدمه وما كان كذلك لم يوجد إلا بغيره فلو كان مجموع الموجودات ممكنة لافتقرت الموجودات كلها إلى غيرها وما ليس بموجود فهو معدوم والمعدوم لا يفعل الموجود بالضرورة
والأول باطل أيضا لأنا نشاهد ما يحدث بعد أن لم يكن كالحيوان والنبات والمعدن والسحاب والأمطار
والحادث عدم ووجد أخرى فلا يكون ممتنعا لأن الممتنع لا يوجد ولا واجبا بنفسه لأن الواجب بنفسه لا يعدم فثبت أنه ممكن وثبت أن في الموجودات ما هو ممكن بنفسه وأنه ليس كلها ممكنا فثبت أن فيها موجودا ليس بممكن والموجود الذي ليس بممكن هو الواجب بنفسه فإن الموجود إما أن يكون وجوده بنفسه وهو الواجب أو بغيره وهو الممكن ولا يجوز أن يكون ممتنع لأن الممتنع هو الذي لا يجوز أن يوجد فيمتنع أن يكون في الوجود ممتنع
فتبين أن في الموجودات واجبا وممكنا وليس فيها ممتنع وإن شئت قلت: إما أن يقبل من جهة نفسه العدم وهو الممكن أو لا يقبل العدم وهو الواجب بنفسه وإن شئت قلت إما أن يفتقر إلى غيره وهو الممكن أو لا يفتقر وهو الواجب
وإذا كانت الموجودات إما واجبة وإما ممكنة وليس كلها ممكنا ولا كلها واجبا تعين أن فيها واجبا وفيها ممكنا
الوجه الثاني
أن يقال كل ممكن بنفسه لا يوجد إلا بموجب يجب به وجوده لأنه إذا لم يحصل ما به يجب وجوده ممكنا قابلا للوجود والعدم فلا يوجد وما به يجب وجوده لا يكون ممكنا لأن الممكن لا يجب به شيء لافتقاره إلى غيره فالمفتقر إلى الممكن مفتقر إليه وإلى ما به وجب الممكن وإذا كان الممكن وحده لا يجب به شيء علم افتقار الممكن إلى واجب بنفسه
الوجه الثالث
أن يقال: طبيعة الإمكان سواء فرضت الممكنات متناهية أو غير متناهية لا يوجب الوجود بنفسها فإن ما كان كذلك لم يكن ممكنا فلا بد للمكن من حيث هو ممكن من موجود ليس بممكن والمراد بالممكن في هذه المواضع الممكن الإمكان الخاص وهو الذي يقبل الوجود والعدم فيكون الواجب والممتنع قسيميه فأما إذا أريد به الممكن الإمكان العام وهو قسيم الممتنع فكل موجود فهو ممكن بالإمكان العام
ثم الموجود إما موجود بنفسه وإما بغيره وليس كل موجود وجد بنفسه لأن منها المحدثات التي يعلم بضرورة العقل أن وجودها ليس بأنفسها
فثبت أن من الموجودات ما هو موجود بنفسه وما هو موجود بغيره
الوجه الرابع
أن يقال الموجودات ليست كلها موجودة بغيرها لأن الغير إن كان معدوما امتنع أن يكون الموجود موجودا بما ليس بموجود وإن كان الغير موجودا كان الموجود خارجا عن جملة الموجودات
وإذا لم تكن الموجودات كلها موجودة بغيرها: فإما أن تكون كلها أو كل منها موجودا بنفسه وإما أن لا يكون والأول ممتنع لأن المحدثات التي يشهد حدوثها يعلم بالضرورة أنها ليست موجودة بنفسها وإذا لم تكن كلها موجودة بغيرها ولا كلها موجودة بنفسها تعين أن منها ما هو موجود بنفسه ومنها ما هو موجود بغيره وهذا لك أن تعتبره في كل فرد فرد من الموجودات وفي المجموع فتقول: يمتنع في كل فرد من الموجودات أن يكون موجودا بغير موجود لأنه إذا كان كل واحد من الموجودات موجودا بغير موجود لزم أن يكون كل من الموجودات موجودا بمعدوم وهذا ممتنع وإذا امتنع فإما أن يكون كل موجود موجودا بنفسه وإما أن يكون موجودا بمعدوم وهذا ممتنع وإذا امتنع فإما أن يكون كل موجود موجودا بنفسه وإما أن يكون موجودا بوجود غيره وإما أن يكون منها ما هو موجود بنفسه ومنها ما هو موجود بوجود غيره
والأول ممتنع لوجود الحوادث التي لا توجد بأنفسها
والثاني ممتنع لأن كل واحد واحد من الموجودات إذا كان موجودا بوجود غيره والغير من الموجودات التي لا توجد إلا بموجود غيرها لم يكن فيها إلا ما هو مفتقر محتاج إلى الغير وما كان بنفسه مفتقرا محتاجا إلى الغير ولم يوجد إلا بوجود ذلك الغير وما كان في نفسه لا يوجد إلا بغيره فأولى أن لا يكون بنفسه مبدعا لغيره فيلزم أن لا يكون في الموجودات ما هو موجود بنفسه ولا ما هو فاعل لغيره فيلزم حينئذ أن لا يوجد شيء من الموجودات لأن الموجود إما موجود بنفسه وإما بوجود غيره وهذا إنما لزم لما قدر أن كل موجود موجود بغيره فتعين أن من الموجودات ما هو موجود بنفسه وهو المطلوب
وأما إذا اعتبرت ذلك في المجموع فمجموع الموجود لا يكون واجبا بنفسه لأن من أجزائه ما هو ممكن محدث كائن بعد أن لم يكن والمجموع يتوقف عليه والمتوقف على الممكن لا يكون واجبا بنفسه ولا يكون المجموع مفتقرا إلى غيره المباين له فإن ذلك لا يكون إلا معدوما والموجود لا يكون مفتقرا إلى فاعل معدوم ليس بموجود فضلا عن مجموع الموجود فتعين أن يكون المجموع مفتقرا إلى ما هو داخل في المجموع وذلك البعض لا يكون إلا واجبا بنفسه إذ لم يكن واجبا بنفسه لكان ممكنا مفتقرا إلى غيره فيكون مجموع كل واحد من الموجودات مفتقرا إلى غيره وذلك الغير مجموع الممكنات ليس مفتقرا إلى ما هو بعض الممكنات فإن مجموعهما أعظم من بعضها وذلك البعض يشرك لمجموع في الفقر والإحتياج إلى الغير ففيه ما فيها من الإحتياج والفقر إلى الغير مع أن المجموع أعظم منه فإذا كانت الأجزاء كلها فقيرة محتاجة والمجموع محتاجا فقيرا أمتنع أن يكون شيء من الأجزاء بالمجموع وحده فضلا عن أن يكون بجزء آخر فضلا عن أن يكون المجموع الذي كل أجزائه فقراء بواحد من تلك الأجزاء الفقراء وهذا كله بين ضروري لا يستريب فيه من تصوره ويمكن تصوير هذه المواد على وجوه أخرى
فصل
وكذلك يمكن تصوير هذه الأدلة في مادة الحدوث بأن يقال: الموجودات إما أن تكون كلها حادثة وهو ممتنع لأن الحوادث لا بد من فاعل وذلك معلوم بالضرورة ومحدث الموجودات كلها لا يكون معدوما وذلك أيضا معلوم بالضرورة وما خرج عن الموجودات لا يكون إلا معدوما فلو كانت الموجودات كلها محدثة للزم: إما حدوثها بلا محدث وإما حدوثها معدوم وكلاهما معلوم الفساد بالضرورة فثبت أنه لا بد في الوجود من موجود قديم وليس كل موجود قديما بالضرورة الحسية فثبت أن الموجودات تنقسم إلى قديم ومحدث
وهاتان المقدمتان وهو أن كل حادث فلا بد من محدث وأن المحدث للموجود لا يكون إلا موجودا مع انهما معلومتان بالضرورة فإن كثيرا من أهل الكلام أخذوا يقررون ذلك بأدلة نظرية ويحتجون على ذلك بأدلة وهي وإن كانت صحيحة لكن النتيجة أبين عند العقل من المقدمات فيصير كمن يحج الأجلى بالأخفى وهذا وإن كان قد يذمه كثير من الناس مطلقا فقد ينتفع به في مواضع مثل عناد المناظر ومنازعته في المقدمة الجلية دون ما هو أخفى منها ومثل حصول العلم بذلك من الطرق الدقيقة الخفية الطويلة لمن يرى أن حصول العلم له بمثل هذه الطرق أعظم عنده وأحب إليه وأنه إذا خوطب بالأدلة الواضحة المعروفة للعامة لم يكن مزية على العامة ولمن يقصد بمخاطبته بمثل ذلك أن مثل هذه الطرق معروف معلوم عندنا لم ندعه عجزا وجهلا وإنما أعرضنا عنه استغناء عنه بما هو خير منه واشتغالا بما هو أنفع من تطويل لا يحتاج إليه إلى أمثال ذلك من المقاصد
فأما كون الحادث لا بد له من محدث فهي ضرورية عند جماهير العلماء وكثير من متكلمة المعتزلة ومن اتبعهم جعلوه نظريا كما سيأتي ذكره بعد هذا
وأما كون المعدوم لا يكون فاعلا للموجودات فهو أظهر من ذلك ولذلك اعترف بكونه ضروريا من استدل على أن المحدث لا بد له من محدث موجود والممكن لا بد له من مؤثر موجود كالرازي وغيره
كلام الرازي في إثبات وجود الله
قال الرازي: أما كون المؤثر موجودا فإنه لا فرق بين نفي المؤثر وبين مؤثر منفي والحكم بالاكتفاء المؤثر المنفي حكم بعدم الإحتياج إلى المؤثر
قال: والعلم بذلك ضروري ولا يتصور في هذا المقام الاستدلال بالكلام المشهور من أن المعدوم لا تميز فيه فلا يمكن استناد الأثر إليه لأنه يتوجه عليه شكوك معروفة
قال: والجواب عنها وإن كان ممكنا إلا أن العلم بفساد استناد الأثر الموجود إلى المؤثر المعدوم أظهر كثيرا من العلم بذلك والدليل والأجوبة عن الأسولة التي تورد عليه وإيضاح الواضح لا يزيده إلا خفاء
قال: وقول القائل: هب أن المؤثر ليس بمعدوم فلم يجب أن يكون موجودا؟ قلنا: لا واسطة بين الوجود والعدم وقول القائل: الماهية تقتضي الإمكان لا بشرط الوجود ولا العدم فهو متوسط بين الوجود والعدم قلنا: نحن لا ندعي أن كل حقيقة فهي إما الوجود وإما العدم حتى يلزم من كون الماهية مغايرة لهما فساد ذلك الحصر بل ندعي أن العقل يحكم على كل حقيقة من الحقائق التي لا نهاية لها أنها لا تخلو عن وصفي الوجود والعدم وإذا كان كذلك فكون الماهية مغايرة للوجود والعدم لا يقدح في قولنا: إنه لا واسطة بين الوجود والعدم
تعليق ابن تيمية
قلت: هذا السؤال والجواب عنه لا يحتاج إليه مع علمنا الضروري بأن المؤثر في الموجود لا يكون إلا موجودا وهذا قد سبقه إليه غير واحد من النظار
كلام الجويني في الإرشاد
كأبي المعالي الجويني فإنه قال في الإرشاد: فإن قال قائل: قد دللتم فيما قدمتم على العلم بالصانع فيم تنكروه على من يقدر الصانع عدما قلنا: العدم عندنا نفي محض وليس المعدوم على صفة من صفات الإثبات ولا فرق بين نفي الصانع وبين تقدير الصانع منفيا من كل وجه بل نفي الصانع وإن كان باطلا بالدليل القاطع فالقول به غير متناقض في نفسه والمصير إلى إثبات صانع منفي متناقض وإنما يلزم القول بالصانع المعدوم المعتزلة حيث أثبتوا للمعدوم صفات الإثبات وقضوا بأن المعدوم على خصائص الأجناس
قال: والوجه أن لا نعد الوجود من الصفات فإن الوجود نفس الذات وليس بمثابة التحيز للجوهر فإن التحيز صفة زائدة على ذات الجوهر وجود الجوهر عندنا نفسه من غير تقدير مزيد
قال: والأئمة يتوسعون في عد الوجود من الصفات والعلم به علم بالذات
قال الكيا الهراسي الطبري: إذا قلنا الباري موجود فوجوده ذاته هذا بالاتفاق من أصحابنا القائلين بالأحوال والنافين لها إلا على رأي المعتزلة الذين قالوا: المعدوم شيء
كلام أبي القاسم الأنصاري
وقال أبو القاسم الأنصاري شارح الإرشاد والقاضي أبو بكر: وإن أثبت الأحوال فلم يجعل الوجود حالا فإن العلم به علم بالذات وعند أبي هاشم ومتبعيه الوجود من الأحوال وهو من أثر كون الفاعل قادرا
قال وما قاله إمام الحرمين: من أن الأئمة يتوسعون في عد الوجود من الصفات فإنما قالوا ذلك لما بيناه من ان صفة النفس عندهم تفيد ما تفيده النفس فلا فرق بين وجود الجوهر وتحيزه وهكذا قال الكيا: الوجود بمنزلة التحيز للجوهر فإن التحيز للجوهر نفس الجوهر خالف أبا المعالي
قال ومن الدليل على وجود الصانع أنه موصوف بالصفات القائمة به كالحياة والقدرة والعلم ونحوها وهذه الصفات مشروطة بوجود محلها وقد يكون الشيء موجودا ولا يكون مختصا بهذه الصفات ويستحيل الاختصاص بهذه الصفات من غير تحقق وجود
قال ومما يحقق ما قلناه قيام الدليل القاطع على أنه فاعل ومن شرط الفاعل أن يكون موجودا
تعليق ابن تيمية
قلت: هذا الثاني هو ما ذكره أبو المعالي فإن إثبات الصانع إثبات لوجوده وإلا فصانع منتف كنفي الصانع وأما الأول فهو وإن كان صحيحا لكن النتيجة أبين من المقدمات فإن العلم بأن الصانع لا يكون إلا موجودا أبين من كون ما تقوم به الصفة لا يكون إلا موجودا وكلاهما معلوم بالضرورة لكن الفاعل الذي يبدع غيره أحق بالوجود وكما أن الوجود من محل الصفة فإن محل الصفة قد يكون جمادا وقد يكون حيوانا وقد يكون قادرا وقد يكون عاجزا والصفة وإن كانت مفتقرة إلى محل وجودي فهو من باب الأفتقار إلى المحل القابل وأما المفعول المفتقر إلى الفاعل فهو من باب الافتقار إلى الفاعل
ومعلوم أن الحاجة إلى الفاعل فيما له فاعل أقوى من الحاجة إلى القابل فيما له قابل وأيضا فإن القابل شرط في المقبول لا يجب تقدمه عليه بل يجوز اقترانهما بخلاف الفاعل فإنه لا يجوز أن يقارن المفعول بل لا بد من تقدمه عليه ولهذا اتفق العقلاء على أنه لا يجوز أن يكون كل من الشيئين فاعلا للآخر لا بمعنى كونه علة فاعلة ولا بغير ذلك من المعاني وأما كون كل من الشيئين شرطا للآخر فإنه يجوز وهذا هو الدور المعي وذاك هو الدور القبلي وقد بسط هذا في غير الموضع وبين ما دخل على الفلاسفة من الغلط في مسائل الصفات من هذا الوجه حيث لم يميزوا بين الشرط والعلة الفاعلة بل قد يجعلون ذلك كله علة إذ العلة عندهم يدخل فيها الفاعل والغاية وهما العلتان المفصلتان اللتان بهما يكون وجود المعلول والقابل الذي قد يسمى مادة وهيولى مع الصورة وهما علتا حقيقة الشيء في نفسه سواء قيل إن حقيقته غير العين الموجودة في الخارج كما يدعون ذلك أو قيل هي هي كما هو المعروف عن متكلمي أهل السنة
والمقصود هنا أن الدليل لما دل على أنه لا بد من موجود واجب بنفسه أي لا يكون له فاعل يوجده: لا علة فاعلة ولاما يسمى فاعلا غير ذلك صاروا يطلقون عليه الواجب بنفسه ثم أخذوا ما يحتمله هذا اللفظ من المعاني فأرادوا إثباته كلها فصاروا ينفون الصفات وينفون أن يكون له حقيقة موصوفة بالوجود لئلا تكون الذات متعلقة بصفة فلا تكون واجبة بنفسها ومعلوم أن كون الذات مستلزمة لصفة كمال يمتنع تحققها بدونها لا يوجب افتقارها إلى فاعل أو علة فاعلة ولكن غاية ما فيه أن تكون الذات مشروطة بالصفة والصفة مشروطة بالذات وأن تكون الصفة إذا قيل بأنها واجبة لا تقوم إلا بموصوف فإذا قيل: هذا فيه افتقار الواجب إلى غيره لم يلزم أن يكون ذلك الغير فاعلا ولا علة فاعلة بل إذا قدر أنه يطلق عليه غير فإنما هو شرط من المشروط وكون الذات مشروطة بالصفة اللازمة لها والصفة مشروطة بالذات لا يمنع أن يكون الجميع واجبا بنفسه لا يفتقر إلى فاعل ولا إلى علة فاعلة وقد بسط هذا في غير هذا الموضع
والمقصود أنه إذا كان قد علم أن الصفة المشروطة بمحلها تقتضي أن يكون محلها موجودا فالمفعول المفتقر إلى فاعل موجب يقتضي أن يكون فاعله موجودا بطريق الأولى
وأيضا فيقال: الحوادث المشهودة لا بد لها من محدث إذ المحدث من حيث هو محدث وكل ما يقدر محدثا سواء قدر متناهيا أو غير متناه لا يوجد بنفسه بل لا بد له من فاعل ليس بمحدث والعلم بذلك ضروري إذ طبيعة الحدث تقتقي الإفتقار إلى فاعل فلا بد لكل ما يقدر محدثا من فاعل فيمتنع أن يكون فاعل كل المحدثات محدثا فوجب أن يكون قديما
وأيضا فالمحدث مفتقر إلى محدث كامل مستقل بالفعل إذ ما ليس مستقلا بالفعل مفتقر إلى غيره فلا يكون هو وحده الفاعل بل الفاعل هو وذلك الغير فلا يكون وحده فاعلا للمحدث ثم ذلك الغير إن كان محدثا فلا بد له من فاعل أيضا فلا بد للمحدثات من فاعل مستقل بالفعل مستغن عن جميع محدثاته والعقل يعلم ضرورة افتقار المحدث إلى المحدث الفاعل ويقطع به ويعلمه ضرورة أبلغ من علمه بافتقار الممكن إلى الواجب الموجب له فلا يحتاج أن يقال في ذلك أن المحدث يتخصص بزمان دون زمان أو بقدر دون قدر ولا بد للتخصيص مكن مخصص فإن العلم بافتقار المحدث إلى المحدث أبين في العقل وأبده له
ولهذا قال تعالى { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } الطور 35
قال جبير بن مطعم: لما سمعت رسول الله ﷺ يقرؤها أحسست بفؤادي قد انصدع
وقال { أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون } الواقعة 58 - 59 إذ كان كل من القسمين: وهو كونهم خلقوا من غير خالق وكونهم خلقوا أنفسهم معلوم الانتفاء بالضرورة فإن الإنسان يعلم بالضرورة أنه لم يحدث من غير محدث وأنه لم يحدث نفسه فلما كان العلم بأنه لا بد له من محدث وأن محدثه ليس هو إياه علما ضروريا ثبت بالضرورة أن له محدثا خالقا غيره وكل ما يقدر فيه انه مخلوق فهو كذلك
والخلق يتضمن الحدوث والتقدير ففيه معنى الإبداع والتقدير وإذا علمت أن الممكن لا بد له من مرجح يجب به وإلا لم يكن موجودا بل يبقى معدوما على أصح القولين أو مترددا بين الوجود والعدم على الآخر فالمحدث لا بد له من فاعل يستغن به المفعول فيكون به وإلا بقي مفتقرا إلى غيره وإذا قدر محدثه أيضا فهو أيضا محدث لم يستغن به لأن ذلك المحدث مفتقر إلى غيره فالمفتقر إليه مفتقر إلى ذلك الغير الذي هو الأول مفتقر إليه بطريق الأولى فلا توجد الحوادث إلا بفاعل غني عن غيره وكل محدث مفتقر إلى غيره فلا توجد الحوادث إلا بفاعل قديم غير محدث فهذه طرق متعددة يثبت بها الموجود الواجب بنفسه القديم
فصل
ويمكن تصوير هذه المادة في الغنى والفقر وفي الخلق وعدم الخلق والقدرة وعدم القدرة والكمال والنقصان والحياة والموت والعلم والجهل وغير ذلك بأن يقال: كل موجود فإما أن يكون غنيا بنفسه عما سواه وإما أن يكون مفتقرا إلى ما سواه والمفتقر إلى ما سواه لا يوجد إلا بغنى عما سواه فيلزم وجوده الغني عما سواه على التقديرين والحوادث مفتقرة إلى غيرها فثبت أن من الموجودات ما هو غني بنفسه ومنها ما هو مفتقر إلى ما سواه ومثل أن يقال: كل موجود فإما أن يكون مخلوقا وإما ألا يكون مخلوقا والمخلوق لا يكون مخلوقا إلا بخالق ليس بمخلوق
وقد علم أن الحوادث لا تكون إلا مخلوقة فثبت أن في الموجودات ما هو حادث مخلوق ومنها ما هو خالق لتلك الحوادث ليس بمخلوق وهو المطلوب
ومثل أن يقال: الموجودإما أن يكون قادرا بنفسه وإما ألا يكون قادرا بنفسه وما ليس بقادر بنفسه لا يكون قادرا إلا بإقدار القادر بنفسه والحوادث المشهودة كانت معدومة والمعدوم لا يكون موجودا بنفسه فضلا عن أن يكون قادرا بنفسه فثبت أن في الموجودات ما هو محدث ومنها ما هو موجود قادر بنفسه والقادر بنفسه لا يكون إلا قديما أزليا واجبا بنفسه فثبت انقسام الموجودات إلى هذا وهذا وهو المطلوب
ومثل أن يقال: الموجودإما أن يكون كاملا ليس فيه نقص يحتاج إلى غيره وإما أن يكون ناقصا يحتاج في كماله إلى غيره ومعلوم أن الحوادث المشهودة ليس لها من نفسها وجود فضلا عن أن تكون كاملة بنفسها وأنها بعد وجودها مفتقرة إلى من يكمل نقصها فثبت أن الموجودات فيها كامل ليس فيه نقص يحتاج فيه إلى غيره وما ليس فيه نقص لا يكون إلا كاملا قديما أزليا واجبا بنفسه فثبت انقسام الموجودات إلى هذا وهذا وهو المطلوب
ومثل أن يقال: الموجودإما عالم بنفسه وإما محتاج في العلم إلى من يعلمه وإما أن لا يقبل العلم ومعلوم أن الإنسان مفتقر في حصول علمه إلى من يعلمه ليس علمه من لوازم ذاته فإنه خرج من بطن أمه لا يعلم شيئا ثم حدث له العلم بعد ذلك فثبت أن في الموجود ما ليس عالما بنفسه بل هو مفتقر في حصول العلم له إلى من يعلمه ومعلوم أن كل ما ليس بعالم بنفسه فلا بد له من عالم يعلمه وذاك العلم إن كان عالما بنفسه وإلا افتقر إلى عالم بنفسه فلا بد له من عالم يعلمه وذاك العالم إن كان عالما بنفسه وإلا افتقر إلى عالم بنفسه فلا بد أن ينتهي الأمر إلى عالم بنفسه قطعا للتسلسل الممتنع فثبت أن في الوجود ما هو عالم بنفسه وما ليس عالما بنفسه بل بمن يعلمه كما قال: { اقرأ باسم ربك الذي خلق } إلى قوله: { اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم } العلق 1 - 5 وقال: { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } البقرة 255
وما كان عالما بنفسه فإن يكون موجودا بنفسه أولى وأحرى فإن العلم صفة له وإذا كانت تلك الصفة قديمة واجبة لا تفتقر إلى فاعل يفعلها في العالم بنفسه فلا يكون الموصوف بها قديما واجبا بطريق الأولى والأحرى
ومثل أن يقال الموجود: إما حي بنفسه وإما حي بغيره وإما ليس بحي ومعلوم أن الحي بغيره موجود فإن الإنسان يكون في بطن أمه قبل نفخ الروح فيه ليس بحي ثم يصير حيا بعد ذلك فثبت وجود الحي بغيره الذي جعله حيا وذلك الذي جعله حيا إما أن يكون حيا بنفسه وإما بغيره والحي بغيره يحتاج إلى حي فلا بد أن ينتهي الأمر إلى حي بنفسه قطعا للتسلسل الممتنع فثبت أن في الوجود ما هو حي بنفسه والحي بنفسه لا يكون إلا واجبا قديما بنفسه فإن ذاته إذا كانت مستلزمة لحياته بحيث لا تكون حياته حاصلة له من غيره فغن تكون ذاته واجبة بنفسها لا تكون حاصلة بغيرها أولى وأحرى فغن الحياة قائمة في الموصوف الحي بها فإذا كانت الحياة قديمة أزلية واجبة بنفسها يمتنع عدمها فالحي الموصوف بها أن يكون حيا قديما أزليا واجبا بنفسه أولى وأحرى
والتسلسل الذي يسمى التسلسل في العلل والمعلولات والمؤثر والأثر والفاعل والمفعول والخالق ولمخلوق هو ممتنع باتفاق العقلاء وبصريح المعقول بل هو ممتنع في بديهة العقل بعد التصور وهو الذي أمر النبي ﷺ بالاستعاذة منه في قوله ﷺ [ يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ فيقول: الله فيقول: من خلق الله فإذا وجد ذلك أحدكم فليستعذ بالله ولينته ] فأمره بالاستعاذة منه ليقطع عنه الله الوساوس الفاسدة التي يلقيها الشيطان بغير اختياره ويؤذيه بها حتى قد يتمنى الموت أو حتى يختار أن يحترق ولا يجدها وهي الوسوسة التي سأله عنه الصحابة فقالوا: يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حمة أو يخر من السماء إلى الأرض خيرا له من أن يتكلم به فقال: ذلك صريح الإيمان وفي رواية: ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به فقال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة وأراد بذلك أن كراهته هذه الوسوسة ونفيها هو محض الإيمان وصريحة
فصل
واعلم أن علم الإنسان بأن كل محدث لا بد له من محدث أو كل ممكن لا بد له من واجب أو كل فقير فلا بد له من غني أو كل مخلوق فلا بد له من خالق أو كل معلوم فلا بد له من يعلم أو كل أثر فلا بد له من مؤثر ونحو ذلك من القضايا الكلية والأخبار العامة هو علم كلي بقضية كلية وهو حق في نفسه لكن علمه بأن هذا المحدث المعين لا بد له من محدث وهذا الممكن المعين لا بد له من واجب هو أيضا معلوم له مع كون القضية معينة مخصوصة جزئية وليس علمه بهذه القضايا المعينة المخصوصة موقوفا على العلم بتلك القضية العامة الكلية بل هذه القضايا المعينة المخصوصة موقوفا على العلم بتلك القضية العامة الكلية بل هذه القضايا المعينة قد تسبق إلى فطرته قبل أن يستشعر تلك القضايا الكلية وهذا كعلمه بأن الكتابة لا بد من كاتب والبناء لا بد له من بأن فإنه إذا رأى كتابه معينة علم انه لا بد لها من كاتب وإذا رأى بنيانا علم أنه لا بد له من بأن وإن لم يستشعر في ذلك الحال كل كتابه كانت أو تكون أو يمكن أن تكون ولهذا تجد الصبي ونحوه يعلم هذه القضايا المعينة الجزئية وإن كان عقله لا يستحضر القضية الكلية العامة وهذا كما أن الإنسان يعلم أن هذا المعين لا يكون أسود أبيض ولا يكون في مكانين وإن لم يستحضر أن كل سواد وكل بياض فأنهما لا يجتمعان وأن كل جسمين فإنهما لا يكونان في مكان واحد وهكذا إذا رأى درهما ونصف درهم علم أن هذا الكل أعظم من هذا الجزء وإن لم يستحضر أن كل كل فإنه يجب أن يكون أعظم من جزئه
وكذلك إذا قيل: هذا العدد الأول مساو لهذا العدد الثاني وهذا العدد الثاني مساو لهذا العدد الثالث فإنه يعلم أن الأول مساو لمساوي الثاني وهو مساو للثالث وإن لم يستحضر أن كل مساو لمساو فهو مساو
وكذلك إذا علم أن الشخص موجود علم أنه ليس بمعدوم وإذا علم انه ليس بمعدوم علم أنه موجود ويعلم انه لا يجتمع وجوده وعدمه بل يتناقضان وأن لم يستحضر قضية كلية عامة أنه لا يجتمع نفي كل شيء وإثباته ووجوده وعدمه وهكذا عامة القضايا الكلية
فإنه قد يكون علم الإنسان بالحكم في أعيانها المشخصة الجزئية أبده للعقل من الحكم الكلي ولا تكون معرفته بحكم المعينات موقوفه على تلك القضايا الكليات ولهذا كان علم الإنسان أنه هو لم يحدث نفسه لا يتوقف على علمه بان كل إنسان لم يحدث نفسه ولا على أن كل حادث لم يحدث نفسه بل هذه القضايا العامة الكلية صادقة وتلك القضية المعينة صادقة والعلم بها فطري ضروري لا يحتاج أن يستدل عليه وإن كان قد يمكن الاستدلال على بعض المعينات بالقضية الكلية ويستفاد العلم بالقضية الكلية بواسطة العلم بالمعينات لكن المقصود أن هذا الاستدلال ليس شرطا في العلم بل العلم بالمعينات قد يعلم كما تعلم الكليات وأعظم بل قد يجزم بالمعينات من لا يجزم بالكليات ولهذا لا تجد أحدا يشك في أن هذه الكتابة لا بد لها من كاتب وهذا البناء لا بد له من باب بل يعلم هذا ضرورة
وإن كان العلم بان كل حادث لا بد له من محدث فاعل قد اعتقده طوائف من النظار نظريا حتى أقاموا عليه دليلا: إما بقياس الشمول وإما بقياس التمثيل فالأول قول من يقول: كل محدث لا بد له من محدث والثاني قول من يقول هذا محدث فيفتقر إلى محدث قياسا على البناء والكتابة
ثم القائلون بأن كل محدث لا بد له من محدث منهم من يثبت هذا بالاستدلال على أن الحادث مختص والتخصيص لا بد له من مخصص ثم من الناس من يثبت هذا بأن المخصوص ممكن والممكن لا بد له من مرجح لوجوده ثم من الناس من يثبت هذا بأن نسبة الممكن إلى الوجود والعدم سواء فلا بد من ترجيح أحد الجانبين
وكثير من الناس يجعل المقدمة الأولى في هذه القضايا ضرورية بل يجعلها أبين من الثانية التي استدل بها عليها وهذا الاضطراب غنما يقع في القضايا الكلية العامة
وأما كون هذا البناء لا بد له من بان وهذه الكتابة لا بد لها من كاتب وهذا الثوب المخيط لا بد له من خياط وهذه الآثار التي في الأرض من آثار الأقدام لا بد لها من مؤثر وهذه الضربة لا بد لها من ضارب وهذه الصياغة لا بد لها من صائغ وهذا الكلام المنظوم المسموع لا بد له من متكلم وهذا الضرب والرمي والطعن لا بد له من ضارب ورام وطاعن
فهذه القضايا المعينة الجزئية لا يشك فيها أحد من العقلاء ولا يفتقر في العلم بها إلى دليل وإن كان ذكر نظائرها حجة لها وذكر القضية التي تتناولها وغيرها حجة ثانية فيستدل عليها بقياس التمثيل وبقياس الشمول لكن هي في نفسها معلومة للعقلاء بالضرورة مع قطع نظرهم عن قضية كلية كما يعلم الإنسان أحوال نفسه المعينة فإنه يعلم أنه لم يحدث نفسه وإن لم يستحضر أن كل حادث لا يحدث بنفسه
ولهذا كانت فطرة الخلق مجبولة على أنهم شاهدوا شيئا من الحوادث المتجددة كالرعد والبرق والزلازل ذكروا الله وسبحوه لأنهم يعلمون أن ذلك المتجدد لم يتجدد بنفسه بل له محدث أحدثه وإن كانوا يعلمون هذا في سائر المحدثات لكن ما اعتادوا حدوثه صار مألوفا لهم بخلاف المتجدد الغريب وإلا فعامة ما يذكرون الله ويسبحونه عنده من الغريب المتجددة قد شهدوا من آيات الله المعتادة ما هو أعظم منه ولو لم يكن إلا خلق الإنسان فإنه من أعظم الآيات فكل أحد يعلم أنه هو لم يحدث نفسه ولا أبواه أحداثاه ولا أحد من البشر أحدثه ويعلم أنه لا بد له من محدث فكل أحد يعلم أن له خالقا خلقه ويعلم انه موجود حي عليم قدير سميع بصير ومن جعل غيره حيا كان أولى أن يكون حيا ومن جعل غيره عليما كان أولى أن يكون عليما ومن جعل غيره قادرا كان أولى أن يكون قادرا ويعلم أيضا أن فيه من الإحكام ما دل على علم الفاعل ومن الإختصاص ما دل على إرادة الفاعل وأن نفس الإحداث لا يكون إلا بقدرة المحدث فعلمه بنفسه المعينة المشخصة الجزئية يفيده العلم بهذه المطالب الإلهية وغيرها ن كما قال تعالى { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } الذاريات 21