والمقصود هنا التنبيه علي أنه لو سوغ للناظرين أن يعرضوا عن كتاب الله تعالى ويعارضوه بآرائهم ومعقولاتهم لم يكن هناك أمر مضبوط يحصل لهم به علم ولا هدي ن فإن الذين سلكوا هذه السبيل كلهم يخبر عن نفسه بما يوجب حيرته وشكه والمسلمون يشهدون عليه بذلك فثبت بشهادته وإقراره علي نفسه وشهادة المسلمين الذين هم شهداء الله في الأرض أنه لم يظفر من أعرض عن الكتاب وعارضه بما يناقضه بيقين يطمئن إليه ولا معرفة يسكن بها قلبه
والذين ادعوا في بعض المسائل أن لهم معقولا صريحا يناقض الكتاب قابلهم آخرون من ذوي المعقولات فقالوا: إن قول هؤلاء معلوم بطلانه بصريح المعقول فصار ما يدعي معارضته للكتاب من المعقول ليس فيه ما يجزم بأنه معقول صحيح: إما بشهادة أصحابه عليه وشهادة الأمة وإما بظهور تناقضهم ظهورا لا ارتياب فيه وإما بمعارضة آخرين من أهل هذه المعقولات لهم بل من تدبر ما يعارضون به الشرع من العقليات وجد ذلك مما يعلم بالعقل الصريح بطلانه
والناس إذا تنازعوا في المعقول لم يكن قول طائفة لها مذهب حجة علي أخرى بل يرجع في ذلك إلي الفطر السليمة التي لم تتغير باعتقاد يغير فطرتها ولا هوي فامتنع حينئذ أن يعتمد علي ما يعارض الكتاب من الأقوال التي يسمونها معوقلات وإن كان ذلك قد قالته طائفة كبيرة لمخالفة طائفة كبيرة لها ولم يبق إلا أن يقال: إن كل إنسان له عقل فيعتمد علي عقل نفسه وما وجده معرضا لأقوال الرسول ﷺ من رأيه خالفه وقدم رأيه علي نصوص الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ومعلوم أن هذا أكثر ضلالا واضطرابا
فإذا كان فحول النظر واساطين الفلسفة الذين بلغوا في الذكاء والنظر إلي الغاية وهم ليلهم ونهارهم يكدحون في معرفة هذه العقليات ثم لم يصلوا فيها إلي معقول صريح يناقض الكتاب بل إما إلي حيرة وارتياب وإما إلي اختلاف بين الأحزاب فكيف غير هؤلاء ممن لم يبلغ مبلغهم في الذهن والذكاء ومعرفة ما سلكوه من العقليات؟
فهذا وأمثاله مما يبين أن من أعرض عن الكتاب وعارضه بما يناقضه لم يعارضه إلا بما هو جهل بسيط أو جهل مركب فالأول { كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب } [ النور: 39 ] والثاني { كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } [ النور: 40 ] وأصحاب القرآن والإيمان في نور علي نور قال تعالى { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور } [ الشوري: 52 - 53 ] وقال تعالى { الله نور السماوات والأرض مثل نوره } ـ إلي آخر الآية [ النور: 35 ] وقال تعالى { فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } [ الأعراف: 157 ]
فأهل الجهل البسيط منهم أهل الشك والحيرة من هؤلاء المعارضين للكتاب المعرضين عنه وأهل الجهل المركب أرباب الاعتقادات الباطلة التي يزعمون أنها عقليات وآخرون ممن يعارضهم يقول: المناقض لتلك الأقوال هو العقليات
ومعلوم أنه حينئذ يجب فساد أحد الاعتقادين أو كليهما والغالب فساد كلا الاعتقادين لما فيهما من الإجمال والاشتباه وأن الحق يكون فيه تفصيل يبين أن مع هؤلاء حقا وباطلا ومع هؤلاء حقا والحق الذي مع كل منهما هو الذي جاء به الكتاب الذي يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه والله أعلم
معارضة دليلهم بنظير ما قالوه
الوجه العاشر
أن يعارض دليلهم بنظير ما قالوه فيقال: إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين ورفعهما رفع للنقيضين وتقديم العقل ممتنع لأن العقل قد دل علي صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرسول ﷺ فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل وإذا أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضا للنقل لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء فكان تقديم العقل موجبا عدم تقديمه فلا يجوز تقديمه
وهذا بين واضح فإن العقل هو الذي دل علي صدق السمع وصحته وأن خبره مطابق لمخبره فإن جاز أن تكون هذه الدلالة باطلة لبطلان النقل لزم أن لا يكون العقل دليلا صحيحا وإذا لم يكن دليلا صحيحا لم يجز أن يتبع بحال فضلا عن أن يقدم فصار تقديم العقل علي النقل قدحا في العقل بانتفاء لوازمه ومدلوله وإذا كان تقديمه علي النقل يستلزم القدح فيه والقدح فيه يمنع دلالته والقدح في دلالته يقدح في معارضته كان تقديمه عند المعارضة مبطلا للمعارضة فامتنع تقديمه علي النقل وهو المطلوب
تقديم النقل لا يستلزم فساد النقل في نفسه
وأما تقديم النقل عليه فلا يستلزم فساد النقل في نفسه ومما يوضح هذا أن يقال :
معارضة العقل لما دل العقل علي أنه حق دليل علي تناقص دلالته وذلك يوجب فسادها وأما السمع فلم يعلم فساد دلالته ولا تعارضها في نفسها وإن لم يعلم صحتها وإذا تعارض دليلان أحدهما علمنا فساده والآخر لم نعلم فساده كان تقديم ما لم يعلم فساده أقرب إلي الصواب من تقديم ما يعلم فساده كالشاهد الذي علم أنه يصدق ويكذب والشاهد المجهول الذي لم يعلم كذبه فإن تقديم قول الفاسق المعلوم كذبه علي قول المجهول الذي لم يعلم كذبه لا يجوز فكيف إذا كان الشاهد هو الذي شهد بأنه قد كذب في بعض شهاداته؟
والعقل إذا صدق السمع في كل ما يخبر به ثم قال: إنه أخبر بخلاف الحق كان هو قد شهد للسمع بأنه يجب قبوله وشهد له بأنه لا يجب قبوله وشهد بأن الأدلة السمعية حق وأن ما أخبر به السمع فهو حق وشهد بأن ما أخبر به السمع فليس بحق فكان مثله مثل من شهد لرجل بأنه صادق لا يكذب وشهد له بأنه قد كذب فكان هذا قدحا في شهادته مطلقا وتزكيته فلا يجب قبول شهادته الأولي ولا الثانية فلا يصلح أن يكون معارضا للسمع بحال
ولهذا تجد هؤلاء الذين تتعارض عندهم دلالة العقل والسمع في حيرة وشك واضطراب إذ ليس عندهم معقول صريح سالم عن معارض مقاوم كما أنهم في نفس المعقول الذي يعارضون به السمع في اختلاف وريب واضطراب
وذلك كله مما يبين أنه ليس في المعقول الصريح ما يمكن أن يكون مقدما علي ما جاءت به الرسل وذلك لأن الآيات والبراهين دالة علي صدق الرسل وأنهم لا يقولون علي الله إلا الحق وأنهم معصومون فيما يبلغونه عن الله من الخبر والطلب لا يجوز أن يستقر في خبرهم عن الله شيء من الخطأ كما اتفق علي ذلك جميع المقرين بالرسل من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم
فوجب أن جميع ما يخبر به الرسول عن الله صدق وحق لا يجوز أن يكون في ذلك شيء مناقض لدليل عقلي ولا سمعي فمتي علم المؤمن بالرسول أنه أخبر بشيء من ذلك جزم جزما قاطعا أنه حق وأنه لا يجوز أن يكون في الباطن بخلاف ما أخبر به وأنه يمتنع أن يعارضه دليل قطعي ولا عقلي ولا سمعي وأن كل ما ظن أنه عارضه من ذلك فإنما هو حجج داحضة وشبه من جنس شبه السوفساطئية
وإذا كان العقل العالم بصدق الرسول قد شهد له بذلك وأنه يمتنع أن يعارض خبره دليل صحيح كان هذا العقل شاهدا بأن كل ما خالف خبر الرسول فهو باطل فيكون هذا العقل والسمع جميعا شهدا ببطلان العقل المخالف للسمع
اعتراض
فإن قيل: فهذا يوجب القدح في شهادة العقل حيث شهد بصدق الرسول وشهد بصدق العقل المناقض لخبره
الرد عليه
الجواب الأول
قيل له عن هذا جوابان: أحدهما: إنا نحن يمتنع عندنا أن يتعارض العقل والسمع القطعيان فلا تبطل دلالة العقل وإنما ذكرنا هذا علي سبيل المعارضة فمن قدم دلالة العقل علي السمع يلزمه أن يقدم دلالة العقل الشاهد بتصديق السمع وأنه إذا قدم دلالة العقل لزم تناقضها وفسادها وإذا قدم دلالة السمع لم يلزم تناقضها في نفسها وإن لزمه أن لا يعلم صحتها وما علم فساده أولي بالرد مما لم تعلم صحته ولا فساده
الجواب الثاني
والجواب الثاني: أن نقول: الأدلة العقلية التي تعارض السمع غير الأدلة العقلية التي يعلم بها أن الرسول صادق وإن كان جنس المعقول يشملها ونحن إذا أبطلنا ما عارض السمع إنما أبطلنا نوعا مما يسمي معقولا لم نبطل كل معقول ولا أبطلنا المعقول الذي علم به صحة المنقول وكان ما ذكرناه موجبا لصحة السمع وما علم به صحته من العقل
ولا مناقضة في ذلك ولكن حقيقة أنه قد تعارض العقل الدال علي صدق الرسول والعقل المناقض لخبر الرسول فقدمنا ذلك المعقول علي هذا المعقول كما نقدم الأدلة الدالة علي صدق الرسول علي الحجج الفاسدة والقادحة في نبوات الأنبياء وهي حجج عقلية
بل شبهات المبطلين القادحين في النبوات قد تكون أعظم من كثير من الحجج العقلية التي يعارض بها خبر الأنبياء عن أسماء الله وصفاته وأفعاله ومعاده فإذا كان تقديم الأدلة العقلية الدالة علي أنهم صادقون في قولهم: إن الله أرسلهم مقدمة علي ما يناقض ذلك من العقليات كذلك تقديم هذه الأدلة العقلية المستلزمة لصدقهم فيما أخبروا به علي ما يناقض ذلك من العقليات وعاد الأمر إلي تقديم جنس من المعقولات علي جنس
وهذا متفق عليه بين العقلاء فإن الأدلة العقلية إذا تعارضت فلا بد من تقديم بعضها علي بعض ونحن نقول: لا يجوز أن يتعارض دليلان قطعيان: لا عقليان ولا سمعيان ولا سمعي وعقلي ولكن قد ظن من لم يفهم حقيقة القولين تعارضهما لعدم فهمه لفساد أحدهما
اعتراض آخر
فإن قيل: نحن نستدل بمخالفة العقل للسمع علي أن دلالة السمع المخالفة له باطلة إما لكذب الناقل عن الرسول أو خطئه في النقل وإما لعدم دلالة قوله علي ما يخالف العقل في محل النزاع
الرد عليه
قيل: هذا معارض بأن يقال: نحن نستدل بمخالفة العقل للسمع علي أن دلالة العقل المخالفة له باطلة بعض مقدماتها فإن مقدمات الأدلة العقلية المخالفة للسمع فيها من التطويل والخفاء والاشتباه والاختلاف والاضطراب ما يوجب أن يكون تطرق الفساد إليها أعظم من تطرقه إلي مقدمات الأدلة السمعية
ومما يبين ذلك أن يقال: دلالة السمع علي مواقع الإجماع مثل دلالته علي موارد النزاع فإن دلالة السمع علي علم الله تعالى وقدرته وإرادته وسمعه وبصره كدلالته علي رضاه ومحبته وغضبه واستوائه علي عرشه ونحو ذلك وكذلك دلالته علي عموم مشيئته وقدرته كدلالته علي عموم علمه
فالأدلة السمعية لم يردها من ردها لضعف فيها وفي مقدماتها لكن لاعتقاده أنها تخالف العقل بل كثير من الأدلة السمعية التي يريدونها تكون أقوي بكثير من الأدلة السمعية التي يقبلونها وذلك لأن تلك لم يقبلوها لكون السمع جاء بها لكن لاعتقادهم أن العقل دل عليها والسمع جعلوه عاضدا للعقل وحجة علي من ينازعهم من المصدقين بالسمع لم يكن هو عمدتهم ولا أصل علمهم كما صرح بذلك أئمة هؤلاء المعارضين لكتاب الله وسنة رسوله بآرائهم
وإذا كان كذلك تبين أن ردهم الأدلة السمعية المعلومة الصحة بمجرد مخالفة عقل الواحد أو لطائفة منهم أو مخالفة ما يسمونه عقلا لا يجوز إلا أن يبطلوا الأدلة السمعية بالكلية ويقولون: إنها لا تدل علي شيء وإن إخبار الرسول عما أخبر به لا يفيد التصديق بثبوت ما أخبر به وحينئذ فما لم يكن دليلا لا يصلح أن يجعل معارضا
والكلام هنا إنما هو لمن علم أن الرسول صادق وأن ما أخبر به ثابت وأن إخباره لنا بالشيء يفيد تصديقنا بثبوت ما أخبر به فمن كان هذا معلوما له امتنع أن يجعل العقل مقدما علي خبر الرسول ﷺ بل يضطره الأمر إلي أن يجعل الرسول يكذب أو يخطئ تارة في الخبريات ويصيب أو يخطئ أخري في الطلبيات وهذا تكذيب للرسول وإبطال لدلالة السمع وسد لطريق العلم بما أخبر به الأنبياء والمرسلون وتكذيب بالكتاب وبما أرسل الله تعالى به رسله
وغايته إن أحسن المقال: أن يجعل الرسول مخبرا بالأمور علي خلاف حقائقها لأجل نفع العامة ثم إذا قال ذلك امتنع أن يستدل بخبر الرسول علي شيء فعاد الأمر جذعا لأنه إذا جوز علي خبر الرسول التلبيس كان كتجويزه عليه الكذب وحينئذ فلا يكون مجرد إخبار الرسول موجبا للعلم بثبوت ما أخبر به وهذا: وإن كان زندقة وكفرا وإلحادا فهو باطل في نفسه كما قد بين في غير هذا الموضع
المقصودون بالخطاب في هذا الكتاب
فنحن في هذا المقام إنما نخاطب من يتكلم في تعارض الأدلة السمعية والعقلية ممن يدعي حقيقة الإسلام من أهل الكلام الذين يلبسون علي أهل الإيمان بالله ورسوله وأما من أفصح بحقيقة قوله: وقال: إن كلام الله ورسوله لا يستفاد منه علم بغيب ولا تصديق بحقيقة ما أخبر به ولا معرفة بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته وجنته وناره وغير ذلك ـ فهذا لكلامه مقام آخر
فإن الناس في هذا الباب أنواع :
منهم من يقر بما جاء به السمع في المعاد دون الأفعال والصفات
ومنهم من يقر بذلك في بعض أمور المعاد دون بعض ومنهم من يقر بذلك في بعض الصفات والمعاد مطلقا دون الأفعال وبعض الصفات ومنهم من لا يقر بحقيقة شيء من ذلك لا في الصفات ولا في المعاد ومنهم من لا يقر بذلك أيضا في الأمر والنهي بل يسلك طريق التأويل في الخبر والأمر جميعا لمعارضة العقل عنده كما فعلت القرامطة الباطنية وهؤلاء أعظم الناس كفرا وإلحادا
والمقصود هنا أن من أقر بصحة السمع وأنه علم صحته بالعقل لا يمكنه أن يعرضه بالعقل البتة لأن العقل عنده هو الشاهد بصحة السمع فإذا شهد مرة أخري بفساده كانت دلالته متناقضة فلا يصلح لا لإثبات السمع ولا لمعارضته
اعتراض: الشهادة بصحة السمع ما لم يعارض العقل
فإن قال: أنا أشهد بصحته ما لم يعارض العقل
الرد عليه من وجوه: الأول
قيل: هذا لا يصح لوجوه :
أحدهما: أن الدليل العقلي دل علي صدق الرسول وثبوت ما أخبر به مطلقا فلا يجوز أن يكون صدقه مشروطا بعدم المعارض
الثاني: أنك إن جوزت عليه أن يعارضه العقل الدال علي فساده لم تثق بشيء منه لجواز أن يكون في عقل غيرك ما يدل علي فساده فلا تكون قد علمت بعقلك صحته البتة وأنت علمت صحته بالعقل
الثالث: أن ما يستخرجه الناس بعقولهم أمر لا غاية له سواء كان حقا أو باطلا فإذا جوز المجوز أن يكون في المعقولات ما يناقض خبر الرسول لم يثق بشيء من أخبار الرسول لجواز أن يكون في المعقولات التي لم تظهر له بعد ما يناقض ما أخبر به الرسول ومن قال: أنا أقر من الصفات بما لم ينفه العقل أو أثبت من السمعيات ما لم يخالفه العقل لم يكن لقوله ضابط فإن تصديقه بالسمع مشروط بعدم جنس لا ضابط له ولا منتهى وما كان مشروطا بعدم ما لا ينضبط لم ينضبط فلا يبقي مع هذا الأصل إيمان
ولهذا تجد من تعود معارضة الشرع بالرأي لا يستقر في قلبه الإيمان بل يكون كما قال الأئمة: إن علماء الكلام زنادقة وقالوا: قل أحد نظر في الكلام إلا كان في قلبه غل علي أهل الإسلام ومرادهم بأهل الكلام من تكلم في الله بما يخالف الكتاب والسنة
ففي الجملة: لا يكون الرجل مؤمنا حتى يؤمن بالرسول إيمانا جازما ليس مشروطا بعدم معارض فمتي قال: أؤمن بخبره إلا أن يظهر له معارض يدفع خبره لم يكن مؤمنا به فهذا أصل عظيم تجب معرفته فإن هذا الكلام هو ذريعة الإلحاد والنفاق
الرابع: أنهم قد سلموا أنه يعلم بالسمع أمور كما يذكرونه كلهم من أن العلوم ثلاثة أقسام: منها ما لا يعلم إلا بالعقل ومنها ما لا يعلم إلا بالسمع ومنها ما يعلم بالسمع والعقل
وهذا التقسيم حق في الجملة فإن من الأمور الغائبة عن حس الإنسان ما لا يمكن معرفته بالعقل بل لا يعرف إلا بالخبر
وطرق العلم ثلاثة: الحس والعقل والمركب منهما كالخبر فمن الأمور ما لا يمكن علمه إلا بالخبر كما يعلمه كل شخص بأخبار الصادقين كالخبر المتواتر وما يعلم بخبر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين
وهذا التقسيم يجب الإقرار به وقد قامت الأدلة اليقينية علي نبوات الأنبياء وأنهم قد يعلمون بالخبر ما لا يعلم إلا بالخبر وكذلك يعلمون غيرهم بخبر هم
ونفس النبوة تتضمن الخبر فإن النبوة مشتقة من الإنباء وهو الإخبار بالمغيب فالنبي يخبر بالمغيب ويخبرنا بالغيب ويمتنع أن يقوم دليل صحيح علي أن كل ما أخبر به الأنبياء يمكن معرفته بدون الخبر فلا يمكن أن يجزم بأن كل ما أخبرت به الأنبياء هو منتف فإنه يمتنع أن يقوم دليل علي هذا النفي العام ويمتنع أن يقول القائل: كل ما أخبر به الأنبياء يمكن غيرهم أن يعرفه بدون خبرهم ولهذا كان أكمل الأمم علما المقرون بالطرق الحسية والعقلية والخبرية فمن كذب بطريق منها فاته من العلوم بحسب ما كذب به من تلك الطرق
والمتفلسفة الذين أثبتوا النبوات علي وجه يوافق أصولهم الفاسدة ـ كابن سينا وأمثاله ـ لم يقروا بأن الأنبياء يعلمون بخبر يأتيهم عن الله لا بخبر ملك ولا غيره بل زعموا أنهم يعلمونه بقوة عقلية لكونهم أكمل من غيرهم في قوة الحدس ويسمون ذلك القوة القدسية فحصروا علوم الأنبياء في ذلك
وكان حقيقة قولهم: أن الأنبياء من جنس غيرهم وأنهم لم يعلموا شيئا بالخبر ولهذا صار هؤلاء لا يستفيدون شيئا بخبر الأنبياء بل يقولون: : إنهم خاطبوا الناس بطريق التخييل لمنفعة الجمهور وحقيقة قولهم: أنهم كذبوا لمصلحة الجمهور هؤلاء في الحقيقة يكذبون الرسل فنتكلم معهم في تحقيق النبوة علي الوجه الحق لا في معارضة العقل والشرع
وهذا الذي ذكرته مما صرح به فضلاؤهم يقولون: الرسل إنما ينتفع بخبرهم الجمهور في التخييل لا ينتفع بخبرهم أحد من العامة والخاصة في معرفة الغيب بل الخاصة عندهم تعلم ذلك بالعقل المناقض لأخبار الأنبياء والعامة لا تعلم ذلك لا بعقل ولا خبر والبنوة إنما فائدتها تخييل ما يخبرون به للجمهور كما يصرح بذلك الفارابي وابن سيناء وأتباعهما
ثم لا يخلو الشخص إما أن يكون مقرا بخبر نبوة الأنبياء وإما أن يكون غير مقر فإن كان غير مقر بذلك لم نتكلم منه في تعارض الدليل العقلي والشرعي فإن تعارضهما إنما يكون بعد الإقرار بصحة كل منهما لو تجرد عن المعارض فمن لم يقر بصحة دليل عقلي البتة لم يخاطب في معارضة الدليل العقلي والشرعي وكذلك من لم يقر بدليل شرعي لم يخاطب في هذا التعارض
ومن لم يقر بالأنبياء لم يستفد من خبرهم دليلا شرعيا فهذا يتكلم معه في تثبيت النبوات فإذا ثبتت فحينئذ يثبت الدليل الشرعي وحينئذ فيجب الإقرار بأن خبر الأنبياء يوجب العلم بثبوت ما أخبروا به ومن جوز أن يكون في نفس الأمر معارض ينفي ما دلت عليه أخبارهم أمتنع أن يعلم بخبرهم شيئا فإنه ما من خبر أخبروا به ولم يعلم هو ثبوته بعقله إلا وهو يجوز أن يكون في نفس الأمر دليل يناقضه فلا يعلم شيئا مما أخبروا به بخبرهم فلا يكون مقرا بنبوتهم ولا يكون عنده شيء يعلم بالسمع وحده وهم قد أقروا بأن العلوم ثلاثة: منها ما يعلم بالسمع وحده ومنها ما يعلم بالعقل وحده ومنها ما يعلم بهما
وأيضا فقد قامت الأدلة العقلية اليقينية علي نبوة الأنبياء وأنهم قد يعلمون ما يعلمونه بخبر الله وملائكته تارة بكلام يسمعونه من الله كما سمع موسى بن عمران وتارة بملائكة تخبرهم عن الله وتارة بوحي يوحيه الله كما قال تعالى { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } [ الشورى: 51 ]
فتبين أن تجويزهم أن يكون في نفس الأمر دليل يناقض السمع يوجب أن لا يكون في نفس الأمر دليل سمعي يعلم به مخبره وهذا مما تبين به تناقضهم ـ حيث أثبتوا الأدلة السمعية ثم قالوا ما يوجب إبطالها حيث أثبتوا الأدلة العقلية ثم قالوا ما يوجب تناقضها فإن العقل يعلم به صحة الأدلة السمعية فمتي بطلت بطل العقل الدال علي صحة السمع والدليل مستلزم للمدلول ومتي انتفي اللازم الذي هو المدلول انتفي ملزومه الذي هو الدليل فيبطل العقل ـ وتناقضهم حيث أقروا بنبوات الأنبياء ثم قالوا ما يوجب بطلانها
وأيضا فالأدلة العقلية توجب الإقرار بنبوة الأنبياء فالقدح في نبوة الأنبياء قدح في الأدلة العقلية ومع كون قولهم مستلزما لتناقضهم فهو مستلزم لبطلان الأدلة العقلية والسمعية وبطلان النبوات وهذا من أعظم أنواع السفسطة فتبين بعض ما في قولهم من أنواع السفسطة الدالة علي فساده ومن أنواع التناقض الدالة علي جهلهم وتناقض مذاهبهم
وإن قالوا: نحن لا نعلم شيئا مما دل عليه الشرع من الخبريات أو من الخبريات وغيرها إلا أن نعلم بالاضطرار أن الرسول أخبر به
قيل: فيقال لكم علي هذا التقدير: فكل ما لا يعلم شخص بالاضطرار أن الرسول أخبر به يجب أن ينفيه إذا قام عنده ما يظنه دليلا عقليا !
فإن قالوا: نعم لزم أنه يجوز لكل أحد أن يكذب بما لم يضطر إلي أن الرسول أخبر به وإن كان غيره قد علم بالاضطرار أن الرسول أخبر به وحينئذ فيلزم من ذلك تجويز تكذيب الرسول ونفي الحقائق الثابتة في نفس الأمر والقول بلا علم والقطع بالباطل وإن قالوا: نحن إنما نجوز ذلك إذا قام دليل عقلي قاطع
قيل: هذا باطل لوجهين :
أحدهما: أنه إذا لم يعلم بالاضطرار أنه أخبر به كان علي قولكم غير معلوم الثبوت وحينئذ فإذا قام عنده دلالة ظنية ترجح النفي أخبر بموجبهما وإن جوز أن يكون غيره يعلم باضطرار نقيضها
الثاني: أن الأدلة العقلية القطعية ليست جنسا متميزا عن غيره ولا شيئا اتفق عليه العقلاء بل كل طائفة من النظار تدعي أن عندها دليلا قطعيا علي ما تقوله مع أن الطائفة الأخرى تقول: إن ذلك الدليل باطل وإن بطلانه يعلم بالعقل بل قد تقول: إنه قام عندها دليل قطعي علي نقيض قول تلك الطائفة وإذا كانت العقليات ليست متميزة ولا متفقا عليها وجوز أصحابها فيما لم يعلمه أحدهم بالاضطرار من أخبار الرسول أن يقدمها عليه ـ لزم من ذلك تكذيب كل من هؤلاء بما يعلم غيره بالاضطرار أن الرسول أخبر به
ومعلوم أن العلوم الضرورية أصل للعلوم النظرية فإذا جوز الإنسان أن يكون ما علمه غيره من العلوم الضرورية باطلا جوز أن تكون العلوم الضرورية باطلة وإذا بطلت بطلت النظرية فصار قولهم مستلزما لبطلان العلوم كلها وهذا مع أنه مستلزم لعدم علمهم بما يقولونه فهو متضمن لتناقضهم ولغاية السفسطة
وإن قالوا: ما علمنا بالاضطرار أن الرسول أراده أقررنا به ن ولم نجوز أن يكون في العقل ما يناقضه وما علمه غيرنا لم نقر به وجوزنا أن يكون في العقل ما يناقضه ـ أمكن تلك الطائفة أن تعارضهم بمثل ذلك فيقولون: بل نحن نقر علمنا الضروري ونقدح في علمكم الضروري بنظرياتنا
وأيضا فمن المعلوم أن من شافهه الرسول بالخطاب يعلم من مراده بالاضطرار ما لا يعلمه غيره وأن من كان أعلم بالأدلة الدالة علي مراد المتكلم كان أعلم بمراده من غيره وإن لم يكن نبيا فكيف بالأنبياء؟
فإن النحاة أعمل بمراد الخليل وسبويه من الأطباء والأطباء أعلم بمراد أبقراط وجالينوس من النحاة والفقهاء أعلم بمراد الأئمة الأربعة وغيرهم من الأطباء والنحاة وكل من هذه الطوائف يعلم بالاضطرار من مراد أئمة الفن ما لا يعلمه غيرهم فضلا عن أن يعلمه علما ضروريا أو نظريا
وإذا كان كذلك فمن له اختصاص بالرسول ومزيد علم بأقواله وأفعاله ومقاصده يعلم بالاضطرار من مراده ما لا يعلمه غيره فإذا جوز لمن يحصل له هذا العلم الضروري أن يقوم عنده قاطع عقلي ينفي ما علمه هؤلاء بالاضطراب لزم ثبوت المعارضة بين العلوم النظرية والضرورية وأنه يقدم فيها النظرية ومعلوم أن هذا فاسد
فتبين أن قول هؤلاء يستلزم من تناقضهم وفساد مذاهبهم وتكذيب الرسل ما يستلزم من الكفر والجهل وأنه يستلزم تقديم النظريات علي الضروريات وذلك يستلزم السفسطة التي ترفع العلوم الضرورية والنظرية
الخامس: أن الدليل المشروط بعدم المعارض لا يكون قطعيا لأن القطعي لا يعارضه ما يدل علي نقيضه فلا يكون العقل دالا علي صحة شيء مما جاء به السمع بل غاية الأمر: أن يظن الصدق فيما أخبر به الرسول
وحينئذ فقولك: إنه تعارض العقل والنقل قول باطل لأن العقل عندك قطعي والشرع ظني ن ومعلوم أنه لا تعارض بين القطعي والظني
فإن قيل: نحن جازمون بصدق الرسول فيما أخبربه وأنه لا يخبر إلا بحق ن لكن إذا احتج علي خلاف ما اعتقدناه بشيء مما نقل عن الرسول يقبل هذه المعارضة للقدح: إما في الإسناد وإما في المتن :
إما أن نقول: النقل لم يثبت إن كان مما لم تعلم صحته كما تنقل أخبار الآحاد وما ينقل عن الأنبياء المتقدمين وإما في المتن بأن نقول: دلالة اللفظ علي مراد المتكلم غير معلومة بل مظنونة إما في محل النزاع وإما فيما هو أعلم من ذلك فنحن لا نشك في صدق الرسول بل في صدق الناقل أو دلالة المنقول علي مراده
قيل: هذا العذر باطل في هذا المقام لوجوه :
أحدها: أن يقال لكم: فإذا علمتم أن الرسول أراد هذا المعني إما أن تعملوا مراده بالاضطرار كما يعلم أنه أتي بالتوحيد والصلوات الخمس والمعاد بالاضطرار وإما بأدلة أخري نظرية وقد قام عندكم القاطع العقلي علي خلاف ما علمتم أنه أراده فكيف تصنعون؟
فإن قلتم: نقدم العقل لزمكم ما ذكر من فساد العقل المصدق للرسول مع الكفر وتكذيب الرسول
وإن قلتم: نقدم قول الرسول أفسدتم قولكم المذكور الذي قلتم فيه العقل أصل النقل فلا يمكن تقديم الفرع علي أصله
وإن قلتم: يمتنع معارضة العقل الصريح بمثل هذا السمع لأنا علمنا مراد الرسول قطعا
قيل لكم: وهكذا يقول كل من علم مراد الرسول قطعا: يمتنع أن يقوم دليل عقلي يناقضه وحينئذ فيبقي الكلام: هل قام سمعي قطعي علي مورد النزاع أم لا؟ ويكون دفعكم للأدلة السمعية بهذا القانون باطلا متناقضا
الوجه الثاني: أنه إذا كنتم لا تردون من السمع إلا ما لم تعلموا أن الرسول أرداه دون ما علمتم أن الرسول أراده بقي احتجاجكم بكون العقل معارضا للسمع احتجاجا باطلا لا تأثير له
الثالث: أنكم تدعون في مواضع كثيرة أن الرسول جاء بهذا وأنا نعلم ذلك اضطرارا ومنازعوكم يدعون قيام القاطع العقلي علي مناقض ذلك كما في المعاد وغيره فكذلك يقول منازعوكم في العلو والصفات: إنا نعلم اضطرار مجيء الرسول بهذا بل هذا أقوي كما بسط في موضع آخر
السادس: أن هذا يعارض بأن يقال: دليل العقل مشروط بعدم معارضة الشرع لأن العقل ضعيف عاجز والشبهات تعرض له كثيرا وهذه المتائه والمحارات التي اضطرب فيها العقلاء لا أثق فيها بعقل يخالف الشرع
ومعلوم أن هذا أولي بالقبول من الأول بأن يقال ما يقال في :
السابع: وهو: أن العقل لا يكون دليلا مستقلا في تفاصيل الأمور الإلهية واليوم الآخر فلا أقبل منه ما يدل عليه إن لم يصدقه الشرع ويوافقه فإن الشرع قول المعصوم الذي لا يخطئ ولا يكذب وخبر الصادق الذي لا يقول إلا حقا وأما آراء الرجال فكثيرة التهافت والتناقض فأنا لا أثق برأيي وعقلي في هذه المطالب العالية الإلهية ولا بخبر هؤلاء المختلفين المتناقضين الذين كل منهم يقول بعقله ما يعلم العقلاء أنه باطل فما من هؤلاء أحد إلا وقد علمت أنه يقول بعقله ما يعلم أنه باطل بخلاف الرسل فإنهم معصومون فأنا لا أقبل قول هؤلاء إن لم يزك قولهم ذلك المعصوم: خبر الصادق المصدوق
ومعلوم أن هذا الكلام أولي بالصواب وأليق بأولي الألباب من معارضة أخبار الرسول الذي علموا صدقه وأنه لا يقول إلا حقا بما يعرض لهم من الآراء والمعقولات التي هي في الغالب جهليات وضلالات
فإنا في هذا المقام نتكلم معهم بطريق التنزل إليهم كما نتنزل إلي اليهودي والنصراني في مناظرته وإن كنا عالمين ببطلان ما يقوله اتباعا لقوله تعالى { وجادلهم بالتي هي أحسن } [ النحل: 125 ] وقوله { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } [ العنكبوت: 46 ]
وإلا فعلمنا ببطلان ما يعارضون به القرآن والرسول ويصدون به أهل الإيمان عن سواء السبيل ـ وإن جعلوه من المعقول بالبرهان ـ أعظم من أن يبسط في هذا المكان
وقد تبين بذلك أنه لا يمكن أن يكون تصديق الرسول فيما أخبر به معلقا بشرط ولا موقوفا علي انتفاء مانع بل لا بد من تصديقه في كل ما أخبر به تصديقا جازما كما في أصل الإيمان به فلو قال الرجل: أنا أؤمن به إن أذن لي أبي أو شيخي أو: إلا أن ينهاني أبي أو شيخي لم يكن مؤمنا به بالاتفاق وكذلك من قال: أؤمن به إن ظهر لي صدقه لم يكن بعد قد آمن به ولو قال: أؤمن به إلا أن يظهر لي كذبه لم يكن مؤمنا
وحينئذ فلا بد من الجزم بأنه يمتنع أن يعارض خبره دليل قطعي: لا سمعي ولا عقلي وأن ما يظنه الناس مخالفا له إما أن يكون باطلا وإما أن يكون مخالفا وأما تقدير قول مخالف لقوله وتقديمه عليه: فهذا فاسد في العقل كما هو كفر في الشرع
ولهذا كان من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أنه يجب علي الخلق الإيمان بالرسول إيمانا مطلقا جازما عاما: بتصديقه في كل ما أخبر وطاعته في كل ما أوجب وأمر وأن كل ما عارض ذلك فهو باطل وأن من قال: يجب تصديق ما أدركته بعقلي ورد ما جاء به الرسول لرأيي وعقلي وتقديم عقلي علي ما أخبر به الرسول مع تصديقي بأن الرسول صادق فيما أخبر به فهو متناقض فاسد العقل ملحد في الشرع
وأما من قال: لا أصدق ما أخبر به حتى أعلمه بعقلي فكفره ظاهر وهو ممن قيل فيه { وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته } [ الأنعام: 124 ] وقوله تعالى { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون * فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } [ غافر: 82 - 85 ]
ومن عارض ما جاءت به الرسل برأيه فله نصيب من قوله تعالى { كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب } [ غافر: 34 ] وقوله تعالى { الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار } [ غافر: 35 ] وقوله تعالى { الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه } [ غافر: 56 ] والسلطان: هو الكتاب المنزل من السماء فكل من عارض كتاب الله المنزل بغير كتاب الله الذي قد يكون ناسخا له أو مفسرا له كان قد جادل في آيات الله بغير سلطان أتاه
ومن هذا قوله تعالى { وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب } [ غافر: 5 ] وقوله تعالى { وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا } [ الكهف: 56 ] وأمثال ذلك مما في كتاب الله تعالى مما يذم به الذين عارضوا رسل الله وكتبه بما عندهم من الرأي والكلام
والبدع مشتقة من الكفر فمن عارض الكتاب والسنة بآراء الرجال كان قوله مشتقا من أقوال هؤلاء الضلال كما قال مالك: أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلي محمد ﷺ لجدل هذا؟
فإن قيل: هذا الوجه غايته أنه لا تصح معارضة الشرع بالعقل ولكن إذا طعن في العقل لم يبق لنا دليل علي صحة الشرع
قيل: المقصود في هذا المقام أنه يمتنع تقديم العقل علي الشرع وهو المطلوب وأما ثبوت الشرع في نفسه وعلمنا به فليس هذا مقام إثباته ونحن لم ندع أن أدلة العقل باطلة ولا أن ما به يعلم صحة السمع باطل ولكن ذكرنا أنه يمتنع معارضة الشرع بالعقل وتقدميه عليه وأن من قال ذلك تناقض قوله ولزمه أن لا يكون العقل دليلا صحيحا إذ كان عنده العقل يستلزم صحة ما هو باطل في نفسه فلا بد أن يضطره الأمر إلي أن يقول: ما عارضه الدليل العقلي فليس هو عندي دليلا في نفس الأمر به هو باطل فيقال له: وهكذا ما عارضه الدليل السمعي فليس هو دليلا في نفس الأمر بل هو باطل وحينئذ فيرجع الأمر إلي أن ينظر في دلالة الدليل سواء كان سمعيا أو عقليا فإن كان دليلا قطعيا لم يجز أن يعارضه شيء وهذا هو الحق
وأيضا فقد ذكرنا أن مسمي الدليل العقلي ـ عند من يطلق هذا اللفظ ـ جنس تحته أنواع فمنها ما هو حق ومنها ما هو باطل باتفاق العقلاء فإن الناس متفقون علي أن كثيرا من الناس يدخلون في مسمي هذا الاسم ما هو حق وباطل
وإذا كان كذلك فالأدلة العقلية الدالة علي صدق الرسول إذا عارضها ما يقال إنه دليل عقلي يناقض خبره المعين ويناقض مادل علي صدقه مطلقا لزم أن يكون أحد نوعي ما يسمي دليلا عقليا باطلا: وتمام هذا بأن يقال :
(الوجه الحادي عشر كثير مما يسمي دليلا ليس بدليل)
أن ما يسميه الناس دليلا من العقليات والسمعيات ليس كثير منه دليلا وإنما يظنه الظان دليلا وهذ متفق عليه بين العقلاء فإنهم متفقون علي أن ما يسمي دليلا من العقليات والسمعيات قد لا يكون دليلا في نفس الأمر
فنقول: أما المتبعون للكتاب والسنة ـ من الصحابة والتابعين وتابعيهم ـ فهم متفقون علي دلالة ما جاء به الشرع في باب الإيمان بالله تعالى وأسمائه وصفاته واليوم الآخر وما يتبع ذلك لم يتنازعوا في دلالته علي ذلك والمتنازعون في ذلك بعدهم لم يتنازعوا في أن السمع يدل علي ذلك وإنما تنازعوا: هل عارضه من العقل ما يدفع موجبه؟ وإلا فكلهم متفقون علي أن الكتاب والسنة مثبتان للأسماء والصفات مثبتان لما جاءا به من أحوال الرسالة والمعاد
والمنازعون لأهل الإثبات من نفاة الأفعال والصفات لا ينازعون في أن النصوص السمعية تدل علي الإثبات وأنه ليس في السمع دليل ظاهر علي النفي فقد اتفق الناس علي دلالة السمع علي الإثبات وإن تنازعوا في الدلالة: هل هي قطعية أو ظنية؟
وأما المعارضون لذلك من أهل الكلام والفلسفة فلم يتفقوا علي دليل واحد من العقليات بل كل طائفة تقول في أدلة خصومها: إن العقل يدل علي فسادها لا علي صحتها فالمثبتة للصفات يقولون: إنه يعلم بالعقل فساد قول النفاة كما يقول النفاة: إنه يعلم بالعقل فساد قول المثبتة
ومثبتة الرؤية يقولون: إنه يعلم بالعقل إمكان ذلك كما تقول النفاة: إنه يعلم بالعقل امتناع ذلك
والمتنازعون في الأفعال هل تقوم به؟ يقولون: إنه علم بالعقل قيام الأفعال به وإن الخلق والإبداع والتأثير أمر وجودي قائم بالخالق المبدع الفاعل
ثم كثير من هؤلاء يقولون: إن التسلسل إنما هو ممتنع في العلل لا في الآثار والشروط وخصومهم يقولون: ليس الخلق إلا المخلوق وليس الفعل إلا المفعول وليس الإبداع والخلق شيئا غير نفس الفعل ونفس المفعول المنفصل عنه وإن ذلك معلوم بالعقل لئلا يلزم التسلسل
وكذلك القول في العقليات المحضة كمسألة الجوهر الفرد وتماثل الأجسام وبقاء الأعراض ودوام الحوادث في الماضي أو المستقبل أو غير ذلك كل هذه مسائل عقلية قد تنازع فيها العقلاء وهذا باب واسع فأهل العقليات من أهل النفي والإثبات كل منهم يدعي أن العقل دل علي قوله المناقض لقول الآخر وأما السمع فدلالته متفق عليها بين العقلاء
وإذا كان كذلك قيل: السمع دلالته معلومة متفق عليها وما يقال إنه معارض لها من العقل ليست دلالته معلومة متفقا عليها بل فيها نزاع كثير فلا يجوز أن يعارض ما دلالته معلومة باتفاق العقلاء بما دلالته المعارضة له متنازع فيها بين العقلاء
واعلم أن أهل الحق لا يطعنون في جنس الأدلة العقلية ولا فيما علم العقل صحته وإنما يطعنون فيما يدعي المعارض أنه يخالف الكتاب والسنة وليس في ذلك ـ ولله الحمد ـ دليل صحيح في نفس الأمر ولا دليل مقبول عند عامة العقلاء ولا دليل لم يقدح فيه بالعقل وحينئذ فنقول في :
الوجه الثاني عشر كل ما عارض الشرع من العقليات فالعقل يعلم فساده
إن كل ما عارض الشرع من العقليات فالعقل يعلم فساده وإن لم يعارض العقل وما علم فساده بالعقل لا يجوز أن يعارض به لا عقل ولا شرع
وهذه الجملة تفصيلها هو الكلام علي حجج المخالفين للسنة من أهل البدع بأن نبين بالعقل فساد تلك الحجج وتناقضها وهذا ـ ولله الحمد ـ مازال الناس يوضحونه ومن تأمل ذلك وجد في المعقول مما يعلم به فساد المعقول المخالف للشرع ما لا يعلمه إلا الله
الوجه الثالث عشر الأمور السمعية التي يقال إن العقل عارضها معلومة من الدين بالضرورة
أن يقال: الأمور السمعية التي يقال: إن العقل عارضها كإثبات الصفات والمعاد ونحو ذلك هي مما علم بالاضطرار أن الرسول ﷺ جاء بها وما كان معلوما بالاضطرار من دين الإسلام امتنع أن يكون باطلا مع كون الرسول رسول الله حقا فمن قدح في ذلك وادعي أن الرسول لم يجيء به كان قوله معلوم الفساد بالضرورة من دين المسلمين
العلم بمقاصد الرسول علم ضروري يقيني الوجه الرابع عشر
أن يقال: إن أهل العناية بعلم الرسول العلمين بالقرآن وتفسير الرسول ﷺ والصحابة والتابعين لهم بإحسان والعلمين بأخبار الرسول والصحابة والتابعين لهم بإحسان عندهم من العلوم الضرورية بمقاصد الرسول ومراده ما لا يمكنهم دفعه عن قلوبهم ولهذا كانوا كلهم متفقين علي ذلك من غير تواطؤ ولا تشاعر كما اتفق أهل الإسلام علي نقل حروف القرآن ونقل الصلوات الخمس والقبلة وصيام شهر رمضان وإذا كانوا قد نقلوا مقاصده ومراده عنه بالتواتر كان ذلك كنقلهم حروفه وألفاظه بالتواتر
ومعلوم أن النقل المتواتر يفيد العلم اليقيني سواء كان التواتر لفظيا أو معنويا كتواتر شجاعة خالد وشعر حسان وتحديث أبي هريرة عن النبي ﷺ وفقه الأئمة الأربعة وعدل العمرين ومغازي النبي ﷺ مع المشركين وقتاله أهل الكتاب وعدل كسري وطب جالينوس ونحو سيبويه يبين هذا أن أهل العلم والإيمان يعلمون من مراد الله ورسوله بكلامه أعظم مما يعلمه الأطباء من كلام جالينوس والنحاة من كلام سيبويه فإذا كان من ادعي في كلام سيبونه وجالينوس ونحوهما ما يخالف ما عليه أهل العلم بالطب والنحو والحساب من كلامهم كان قوله معلوم البطلان فمن ادعي في كلام الله ورسوله خلاف ما عليه أهل الإيمان كان قوله أظهر بطلانا وفسادا لأن هذا معصوم محفوظ
وجماع هذا: أن يعلم أن المنقول عن الرسول ﷺ شيئان: ألفاظه وأفعاله ومعاني ألفاظه ومقاصده بأفعاله وكلاهما منه ما هو متواتر عند العامة والخاصة ومنه ما هو متواتر عند الخاصة ومنه ما يختص بعلمه بعض الناس وإن كان عند غيره مجهولا أو مظنونا مكذوبا وأهل العلم بأقواله كأهل العلم بالحديث والتفسير المنقول والمغازي والفقه يتواتر عندهم من ذلك ما لا يتواتر عند غيرهم ممن لم يشركهم في علمهم وكذلك أهل العلم بمعاني القرآن والحديث والفقه في ذلك يتواتر عندهم من ذلك ما لا يتواتر عند غيرهم من معاني الأقوال والأفعال المأخوذة عن الرسول كما يتواتر عند النحاة من أقوال الخليل وسيبويه والكسائي والفراء وغيرهم ما لا يعلمه غيرهم ويتواتر عند الأطباء من معاني أقوال أبقراط وجالينوس وغيرهما ما لا يتواتر عن غيرهم ويتواتر عند كل أحد من أصحاب مالك والشافعي والثوري والأوزعي وأحمد وأبي داود وأبي ثور وغيرهم من مذاهب هؤلاء الأئمة ما لا يعلمه غيرهم ويتواتر عند أتباع رؤوس أهل الكلام والفلسفة من أقوالهم ما لا يعلمه غيرهم ويتواتر عند أهل العلم بنقله الحديث من أقوال شعبة ويحيى بن سعيد وعلي بن المديني ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل وأبي زرعة وأبي حاتم والبخاري وأمثالهم في الجرح والتعديل ما لا يعلمه غيرهم بحيث يعلمون بالاضطرار اتفاقهم علي تعديل مالك والثوري وشعبة وحماد بن زيد والليث بن سعد وغير هؤلاء وعلى تكذيب محمد بن سعيد المصلوب وأبي البختري وهب بن وهب القاضي وأحمد بن عبد الله الجويباري وأمثالهم
الدليل الشرعي لا يقابل بكونه عقليا وإنما بكونه بدعيا الوجه الخامس عشر
أن يقال: كون الدليل عقليا أو سمعيا ليس هو صفة تقتضي مدحا ولا ذما ولا صحة ولا فسادا بل ذلك يبين الطريق الذي به علم وهو السمع أو العقل وإن كان السمع لا بد معه من العقل وكذلك كونه عقليا أو نقليا وأما كونه شرعيا فلا يقابل بكونه عقليا وإنما يقابل بكونه بدعيا إذ البدعة تقابل الشرعة وكونه شرعيا صفة مدح وكونه بدعيا صفة ذم وما خالف الشريعة فهو باطل
ثم الشرعي قد يكون سمعيا وقد يكون عقليا فإن كون الدليل شرعيا يراد به كون الشرع أثبته ودل عليه ويراد به كون الشرع أباحه وأذن فيه فإذا أريد بالشرعي ما أثبته الشرع فإما أن يكون معلوما بالعقل أيضا ولكن الشرع نبه عليه ودل عليه فيكون شرعيا عقليا
وهذا كالأدلة التي نبه الله تعالى عليها في كتابه العزيز من الأمثال المضروبة وغيرها الدالة علي توحيده وصدق رسله وإثبات صفاته وعلي المعاد فتلك كلها أدلة عقلية يعلم صحتها بالعقل وهي براهين ومقاييس عقلية وهي مع ذلك شرعية
وإما أن يكون الدليل الشرعي لا يعلم إلا بمجرد خبر الصادق فإنه إذا أخبر بما لا يعلم إلا بخبره كان ذلك شرعيا سمعيا وكثير من أهل الكلام يظن أن الأدلة الشرعية منحصرة في خبر الصادق فقط وأن الكتاب والسنة لا يدلان إلا من هذا الوجه ولهذا يجعلون أصول الدين نوعين: العقليات والسمعيات ويجعلون القسم الأول مما لا يعلم بالكتاب والسنة
وهذا غلط منهم بل القرآن دل علي الأدلة العقلية وبينها ونبه عليها وإن كان من الأدلة العقلية ما يعلم بالعيان ولوازمه كما قال تعالى { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } [ فصلت: 53 ]
وأما إذا أريد بالشرعي ما أباحه الشرع وأذن فيه فيدخل في ذلك ما أخبر به الصادق وما دل عليه ونبه عليه القرآن وما دلت عليه وشهدت به الموجودات
والشارع يحرم الدليل لكونه كذبا في نفسه مثل أن تكون إحدي مقدماته باطلة فإنه كذب والله يحرم الكذب لاسيما عليه كقوله تعالى { ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه } [ الأعراف: 169 ]
ويحرمه لكون المتكلم به بلا علم كما قال تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم } [ الإسراء: 36 ] وقوله تعالى { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } [ الأعراف: 33 ] وقوله { ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } آل عمران: 66 ]
ويحرمه لكونه جدالا في الحق بعد ما تبين كقوله تعالى { يجادلونك في الحق بعد ما تبين } الأنفال: 6 ] وقوله تعالى { ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق } [ الكهف: 56 ]
وحينئذ فالدليل الشرعي لا يجوز أن يعارضه دليل غير شرعي ويكون مقدما عليه بل هذا بمنزلة من يقول: إن البدعة التي لم يشرعها الله تعالى تكون مقدمة علي الشرعة التي أمر الله بها أو يقول: الكذب مقدم علي الصدق أو يقول خبر غير النبي ﷺ يكون مقدما علي خبر النبي أو يقول: ما نهي الله عنه يكون خيرا مما أمر الله به ونحو ذلك وهذا كله ممتنع
وأما الدليل الذي يكون عقليا أو سمعيا من غير أن يكون شرعيا فقد يكون راجحا تارة ومرجوحا أخري كما أنه قد يكون دليلا صحيحا تارة ويكون شبهة فاسدة أخري فما جاءت به الرسل عن الله تعالى إخبارا أو أمرا لا يجوز أن يعارض بشيء من الأشياء وأما ما يقوله الناس فقد يعارض بنظيره إذ قد يكون حقا تارة وباطلا أخري وهذا مما لا ريب فيه لكن من الناس من يدخل في الأدلة الشريعة ما ليس منها كما أن منهم من يخرج منها ما هو داخل فيها والكلام هنا علي جنس الأدلة لا علي أعيانها
المعارضون ينتهون إلي التأويل أو التفويض وهما باطلان الوجه السادس عشر
أن يقال: غاية ما ينتهي إليه هؤلاء المعارضون لكلام الله ورسوله بآرائهم من المشهورين بالإسلام هو التأويل أو التفويض فأما الذي ينتهون إلي أن يقولوا الأنبياء أوهموا وخيلوا ما لا حقيقة له في نفس الأمر فهؤلاء معروفون عند المسلمين بالإلحاد والزندقة
والتأويل المقبول: هو ما دل علي مراد المتكلم والتأويلات التي يذكرونها لا يعلم أن الرسول أرادها بل يعلم بالاضطرار في عامة النصوص أن المراد منها نقيض ما قاله الرسول كما يعلم مثل ذلك في تأويلات القرامطة والباطنية من غير أن يحتاج ذلك إلي دليل خاص
وحينئذ فالمتأول إن لم يكن مقصوده معرفة مراد المتكلم كان تأويله للفظ بما يحتمله من حيث الجملة في كلام من تكلم بمثله من العرب هو من باب التحريف والإلحاد لا من باب التفسير وبيان المراد
وأما التفويض: فإن من المعلوم أن الله تعالى أمرنا أن نتدبر القرآن وحضنا علي عقله وفهمه فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله؟
وأيضا فالخطاب الذي أريد به هدانا والبيان لنا وإخراجنا من الظلمات إلي النور إذا كان ما ذكر فيه من النصوص ظاهره باطل وكفر ولم يرد منا أن نعرف لا ظاهره ولا باطنه أو أريد منا أن نعرف باطنه من غير بيان في الخطاب لذلك فعلي التقديرين لم نخاطب بما بين فيه الحق ولا عرفنا أن مدلول هذا الخطاب باطل وكفر
وحقيقة قول هؤلاء في المخاطب لنا: أنه لم يبين الحق ولا أوضحه مع أمره لنا أن نعتقده وأن ما خاطبنا به وأمرنا باتباعه والرد إليه لم يبين به الحق ولا كشفه بل دل ظاهره علي الكفر والباطل وأراد منا أن نفهم منه شيئا أو أن نفهم منه ما لا دليل عليه فيه وهذا كله مما يعلم بالاضطرار تنزيه الله ورسوله عنه وأنه من جنس أقوال أهل التحريف والإلحاد
وبهذا احتج الملاحدة كابن سينا وغيره علي مثبتي المعاد وقالوا: القول في نصوص المعاد كالقول في نصوص التشبيه والتجسيم وزعموا أن الرسول ﷺ لم يبين ما الأمر عليه في نفسه لا في العلم بالله تعالى ولا باليوم الآخر فكان الذي استطالوا به علي هؤلاء هو موافقتهم لهم علي نفي الصفات وإلا فلو آمنوا بالكتاب كله حق الإيمان لبطلت معارضتهم ودحضت حجتهم
ولهذا كان أبن النفيس المتطبب الفاضل يقول: ليس إلا مذهبان: مذهب أهل الحديث أو مذهب الفلاسفة فأما هؤلاء المتكلمون فقولهم ظاهر التناقض والاختلاف يعين أن أهل الحديث أثبتوا كل ما جاء به الرسل وأولئك جعلوا الجميع تخيلا وتوهيما ومعلوم بالأدلة الكثيرة السمعية والعقلية فساد مذهب هؤلاء الملاحدة فتعين أن يكون الحق مذهب السلف أهل الحديث والسنة والجماعة
ثم إن ابن سينا وأمثاله من الباطنية المتفلسفة والقرامطة يقولون: إنه أراد من المخاطبين أن يفهموا الأمر علي خلاف ما هو عليه وأن يعتقدوا ما لا حقيقة له في الخارج لما في هذا التخييل والاعتقاد الفاسد لهم من المصلحة
والجهمية والمعتزلة وأمثالهم يقولون: إنه أراد أن يعتقدوا الحق علي ما هو عليه مع علمهم بأنه لم يبين في الكتاب والسنة بل النصوص تدل علي نقيض ذلك فأولئك يقولون: أراد منهم اعتقاد الباطل وأمرهم به وهؤلاء يقولون: أراد اعتقاد ما لم يدلهم إلا علي نقيضه
والمؤمن يعلم بالاضطرار أن كلا القولين باطل ولا بد للنفاة أهل التأويل من هذا أو هذا: وإذا كان كلاهما باطلا كان تأويل النفاة للنصوص باطلا: فيكون نقيضه حقا وهو إقرار الأدلة الشرعية علي مدلولاتها ومن خرج عن ذلك لزمه من الفساد ما لا يقوله إلا أهل الإلحاد
وما ذكرناه من لوازم قول التفويض: هو لازم لقولهم الظاهر المعروف بينهم إذ قالوا: إن الرسول كان يعلم معاني هذه النصوص المشكلة المتشابهة ولكن لم يبين للناس مراده بها ولا أوضحه إيضاحا يقطع به النزاع
وأما علي قول أكابرهم: إن معاني هذه النصوص المشكلة المتشابهة لا يعلمه إلا الله وأن معناها الذي أراده الله بها هو ما يوجب صرفها عن ظواهرها فعلي قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ولا الملائكة ولا السابقون الأولون وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه بل يقولون كلاما لا يعقلون معناه وكذلك نصوص المثبتين للقدر عند طائفة والنصوص المثبتة للأمر والنهي والوعد والوعيد عند طائفة والنصوص المثبتة للمعاد عند طائفة
ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدي وبيانا للناس وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين وأن يبين للناس ما نزل إليهم وأمر بتدبر القرآن وعقله ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الرب عن صفاته أو عن كونه خالقا لكل شيء وهو بكل شيء عليم أو عن كونه أمر ونهي ووعد وتوعد أو عما أخبر به عن اليوم الآخر ـ لا يعلم أحد معناه فلا يعقل ولا يتدبر ولا يكون الرسول بين للناس ما نزل إليهم ولا بلغ البلاغ المبين
وعلي هذا التقدير فيقول كل ملحد ومبتدع: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي وليس في النصوص ما يناقض ذلك لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة لا يعلم أحد معناها وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يستدل به
فيبقي هذا الكلام سدا لباب الهدي والبيان من جهة الأنبياء وفتحا لباب من يعارضهم ويقول: إن الهدي والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء لأنا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية والأنبياء لم يعلموا ما يقولون: فضلا عن أن يبينوا مرادهم
فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد
فإن قيل: أنتم تعلمون أن كثيرا من السلف رأوا أن الوقف عند قوله { وما يعلم تأويله إلا الله } [ آل عمران: 6 ] بل كثير من الناس يقول: هذا هو قول السلف ونقلوا هذا القول عن أبي بن كعب وابن مسعود وعائشة وابن عباس وعروة بن الزبير وغير واحد من السلف والخلف وإن كان القول الآخر وهو أن السلف يعلمون تأويله ـ منقولا عن ابن عباس أيضا وهو قول مجاهد ومحمد بن جعفر وابن إسحاق وابن قتيبة وغيرهم وما ذكرتموه قدح في أولئك السلف وأتباعهم
قيل: ليس الأمر كذلك فإن أولئك السلف الذين قالوا: لا يعلم تأويله إلا الله كانوا يتكلمون بلغتهم المعروفة بينهم ولم يكن لفظ التأويل عندهم يراد به معني التأويل الاصطلاحي الخاص وهو صرف اللفظ عن المعني المدلول عليه المفهوم منه إلي معني يخالف ذلك فإن تسمية هذا المعني وحده تأويلا إنما هو اصطلاح طائفة من المتأخرين من الفقهاء والمتكلمين وغيرهم ليس هو عرف السلف من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم لاسيما ومن يقول إن لفظ التأويل هذا معناه يقول: إنه يحمل اللفظ علي المعني المرجوح لدليل يقترن به وهؤلاء يقولون: هذا المعني المرجوح لا يعلمه أحد من الخلق والمعني الراجح لم يرده الله
وإنما كان لفظ التأويل في عرف السلف يراد به ما أراده الله بلفظ التأويل في مثل قوله تعالى { هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق } [ الأعراف: 53 ] وقال تعالى { ذلك خير وأحسن تأويلا } [ النساء: 59 ] وقال يوسف { يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل } [ يوسف: 100 ] وقال يعقوب له { ويعلمك من تأويل الأحاديث } [ يوسف: 6 ] { وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله } [ يوسف: 45 ] وقال يوسف { لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما } [ يوسف: 37 ]
فتأويل الكلام الطلبي: الأمر والنهي وهو نفس فعل المأمور به وترك المنهي عنه كما قال سفيان بن عيينة: السنة تأويل الأمر والنهي و[ قالت عائشة: كان رسول الله ﷺ في يقول ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن ] وقيل لعروة بن الزبير: فما بال عائشة كانت تصلي في السفر أربعا؟ قال: تأولت كما تأول عثمان ونظائره متعددة
وأما تأويل ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فهو نفس الحقيقة التي أخبر عنها وذلك في حق الله: هو كنه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره ولهذا قال مالك وربيعة وغيرهما: الاستواء معلوم والكيف مجهول وكذلك قال ابن الماجوشون وأحمد بن حنبل وغيرهما من السلف يقولون: إنا لا نعلم كيفية ما أخبر الله به عن نفسه وإن علمنا تفسيره ومعناه
ولهذا رد أحمد بن حنبل علي الجهمية والزنادقة فيما طعنوا فيه من متشابه القرآن وتأولوه علي غير تأويله فرد علي من حمله علي غير ما أريد به وفسر هو جميع الآيات المتشابهة وبين المراد بها
وكذلك الصحابة والتابعون فسروا جميع القرآن وكانوا يقولون: إن العلماء يعلمون تفسيره وما أريد به وإن لم يعلموا كيفية ما أخبر الله به عن نفسه وكذلك لا يعلمون كيفية الغيب فإن ما أعده الله لأوليائه من النعيم لا عين رأته ولا أذن سمعته ولا خطر علي قلب بشر فذاك الذي أخبر به لا يعلمه إلا الله فمن قال من السلف إن تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله بهذا المعني فهذا حق
وأما من قال: إن التأويل الذي هو تفسيره وبيان المراد به لا يعلمه إلا الله فهذا ينازعه فيه عامة الصحابة والتابعين الذين فسروا القرآن كله وقالوا: إنهم يعلمون معناه كما قال مجاهد: عرضت المصحف علي ابن عباس من فاتحته إلي خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عنها وقال ابن مسعود: ما في كتاب الله آية إلا وأنا أعلم فيم أنزلت وقال الحسن البصري: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم ما أراد بها
ولهذا كانوا يجعلون القرآن يحيط بكل ما يطلب من علم الدين كما قال مسروق: ما نسأل أصحاب محمد عن شيء إلا وعلمه في القرآن ولكن علمنا قصر عنه وقال الشعبي: ما ابتدع قوم بدعة إلا في كتاب الله بيانها وأمثال ذلك من الآثار الكثيرة المذكورة بالأسانيد الثابتة مما ليس هذا موضع بسطه
العقليات المبتدعة بنيت علي أقوال مشتبهة مجملة تشتمل علي حق وباطل الوجه السابع عشر
أن يقال: الذين يعارضون الكتاب والسنة بما يسمونه عقليات: من الكلاميات والفلسفيات ونحو ذلك إنما يبنون أمرهم في ذلك علي أقوال مشتبهة مجملة تحتمل معاني متعددة ويكون ما فيها من الاشتباه لفظا ومعني يوجب تناولها لحق وباطل فبما فيها من الحق يقبل ما فيها من الباطل لأجل الاشتباه والالتباس ثم يعارضون بما فيها من الباطل ونصوص الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم
وهذا منشأ ضلال من ضل من الأمم قبلنا وهو منشأ البدع فإن البدعة لو كانت باطلا محضا لظهرت وبانت وما قبلت ولو كانت حقا محضا لا شوب فيه لكانت موافقة للسنة فإن السنة لا تناقض حقا محضا لا باطل فيه ولكن البدعة تشتمل علي حق وباطل وقد بسطنا الكلام علي هذا في غير هذا الموضع
ولهذا قال تعالى فيما يخاطب به أهل الكتاب علي لسان محمد ﷺ { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون * وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون * ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون } [ البقرة: 40 - 42 ] فنهاهم عن لبس الحق بالباطل وكتمانه ولبسه به: خلطه به حتى يلتبس أحدهما بالآخر كما قال تعالى { ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون } [ الأنعام: 9 ]
ومنه التلبيس وهو التدليس وهو الغش لأن المغشوش من النحاس تلبسه فضة تخالطه وتغطيه كذلك إذا لبس الحق بالباطل يكون قد أظهر الباطل في صورة الحق فالظاهر حق والباطن باطل ثم قال تعالى { وتكتموا الحق وأنتم تعلمون } [ البقرة: 42 ]
وهنا قولان قيل: إنه نهاهم عن مجموع الفعلين وإن الواو واو الجمع التي يسميها نحاة الكوفة واو الصرف كما في قولهم لاتأكل السمك وتشرب اللبن كما قال تعالى: { ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } [ آل عمران: 142 ] علي قراءة النصب وكما في قوله تعالى { أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير * ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص } [ الشورى: 34 - 35 ] علي قراءة النصب وعلي هذا فيكون الفعل الثاني في قوله { وتكتموا الحق } منصوبا والأول مجزوما
وقيل: بل الواو هي الواو العاطفة المشركة بين المعطوف والمعطوف عليه فيكون قد نهي عن الفعلين من غير اشتراط اجتماعهما كما إذا قيل: لا تكفر وتسرق وتزن
وهذا هو الصواب كما في قوله تعالى { يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون } [ آل عمران: 71 ] ولو ذمهم علي الاجتماع لقال: وتكتموا الحق بلا نون وتلك الآية نظير هذه
ومثل هذا الكلام إذا أريد به النهي عن كل من الفعلين فإنه قد يعاد فيه حرف النفي كما تقول: لا تكفر ولا تسرق ولا تزن ومنه قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء: 29 ]
وأما إذا لم يعد حرف النفي فيكون لارتباط أحد الفعلين بالآخر مثل أن يكون أحدهما مستلزما للآخر كما قيل: لا تكفر بالله وتكذب أنبياءه ونحو ذلك
وما يكون اقترانهما ممكنا لا محذور فيه لكن النهي عن الجميع فهو قليل في الكلام ولذلك قل ما يكون فيه الفعل الثاني منصوبا والغالب علي الكلام جزم الفعلين
وهذا مما يبين أن الراجح في قوله: ( وتلبسوا ) أن تكون الواو واو العطف والفعل مجزوما ولم يعد حرف النفي لأن أحد الفعلين مرتبط بالآخر مستلزم له فالنهي عن الملزوم ـ وإن كان يتضمن النهي عن اللازم فقد يظن أنه ليس مقصودا للنهي وإنما هو واقع بطريق اللزوم العقلي
ولهذا تنازع الناس في الأمر بالشيء: هل يكون أمرا بلوازمه؟ وهل يكون نهيا عن ضده؟ مع اتفاقهم علي أن فعل المأمور لا يكون إلا مع فعل لوازمه وترك ضده ومنشأ النزاع: أن الآمر بالفعل قد لا يكون مقصوده اللوازم ولا ترك الضد ولهذا إذا عاقب المكلف لا يعاقبه إلا علي ترك المأمور فقط لا يعاقبه علي ترك لوازمه وفعل ضده
وهذه المسألة هي الملقبة بأن: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وقد غلط فيها بعض الناس فقسموا ذلك إلي ما لا يقدر المكلف عليه كالصحة في الأعضاء والعدد في الجمعة ونحو ذلك مما لا يكون قادرا علي تحصيله وإلي ما يقدر عليه كقطع المسافة إلي الحج وغسل جزء من الرأس في الوضوء وإمساك جزء من الليل في الصيام ونحو ذلك فقالوا: ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب
وهذا التقسيم خطأ فإن هذه الأمور التي ذكروها هي شرط في الوجوب فلا يتم الوجوب إلا بها وما لا يتم الوجوب إلا به لا يجب علي العبد فعله باتفاق المسلمين سواء كان مقدورا عليه أو لا كالاستطاعة في الحج واكتساب نصاب الزكاة فإن العبد إذا كان مستطيعا للحج وجب عليه الحج وإذا كان مالكا لنصاب الزكاة وجبت عليه الزكاة فالوجوب لا يتم إلا بذلك فلا يجب عليه تحصيل استطاعة الحج ولا ملك النصاب
ولهذا من يقول: إن الاستطاعة في الحج ملك المال كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد فلا يوجبون عليه اكتساب المال ولم يتنازعوا إلا فيما إذا بذلت له الاستطاعة: إما بذل الحج وإما بذل المال له من ولده وفيه نزاع معروف في مذهب الشافعي وأحمد ولكن المشهور من مذهب أحمد عدم الوجوب وإنما أوجبه طائفة من أصحابه لكون الأب له علي أصله أن يتملك مال ولده فيكون قبوله كتملك المباحات والمخالفون لهؤلاء من أصحابه لا يوجبون عليه اكتساب المباحات والمشهور من مذهب الشافعي الوجوب ببذل الابن الفعل
والمقصود هنا الفرق بين ما لا يتم الوجوب إلا به وما لا يتم الواجب إلا به وأن الكلام في القسم الثاني فما لا يتم الواجب إلا به كقطع المسافة في الجمعة والحج ونحو ذلك فعلي المكلف فعله باتفاق المسلمين
لكن من ترك الحج وهو بعيد الدار عن مكة أو ترك الجمعة وهو بعيد الدار عن الجامع فقد ترك أكثر مما ترك قريب الدار ومع هذا فلا يقال: إن عقوبة هذا أعظم من عقوبة قريب الدار والواجب ما يكون تركه سببا للذم والعقاب فلو كان هذا الذي لزم فعله بطريق التبع مقصودا بالوجوب لكان الذم والعقاب لتاركه أعظم فيكون من ترك الحج من أهل الهند والأندلس أعظم عقابا ممن تركه من أهل مكة والطائف ومن ترك الجمعة من أقصي المدينة أعظم عقابا ممن تركها من جيران المسجد الجامع
فلما كان من المعلوم أن ثواب البعيد أعظم وعقابه إذا ترك ليس أعظم من عقاب القريب نشأت من ههنا الشبهة: هل هو واجب أو ليس بواجب؟ والتحقيق: أن وجوبه بطريق اللزوم العقلي لا بطريق قصد الآمر بل بالفعل قد لا يقصد طلب لوازمه وإن كان عالما بأنه لا بد من وجودها وإن كان ممن يجوز عليه الغفلة فقد لا تخطر بقلبه اللوازم
ومن فهم هذا انحلت عنه شبهة الكعبي: هل في الشريعة مباح أم لا؟ فإن الكعبي زعم أنه لا مباح في الشريعة لأنه ما من فعل يفعله العبد من المباحات إلا وهو مشتغل به عن محرم والنهي عن المحرم أمر بأحد أضداده فيكون من فعله من الباحات هو من أضداد المحرم المأمور بها
وجوابه أن يقال: النهي عن الفعل ليس أمرا بضد معين لا بطريق القصد ولا بطريق اللزوم بل هو نهي عن الفعل المقصود تركه بطريق القصد وذلك يستلزم الأمر بالقدر المشترك بين الأضداد فهو أمر بمعني مطلق كلي والأمر بالمعني المطلق الكلي ليس أمرا بمعين بخصوصه ولا نهيا ننه بل لا يمكن فعل المطلق إلا بمعين أي معين كان فهو أمر بالقدر المشترك بين المعينات فما امتاز به معين عن معين فالخيرة فيه إلي المأمور لم يؤمر به ولم ينه عنه وما أشتركت فيه المعنيات ـ وهو القدر المشترك ـ فهو الذي أمر به الآمر
وهذا يحل الشبهة في مسألة المأمور المخير والأمر بالماهية الكلية: هل يكون أمرا بشيء من جزئياتها أم لا؟ فالمخير هو الذي يكون أمر بخصلة من خصال معينة كما في فدية الأذى وكفارة اليمين كقوله تعالى { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } [ البقرة: 196 ] وقوله تعالى { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة } [ المائدة: 89 ] فهنا اتفق المسلمون علي أنه إذا فعل واحد منها برئت ذمته وأنه إذا ترك الجميع لم يعاقب علي ترك الثلاثة كما يعاقب إذا وجب عليه أن يفعل الثلاثة كلها
وكذلك اتفق العقلاء المعتبرون علي أن الواجب ليس معينا في نفس الأمر وأن الله لم يوجب عليه ما علم أنه سيفعله وإنما يقول هذا بعض الغالطين ويحكيه طائفة عن طائفة غلطا عليهم بل أوجب عليه أن يفعل هذا أو هذا وهو كما قال أبن عباس: كل شيء في القرآن أو أو فهو علي التخيير وكل شيء في القرآن فمن لم يجد فهو علي الترتيب والله يعلم أن العبد يفعل واحدا بعينه مع علمه أنه لم يوجبه عليه بخصوصه
ثم اضطراب الناس هنا: هل الواجب الثلاثة فلا يكون هناك فرق بين المعين وبين المخير أو الواجب واحد لا بعينه فيكون المأمور به مبهما غير معلوم للمأمور؟ ولا بد في الأمر من تمكن المأمور من العلم بالمأمور به والعمل به والقول بأيجاب الثلاثة يحكي عن المعنزلة والقول بإيجاب واحد لا بعينه هو قول الفقهاء
وحقيقة الأمر: أن الواجب هو القدر المشترك بين الثلاثة وهو مسمي أحدها فالواجب أحد الثلاثة وهذا معلوم متميز معروف للمأمور وهذا المسمي يوجد في هذا المعين وهذا المعين وهذا المعين فلم يجب واحد بعينه غير معين بل وجب أحد المعينات والامتثال يحصل بواحد منها وإن لم يعينه الآمر والمتناقض هو أن يوجب معينا ولا يعينه أما إذا كان الواجب غير معين بل هو القدر المشترك فلا منافاة بين الإيجاب وترك التعيين
وهذا يظهر بالواجب المطلق وهو الأمر بالماهية الكلية كالأمر بإعتاق رقبة فإن الواجب رقبة مطلقة والمطلق لا يوجد إلا معينا لكن لا يكون معينا في العلم والقصد فالآمر لم يقصد واحدا بعينه مع علمه بأنه لا يوجد إلا معينا وأن المطلق الكلي عند الناس وجوده في الأذهان لا في الأعيان فما هو مطلق كلي في أذهان الناس لا يوجد إلا معينا مشخصا متميزا في الأعيان وإنما سمي كليا لكونه في الذهن كليا وأما في الخارج فلا يكون في الخارج ما هو كلي أصلا
وهذا الأصل ينفع في عامة العلوم فلهذا يتعدد ذكره في كلامنا بحسب الحاجة إليه فيحتاج أن يفهم في كل موضع يحتاج إليه فيه كما تقدم وبسبب الغلط فيه ضل طوائف من الناس حتى في وجود الرب تعالى وجعلوه وجودا مطلقا إما بشرط الإطلاق وإما بغير شرط الإطلاق وكلاهما يمتنع وجوده في الخارج
والمتفلسفة منهم من يقول: يوجد المطلق بشرط الإطلاق في الخارج كما يذكر عن شيعة أفلاطون القائلين بالمثل الأفلاطونية ومنهم من يزعم وجود المطلقات في الخارج مقارنة للمعينات وأن الكلي المطلق جزء من المعين الجزئي كما يذكر عمن يذكر عنه من أتباع أرسطو صاحب المنطق
وكلا القولين خطأ صريح فإنا نعلم بالحس وضرورة العقل أن الخارج ليس فيه شيء معين مختص لا شركة فيه أصلا ولكن المعاني الكلية العامة المطلقة في الذهن كالألفاظ المطلقة والعامة في اللسان وكالخط الدال علي تلك الألفاظ فالخط يطابق اللفظ واللفظ يطابق المعني فكل من الثلاثة يتناول الأعيان الموجودة في الخارج ويشملها ويعمها لا أن في الخارج شيئا هو نفسه يعم هذا وهذا أو يوجد في هذا وهذا أو يشترك فيه هذا وهذا فإن هذا لا يقوله من يتصور ما يقول: وإنما يقوله من اشتبهت عليه الأمور الذهنية بالأمور الخارجية أو من قلد بعض من قال ذلك من الغالطين فيه
ومن علم هذا علم كثيرا مما دخل في المنطق من الخطأ في كلامهم في الكليات والجزئيات مثل الكليات الخمس: الجنس والفصل والنوع والخاصة والعرض العام
وما ذكروه من الفرق بين الذاتيات واللوازم للماهية وما ادعوه من تركيب الأنواع من الذاتيات المشتركة المميزة التي يسمونها الجنس والفصل وتسمية هذه الصفات أجزاء الماهية ودعواهم أن هذه الصفات التي يسمونها أجزاء تسبق الموصوف في الوجود الذهني والخارجي جميعا وإثباتهم في الأعيان الموجودة في الخارج حقيقة عقلية مغايرة للشيء المعين الموجود وأمثال ذلك من أغاليطهم التي تقود من اتبعها إلي الخطأ في الإلهيات حتى يعتقد في الموجود الواجب: أنه وجود مطلق بشرط الإطلاق كما قاله طائفة من الملاحدة أو بشرط سلب الأمور الثبوتية كلها كما قاله ابن سينا وأمثاله مع العلم بصريح العقل أن المطلق بشرط الإطلاق أو بشرط سلب الأمور الثبوتية يمتنع وجوده في الخارج فيكون الواجب الوجود ممتنع الوجود
وهذا الكفر المتناقض وأمثاله هو سبب ما اشتهر بين المسلمين أن المنطق يجر إلي الزندقة وقد يطعن في هذا من لم بفهم حقيق المنطق وحقيقة لوازمه ويظن انه في نفسه لا يستلزم صحة الإسلام ولا فساده ولا ثبوت حق ولا انتقاءه وإنما هو آلة تعصم مراعاتها عن الخطأ في النظر وليس الأمر كذلك بل كثير مما ذكروه في المنطق يستلزم السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات ويكون من قال بلوازمه ممن قال الله تعالى فيه: { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } [ الملك: 10 ]
والكلام في هذا مبسوط في غير هذا الموضوع وإنما يلتبس علي كثير من الناس بسبب ما في ألفاظه من الإجمال والاشتراك والإبهام فإذا فسر المراد بتلك الألفاظ انكشفت حقيقة المعاني المعقولة كما سننبه علي ذلك إن شاء الله تعالى
والغرض هنا: أن الأمر بالشيء الذي له لوازم لا توج إلا بوجوده سواء كانت سابقة علي وجوده أو كانت لاحقة لوجوده قد يكون الآمر قاصدا للأمر بتلك اللوازم بحيث يكون آمرا بهذا وبهذا اللازم وأنه إذا تركهما عوقب علي كل منهما وقد يكون المقصود أحدهما دون الآخر وكذلك النهي عن الشيء الذي له ملزوم قد يكون قصده أيضا ترك الملزوم لما فيه من المفسدة وقد يكون تركه غير مقصود له وإنما لزم لزوما
ومن هنا ينكشف لك سر مسألة اشتباه الأخت بالأجنبية والمذكي بالميت ونحو ذلك مما ينهي العبد فيه عن فعل الاثنين لأجل الاشتباه فقالت طائفة: كلتاهما محرمة وقالت طائفة: بل المحرم في نفس الأمر الأخت والميتة والأخرى إنما نهي عنها لعلة الاشتباه وهذا القول أغلب علي فطرة الفقهاء والأول أغلب علي طريقة من لا يجعل في الأعيان معاني تقتضي التحليل والتحريم فيقول: كلاهما نهي عنه وإنما سبب النهي اختلف
والتحقيق في ذلك أن المقصود للناهي اجتناب الأجنبية والميتة فقط والمفسدة التي من أجلها نهي عن العين موجودة فيها فقط وأما ترك الأخرى فهي من باب اللوازم فهنا لا يتم اجتناب المحرم إلا باجتنابه وهنا لا يتم فعل الواجب إلا بفعله
وهذا نظير من ينهاه الطبيب عن تناول شراب مسموم واشتبه ذلك القدح بغيره فعلي المريض اجتناب القدحين والمفسدة في أحدهما ولهذا لو أكل الميتة والمذكي لعوقب علي أكل الميتة كما لو أكلها وحدها ولا يزداد عقابه بأكل المذكي بخلاف ما إذا أكل ميتتين فإنه يعاقب علي أكلهما أكثر من عقاب من أكل إحداهما
إذا عرف هذا فقوله تعالى { ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق } [ البقرة: 42 ] نهي عنهما والثاني لازم للأول مقصود بالنهي فمن لبس الحق بالباطل كتم الحق وهو معاقب علي لبسه الحق بالباطل وعلي كتمانه الحق فلا يقال: النهي عن جمعهما فقط لأنه لو كان هذا صحيحا لم يكن مجرد كتمان الحق موجبا للذم ولا مجرد لبس الحق بالباطل موجبا للذم وليس الأمر كذلك فإن كتمان أهل الكتاب ما أنزل الله من البينات والهدي من بعد ما بينه للناس يستحقون به العقاب باتفاق المسلمين وكذلك لبسهم الحق الذي أنزله الله بالباطل الذي ابتدعوه وجمع بينهما بدون إعادة حرف النفي لأن اللبس مستلزم للكتمان ولم يقتصر علي الملزوم لأن اللازم مقصود بالنهي
فهذا يبين لك بعض ما في القرآن من الحكم والأسرار وإنما كان اللبس مستلزما للكتمان لأن من لبس الحق بالباطل كما فعله أهل الكتاب ـ حيث ابتدعوا دينا لم يشرعه الله فأمروا بما لم يأمر به ونهوا عما لم ينه عنه وأخبروا بخلاف ما أخبر به ـ فلابد له أن يكتم من الحق المنزل ما يناقض بدعته إذ الحق المنزل الذي فيه خبر بخلاف ما أخبر به إن لم يكتمه لم يتم مقصوده وكذلك الذي فيه إباحة لما نهي عنه أو إسقاط لما أمر به
والحق المنزل إما أمر ونهي وإباحة وإما خبر فالبدع الخبرية كالبدع المتعلقة بأسماء الله تعالى وصفاته والنبيين واليوم الآخر لا بد أن يخبروا فيها بخلاف ما أخبر الله به والبدع الأمرية كمعصية الرسول المبعوث إليهم ونحو ذلك لا بد أن يأمروا فيها بخلاف ما أمر الله به والكتب المتقدمة تخبر عن الرسول النبي الأمي وتأمر باتباعه
والمقصود هنا الاعتبار فإن بني إسرائيل قد ذهبوا أو كفروا وإنما ذكرت قصصهم عبرة لنا وكان بعض السلف يقول: إن بني إسرائيل ذهبوا وإنما يعني أنتم ومن الأمثال السائرة: إياك أعني واسمعي يا جارة فكان فيما خاطب الله بني إسرائيل عبرة لنا: أن لا نلبس الحق بالباطل ونكتم الحق
والبدع التي يعارض بها الكتاب والسنة التي يسميها أهلها كلاميات وعقليات وفلسفيات أو ذوقيات ووجديات وحقائق وغير ذلك لا بد أن تشمل علي لبس حق بباطل وكتمان حق وهذا أمر موجود يعرفه من تأمله فلا تجد قط مبتدعا إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه ويبغضها ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها ويبغض من يفعل ذلك كما قال بعض السلف: ما ابتدع أحد بدعة إلا نزعت حلاوة الحديث من قلبه ثم إن قوله الذي يعارض به النصوص لا بد له أن يلبس فيه حقا بباطل بسبب ما يقوله من الألفاظ المجملة المتشابهة
ولهذا قال الإمام أحمد في أول ما كتبه في الرد علي الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته علي غير تأويله مما كتبه في حبسه ـ وقد ذكره الخلال في كتاب السنة والقاضي أبو يعلي وأبو الفضل التميمي وأبو الوفاء بن عقيل وغير واحد من أصحاب أحمد ولم ينفه أحد منهم عنه ـ قال في أوله: الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلي الهدى ويبصرون منهم علي الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمي فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من تائه ضال قد هدوه فما أحسن أثرهم علي الناس وأقبح أثر الناس عليهم ! ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون علي مخالفة الكتاب يقولون علي الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما بشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين
المبتدعة يستعملون ألفاظ الكتاب والسنة واللغة ولكن يقصدون بها معاني أخر
والمقصود هنا قوله: يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم وهذا الكلام المتشابه الذي يخدعون به جهال الناس هو الذي يتضمن الألفاظ المتشايهة المجملة التي يعارضون بها نصوص الكتاب والسنة وتلك الألفاظ تكون موجودة مستعملة في الكتاب والسنة وكلام الناس لكن بمعان أخر غير المعاني التي قصدوها هم بها فيقصدون هم بها معاني أخر فيحصل الاشتباه والإجمال كلفظ العقل والعاقل والمعقول فإن لفظ العقل في لغة المسلمين إنما يدل علي عرض إما مسمي مصدر عقل يعقل عقلا وإما قوة يكون بها العقل وهي العزيزة وهم يريدون بذلك جوهرا مجردا قائما بنفسه
وكذلك لفظ المادة والصورة بل وكذلك لفظ الجوهر والعرض والجسم والتحيز والجهة والتركيب والجزء والافتقار والعلة والمعلول والعاشق والعشق والمعشوق بل ولفظ الواحد في التوحيد بل ولفظ الحدوث والقدم بل ولفظ الواجب والممكن بل ولفظ الوجود والذات وغير ذلك من الألفاظ
وما من أهل فن إلا وهم معترفون بأنهم يصطلحون علي ألفاظ يتفاهمون بها مرادهم كما لأهل الصناعات العلمية ألفاظ يعبرون بها عن صناعتهم وهذه الألفاظ هي عرفية عرفا خاصا ومرادهم بها غير المفهوم منها في أصل اللغة سواء كان ذلك المعني حقا أو باطلا
وإذا كان كذلك فهذا مقام يحتاج إلي بيان :
وذلك أن هؤلاء المعارضين إذا لم يخاطبوا بلغتهم واصطلاحهم فقد يقولون: إنا لا نفهم ما قيل لنا أو أن المخاطب لنا والراد علينا لم يفهم قولنا ويلبسون علي الناس بأن الذي عنيناه بكلامنا حق معلوم بالعقل أو بالذوق ويقولون أيضا: إنه موافق للشرع إذا لم يظهروا مخالفة الشرع كما يفعله الملاحدة من القرامطة والفلاسفة ومن ضاهأهم وإذا خوطبوا بلغتهم واصطلاحهم ـ مع كونه ليس هو اللغة المعروفة التي نزل بها القرآن ـ فقد يفضي إلي مخالفة ألفاظ القرآن في الظاهر
فإن هؤلاء عبروا عن المعاني التي أثبتها القرآن بعبارات أخري ليست في القرآن وربما جاءت في القرآن بمعني آخر فليست تلك العبارات مما أثبته القرآن بل قد يكون معناها المعروف في لغة العرب التي نزل بها القرآن منتفيا باطلا نفاه الشرع والعقل وهم اصطلحوا بتلك العبارات علي معان غير معانيها في لغة العرب فتبقي إذا أطلقوا نفيها لم تدل في لغة العرب علي باطل ولكن تدل في اصطلاحهم الخاص علي باطل فمن خاطبهم بلغة العرب قالوا: إنه لم يفهم مرادنا ومن خاطبهم باصطلاحهم أخذوا يظهرون عنه أنه قال ما يخالف القرآن وكان هذا من جهة كون تلك الألفاظ مجملة مشتبهة
معني لفظ التوحيد في الكتاب والسنة مخالف لما يقصده المبتدعة
وهذا كالألفاظ المتقدمة مثل لفظ: القدم والحدوث والجوهر والجسم والعرض والمركب والمؤلف والمتحيز والبعض والتوحيد والواحد فهم يريدون بلفظ التوحيد والواحد في اصطلاحهم: ما لا صفة له ولا يعلم منه شيء دون شيء ولا يرى والتوحيد الذي جاء به الرسول لم يتضمن شيئا من هذا النفي وإنما تضمن إثبات الإلهية لله وحده بأن يشهد أن لا إله إلا هو ولا يعبد إلا إياه ولا يتوكل إلا عليه ولا يوالي إلا له ولا يعادي إلا فيه ولا يعمل إلا لأجله وذلك يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات
قال جابر بن عبد الله في حديثه الصحيح في سياق حجة الوداع [ فأهل رسول الله ﷺ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ] وكانوا في الجاهلية يقولولن: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك فأهل النبي ﷺ بالتوحيد كما تقدم
قالت تعالى { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم } [ البقرة: 163 ] وقال تعالى { وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون } [ النحل: 51 ] وقال تعالى { ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه } [ المؤمنون: 117 ] وقال تعالى { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } [ الزخرف: 45 ] وقال تعالى { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة } [ النحل: 36 ]
وأخبر عن كل نبي من الأنبياء أنهم دعوا الناس إلي عبادة الله وحده لا شريك له
وقال تعالى { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده } [ الممتحنة: 4 ] وقال تعالى عن المشركين: { أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب } [ ص: 5 ] وقال تعالى { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا } [ الإسراء: 46 ] وقال تعالى { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون } [ الزمر: 45 ] وقال تعالى { إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون * ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون } [ الصافات: 35 - 36 ] وهذا في القرآن كثير
وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف ويظن هؤلاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد ويظن هؤلاء أنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه فقد فنوا في غاية التوحيد
وكثير من أهل الكلام يقول: التوحيد له ثلاث معان وهو: واحد في ذاته لا قسيم له أو لا جزء له وواحد في صفاته لا شبيه له وواحد في أفعاله لا شريك له وهذا المعني الذي تتناوله هذه العبارة فيها ما يوافق ما جاء به الرسول ﷺ وفيها ما يخالف ما جاء به الرسول وليس الحق الذي فيها هو الغاية التي جاء بها الرسول بل التوحيد الذي أمر به أمر يتضمن الحق الذي في هذا الكلام وزيادة أخري فهذا من الكلام الذي لبس فيه الحق بالباطل وكتم الحق
وذلك أن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات ونزهه عن كل ما ينزه عنه وأقر بأنه وحده خالق كل شيء ـ لم يكن موحدا بل ولا مؤمنا حتى يشهد أن لا إله إلا الله فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له
والإله هو بمعني المألوه المعبود الذي يستحق العبادة ليس هو الإله بمعني القادر علي الخلق فإذا فسر المفسر الإله بمعني القادر علي الاختراع واعتقد أن هذا أخص وصف الإله وجعل إثبات هذا التوحيد هو الغاية في التوحيد كما يفعل ذلك من يفعله من المتكلمة الصفاتية وهو الذي ينقلونه عن أبي الحسن وأتباعه لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء وكانوا مع هذا مشركين
وقال تعالى { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } [ يوسف: 106 ] قال طائفة من السلف: تسألهم من خلق السماوات والأرض فيقولون الله وهم مع هذا يعبدون غيره وقال تعالى { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل فأنى تسحرون } [ المؤمنون: 84 - 89 ] وقال تعالى { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله } [ العنكبوت: 61 ]
فليس كل من أقر أن الله رب كل شيء وخالقه يكون عابدا له دون ما سواه داعيا له دون سواه راجيا له خائفا منه دون ما سواه يوالي فيه ويعادي فيه ويطيع رسله ويأمر بما أمر به وينهى عما نهي عنه وقد قال تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } [ الأنفال: 39 ] وعامة المشركين أقروا بأن الله خالق كل شيء وأثبتوا الشفعاء الذين يشركونهم به وجعلوا له أندادا قال تعالى { أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون * قل لله الشفاعة جميعا } [ الزمر: 43 - 44 ] وقال تعالى { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون } [ يونس: 18 ] وقال تعالى { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون } [ الأنعام: 94 ] وقال تعالى { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } [ البقرة: 165 ]
ولهذا كان من أتباع هؤلاء من يسجد للشمس والقمر والكواكب ويدعوها كما يدعو الله تعالى ويصوم لها وينسك لها ويتقرب إليها ثم يقول: إن هذا ليس بشرك: وإنما الشرك إذا اعتقدت أنها هي المدبرة لي فإذا جعلتها سببا وواسطة لم أكن مشركا
ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك فهذا ونحوه من التوحيد الذي بعث الله به رسله وهم لا يدخلونه في مسمي التوحيد الذي اصطلحوا عليه وأدخلوا في ذلك نفي صفاته فإنهم إذا قالوا: لا قسيم له ولا جزء له ولا شبيه له فهذا اللفظ ـ وإن كان يراد به معني صحيح ـ فإن الله ليس كمثله شيء هو سبحانه لا يجوز عليه أن يتفرق ولا يفسد ولا يستحيل بل هو أحد صمد والصمد: الذي لا جوف له وهو السيد الذي كمل سؤدده فإنهم يدرجون في هذا نفي علوه علي خلقه ومباينته لمصنوعاته ونفي ما ينفونه من صفاته ويقولون: إن إثبات ذلك يقتضي أن يكون مركبا منقسما وأن يكون له شبيه
وأهل العلم يعلمون أن مثل هذا لا يسمي في لغة العرب التي نزل بها القرآن تركيبا وانقساما ولا تمثيلا وهكذا الكلام في مسمى الجسم والعرض والجوهر والمتحيز وحلول الحوادث وأمثال ذلك فإن هذه الألفاظ يدخلون في مسماها الذي ينفونه أمورا مما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله فيدخلون فيها نفي علمه وقدرته وكلامه ويقولون: إن القرآن مخلوق لم يتكلم الله به وينفون بها رؤيته لأن رؤيته لأن رؤيته علي اصطلاحهم لا تكون إلا لمتحيز في جهة وهو جسم ثم يقولون: والله منزه عن ذلك: فلا تجوز رؤيته وكذلك يقولون: إن المتكلم لا يكون إلا جسما متحيزا والله ليس بجسم متحيز فلا يكون متكلما ويقولون: لو كان فوق العرش لكن جسما متحيزا والله ليس بجسم متحيز فلا يكون متكلما فوق العرش وأمثال ذلك
إما أن نمتنع عن التكلم بالألفاظ المبتدعة وإما نقبل ما وافق معناه الكتاب والسنة
وإذا كانت هذه الألفاظ مجملة ـ كما ذكر ـ فالمخاطب لهم إما أن يفصل ويقول: ما تريدون بهذه الألفاظ؟ فإن فسروها بالمعني الذي يوافق القرآن قبلت وإن فسروها بخلاف ذلك ردت
وإما أن يمتنع عن موافقتهم في التكلم بهذه الألفاظ نفيا وإثباتا فإن امتنع عن التكلم بها معهم فقد ينسونه إلي العجز والانقطاع وإن تكلم بها معهم نسبوه إلي أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقا وباطلا وأوهموا الجهال باصطلاحهم: أن إطلاق تلك الألفاظ يتناول المعاني الباطلة التي ينزه الله عنها فحينئذ تختلف المصلحة فإن كانوا في مقام دعوة الناس إلي قولهم وإلزامهم به أمكن أن يقال لهم: لا يجب علي أحد أن يجيب داعيا إلا إلي ما دعا إليه رسول الله ﷺ فما لم يثبت أن الرسول دعا الخلق إليه لم يكن علي الناس إجابة من دعا إليه ولا له دعوة الناس إلي ذلك ولو قدر أن ذلك المعني حق
وهذه الطريق تكون أصلح إذا لبس ملبس منهم علي ولاة الأمور وأدخلوه في بدعتهم كما فعلت الجهمية بمن لبسوا عليه من الخلفاء حتى أدخلوه في بدعتهم من القول بخلق القرآن وغير ذلك فكان من أحسن إلي مناظرتهم أن يقال: ائتونا بكتاب أو سنة حتى نجيبكم إلي ذلك وإلا فلسنا نجيبكم إلي ما لم يدل عليه الكتاب والسنة
وهذا لأن الناس لا يفصل بينهم النزاع إلا كتاب منزل من السماء وإذا ردوا إلي عقولهم فلكل واحد منهم عقل وهؤلاء المختلفون يدعي أحدهم: أن العقل أداه إلي علم ضروري ينازعه فيه الآخر فلهذا لا يجوز أن يجعل الحاكم بين الأمة في موارد النزاع إلا الكتاب والسنة
وبهذا ناظر الإمام أحمد الجهمية لما دعوه إلي المحنة وصار يطالبهم بدلالة الكتاب والسنة علي قولهم فلما ذكروا حججهم كقوله تعالى { خالق كل شيء } [ الأنعام: 102 ] وقوله { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } [ الأنبياء: 2 ] وقوله النبي ﷺ [ تجيء البقرة وآل عمران ] وأمثال ذلك من الأحاديث مع ما ذكروه من قوله ﷺ [ إن الله خلق الذكر ] أجابهم عن هذه الحجج بما بين به أنها لا تدل علي مطلوبهم
ولما قالوا: ما تقول في القرآن: أهو الله أو غير الله؟ عارضهم بالعلم فقال: ما تقولون في العلم: أهو الله أو غير الله؟ ولما ناظره أبو عيسى محمد بن عيسى برغوث وكان من أحذقهم بالكلام: ألزمه التجسيم وأنه إذا أثبت لله كلاما غير مخلوق لزم أن يكون جسما
فأجابه الإمام أحمد بأن هذا اللفظ لا يدري مقصود المتكلم به وليس له أصل في الكتاب والسنة والإجماع فليس لأحد أن يلزم الناس أن ينطقوا به ولا بمدلوله وأخبره أني أقول: هو أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فبين أني لا أقول: هو جسم وليس بجسم لأن كلا الأمرين بدعة محدثة في الإسلام فليست هذه من الحجج الشرعية التي يجب علي الناس إجابة من دعا إلي موجبها فإن الناس إنما عليهم إجابة الرسول فيما دعاهم إليه وإجابة من دعاهم إلي ما دعاهم إليه الرسول ﷺ لا إجابة من دعاهم إلي قول مبتدع ومقصود المتكلم بها مجمل لا يعرف إلا بعد الاستفصال والاستفسار فلا هي معروفة في الشرع ولا معروفة بالعقل إن لم يستفسر المتكلم بها
فهذه المناظرة ونحوها هي التي تصلح إذا كان المناظر داعيا وأما إذا كان المناظر معارضا للشرع بما يذكره أو ممن لا يمكن أن يرد إلي الشريعة مثل من لا يلتزم الإسلام ويدعو الناس إلي ما يزعمه من العقليات أو ممن يدعي أن الشرع خاطب الجمهور وأن المعقول الصريح يدل علي باطن يخالف الشرع ونحو ذلك أو كان الرجل ممن عرضت له شبهة من كلام هؤلاء ـ فهؤلاء لا بد في مخاطبتهم من الكلام علي المعاني التي يدعونها: إما بألفاظهم وإما بألفاظ يوافقون علي أنها تقوم مقام ألفاظهم
وحينئذ فيقال لهم: الكلام إما أن يكون في الألفاظ وإما أن يكون في المعاني وإما أن يكون فيهما فإن كان الكلام في المعاني المجردة من غير تقييد بلفظ كما تسلكه المتفلسفة ونحوهم ممن لا يتقيد في أسماء الله وصفاته بالشرائع بل يسميه علة وعاشقا ومعشوقا ونحو ذلك فهؤلاء إن أمكن نقل معانيهم إلي العبارة الشرعية كان حسنا وإن لم يمكن مخاطبتهم إلا بلغتهم فبيان ضلالهم ودفع صيالهم عن الإسلام بلغتهم أولي من الإمساك عن ذلك لأجل مجرد اللفظ كما لو جاء جيش كفار ولا يمكن دفع شرهم عن المسلمين إلا بلبس ثيابهم فدفعهم بلبس ثيابهم خير من ترك الكفار يجولون في خلال الديار خوفا من التشبه بهم في الثياب
وأما إذا كان الكلام مع من قد يتقيد بالشريعة فإنه يقال له: إطلاق هذه الألفاظ نفيا وإثباتا بدعة وفي كل منهما تلبيس وإيهام فلا بد من الاستفسار والاستفصال أو الامتناع عن إطلاق كلا الأمرين في النفي والإثبات
وقد ظن طائفة من الناس ان ذم السلف والأئمة للكلام وأهل الكلام كقول أبي يوسف: من طلب العلم بالكلام تزندق وقول الشافعي: حكمي في أهل الكلام: أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل علي الكلام وقوله: لقد اطلعت من أهل الكلام علي شيء ما كنت أظنه ولأن يبتلي العبد بكل ذنب ما خلا الإشراك بالله خير له نظر في الكلام إلا كان في قلبه غل علي أهل الإسلام وأمثال هذه الأقوال المعروفة عن الأئمة ـ ظن بعض الناس أنهم إنما ذموا الكلام لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المحدثة كلفظ الجوهر والسجم والعرض وقالوا: إن مثل هذا لا يقتضي الذم كما لو أحدث الناس آنية يحتاجون إليها أو سلاحا يحتاجون إليه لمقاتلة العدو وقد ذكر هذا صاحبالإحياء وغيره
وليس الأمر كذلك بل ذمهم للكلام لفساد معناه أعظم من ذمهم لحدوث ألفاظه فذموه لاشتماله علي معان باطلة مخالفة للكتاب والسنة ومخالفته للعقل الصريح ولكن علامة بطلانها مخالفتها للكتاب والسنة وكل ما خالف الكتاب والسن فهو باطل قطعا ثم من الناس من قد يعلم بطلانه بعقله ومنهم من لا يعلم ذلك
وأيضا فإن المناظرة بالألفاظ المحدثة المجملة المبتدعة المحتملة للحق والباطل إذا أثبتها أحد المتناظرين ونفاها الآخر كان كلاهما مخظئا وأكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء وفي ذلك من فساد العقل والدين ما لا يعلمه إلا الله فإذا رد الناس ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة فالمعاني الصحيحة ثابتة فيهما والمحق يمكنه بيان ما يقوله من الحق بالكتاب والسنة ولو كان الناس محتاجين في أصول دينهم إلي ما لم يبينه الله ورسوله لم يكن الله قد أكمل للأمة دينهم ولا أتم عليهم نعمته فنحن نعلم أن كل حق يحتاج الناس إليه في أصول دينهم لا بد أن يكون مما بينه الرسول إذ كانت فروع الدين لا تقوم إلا بأصوله فكيف يجوز أن يترك الرسول أصول الدين التي لا يتم الإيمان إلا بها لا يبينها للناس؟
ومن هنا يعرف ضلال من ابتدع طريقا أو اعتقادا زعم أن الإيمان إلا العلم بأن الرسول لم يذكره
وهذا مما احتج به علماء السنة على من دعاهم إلي قول الجهمية القائلين بخلق القرآن وقالوا: إن هذا لو كان من الدين الذي يجب الدعاء إليه لعرفه الرسول ودعا أمته إليه كما ذكره أبو عبد الرحمن الأذرمي الأزدي في مناظرته للقاضي أحمد بن أبي دؤاد قدام الواثق
وهذا مما رد به علماء السنة على من زعم أن طريقة الاستدلال على إثبات الصانع سبحانه بإثبات الأعراض وحدوثها من الواجبات التي لا يحصل الإيمان إلا بها وأمثال ذلك
وبالجملةـ فالخطاب له مقامات: فإن كان الإنسان في مقام دفع من يلزمه ويأمره ببدعة ويدعوه إليها أمكنه الاعتصام بالكتاب والسنة وأن يقول: لا أجيبك إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله بل هذا هو الواجب مطلقا