الوجه الخامس
وهذه طريق الأشعري وأئمة الصحابة: يثبتون الصفات الخبرية التي جاء بها القرآن مع اعتقادهم صحة طريقة الاستدلال بحدوث الأعراض وتركيب الأجسام
وهذه طريق أبي حاتم بن حبان البستي وأبي سليمان الخطابي والتميميين: كأبي الحسن التميمي وغيره من أهل بيته وأبي علي بن أبي موسى والقاضي أبي يعلى وأبي بكر البيهقي وابن الزاغوني وخلق كثير من طوائف المسلمين من الحنيفة والمالكية والشافعية والحنبلية
ومن هؤلاء من يدعي التعارض بينهما كالرازي وأمثاله كما يقول ذلك من يوجب الاستدلال بطريقة حدوث الأعراض كالمعتزلة وأبي المعالي وأتباعه
فهؤلاء مشتركون في أن هذه الطريقة المعقولة لهم مناقضة لما يفهم من الآيات والأحاديث سواء قالوا: إن تصديق الرسول موقوف عليها كما يقوله من يقوله من المعتزلة وأتباع صاحب الإرشاد أو لم يقولوا ذلك كما يقوله من يوافق الأشعري والرزي وجمهور المسلمين على أن تصديق الرسول ليس موقوفا عليها
وليس المقصود في هذا المقام إلا إبطال قول من يدعي أن تقديم النقل على العقل المعارض له يقدح في العقل الذي به علم صحة السمع وقد تبين أن فساد هذا القول معلوم بالاضطرار من الدين معلوم بالاضطرار من العادة وأن الذين آمنوا بالرسول وعلموا صدقه لم يكن علمهم موقوفا على هذه القضايا
ومما يشترك فيه الفريقان أن يقال: أهل العقول الذين سمعوا القرآن والكفار من المشركين وأهل الكتاب في العصور المتقدمة لم يكن منهم من طعن فيه أو رد عليه مخالفة هذه الأخبار عن صفات الله لصريح المعقول فلو كان العلم بنقيض ذلك ثابتا في عقول بني آدم لم يمكن في العادة أن يكون هذا الكلام الذي طبق مشارق الأرض ومغاربها وظهر وليه على عدوه بالحجة الباهرة والسيف القاهر وفي صريح المعقول ما يناقض أخباره ولا أحد من العقلاء يتفطن لذلك: لا على وجه الطعن ولا على وجه الاستشكال مع أن هذه العقليات مما تتوفر الهمم والدواعي على استخراجها واستنباطها لو كانت صحيحة لأنها متعلقة بأشرف المطالب والعلم به الذي تتوفر الهمم على طاب معرفة صفاته نفيا وإثباتا
فلو كانت هذه الطرق الدالة على السلب طرقا صحيحة تعلم بالعقل لكان مع الداعي التام يجب تحصيلها فإنه مع كمال القدرة والداعي يجب وجود المقدور فكان يجب أن تظهر هذه من أفضل الناس عقلا ودينا
فلما لم يكن الأمر كذلك علم أن ذلك كان لفسادها وأنهم لصحة عقولهم لم يعتقدوها كما يعتقدوا مذهب القرامطة الباطنية والرافضة الغالية وأمثالهم من الطوائف التي يعلم فساد قولهم بصريح العقل
ومعلوم أن الباطل ليس له حد محدود فلا يجب أن يخطر ببال أهل العقل والدين كل باطل وأن يردوه فإن هذه لا نهاية له بخلاف ما هو حق بصريح العقل في حق الله تعالى لا سيما إذا كان مما يجب اعتقاده بل يتوقف تصديق الرسول على معرفته فإن هذا يمتنع أن تكون العصور الفاضلة مع كثرة أهلها وفضلهم عقلا ودينا لم يعلموها ولم يقولوها
فعلم بذاك أن هذه المعارضات ليست من العقليات الصحيحة التي هي مستقرة في صريح العقل بل هي من الخيالات الفاسدة المشابهة للعقليات التي تنفق على طائفة من الناس دون طائفة كما نفقت على الجهمية ومن وافقهم دون جمهور عقلاء بني آدم ولهذا كان أعظم نفاقها على أجهل الناس وأعظمهم تكذيبا بالحق وتصديقا بالباطل من القرامطة الباطنية والحلولية والاتحادية وأمثالهم
ومن المعلوم أن أهل التواتر لا يجوز عليهم في مستقر العادة أن يكذبوا ولا أن يكتموا ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله فكما أن الفطر فيها مانع من الكذب ففيها داع إلى الإظهار والبيان فكذلك ها هنا كما أن العقول المتباينة والفطر المختلفة إذا أخبرت عما تعلمه بضرورة أو حس لم تتفق على الكذب ولا الخطأ فكذلك أيضا العقول المتباينة والفطر المختلفة إذا سمعت ما يعلم بصريح العقل وبطلانه وفساده لم تتفق على الإعراض عن النظر والاستدلال حتى يعرف فساده وبطلانه
ولهذا لم تظهر في أمة من الأمم أقوال باطلة إلا كان فيه من يعرف بطلان ذلك فيتكلم بذلك مع من يثق به وإن وافق في الظاهر لغرض من الأغراض
ولهذا تجد خلقا من الرافضة والإسماعيلية والنصيرية يعلمون في الباطن فساد قولهم ويتكلمون بذلك مع من يثقون به
وكذلك بين النصارى خلق عظيم يعلمون فساد قول النصارى وكذلك بين اليهود
وهذه الأمة قد كان فيها في القرون الثلاثة منافقون لا يعلم عددهم إلا الله وقد جاورهم من المشركين وأهل الكتاب أمم أخر وهم طوائف متباينة فما يمكن أحدا أن ينقل أنه كان قبل الجعد بن درهم وجهم بن صفوان من ظهر عنه القول بأن العقول تنافي ما في القرآن من إثبات العلو والصفات أو بعض الصفات لا من المؤمنين ولا من أهل الكتاب ولا من سائر الكافرين
ومن المعلوم أن هذا إذا كان مستقرا في صريح المعقول فلا بد مع توفر الهمم والدواعي أن يستخرج ويستنبط وإذا استخرج واستنبط فلا بد مع توفر الهمم والدواعي أن يتكلم به وإذا تكلم به فلا بد مع توفر الهمم والدواعي أن ينقل إلا ترى أنه لما تكلم به واحد وهو الجعد بن درهم نقل الناس ذلك؟ ثم الجهم بعده كذلك ولم نقل إن هذا لم يكن في نفس أحد فإن هذا لا يمكن نفيه ولم ينقل أن أحدا من هؤلاء لم يناج به بعض الناس فإن هذا لا يمكن نفيه بل قلنا: إنه لم يظهر وعدم ظهوره مع الكثرة والقوة الموجبة لتوفر الهمم والدواعي على استخراجه واستنباطه: إن كان حقا يوجب أنه ليس حقا فإن معرفة الله وما يستحقه من الصفات نفيا وإثباتا أعظم المطالب
ونحن نعلم بالاضطرار أن سلف الأمة كانوا أعظم الناس رغبة في هذا ومحبة له فإذا كان الحق هو قول النفاة وعلى ذلك أدلة عقلية يستخرجها الناظر بعقله وهم من أعقل الناس وأرغبهم في هذا المطلب امتنع مع ذلك أن لا يكون منهم من يفطن لهذا الحق وإذا تفطن له مع قوة دينهم ورغبتهم في الحيز كانوا يظهرونه ويبينونه وذلك يوجب ظهوره وانتشاره لو كان حقا
وكذلك الكفار لهم رغبة في معرفة ذلك وإظهاره لو كان حقا لما كان فيه من معارضة الرسول ومناقضته ولما فيه من معرفة الحق
واعلم أن هذا كما يقال في أمتنا فإنه يقال في بني إسرائيل فإن التوراة مملوءة بإثبات الصفات التي يسميها النفاة تشبيها وتجسيما ومن المعلوم أن التوراة قد تداولها من الأمم ما لا يحصيهم إلا الله وقد انتشرت بين النصارى كما انتشرت بين اليهود فلو كان ما فيها من الصفات وإثبات العلو لله مما يناقض صريح العقل لكان ذلك من أعظم ما كان ينبغي أن يتعنت به بنو إسرائيل وغيرهم لموسى فقد ذكر عنهم ومن تعنت بموسى أشياء لا تعلم بصريح العقل قد آذوا موسى وقالوا إنه آدر وإنه قتل هارون ودس عليه قارون بغيا لرميه بالزنا ليؤذي موسى بذلك
وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا } [ الأحزاب: 69 ] ومع هذا فأذى موسى بذلك أذى لا يشهد به صريح العقل فلو كان ما اخبرهم به مما يناقض صريح العقل لكان آذاه بالقدح في ذلك أبين وأظهر وأولى أن يستعمله من يريد الأذى له
وقد قال تعالى: { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين } [ البقرة: 47 ]
وقال: { وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين } [ المائدة: 20 ]
وقال: { ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين } [ الجاثية: 16 ]
وقد كان القوم مجاورين الروم والقبط والنبط والفرس وهم أئمة الفلاسفة والصابئين والمشركين من جميع الأصناف وقد ذكروا أن أساطين الفلاسفة كفيثاغورس وسقراط أفلاطون قدموا الشام وتعلموا الحكمة من لقمان وأصحاب داود وسليمان فكيف بكون ما تدل عليه التوراة ويفهم منها مناقضا لصريح المعقول الذي لا ينبغي أن يشك عاقل فيه لا يظهر ذلك إلا في أوليائها ولا أعدائها؟
بل الطوائف كلها مجتمعة على تعظيم الذي جاء بالتوراة خاضعين له فهل يكون كتابا مملوءا مما ظاهره كذب وفرية على الله ووصف له بما يمتنع عليه ولا يجوز في حقه ولا يظهر بين العقلاء مناقضته ومعارضته؟
ومن اعتبر الأمور وجد الرجل يصنف كتابا في طب وحساب أو نحو أو فقه أو ينشأ خطبة أو رسالة أو ينظم قصيدة أو أرجوزة فيلحن فيه لحنة أو يغلط في المعنى غلطة فلا يسكت الناس حتى يتكلموا فيه ويبينوا ذلك ويخرجون إلى الحق من زيادة الباطل وإن كان صاحب ذلك الكلام لا يدعوهم إلى طاعته واستتباعه ويذم من يخالفه - فضلا عن أن يكفره ويبيح قتاله وشتمه - فإذا كان الذي جاء بالقرآن ودعا الناس إلى طاعته واستتباعه وأن يكون هو المطاع الذي لا ينبغي مخالفته في شيء: دق ولا جل ويقول إن السعادة لمن أطاعه والشقاء لمن خالفه ويعظم مطيعيه ويعدهم بكل خير ويلعن مخالفيه ويبيح دماءهم وأموالهم وحريمهم فمن المعلوم أن مثل هذه الدعوة لا يدعيها إلا أكمل الناس وأحقهم بها وهم الرسل الصادقون أو أكذب الناس وأبعدهم عنها كالمتنبئين الكاذبين
ومعلوم أن صاحب هذه الدعوة تعاديه النفوس وتحسده [ كما قال ورقة بن نوفل للنبي ﷺ لما أخبره بما جاءه فقال: ( إن قومك سيخرجوك قال: أو مخرجيهم؟ قال: نعم إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مأزورا ) ]
ومن المعلوم أن أعداء من يقول مثل هذا إذا كان المفهوم من كلامه والظاهر من خطابه هو كذب على الله ووصفه بذلك كان قائلا من التشبيه والتجسيم بما يخالف صريح العقل بل يكون صاحبه كافرا كذابا مفتريا على الله - كان هذا من أعظم مما تتوفر الهمم والدواعي على معارضته به والطعن في ذلك والقدح في نبوته به
وهكذا موسى بن عمران وبنو إسرائيل كان بمقتضى العادة المطردة إنه لا بد في كل عصر من أن يظهر إنكار مثل ذلك والقدح في ما جاء به موسى وأن يكون المأذون له يؤذونه بذلك وأعظم منه
فإن قيل: أنه قد وجد طعن في موسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم بمثل هذا
قلنا: نعم وجد بعد أن ظهرت مقالة الجهمية في المسلمين وحديث الملاحدة من القرامطة الباطنية والذين أخذوا شر قول الجهمية وشر قول الرافضة وركبوا منهم قولا ثالثا شرا منهما ونحن لم نقل: إنه لم يقدح أحد في الأنبياء والمرسلين ولا كذبهم ولا عارضهم في نفس ما دعوا إليه من التوحيد والنبوة والمعاد وعارضوهم بعقولهم ولم يعارضوهم معارضة صحيحة بل كان ما عارضوا به فاسدا في العقل
فهؤلاء الذين حدثوا من المعارضين هم أسوا حالا من أولئك المعارضين فغن القرامطة الباطنية شر من عباد الأصنام من العرب وشر من اليهود والنصارى فمجادلة هؤلاء وأمثالهم بالباطل ليس بعجيب فما زال في الأرض من يجادل بالباطل ليدحض به الحق
ولكن قلنا: إذا كان الظاهر المفهوم مما خبروا به مخالفا لصريح العقل امتنع في العادة أن لا يعارض أولئك الأعداء به ولا يستشكله الأصدقاء مع طول الزمان وتفرق الأمة فإذا كان العدو يعارض بالمعقول الفاسد فكيف لا يعارض بالمعقول الصريح وإذا كان الولي يستشكل ما لا إشكال فيه لخطأه هو نفسه فكيف لا يستشكل ما هو مشكل يخالف ظاهره - بل نصه - للحق المعلوم بصريح العقل؟
فقلنا: عدم وجود هذه المعارضات مع توفر الهمم والدواعي على وجودها - لو كانت حقا - دليل على أنها باطل كما أن عدم نقل ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله - لو كان موجودا - دليل على انه كذب بخلاف وجود الطعن والمعارضة فانه ليس دليلا على صحة ما عارض به وطعن كما أن مجرد نقل الناقل ليس دليلا على صحة ما نقل
فليتدبر الفاضل هذا النوع من النظر والكلام فإنه ينفتح له أبواب من الهدى ولا حول ولا قوة إلا بالله فإن الجهمية النفاة هم من أفسد الناس عقلا وأعظمهم جهلا وإن كان قد يحصل لأحدهم ملك وسلطان بيد أو لسان كما حصل لفرعون ونمرود بن كنعان ونحوهما
ولهذا وصف الله لهؤلاء وأشباههم بأنهم لا يسمعون ولا يعقلون ومن تدبر الحقائق وجد كل من كان أقرب إلى التصديق بما جاءت به الرسل والعمل به كان أكمل عقلا وسمعا وكل من كان أبعد عن التصديق بما جاءت به الرسل والعمل به كما أنقص عقلا وسمعا
ولا ريب أن قول أهل التعطيل والإلحاد ومن دخل منهم من أهل الحلول والاتحاد ومن شاركهم في بعض أصولهم المستلزمة لتعطيلهم وإلحادهم من سائر العباد هي من أفسد الأقوال وأكذبها وأعظمها تناقضا وأكثر من الأمور أدلة على نقيضها من الأدلة العقلية والسمعية لكان اشتبه بعض أصولهم على كثير من أهل الإيمان فظنوا أن ذلك برهان عقلي معارض للقرآن الإلهي ولم يعلموا أن البرهان موافق للقرآن ومعاضد لا مناقض معارض وإن دلائل الآيات والآفاق العيانية موافقة للدلائل القرآنية إذ كانت أدلة الحق شهودا صادقين وحكما لا يثبت عندهم إلا الحق المبين
ومن المعلوم أن أخبار الصادقين وشهاداتهم وإثباتاتهم تتعاون وتتعاضد وتتناصر وتتساعد لا تناقض ولا تعارض وإن قدر أن أحدهم يغلط خطأ أو يكذب أحيانا فلا بد أن يظهر خطأه وكذبه وهذا ما استقراه الناس في أحاديث المحدثين للأحاديث النبوية لا يعرف أن أحدا منهم غلط أو كذب إلا وظهر لأهله صناعته كذبه أو خطأه
وكذلك الناظرون - أهل النظر والاستدلال في الأدلة السمعية أو العقلية - ما يكاد يغلط غالط منهم إلا ويعر فالناس غلطه من أبناء جنسه وغيرهم
والجهمية النفاة المعطلة قلبوا حقائق الأدلة البرهانية العقلية والسمعية ثم ادعوا أن معهم دلالات عقلية تعارض الآيات السمعية فحرفوا الآيات وبدلوها بالتأويل بعد أن أفسدوا العقول بزخرف الأباطيل
قال تعالى: { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون * ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون * أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين * وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم } [ الأنعام: 112 - 115 ] فإذا رأيت الدلائل اليقينية تدل على أن ما اخبر به الرسول لا يناقض العقول بل يوافقها وأن ما ادعاه النفاة من مناقضة البرهان لمدلول القرآن قول باطل فلا تعجب من كثرة أدلة الحق وخفاء ذلك على كثيرين فإن دلائل الحق كثيرة والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وقل لهذه العقول التي خالفت الرسول في مثل هذه الأصول: كادها باريها واتل قوله تعالى: { وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } [ الأحقاف: 26 ]
ومما يوضح الأمر في ذلك أن يقال: من المعلوم أن موسى ومحمدا صلى الله عليهما وسلم وأمثالهما كانوا من أكمل الناس معرفة وخبرة وعقلا باتفاق من آمن بهم ومن كفر فإن الكافر بهم يقول: كانوا من أدهى الناس واخبرهم بالأمور وأعرفهم بالطرق التي تنال بها المقاصد والأسباب التي تطلب بها المرادات فسعوا فيما يصدقهم به الناس ويطيعونهم بما كان عندهم من المعرفة والحذق والذكاء
وأما المؤمن بهم فيقول: إن الله خصهم من العلم والعقل والمعرفة واليقين بما لم يشركهم أحد من العالمين
وقال وهب بن منبه لو وزن عقل محمد ﷺ بعقل أهل الأرض لرجح
وإذا كان كذلك امتنع في صريح العقل أن من يريد أن الناس يصدقونه ويطيعونه يذكر لهم ما يوجب في صريح العقل تكذيبه ومعصيته والقدح فيما جاء به ومعارضته فإن كان المفهوم المعروف مما أخبروا به الناس مناقضا لصريح العقل وهم لو لم يعرفوا أنه مناقض لصريح العقل فقد وصفهم من قال ذلك من نقص العقل وفساده بما أجمع الناس على فساده وإن علموا أنه مناقض لصريح العقل وأظهروه ولم يبينوه ولم يذكروا ما يجمع بينه وبين صريح العقل فقد سعوا فيما به يكذبهم المكذب ويرتاب المصدق ويستطيل به أعداؤهم على أوليائهم فيكون أوليائهم في الريب والاضطراب وأعدائهم قد فوقوا إليهم النشاب وحزبوا عليه الأحزاب وهم لا يستطيعون نصر ما جاء به الرسول بل يطلبون الإعراض عن سماعه ومنع الناس من استماعه ولا يفعله إلا من هو من أقل الناس عقلا
وإذا كان هؤلاء بإجماع أهل الأرض كاملي العقول والمعرفة بل أكمل الناس عقلا ومعرفة تبين أن الدين الذي أظهروه وبينوا وأخبروا به ووصفوه لم يكن عنهم مناقضا لصريح المعقول ولا منافيا لحق مقبول بل كان عندهم لا يخالف ذلك إلا كل كاذب جهول
ومما يوضح الأمر في ذلك أن النبي ﷺ قد ظهر وانتشر ما أخبر به من تبديل أهل الكتاب وتحريفهم وما اظهر من عيوبهم وذنوبهم تنزيه لله عما وصفوه به من النقائص والعيوب كقوله تعالى: { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق } [ آل عمران: 181 ]
وقوله تعالى: { وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين } [ المائدة: 64 - 65 ] وقوله تعالى: { ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } [ ق: 38 ]
ونزه نفسه عما يصفوه به من الفقر والبخل والإعياء فالإعياء من جنس العجز المنافي لكمال القدرة والفقر من جنس الحاجة إلى الغير المنافي لكمال الغنى والبخل من جنس منع الخير وكراهة العطاء المنافي لكمال الرحمة والإحسان وكمال القدرة والرحمة
والغنى من الغير مستلزم سائر صفات الكمال فإن الفاعل إذا كان عاجزا لم يفعل وإذا كان قادرا ولم يرد فعل الخير لم يفعله فإذا كان قادرا مريدا له فعل الخير ثم إن كان محتاجا إلى غيره كان معاوضا لا محسنا متفضلا وكان فيه نقص من وجه آخر فإذا كان مع هذا غني عن الغير لم يفعل إلا لمجرد الإحسان والرحمة وهذا غاية الكمال
وقد نزه الله سبحانه نفسه في القرآن عما زعمته النصارى من الولد الشريك فقال تعالى: { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه } [ النساء: 171 ]
وقال تعالى: { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا } [ المائدة: 17 ]
وقال تعالى: { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم * أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم } [ المائدة: 73 - 74 ]
ثم إنه جمع اليهود والنصارى في قوله: { وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون } [ التوبة: 30 ]
ومن المعلوم لمن له عناية بالقران أن جمهور اليهود لا تقول: إن عزير ابن الله وإنما قالت طائفة منهم كما قد نقل أنه قاله فنحاص بن عازورا أو هو وغيره
وبالجملة إن قائلي ذلك من اليهود قليل ولكن الخبر عن الجنس كما قال: { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم } [ آل عمران: 173 ] فالله سبحانه بين هذا الكفر الذي قاله بعضهم وعابه به فلولا كان ما في التوراة من الصفات التي تقول النفاة إنها تشبيه وتجسيم فإن فيها من ذلك ما تنكره النفاة وتسميه تشبيها وتجسيما بل فيه إثبات الجهة وتكلم الله بالصوت وخلق آدم على صورته وأمثال هذه الأمور
فإن كان هذا مما كذبته اليهود وبدلته كان إنكار النبي ﷺ لذلك وبيان ذلك أولى من ذكر ما هو دون ذلك فكيف والمنصوص عنه موافق للمنصوص في التوراة؟ فإنك تجد عامة كما جاء به الكتاب والأحاديث في الصفات موافقا مطابقا لما ذكر في التوراة وقد قلنا قبل ذلك إن هذا كله مما يمتنع في العادة توافق المخبرين به من غير مواطأة
وموسى لم يواطئ محمدا ومحمد لم يتعلم من أهل الكتاب فدل ذلك على صدق الرسولين العظيمين وصدق الكتابين الكريمين
وقلنا: إن هذا لو كان مخالفا لصريح المعقول لم يتفق عليه مثل هذين الرجلين اللذان هما وأمثالهما أكمل العالمين عقلا من غير أن يستشكل ذلك وليهما المصدق ولا يعارض بما يناقضه عدوهما المكذب ويقولان: إن إقرار محمد ﷺ لأهل الكتاب على ذلك من غير أن يبين كذبهم فيه دليل على أنه ليس مما كذبوه وافتروا على موسى مع أن هذا معلوم بالعادة فإن هذا في التوراة كثير جدا وليس لأمة كثيرة عظيمة منتشرة في مشارق الأرض ومغاربها غرض في أن تكذب على من تعظمه غاية التعظيم بما يقدح فيه وتبين فساد أقواله ولكن لهم غرض في أن يكذبوا كذبا يقيمون به رياستهم وبقاء شرعهم والقدح فيما جاء به من ينسخ شيئا منها كما لهم غرض في الطعن على عيسى بن مريم وعلى محمد صلى الله عليهما وسلم فإذا قالوا ما هو من جنس القدح فيه عيسى ومحمد كان تواطؤهم على الكذب فيه ممكن فإما إذا قالوا ما هو من جنس القدح في موسى فيمتنع تواطؤهم على ذلك في العادة مع علمهم بأنه يقدح في موسى كما يمتنع تواطؤ النصارى على ما يعلمون انه قدح في المسيح
وأما المسلمون فقد عصمهم الله من أن يتفقوا على خطأ لكن يعلم بمطرد العادات انه يمتنع تواطؤهم على ما يعلمون أن قدح في نبوته فإن هذا لا يفعله إلا من هو مبغض له مكذب ونحن نعلم أن اليهود لم يتفقوا على ضرب موسى وتكذيبه ولا اتفقت النصارى على بغض المسيح وتكذيبه فضلا عن أن تتفق طائفة من المسلمين على بغض محمد وتكذيبه وإذا اتفقت طائفة على بغضه وتكذيبه مثل غالية الإسماعيلية والخزمية الباطنية وأمثالهم لم تكن هذه الطائفة من أهل الإيمان به وقد انكشف - ولله الحمد - أمرهم وانهتك سترهم
وقد تتفق الطائفة على قول يكون متضمنا للقدح فيمن تعظمه ولا يعلم ذلك كما يتفق مثل ذلك للنصارى والرافضة وأمثالهم من جهال الطوائف الذين اعتقدوا عقائد فاسدة فظنوها حقا وكذب بعضهم فنقلها لهم عن المسيح أو علي فصدقوا ذلك الناقل لا لثبوت صدقه عندهم لكن لموافقته لهم فيما يعتقدونه
وهذا سبب كثرة الكذب والضلال بين النصارى والرافضة والغلاة من العامة وغيرهم وإذا كان كذلك فهذه الأقوال التي في التوراة: إن كانت مخالفة لصريح العقل لم يكن في إضافتها إلى موسى إلا بطريق القدح فيه فيمتنع اتفاق اليهود على نقلها عنه وإن لم تكن مخالفة لصريح العقل لم يكن حينئذ في نقلها عن موسى محذور
فثبت أن لا يجوز تكذيب نقل هذه عن موسى لاعتقاده مخالفتها بالعقل الصريح
فإن قيل: إن الذي كذبها لهم كان يعتقد صدقها أو كان غرضه إضلالهم كما أن كثيرا من هذه الأمة يكذب على النبي ﷺ أكاذيب لاعتقاده أنها حق صحيح يجب على الناس قبوله فيكذب أحاديث في ذلك ليقبل الناس ما يعتقده كما وقع مثل هذا لطوائف من أهل البدع والكلام وبعض المتفقهة والمتزهدة مثل الجويباري الذي كان يكذب للمرجئة والكرامية وغيرهم أحاديث توافق قولهم ومثل بعض المتفقهة الذين كذبوا أحاديث توافق رأيهم لاعتقادهم أنه صدق ومثل طائفة من أهل الزهد والعبادة كذبوا أحاديث في الرتغيب والترهيب وقالوا: نحن كذبنا له ما كذبنا عليه ومثل الذين كذبوا أحاديث في فضائل الأشخاص والبقاع والأزمنة وغير ذلك وغير ذلك لظنهم أن موجب ذلك حق أو لغرض آخر
وآخرون من الزنادقة والملاحدة كذبوا أحاديث مخالفة لصريح العقل ليهجنوا بها الإسلام ويجعلوها قادحة فيه مثل حديث عرق الخيل الذي فيه أنه خلق خيلا فأجراها فعرقت فخلق نفسه من ذلك العرق فإن هذا الحديث وأمثاله لا يكذبه من يعتقد صدقه لظهور كذبه وإنما كذبه من مقصوده إظهار الكذب بين الناس كما يقولون: إنه وضعه بعض أهل الأهواء ليقول: أن أهل الحديث يروون مثل هذا ومع هذا فكل أهل الحديث متفقون على لعنة من وضعه
ومما يشبه ذلك حديث الجمل الأورق وأنه ينزل عشية عرفة على جمل أورق فيصافح المشاة ويعانق الركبان وحديث رؤيته لربه في الطواف أو رؤيته ليلة المعراج بعين رأسه وعليه تاج يلمع بل وكل حديث فيه رؤيته لربه ليلة المعراج عيانا فإنها كلها أحاديث مكذوبة موضوعة باتفاق أهل المعرفة بأحاديث لكن الذين وضعوها يمكن أنهم كانوا زنادقة فوضعوها ليهجنوا بها من يرويها ويعتقدها من الجهال ويمكن أن الذين وضعوها كانوا من الجهال الذين يظنون مثل هذا حقا وأنهم إذا وضعوه قووا الحق كما وضع كثير من هؤلاء أحاديث في فضائل الصحابة: أبي بكر وعمر وعثمان لا سيما ما وضعوه في فضائل علي من الأكاذيب فإنه لا يكاد يحصى مع أن في فضائلهم الصحيحة ما يغنى عن الباطل ومثل ما وضعوه في مثالبهم لا سيما ما وضعته الرافضة في مثالب الخلفاء وغيرهم فإن فيه من الأكاذيب ما لا يحصيه إلا الله
والمقصود أن المعترض يقول: يمكن أن يكون الذين كذبوا ما في التوراة من الصفات على موسى كانوا يعتقدونها فكذبوها أو كان مقصودهم إضلال اليهود وبث الكذب فيهم لإفساد دينهم
قيل: هذا القدر يمكن أن يفعله الواحد والاثنان والطائفة القليلة ولكن هؤلاء إذا حدثوا به عامة اليهود مع معرفتهم واختلافهم فلا بد إذا كان معلوما فساده بصريح العقل أن يرده بعضهم أو يستشكله ويقول: إن مثل هذا يقدح في موسى فحيث قبلوه كلهم علم أنهم لم يكونوا يعتقدون أنه فاسد في صريح العقل
ومن المعلوم عند أهل الكتاب أن قدماءهم لم يكونوا ينكرون ما في التوراة من الصفات وإنما حدث فيهم بعد ذلك لما صار فيهم جهمية: إما متفلسفة مثل موسى بن ميمون وأمثاله وإما معتزلة مثل أبي يعقوب البصير وأمثاله فإن اليهود لهم بالمعتزلة اتصال وبينهما اشتباه ولهذا كانت اليهود تقرأ الأصول الخمسة التي للمعتزلة ويتكلمون في أصول اليهود بما يشابه كلام المعتزلة كما أن كثيرا من زهاد الصوفية يشبه النصارى ويسلك في زهده وعبادته من الشرك والرهبانية ما يشبه سلوك النصارى ولهذا أمرنا الله تعالى أن تقول في صلاتنا: { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } [ الفاتحة: 6 - 7 ]
والنصارى يشبهون المخلوق بالخالق في صفات الكمال واليهود تشبه الخالق بالمخلوق في صفات النقص ولهذا أنكر القرآن على كل من الطائفتين ما وقعت فيه من ذلك فلو كان ما في التوراة من هذا الباب لكان إنكار ذلك من اعظم الأسباب وكان فعل النبي ﷺ والصحابة والتابعين لذلك من أعظم الصواب ولكان النبي ﷺ ينكر ذلك من جنس إنكار النفاة
فنقول إثبات هذه الصفات يقتضي التجسيم والتجسيد والتشبيه والتكييف والله منزه عن ذلك فإن عامة النفاة إنما يردون هذه الصفات بأنها تستلزم التجسيم
ومن المسلمين وأهل الكتاب من يقول بالتجسيد فلو كان هذا وتجسيما وتجسيدا يجب إنكاره لكان الرسول إلى إنكار ذلك أسبق وهو به أحق وإن كان الطريق إلى نفي العيوب والنقائص ومماثلة الخالق لخلقه هو ما في ذلك من التجسيد والتجسيم كان إنكار ذلك بهذا الطريق هو الصراط المستقيم كما فعله من أنكر ذلك بهذا الطريق من القائلين بموجب ذلك من أهل الكلام فلما لم ينطق النبي ﷺ ولا أصحابه ولا التابعون بحرف من ذلك بل كان ما نطق به موافقا مصدقا لذلك وكان اليهود إذا ذكروا بين يدي أحاديث في ذلك يقرأ من القرآن ما يصدقها
كما في الصحيحين عن [ عبد الله بن مسعود أن يهوديا قال للنبي ﷺ: إن الله يوم القيامة يمسك السماوات على إصبع والأرضين على إصبع والجبال على إصبع والشجر والثرى على إصبع وسائر الخلائق على إصبع ثم يهزهن ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟ فضحك رسول الله ﷺ تعجبا وتصديقا لقول الحبر ثم قرا قوله تعالى { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } [ الزمر: 67 ] ]
وأخبر هو ﷺ بما يوافق ذلك غيره مرة كما في حديث ابن عمر الذي في الصحيحين: [ أن النبي ﷺ قرأ على المنبر هذه الآية ثم قال: يقول الله: أنا الجبار أنا المتكبر أنا المتعال ينجد نفسه قال: فجعل رسول الله ﷺ يرددها حتى رجف به المنبر حتى ظننا انه سيخر به ]
فهذا كله ذكرناه لما بينا أن ما يخالف هذه النصوص من القضايا التي يقال: أنها عقلية ليست مما يحتاج إليه في العلم بصدق الرسول فاعلم بطلان قول القائل: إن تقديم النقل على العقل يوجب القدح فيه بالقدح في أصله حيث تبين أن ذلك ليس قدحا في أصله
وهذا الكلام في الأصل هو من قول الجهمية والمعتزلة وأمثالهم وليس من قول الأشعري وأئمة الصحابة وإنما تلقاه عن المعتزلة متأخرو الأشعرية لما مالوا إلى نوع التجهم بل الفلسفة وفارقوا قول الأشعري وأئمة الصحابة الذين لم يكونوا بمخالفة النقل للعقل بل انتصبوا لإقامة ادلة عقلية عقلية توافق السمع
ولهذا أثبت الأشعري الصفات الخبرية بالسمع واثبت بالعقل الصفات العقلية التي تعلم بالعقل والسمع فلم يثبت بالعقل ما جعله معارضا للسمع بل ما جعله معاضدا له وأثبت بالسمع ما عجز عنه العقل
وهؤلاء خالفوه وخالفوا أئمة الصحابة في هذا وهذا فلم يستدلوا بالسمع في إثبات الصفات وعارضوا مدلوله بما ادعوا من العقليات
والذي كان أئمة السنة ينكرونه على ابن كلاب الأشعري بقايا من التجهم والاعتزال مثل اعتقاد صحة طريقة الأعراض وتركيب الجسام وإنكار اتصاف الله بالأفعال القائمة التي يشاؤها ويختارها وأمثال ذلك من المسائل التي أشكلت على من كان أعلم من الأشعري بالسنة والحديث وأقوال السلف والأئمة كالحارث المحاسبي وأبي علي الثقفي وأبي بكر بن إسحاق الصبغي مع أنه قد قيل: إن الحارث رجع عن ذلك وذكر عن غير واحد ما يقتضي الرجوع عن ذلك وكذلك الصبغي والثقفي قد روي أنهما استتيبا فتابا
وقد وافق الأشعري على هذه الأصول طوائف من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم منهم من تبين له بعد ذلك الخطأ فرجع عنه ومنهم من اشتبه عليه ذلك كما اشتبه غير ذلك على كثير من المسلمين والله يغفر لمن اجتهد في معرفة الصواب من جهة الكتاب والسنة بحب عقله وإمكانه وإن أخطأ في بعض ذلك
والمقصود أنه لم يكن في المنسوبين إلى السنة ولو كان فيه نوع من البدعة من يزعم أن صريح المعقول يخالف مدلول الكتاب والسنة بل كل من تكلم بذلك كان عند الأمة من أهل البدع المضلة فضلا عن أن يقال: إن ما به يعلم صدق الرسول من المعقول مناقض لمدلول الكتاب والسنة وإذ هذا كلام يفتح على صاحبه من الزندقة والإلحاد ما يخرجه عن طرد قوله إلى غاية الجهل والضلال والكفر والإلحاد وإن لم يطرد قول ظهر منه من التناقض والفساد ما لا يوافقه عليه لا أهل التوحيد والحق والإيمان ولا طائفة من طوائف العباد
وبهذا كان يصف الأشعري كل من يواليه ويحبه من المنسوبين إلى السنة والجماعة كما في رسالة أبي بكر البيهقي التي كتبها إلى بعض ولاة الأمور لما كان وقع بخراسان من لعنة أهل البدع ما وقع وقصد بعض الناس إدخال الأشعري فيهم وقد ذكر الرسالة أبو قاسم بن عساكر في تبين كذب المفتري
رسالة البيهقي في فضائل الأشعري
قال البيهقي في أثناء الرسالة: ( فليعلم الشيخ العميد أن أبا الحسن من أولاد أبي موسى الأشعري رضي الله عنه )
ثم ذكر من فضائل أبي موسى الأشعريين وذرية أبي موسى أمورا معروفة إلى قال: ( إلى أن بلغت النوبة إلى أن شيخنا أبي حسن الأشعري فلم يحدث في دين الله حدثا ولم يأت فيه ببدعة بل أخذ أقاويل الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة في أصول الدين فبصرنا بزيادة شرح وتبيين وأن ما قالوه وجاء به الشرع في الأصول صحيح في المعقول خلاف ما زعمه أهل الأهواء من أن بعضه لا يستقيم في الآراء فكان في بيانه تقوية ما لم يزل عليه أهل السنة والجماعة ونصرت أقاويل من مضى من الأئمة كأبي حنيفة وسفيان الثوري من أهل الكوفة والأوزاعي وغيره من أهل الشام ومالك والشافعي من أهل الحرمين ومن نحا نحوهما من أهل الحجاز وغيرها من سائر البلاد كأحمد بن حنبل وغيره من أهل الحديث والليث بن سعد وغيره ومحمد بن إسماعيل البخاري ومسلم الحجاج النيسابوري إمامي أهل الآثار وذلك من دأب من تصدر من الأئمة في هذه الأمة وصار رأسا في العلم أهل السنة في قديم الدهر وحديثه
إلى أن قال: ( وحين كثرت المبتدعة في هذه الأمة وتركوا ظاهر الكتاب والسنة وأنكروا ما ورد أنه من صفات الله تعالى نحوه: الحياة والقدرة والعلم والمشيئة والسمع والبصر والكلام وجحدوا ما دل عليه من المعراج وعذاب القبر والميزان وأن الجنة والنار مخلوقتان وأن أهل الإيمان يخرجون من النيران وما لنبينا ﷺ من الحوض والشفاعة وأن الخلفاء الأربعة كانوا محقين فيما قاموا به من الولاية وزعموا أن شيئا من ذلك لا يستقيم على العقل ولا يصح في الرأي - أخرج الله من نسل أبي موسى الأشعري إماما قام بنصرة دين الله وجاهد بلسانه وبنانه من صد عن سبيل الله وزاد في التبيين لأهل اليقين أن ما جاء به الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة مستقيم على العقول الصحيحة والآراء
ومضمون الرسالة إزالة ما وقع من الفتنة وإطابة قلوب أهل السنة
قال أبو القاسم بن عساكر: ( وإنما كان انتشار ما ذكر أبو بكر البيهقي من المحنة واستعار ما أشار بإطفائه - في رسالته - من الفتنة ما تقدم به من سب حزب الشيخ أبي الحسن الأشعري في دولة السلطان طغرلبك ووزارة أبي نصر الكندري وكان السلطان حنيفا سنيا وكان وزيره معتزليا رافضيا فلما أمر السلطان بلعن المبتدعة على المنابر في الجمع قرن الكندري - للتسلي والتشفي - اسم الأشعرية بأسماء أرباب البدع وامتحن الأئمة الأفاضل وعزل أبا عثمان النيسابوري عن خطبة نيسابور وفوضها إلى بعض الحنيفة فأم الجمهور وخرج الأستاذ أبو القاسم وأبو المعالي عند البلد )
ثم ذكره زوال تلك المحنة في دولة ابن ذلك السلطان ووزارة النظام
وهذا الذي ذكره عنه البيهقي هو المعروف في كتبه وعند أئمة الصحابة وذكر ابن عساكر عن جماعة ما يوافق كلام البيهقي فذكر أن أبا الحسن القابسي - وهو من كبار أئمة المالكية بالمغرب - سأل عنه فكان في جوابه: ( واعلموا أن أبا الحسن الأشعري لم يأت من هذا الأمر - يعني الكلام - إلا ما أراد به إيضاح السنن - والتثبيت عليها - ودفع الشبه عنها )
وقال أبو بكر بن فورك: ( انتقل الشيخ أبو الحسن الأشعري من مذاهب المعتزلة إلى نصرة مذاهب أهل السنة والجماعة بالحجج العقلية وصنف في ذلك الكتب )
وذكر ابن عساكر كلامه في مصنفاته
كلام الأشعري في الإبانة
وقوله: ( فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم الني بها تدينون قيل له: قولنا الذي به تقول: وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب الله وسنة نبيه ﷺ وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثبوبته - قائلون: ولمن خالف قوله مجانبون لأن الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين
وجملة قولنا: أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله ﷺ لا نرد من ذلك شيئا وأن الله إله واحد فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولد وأن محمدا عبده ورسوله وأن الجنة والنار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله مستو على عرشه كما قال: { الرحمن على العرش استوى } [ طه: 5 ] وأن له وجه كما قال: { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } [ طه: 27 ] وان له يدين كما قال: { بل يداه مبسوطتان } [ المائدة: 64 ] كما قال { لما خلقت بيدي } [ ص 75 ] وأن له عينين بلا كيف كما قال: { تجري بأعيننا } [ القمر: 15 ] إلى أن قال
( ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب الله وسنة نبيه ﷺ إجماع المسلمين وما كان في معناه ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها ولا نقول على الله ما لا نعلم ونقول إن الله يجيء يوم القيامة كما قال: { وجاء ربك والملك صفا صفا } [ الفجر: 22 ] وأن الله يقرب من عباده كيف يشاء كما قال: { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } [ ق: 16 ] وكما قال: { ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى } [ النجم: 8 - 9 ]
تعليق ابن تيمية
فهذا الكلام وأمثاله في كتبه وكتب أئمة أصحابه: يبينون أنهم يعتصمون في مسائل الأصول التي تنازع فيها الناس بالكتب والسنة والإجماع وأن دينهم التمسك بالكتاب والسنة وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ثم خصوا الإمام أحمد بالاتباع والموافقة لما أظهر من السنة بسبب ما وقع له من المحنة
فأين هذا من قول من لا يجعل الكتاب والسنة والإجماع طريقا إلى معرفة صفات الله وأمثال ذلك من مسائل الأصول؟ فضلا عمن يدعي تقديم عقله ورأيه على مدلول الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأئمة ومن يقول: إذا تعارض القرآن وعقولنا قدمنا عقولنا على القرآن
ولهذا كان الأشعري وأئمة الصحابة من المثبتين لعلو الله بذاته على العالم كما كان ذلك مذهب ابن كلاب والحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي وأبي بكر الصبغي وأبي علي الثقفي وأمثالهم
لكن للبقايا التي بقيت على ابن كلاب وأتباعه من بقايا التهجم والاعتزال كطريقة حدوث الأعراض وتركيب الأجسام احتاج من سلك طريقهم إلى طرد تلك الأقوال فاحتاج أن يلتزم قول الجهمية والمعتزلة في نفي الصفات الخبرية ويقدم عقله على النصوص الإلهية ويخالف سلفه والأئمة الأشعرية وصار ما مدح به الأشعري وأئمة الصحابة من السنة والمتابعة النبوية عنده من أقوال المجسمة الحشوية كما أن المعتزلة لما نصروا الإسلام في مواطن كثيرة وردوا على الكفار بحجج عقلية لم يكن أصل دينهم تكذيب الرسول ورد أخباره ونصوصه لكن احتجوا بحجج عقلية: إما ابتدعوها من تلقاء أنفسهم وإما تلقوها عمن احتج بها من غير أهل الإسلام فاحتجوا أن يطردوا أصول أقوالهم التي احتجوا بها وتسلم عن النقص والفساد فوقعوا في أنواع من رد المعاني الأخبار الإلهية وتكذيب الأحاديث النبوية
وأصل ما أوقعهم في نفي الصفات والكلام والأفعال والقول بخلق القرآن وإنكار الرؤية والعلو لله على خلقه - هي طريقة حدوث الأعراض وتركيب الأجسام وعنها لومهم ما خالفوا به الكتاب والسنة والإجماع في هذا المقام مع مخالفتهم للمعقولات الصريحة التي لا تحتمل النقيض فناقضوا العقل والسمع من هذا الوجه وصاروا يعادون من قال بموجب العقل الصريح أو بموجب النقل الصحيح وهم وإن كان لهم من نصر بعض الإسلام أقوال صحيحة فهم فيما خالفوا به السنة سلطوا عليهم وعلى المسلمين أعداء الإسلام فلا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا
اعتراض يذكر نفاة الصفات
فإن قيل: إنما لم يعارض سلف المؤمنين والكفار المتقدمون لهذه النصوص لأنهم كانوا قوما عربا فصحاء يفهمون ما أريد بها ولم يكونا يفهمون منها إثبات أن ذاته نفسه فوق العرش ولا ما يشبه ذلك من الأمر المستلزمة للتجسيم فلما لم يفهموا منها ما فهمه المتأخرون من هذا الإثبات لم يكن المفهوم منها عندهم معارضا لشيء من الأدلة العقلية وأما المتأخرون فلما صاروا يستدلون بها على الإثبات المستلزم للتجسيم صار من يريد أن يرد عليهم يعارضهم بالأدلة العقلية النافية
فهذا خلاصة ما يمكن أن يقوله من يعظم الرسول والسلف من النفاة
===بطلان هذا الكلام من وجوه متعددة
فيقال: هذا باطل من وجوه متعددة:
الوجه الأول
أن يقال: فعلى هذا التقدير لا يكون المفهوم الظاهر من هذه النصوص إثبات العلو على العالم والصفات ولا يجوز أن يقال: ظواهر هذه النصوص غير مراد ولا أن قد تعارضت الدلائل النقلية والعقلية فإنه إذا قدر أنها لا تدل على الإثبات: لا دلالة قطعية ولا ظاهرة بطل أن يكون في ظاهرها ما يفهم منه إثبات
ومن المعلوم أن هذا خلاف قول الطوائف كلها من المثبتة والنفاة حتى من الفلاسفة القائلين بقدم العالم وإنكار معاد الأبدان فإنهم معترفون بما اعترف به سائر الخلق من أن الظاهر المفهوم منها هو إثبات الصفات
ولكن هؤلاء المتفلسفة يقولون: إن الرسول لم يرد بيان العلم والإخبار بالأمر على وجهه وإنما أراد التخييل وإن تضمن ذلك التدليس وإظهار خلاف ما يبطن والكذب للمصلحة وهذا قول الملاحدة الباطنية
وفساد هذا المعلوم من وجوه اكثر مما يعلم به فساد قول الجهمية والمعتزلة ولهذا كان هؤلاء عند المسلمين ملاحدة زنادقة
الوجه الثاني
أن يقال: التفاسير الثابتة المتواترة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان تبين أنهم إنما كانوا يفهمون منها الإثبات بل والنقول المتواترة المستفيضة عن الصحابة والتابعين في غير التفسير موافقة للإثبات ولم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين حرف واحد يوافق قول النفاة ومن تدبر الكتب المصنفة في آثار الصحابة والتابعين بل المصنفة في السنة من: كتاب السنة والرد على الجهمية للأثرم ولعبد الله بن أحمد وعثمان بن سعيد الدارمي ومحمد بن إسماعيل البخاري وأبي داود السجستاني وعبد الله بن محمد الجعفي والحكم بن معبد الخزاعي وحشيش بن أصرم النسائي وحرب بن قاسم الكرماني وأبي بكر الخلال ومحمد بن إسحاق بن خزيمة وأبي القاسم الطبراني وأبي الشيخ الأصبهاني وأبي أحمد العسال وأبي نعيم الأصبهاني وأبي الحسن الدارقطني وأبي حفص بن شاهين ومحمد بن إسحاق بن منده وأبي عبد الله بن بطه وأبي عمر الطلمنكي وأبي ذر الهروي وأبي محمد الخلال والبيهقي وأبي عثمان الصابوني وأبي نصر السجزي وأبي عمر بن عبد البر وأبي القاسم اللالكائي وأبي إسماعيل الأنصاري وأبي القاسم التيمي وأضعاف هؤلاء رأى في ذلك من الآثار الثابتة المتواترة عن الصحابة والتابعين ما يعلم منه بالاضطرار أن الصحابة والتابعين كانوا يقولون بما يوافق مقتضى هذه النصوص ومدلولها وأنهم كانوا على قول أهل الإثبات المثبتين لعلو الله نفسه على خلقه المثبتين لرؤيته القائلين بأن القرآن كلامه ليس بمخلوق بائن عنه
وهذا يصير دليلا من وجهين: أحدهما من جهة إجماع السلف فإنهم يمتنع أن يجمعوا في الفروع على الخطأ فكيف في الأصول
الثاني: من جهة أنهم كانوا يقولون بما يوافق مدلول النصوص ومفهومها لا يفهمون منها ما يناقض ذلك
ولهذا كان الذين أدركوا التابعين من أعظم الناس قولا بالإثبات وإنكارا لقول النفاة كما قال يزيد بن هارون الواسطي من قال: إن الله على العرش استوى خلاف ما يقر في نفوس العامة فهو جهمي وقال الأوزاعي كنا - والتابعون متوافرون - نقر بأن الله فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته
الوجه الثالث
أن من له عناية بآثار السلف بعلم علما أن قول النفاة إنما حدث فيهم في أثناء المائة الثانية وأن أول من ظهر ذلك عنه الجعد بن درهم والجهم بن صفوان وقد قتلهما المسلمون وكلام السلف والأئمة في ذم الجهمية أعظم وأكثر من أن يذكر هنا حتى كان غير واحد من الأئمة يخرجهم عن عداد الأمة
وقال يوسف بن أسباط وعبد الله ابن المبارك: أصولي الثنتين وسبعين فرقة أربع: الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية فقيل لابن المبارك: فالجهمية: فأجاب بأن أولئك ليسوا من أمة محمد ﷺ
ولأصحاب أحمد في الجهمية: هل هم من الثنتين وسبعين فرقة أم هم خارجون عنها كالملاحدة والزنادقة؟ - قولان والجهمية باتفاقهم هم نفاة الصفات الذين يقولون إن الله ليس فوق العالم ولا يرى ولا تقوم به صفة ولا فعل وابن كلاب ومتبعوه خالفوهم في العلو والصفة ووافقوهم على نفي الأفعال القائمة به وغيرها مما يتعلق بمشيئته وقدرته فكيف يمكن مع هذا أن يقال: إن السلف كانوا من القائلين بنفي العلو والصفات
وإذا كانوا من المثبتة امتنع أن يقال: إنهم عرفوا أن القرآن إنما يدل على قول الإثبات وخالفوه
الوجه الرابع
أن يقال: القرآن: إما أن يقال: إنه بنفسه دال على العلو وإثبات ما يفهم منه من الصفات وإما أن يقال: أنه ينفي ذلك وإما أن يقال: إنه لا يدل على ذلك لا بنفي ولا إثبات
فإن قيل بالأول ثبت المقصود وعلم أن مدلول القرآن ومفهومه هو الإثبات وتبين ما ذكر من أنه يمتنع أن يكون العقل الصريح معارضا لذلك وإن قيل بالثاني كان هذا معلوم الفساد بالاضطرار فإن ليس في القرآن آية واحدة ظاهرة في نفي الصفات وغاية ما يريد من يستدل بذلك أن يستدل بقوله: { ليس كمثله شيء } [ الشورى: 11 ] وقوله: { ولم يكن له كفوا أحد } [ الإخلاص: 4 ] ونحو ذلك وهذه الآيات إنما تنفي مماثلة صفاته لصفات المخلوقين لا تنفي ثبوت الصفات ولا ريب أن القرآن تضمن إثبات الصفات ونفى مماثلة المخلوقات فأما أن يكون فيه ما ينفي الصفات فهذا من أعظم البهتان الذي يظهر أنه كذب لكل عاقل
ولهذا لما كان النفاة يعتمدون على ما ينفي التمثيل كقوله تعالى: { ليس كمثله شيء } وقوله: { ولم يكن له كفوا أحد } وهذا لا يدل على مقصودهم في اللغة التي نزل بها القرآن بل هو على نقيض مقصودهم أدل فإن هذا يدل على ثبوت شيء موصوف بصفات الكمال لا مماثل له في ذلك وهم لم يثبتوا ذلك - احتاجوا إلى أن يفتروا على اللغة بعد أن افتروا على العقل فصاروا مفترين على الشرع والعقل واللغة فيقول أحدهم: لو كان موصوفا بالعلو لكان جسما ولو كان جسما لكان مماثلا لسائر الأجسام والله قد نفى عنه المثل فهذا أعظم ما يعتمدون عليه من جهة السمع
وقد بين في غير هذا الموضع فساد هذا من وجوه كثيرة منها أن يقال: هنا ثلاث مقدمات حصل فيها التلبيس: أحدها: كون كل عال جسما والثاني: كون الأجسام متماثلة والثالث: كون هذا التماثل هو المراد بالمثل في لغة العرب التي نزل بها القرآن
ومنشأ الغلط في الاشتباه والاشتراك والإجمال في لفظ ( الجسم ) ولفظ ( المثل )
فيقال: الجسم في لغة العرب هو البدن وهو عندكم مما يمكن الإشارة إليه فالهواء والماء والنار ونحو ذلك ليس جسما في لغة العرب وهو في اصطلاحكم جسم
وإذا كان الجسم في لغة العرب أخص منه في عرفكم وقد علم بصريح العقل أن الذهب ليس مثل الفضة ولا الخبز مثل التراب ولا الدم كالذهب فما يسمى في لغة العرب ( جسدا ) و( جسما ) ونحو ذلك هو مما يعلم أنه ليس متماثلا بصريح العقل والحس فكيف بما هو أعم من ذلك مثل كونه يشار إليه أو كونه يقبل الأبعاد الثلاثة: الطول والعرض والعمق؟ مع أن هذه الألفاظ ليس مرادهم بها ما هو معناها في اللغة المعروفة فإن هؤلاء عندهم الحبة الواحدة كالعدسة والسمسمة بل الذرة التي قال الله فيها: { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } [ النساء: 40 ] هي في اصطلاحهم طويلة عريضة عميقة
ومن المعلوم بالاضطرار من لغة العرب أنهم يقولون عن نوع الإنسان: هذا طويل وهذا قصير وكذلك أعضاء الإنسان كيده ورجله وعنقه يقولون: هذا طويل وهذا قصير ويقولون: هذا عريض وهذا دقيق ورقيق لعنقه ويده
وأما العميق عندهم فيقال في مثل الآبار ونحوها لا يقولون لفم الإنسان: إنه عميق ولا لأذنه وعينه ونحو ذلك فكيف بالعدسة والسمسمة والذرة
فإذا قالوا عن الشيء: إنه طويل عريض عميق لم يقصدوا بذلك المعروف في اللغة وما يعقله الناس من معنى الطول والعرض والعمق بل يقصدون هذا المعنى العام الذي وضعوا له لفظ الطول والعرض والعمق ثم يقولون مع هذا: إن كل ما وصف بهذه المعاني العامة فإنه يجب أن يكون مماثلا مستويا في الحد والحقيقة لا يختلف إلا باختلاف أعراضه
فهذا القول من أبعد الأقوال عن المعقول الذي يعرفه الناس بحسهم وعقلهم ثم بتقدير أن يكون كذلك فلا يتمارى عاقلان أن لفظ ( المثل ) في لفة العرب وسائر الأمم ليس المراد به هذا وأنه إذا قيل له: إن كذا مثل كذا أو ليس مثله وهذا ليس له مثل فإنه ليس المفهوم من ( المثل ) كون هذا بحيث يشار إليه وكون هذا بحيث يشار إليه أو كون كل منهما له قدر أو له طول وعرض وعمق لا بالمعنى اللغوي ولا بما هو أقرب إليه فضلا عن اصطلاحهم
ونحن نعلم بالضرورة من لغة العرب انهم لا يقولون: الجبل مثل النار ولا الهواء مثل الماء ولا الجمل مثل البقر ولا الشمس والقمر مثل الذهب والفضة مع اشتراكهما في كثير من الصفات الزائدة على مطلق المقدار بل قد نفى في القرآن كون الشيء مثل غيره مع كون كل منهما جسما بل حيوانا بل إنسانا
كما يف قوله: { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } [ محمد: 38 ]
وقال تعالى: { أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون * نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون } [ الواقعة: 58 - 61 ]
وهذا في لغة العرب لقول شاعرهم :
ليس كمثل الفتى زهير... خلق يوازيه في الفضائل
وقال الآخر :
ما إن كمثلهم في الناس واحد
فكيف يجوز مع هذا أن يستدل بقوله: { ليس كمثله شيء } أو قوله: { ولم يكن له كفوا أحد } على أنه لا صفة له أو لا يرى في الآخرة أو ليس فوق العرش - بناء على تلك المقدمات وهو أنه لو كان كذلك لكان جسما والأجسام متماثلة والله قد نفى المثل؟
ومن عجيب ما يحتجون به أنهم يقولون: لو كان متصفا بذلك لكان جسما ولو كان جسما لكان منقسما والمنقسم ليس بواحد والله قد أخبر أنه واحد مع أنه لا يوجد في لغة العرب بل ولا غيرهم من الأمم استعمال الواحد الأحد والوحيد إلا فيما يسمونه جسما ومنقسما كقوله تعالى: { ذرني ومن خلقت وحيدا } [ المدثر: 11 ]
وقوله تعالى: { وإن كانت واحدة فلها النصف } [ النساء: 11 ]
وقوله: { واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب } إلى قوله: { قال له صاحبه وهو يحاوره } [ 32 - 37 ]
وقوله: { أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب } [ البقرة: 266 ]
وقوله تعالى: { ولا يظلم ربك أحدا } [ الكهف: 49 ]
وقوله: { ولا يشرك في حكمه أحدا } [ الكهف: 26 ]
وقوله: { ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } [ الكهف: 110 ]
وقوله: { ولا تستفت فيهم منهم أحدا } [ الكهف: 23 ]
وقوله: { قل إني لن يجيرني من الله أحد } [ الجن: 22 ]
وقوله: { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا } [ الجن: 18 ]
وقوله: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } [ التوبة: 6 ]
وقوله: { ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا } [ يوسف: 36 ]
إلى قوله: { أما أحدكما فيسقي ربه خمرا } [ يوسف: 41 ]
وقوله: { قالت إحداهما يا أبت استأجره } [ القصص: 26 ]
إلى قوله: { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين } [ القصص: 27 ]
وقوله: { ولم يكن له كفوا أحد } [ الإخلاص: 4 ]
والعرب وغيرهم من الأمم يقولون: رجل ورجلان اثنان وثلاثة رجال وفرس واحد وجمل واحد ودرهم واحد وثوب واحد ورأس واحد وذكر واحد وأمير واحد وملك واحد ومسكن واحد وسيد واحد وأمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله تعالى
فلفظ الواحد وما يتصرف منه في لغة العرب وغيرهم من الأمم لا يطلق إلا على ما يسمونه هم جسما منقسما لأن ما لا يسمونه هم جسما منقسما ليس هو شيئا يعقله الناس ولا يعلمون وجوده حتى يعبروا عنه بل عقول الناس وفطرهم مجبولة على إنكاره ونفيه فلو قدر وجود هذا في الخارج أو إمكان وجوده لاحتيج بعد ذلك إلى أن يثبت لفظ ( الواحد ) في لغة العرب يعبرون بها عنه إذ ليس كل ما وجد أو أمكن وجوده يجب أن يتصوره أهل اللغة ويكون داخلا فيما عبروا عنه من لغتهم
وإذا قدر أن أهل اللغة عبروا بلفظ ( الواحد ) و( الأحد ) في لغتهم عن هذا لم يجز أن يقال: إن لفظ ( الواحد ) في لغتهم لا يقع إلا عليه لما ذكرناه أن لفظ ( الواحد ) وما اشتق منه عرف واشتهر استعماله في اللغة فيما يجعلونه هم جسما منقسما وذلك ليس بواحد عندهم فسمي الواحد عندهم منتف في اللغة وإن قدر وجوده لكان نادرا في اللغة
والغالب المشهور في اللغة أن اسم ( الواحد ) يتناول ما ليس هو الواحد في اصطلاحهم وإذا كان كذلك لم يجز أن يحتج بقوله تعالى: { وإلهكم إله واحد } [ البقرة: 163 ] وقوله: { قل هو الله أحد } ونحو ذلك مما أنزله الله بلغة العرب واخبرنا فيه انه أحد وأنه إله واحد - على أن المراد ما سموه هم في اصطلاحهم واحدا مما ليس معروفا في لغة العرب بل إذا قال القائل: دلالة القرآن على نقيض مطلوبهم أظهر - كان قد قال الحق فإن القرآن نزل بلغة العرب وهم لا يعرفون الواحد في الأعيان إلا ما كان قديما بنفسه متصفا بالصفات مباينا لغيره مشارا إليه
وما لم يكن مشارا إليه أصلا ولا مباينا لغيره ولا مداخلا له فالعرب لا تسميه واحدا ولا أحدا بل ولا تعرفه فيكون الاسم الواحد والأحد دل على نقيض مطلوبهم منه لا على مطلوبهم
يؤيد هذا أنهم يقولون: اللفظ المشهور في اللغة الذي يتداوله الخاص والعام لا يجوز أن يكون موضوعا بإزاء المعنى الدقيق الذي لا يفهمه إلا خواص الناس وهذا مما استدل به نفاة الأحوال على مثبتيها وقالوا: المعروف في اللغة أن الحركة هي كون الجسم متحركا وأما ما يدعونه من أن الحركة أمر يوجب كون الجسم متحركا فهذا المعنى لا يفهمه إلا الخاصة فضلا عن أن يعلموا أن لفظ ( الحركة ) موضوع له
ولفظ ( الحركة ) لفظ مشهور يتداوله الخاصة والعامة فلا يحوز أن يكون مفهومه ما لا يتصوره المخاطبون به وهذا بعينه ما يقال لهؤلاء النفاة الذين يسمون نفيهم توحيدا فيقال هذا الواحد الذي تثبتونه وهو أنه لا يشار إليه ولا يتميز منه شيء عن شيء ونحو ذلك - أمر لا يتصوره إلا بعض الناس بل قليل منهم والذين تصوروه تناعوا في إمكان وجوده في الخارج فمنهم من قال: وجود هذا في الخارج ممتنع وإن كان كذلك ولفظ الواحد مشهور في اللغات كلها أشهر من لفظ ( الحركة ) فلا يجوز أن يكون مسمى هذا الاسم في اللغة المعروفة معنى لا يتصوره إلا قليل من الناس وهم متنازعون في إمكان ثبوته في الخارج وإذا لم يكن هذا المعنى هو المراد بلفظ ( الواحد ) و( الأحد ) لم يجز الاستدلال بالسمع الوارد بلغة العرب على هذا
ولو قيل: إنه يجوز استعمال لفظ ( الواحد ) في لغتهم في هذا المعنى: إما بطريق المجاز والاشتراك أو التواطؤ
قيل: هب أنه يجوز لمن بعدهم أن يستعمل ذلك لكن نحن نعلم أنهم لم يستعملوه في ذلك لأنهم لم يكونوا يثبتون هذا المعنى وبتقدير أن يكون مستعملا في هذا وهذا فإنه يكون دالا على ما به الاشتراك فلا يدل على ما يمتاز به أحدهما عن الآخر فلا يدل على محل النزاع ولو قدر أنه حقيقة في أحدهما: مجاز في الآخر لكان حقيقة في المعنى الذي يسبق إلى إفهام الناس عند الإطلاق وهو المعروف ولو قدر أنه مشتركا اشتراكا لفظيا لم يجز تعيين محل النزاع إلا بقرينة تدل على تعيينه والقرائن اللفظية إنما تدل على نقيض قولهم لا على عين قولهم فإنه ليس في الكتاب إثبات واحد بالمعنى الذي ادعوه فضلا عن أن يكون الله موصوفا به
وهذا ( الواحد ) الذي يثبته هؤلاء من جنس الأحوال التي يثبتها أولئك ومن جنس الشيء المعدوم الذي يثبته من يقول: المعدوم شيء ومن جنس الكليات والمجردات كالعقول والمادة والصورة العقلية التي يثبتها الفلاسفة فهؤلاء يثبتون في الخارج ما لا وجود له في الخارج لكن مثبتة الأحوال اعقل ولهذا كان فيهم من هو من أهل الإثبات فإنهم عرفوا أنها ليست موجودة في الخارج لكن تناقضوا حيث قالوا: لا موجودة ولا معدومة فصاروا مشابهين للقرامطة الباطنية المتفلسفة الذين يقولون: لا موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت ومن قال: المعدوم شيء وهو ثابت وليس بموجود - يشبه المتفلسفة الذين جعلوا الكليات المجردات أمورا موجودة في الخارج لكن تناقضوا حيث فرقوا بين الوجود والثبوت
والمقصود أن كل هؤلاء يجمعهم إثبات أمور يدعون أنها موجودة في الخارج وهي لا يتصورها إلا طائفة قليلة من الناس فضلا عن أن تكون الألفاظ المعروفة المشهورة في اللغة دالة عليها ولا ريب أنهم أخطأوا في المعاني المعقولة ثم في مدلول الألفاظ المسموعة
فتبين لك أن قولهم يتضمن من الفرية على اللغة والعقل من جنس ما تضمن من الفرية على الشرع وأنهم لا يمكنهم أن يقولوا: إن الشرع دال على قولهم بوجه من الوجوه لا بطريق الحقيقة ولا بطريق المجاز
فإذا أريد بيان انتفاء دلالة النص على ما ادعوه من مسمى الواحد كان هنا طرق :
أحدها: أن هذا اللفظ لم يستعمل إلا فيما نفوه دون ما أثبتوه
الثاني: أن نبين انتفاء ما أثبتوه في الخارج وحينئذ فلا يكون كلام دالا على وجود ما ليس بموجود
الثالث: أن ما يذكرونه لا يتصوره عامة الناس: لا العرب ولا غيرهم فلا يكون اللفظ موضوعا له ودالا عليه وإن كان له وجود ولا يقال: هو بتقدير وجوده يشمله لفظ الواحد لما تقدم من أن اللفظ المشهور بين الخاص والعام لا يكون مسماه مما لا يتصوره إلا الخاصة
الطريق الرابع: أنه بتقدير شموله لما أثبتوه وما نفوه فلا ريب أن شموله لما نفوه أظهر إذ لم يعرف استعماله في ذلك فلا يمكنهم دعوى اختصاص معنى الواحد بما ادعوه
الخامس: أنه بتقدير عمومه وكونه متواطئا إنما يدل على القدر المشترك لا على خصوص ما أثبتوه
السادس: أنه بتقدير كون أحدهما مجازا فالحقيقة هي ما نفوه دون ما أثبتوه لأن المعنى الذي يسبق إلى إفهام المخاطبين
السابع: أنه بتقدير الاشتراك اللفظي لا يجوز إرادة ما ادعوه غلا بقرينة ويكفينا في هذا المقام ألا نستدل به على أحدهما
الثامن: أن من يستدل به على ما نفوه لأن القرائن اللفظية المذكورة في القرآن تدل عليه لأنه أثبت لهذا الواحد صفات متعددة وأفعالا متعددة وتلك تستلزم ما نفوه لا ما أثبتوه
التاسع: أن يقال: أسم ( الأحد ) لا يستعمل في حق غير الله إلا مع الإضافة أو في غير الموجب كقوله: { قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا } [ يوسف: 36 ] وقال: { ولا يظلم ربك أحدا } [ الكهف: 49 ] وقال: { وإن أحد من المشركين استجارك } [ التوبة: 6 ] فهو أبلغ في إثبات الوحدانية من اسم الواحد ومع هذا فلم يستعمل إلا فيما نفوه مثل قوله: { ولم يكن له كفوا أحد } وأمثاله لا يعرف استعمال ( الأحد ) فيما ادعوه لا في النفي والإثبات فكيف اسم الواحد؟
العاشر: أن القرآن أثبت الوحدانية في الإلهة بقوله: { وإلهكم إله واحد } [ البقرة: 62 ] وقوله: { وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون } [ النحل: 51 ] وقوله حكاية عن المشركين: { أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب } [ ص: 5 ] وأمثال ذلك
وأما كون القديم واحدا أو الواجب واحدا فهذا إنما يعرف عن الجهمية من المتكلمين والفلاسفة فإنهم قالوا: القديم واحد وهو لفظ مجمل يراد به أن الإله القديم واحد وهذا حق ويراد به أن مسمى القديم واحد ثم قالوا: لو أثبتنا له الصفات لكان القديم أكثر من واحد
وقالت جهمية الفلاسفة: الواجب واحد وهو مجمل: يراد به الإله الواجب بذاته وهذا حق ويراد به مسمى الواجب ثم قالوا: لو أثبتنا له الصفات لتعدد الواجب
ومعلوم أن التوحيد الذي في القرآن هو الأول لا هذا وكذلك التوحيد الذي جاءت به السنة واتفق عليه الأئمة فتبين أن لفظ ( التوحيد ) و( الواحد ) و( الأحد ) في وضعهم واصطلاحهم غير التوحيد والواحد والأحد في القرآن والسنة والإجماع وفي اللغة التي جاء بها القرآن وحينئذ فلا يمكنهم الاستدلال بما جاء في كلام الله ورسله وفي لفظ التوحيد على ما يدعونه هم لأن دلالة الخطاب إنما تكون بلغة المتكلم وعادته المعروفة في خطابه لا بلغة وعادة واصطلاح أحدثه قوم آخرون بعد انقراض عصره وعصر الذين خاطبهم بلغته وعادته كما قال تعالى: { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } [ إبراهيم: 4 ] بل لفظ ( التوحيد ) و( الأحد ) و( الواحد ) الموجود كلام الله ورسوله يدل على نقيض قولهم وأنه موصوف بالصفات الثبوتية كما تقدم التنبيه عليه من أنه لا يعرف مسمى الواحد في لغة العرب إلا ما كان كذلك ومن أن الله وصف هذا الواحد بالصفات الثبوتية وسماه بالأسماء المتضمنة للمعاني الثبوتية في غير موضع فلو قدر أن لفظ ( الواحد ) فيه اشتراك وإجمال لكان ما بينه القرآن من اتصافه بالصفات الثبوتية رافعا للإجمال والاشتراك موافقا لقول أهل الإثبات دون النفاة
وهذه الأدلة كلما تدبرها العاقل تبين له قطعا أن هؤلاء النفاة مناقضون للرسول هم في جانب والرسل في جانب كمناقضة القرامطة الباطنية وأمثالهم وأن استدلال هؤلاء بنصوص الأنبياء على نفيهم من جنس استدلال القرامطة على شريعتهم الإلحادية بنصوص الأنبياء
ومما يبين ذلك أن كلام الله ورسوله صدق بل أصدق الكلام كلام الله والكلام الصدق يتضمن الإخبار عن الأمور على ما هي عليه لا على خلاف ما هي عليه بخلاف الكلام الذي هو كذب سواء كان صاحبه يعلم أنه كذب أو كان مخطأ يظن أنه صدق مطابق للحقائق وليس كذلك كما هو كلام هؤلاء النفاة للصفات فإن الواحد الذي يثبتونه لا حقيقة له في الخارج فيمتنع أن يكون كلام الله مخبرا عن وجوده في الخارج وذلك أنهم يجعلون الحقائق المتنوعة: كل واحدة هي الأخرى بلا امتياز أصلا فيجعلون الذات القائم بنفسها هي الصفة القائمة بها كما يجعلون العالم عين العلم والقادر عين القدرة
ومنهم من يجعل العلم عين المعلوم ويجعلون كل صفة هي الأخرى كما يجعلون العلم هو القدرة والقدرة هي الإرادة أو يجعلون النوع الكلي العام المقسوم إلى أعيان هو واحد بالعين بحيث تكون هذه العين هي تلك العين كما يقولون: الوجود واحد والموجود الواجب وهو الوجود المطلق بشرط الإطلاق الذي لا يختص بوجه من الوجوه أو بشرط عدم كل أمر وجودي عنه فلا يختص بكونه واجبا أو عالما أو قادرا أو حيا أو نحو ذلك من الأمور التي توجب اختصاصه بموجود دون موجود
وإذا حققوا الأمر لم يفرقوا بين الوجود الواجب الخالق القديم الفاطر الغني عن كل ما سواه والوجود الممكن المحدث المخلوق المفطور الفقير الذي لا يستغني بوجه من الوجوه عن خالقه بل لا يزال فقيرا إليه
ويجعلون الكلام المنقسم إلى الأمر والنهي والخبر هو نفس الأمر والنهي والخبر وإن عين الكلام الذي هو أمر عين الكلام الذي هو خبر وعين الكلام الذي هو أمر بالصلاة هو عين الكلام الذي هو أمر بالصيام وعين الكلام الذي هو خبر عن الله هو العين الكلام الذي هو خبر عن أبي لهب فيجمعون ذلك بين كون الواحد العام الكلي المشترك الذي لا يكون إلا بالذهن هو الآحاد المعينة الموجودة في الخارج ولا يفرقون بين الواحد بالنوع والواحد بالعين
كما لم يفرق بين هذا وهذا وحدة الوجود الذين قالوا الوجود واحد وجعلوا وجود الخالق عين وجود المخلوقات الذين قالوا: الحقائق المتنوعة كالأمر والخبر حقيقة واحدة
فالواحد الذي يثبته النفاة - أو من أخذ ببعض أقوالهم - لا بد أن يتضمن بعض هذا مثل جعل الذرات هي الصفات أو جعل كل صفة هي الأخرى أو جعل الكل المقسوم إلى أنواع هو نفس الأعيان المختلفة الموجودة في الخارج وجعل ما يمتنع وجوده في الخارج ولا يكون إلا في الذهن أمرا موجودا في الخارج يجب وجوده في الخارج وجعل ما يجب وجوده في الخارج مما يمتنع وجوده في الخارج فلا يكون إلا في الذهن
ومنتهاهم في توحيدهم إلى إثبات واحدين: أحدهما: الجوهر الفرد الذي يثبته من يثبته من المعتزلة ومن وافقهم من أهل الكلام مع أن جمهور العقلاء ينكرونه مع دعوى النظام أن في كل جسم من ذلك ما لا يتناهى
الثاني: الجواهر العقلية التي يثبتها من يثبتها من المتفلسفة مع أن جمهور العقلاء يعلمون بالضرورة أنها إنما هي في الأذهان لا في الأعين مثل الكليات المطلقة التي توصف بها العيان
وهم يقولون إن الحقائق الموجودة بالخارج - الذي يسمونها الأنواع كالإنسان والفرس وغيرها من أنواع الحيوان - مركبة من هذه ومثل المادة الكلية والصورة الجوهرية اللتين يدعون أنهما جوهران عقليان يتركب منهما كل جسم ومثل العقول العشرة التي يدعون أنها مجردات - فإن هؤلاء يصورون أن ما يعقله الإنسان من المعقولات المجردات المفارقات للأعيان المحسوسة فتوهموها أنها تلك المعقولات المجردات هي موجودة في الخارج مفارقات للأعيان محسوسة وإنما هي أمور متصورة في الأذهان لا أنها موجودة مع كونها كلية أو مع كونها مجردة في الأعيان ثم يدعون تركيب الأنواع منها كما يدعي أولئك تركب الأعيان من الأجزاء التي يسمونها الجواهر المنفردة
وقد بسط الكلام على هذه الأمور في موضع آخر وبين أن هذا الواحد الذي يثبتون في العلم الإلهي والطبيعي والمنطقي لا حقيقة له إلا في الأذهان ومن تصور أن هذا حق التصور تبين لهم من غلط هؤلاء وضلالهم ما يطور وصفه وتبين له أن ضلال هؤلاء في العقليات من جنس ضلالهم في السمعيات وأنهم كما أخبر تعالى عن أصحاب النار: { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } [ الملك: 10 ]
وكان من أصول الإلحاد والتعطيل - الذي سموه توحيدا - هو فرارهم من تعدد صفات الواحد الحق وتعدد أسمائه وكلامه مع ذلك لا محذور فيه بل هو الحق الذي لا يمكن جحده
ومن فهم هذا انحل له ما يقوله من يقوله من المتفلسفة: أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وما يقوله من تركيب الأنواع من الأجناس والفصول وأن ذلك الفرض الذي تتركب منه هذه الحقائق هو أيضا أمر يقدر في الذهن لا حقيقة له في الخارج وما يقولونه من أن الواحد لا يكون فاعلا وقابلا وأمثال ذلك مما يعبرون عنه بلفظ الواحد هو واحد يقدر في الأذهان لا حقيقة له في الخارج
الرد على قولهم: أن القرآن لم يدل على العلو والصفات من وجوه
وإن قيل: إن القرآن لم يدل على العلو والصفات لا بنفي ولا إثبات كان هذا أيضا باطلا ومعلوم الباطلان من وجوه :
الوجه الأول
أن العلم بدلالة النصوص على العلو والصفات أمر ضروري فالقدح فيه من جنس القدح في ما دل عليه القرن من خلق السماوات والأرض ومن نعيم الجنة والنار ولا ريب أن دلالة القرآن والحديث على ذلك أعظم من دلالته على الميزان والشفاعة والحوض وفتنة القبر ومساءلة منكر ونكير وأعظم من دلالته على أن محمد خاتم النبيين وأنه أفضل الخلق وأن الأنبياء أفضل من غيرهم وأن السابقين الأولين من أهل الجنة وأعظم من دلالته على تنزيه الله عن البخل والكذب والظلم ونحو ذلك من النقائص
وبالجملة فما من صنف من الأصناف المعلومة بالضرورة من الدين إلا وتطريق التأويل إلى نصوصه من جنس تطريقه إلى نصوص العلو والصفات أو أبلغ من ذلك أو قريب من ذلك
الوجه الثاني
أن يقال: جميع الطوائف متفقة على أن ظواهر النصوص مثبتة للعلو والصفات
ولهذا كان المخلوقون إما بالتأويل المتضمن لصرف ذلك عن ظاهره وإما بالتفويض مع قولهم: ظاهر ذلك غير مراد فلو كان ظاهرها دالا على الإثبات لما احتاجوا إلى هذا ولدفعوا أصل ظهور هذه الدلالة كما يدفع ظهور الدلالة في غير ذلك مما تقدم التمثيل به وغير ذلك
الوجه الثالث
أن يقال: نحن نعلم بالضرورة أن ظهور دلالة هذه النصوص على العلو الصفات أعظم من ظهور ما كان المؤمنون والكافرون يوردونه من السؤالان عما يظنوه مشكلا من القرآن كما تقدم تمثيلا وإذا كان كذلك ولم يسألوا عن ذلك علم قطعا أنه لم يكن منافيا لما يعلمونه بعقولهم
الوجه الرابع
أن يقال: فعلى هذا التقدير يمتنع تعارض العقل والسمع إذا لم يكن للسمع ظاهر يخالف العقل وهذا هو كان صلب الكلام وإنما ذكرنا مسألة العلو على طريق التمثيل لنهم يذكرون ذلك فيها فيقال: ليس في ظاهر القرآن ما يخالف الأدلة العقلية وهو المطلوب
الوجه الخامس
أن الهمم والدواعي متوفرة على طلب العلم بهذه المسائل وهي من أجل علوم الدين ومعرفتها إما واجبة أو مؤكدة الاستحباب وما كان كذلك يمتنع في الشرع والعادة أن الرسول لا يبين أمرها بالنفي ولا إثبات
الوجه السادس
أن العلم بهذه المسائل إما أن يكون من الدين وإما أن لا يكون فإن قيل: ليس ذلك من الدين بحيث لا يكون العلم بها أفضل من الجهل بها وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وكل دين فإن العلم بالله وما يستحقه من الأسماء والصفات لا ريب أنه مما يفضل الله به بعض الناس على بعض أعظم مما يفضلهم بغير ذلك من أنواع العلم ولا ريب أن ذلك يتضمن من الحمد لله والثناء عليه وتعظيمه وتقديسه وتسبيحه وتكبيره - ما يعلم به أن ذلك مما يحبه الله ورسوله سواء قيل: إن ذلك واجب أو مستحب فمقصود أنه من المحمود الحسن المفضل عند الله ورسوله فيكون ذلك من الدين
وقد قال تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } [ المائدة: 3 ]
وقال تعالى: { يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام } [ المائدة: 16 ]
وقال تعالى: { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } [ الإسراء: 9 ]
وقال: { كنتم خير أمة أخرجت للناس } [ آل عمران: 110 ] وأمثال ذلك من النصوص التي يدل كل منها على أن بيان هذا ومعرفته مما جاء به الرسول ونزل به هذا الكتاب وعلمته هذه الأمة وتضمنه هذا الدين فلا يمكن أن يقال: إن الرسول والمؤمنين أعرضوا عنه فلم يكن لهم به علم ولا لهم فيه كلام لا بنفي ولا إثبات
الوجه السادس في الرد على كلام الرازي المتقدم
وفيه الرد على كلام الرازي المتقدم: عن أصل الحجة أن يقال: لا نسلم أن العقل ينافي موجب هذه النصوص بل هذه المعقولات النافية لذلك فاسدة كما تقدم التنبيه على فسادها فضلا عن أن يكون المعقول المنافي لها هو الأصل في العلم بالسمع فإن غاية هذه المعقولات أن يقال: لو كان فوق العالم لكان جسما وذلك منتف قد علم جواب أهل الإثبات عن هذه الحجة فإن منهم من منع المقدمة الأولى مثل كثير من أهل الكلام والفلسفة وغيرهما من أصحاب كلاب والأشعري وأهل الفقه والحديث والتصوف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم والفلاسفة كما ذكر ابن رشد ونحوه ومنهم من منع الثانية كالهشامية والكرامية وغيرهما ومنهم من فصل عن المعنى الجسم
فإن قيل: إن معناه ما ليس بلازم للعلو مثل كونه مماثلا للمخلوقات - منع الأولى
فإن قيل: إن معناه لزم للعلو مثل كونه مستشارا إليه - منع الثانية
فهو يقول: أنه فوق العالم قطعا كما علم ذلك بالعقل والسمع
فإذا قيل: لو كان فوقه لكان جسما فالمراد بمعنى الجسم: إما أن يكون لازما للعلو وإما أن لا يكون لازما فإذا كان لازما لا محال منعت المقدمة الثانية وهي انتفاء اللازم وإن لم يكن لازما منعت المقدمة الأولى وهي التلازم
وكل ما يقال في هذا المقام من الألفاظ المتجملة مثل لفظ ( المتحيز ) و( المركب ) ونحو ذلك يستفصل عن معناه كما يستفصل عن معنى لفظ ( الجسم ) فإذا تخلص محل النزاع في معنى معقول مثل كون المراد بذلك ما تقوم به الصفات أو ما يتميز منه شيء عن شيء ونحو ذلك من المعاني - لم يسلم انتفاء ذلك بل نقول: هذا لا بد من ثبوته بالعقل الصريح كما دل عليه النقل الصحيح
الوجه السابع
أن يقال: بل العقل الصريح الموافق للسمع لا منازع له والعقل قد دل على أن الله تعالى فوق العالم وهذه طريقة حذاق أهل النظر من أهل الإثبات كما هو طريق السلف والأئمة: يجعلون العلو من الصفات المعلومة بالعقل وهذه طريقة أبي محمد بن كلاب وأتباعه كأبي عباس القلانسي والحارث المحاسبي وأشباههما من أئمة الأشعرية وهي طريقة محمد بن كرام وأتباعه وطريقة أكثر أهل الحديث والفقه والتصوف وإليها رجع القاضي أبو يعلى وأمثاله
ولكن طائفة من الصفاتية من أصحاب الأشعرية ومن وافقهم من أصحاب أحمد وغيرهم يظنون أن العلو من الصفات الخبرية كالوجه واليدين ونحو ذلك وانهم إذا أثبتوا ذلك أثبتوه لمجيء السمع به فقط ولهذا كان من هؤلاء من ينفي ذلك ويتأول نصوصه أو يعرض عنها كما يفعل مثل ذلك من نصوص الوجه واليد
ومن سلك هذه الطريقة فإنه يبطل الأدلة التي قال: أنها نافية لهذه الصفة كما يبطل ما به ينفون صفة الاستواء والوجه واليدين ويبين أنه لا محذور في إثباتها كما يقول مثل ذلك في الاستواء والوجه واليد ونحو ذلك من الصفات الخبرية
وهؤلاء كلامهم امتن من كلام نفاة الصفات الخبرية نقلا وعقلا وإذا قيل: إن في كلامهم تناقضا أو أنهم يقولون ما لا يعقل ففي كلام النفاة من التناقض وما لا يعقل أكثر مما في كلامهم فهم بالنسبة إلى النفاة اكمل علما بالمعقول والمنقول وأما بالنسبة إلى السلف والأئمة أهل الإثبات فيظهر من تناقضهم وقولهم ما لا يعقل وما يظهر به رجحان طريقة السلف والأئمة عليهم وتنسب به معارضة النفاة لهم ويتبين به الحق الذي لا يعدل عنه من فهمه ولا حول ولا قوة إلا بالله
ثم المثبتون للعلو بالعقل لهم طرق: منها: أنهم يقولون: العلم بذلك ضروري مستقر في فطر بني آدم
ومنها: أنهم يقولون: قصدهم لربهم عند الحاجات التي لا يقضيها إلا هو - هو أيضا ضروري وقصدهم لهم بتوجه قلوبهم إلى العلو أيضا ضروري فهم مفطورون على الإقرار به وأنه في العلو وعلى انهم محتاجون غليه يسألونه عن الضرورات وعلى انهم يقصدونه في العلو ولا في السفل وأن قلوبهم بفطرتها تتوجه إلى العلو اللهم إلا من أفسد فطرته وقصد أن يصدها عن مقتضاها مع أن هذا عند الحقيقة يغلب مع فطرته ويظل عنه ما كان يفتريه
ومنها أنهم يقولون: إن ذلك أمر متفق عليه بين العقلاء السليمي الفطرة وكل منهم يخبر بذلك عن فطرته من غير موطأة من بعضهم البعض ويمتنع في مثل هؤلاء أن يتفقوا على تعمد الكذب عادة ويمتنع أيضا غلطهم في الأمور الفطرية الضرورية فإن ذلك يسد باب العلم والمعرفة وأن يثق الإنسان بشيء من علومه ومتى قدح في مثل هذا كان القدح في مقدمات ما يدعى أنه معارض لذلك أسهل بكثير فإن المعارضين لا بد فيما يعارضون به من العقليات من قضايا تلقاها بعضهم عن بعض فيجوز عليهم فيها من الاتفاق على الغلط وعلى تعمد الكذب ما لا يجوز على المتفقين على قضايا لم يتلقها بعضهم عن بعض مع كثرة هؤلاء وتنوع أصنافهم
ومنها أنهم يثبتون العلو بطرق نظرية: كقولهم: كل موجودين فإما أن يكون أحدهما مباينا للآخر وإما أن يكون مداخلا له ونحو ذلك من الطرق المعلومة لهم فمعهم من العلم الضروري والقصد الضروري واتفاق العقلاء الذين لم يتواطأوا على قضاياهم والعقليات النظرية ما ليس للنفاة ما يشابهه وليس مع النفاة إلا أقيسة نظرية قد بين فسادها ومن لم يعلم فسادها على التفصيل كفاه أن يعلم فسادها مجملا فإنها مخالفة للمعارف الضرورية ولما أجمعت عليه فطر البرية مع مخالفتها لما جاء في الكتب الإلهية كالتوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب فالعلم الموروث عن الأنبياء من بني إسرائيل وغيرهم مع علم عامة المسلمين بمخالفتها للقرآن ولسنة النبي ﷺ ولما أجمع عليه سلف الأمة وخيار قرونها ولما اجتمع عليه عامة المؤمنين وأعيان الأمة من كل صنف
الوجه الثامن
أن يقال لمن أجاب بهذا عن النصوص: إذا احتججت على من ينفي ما تثبته بالنصوص: كإثبات القدر إن كنت من المثبتين له أو إثبات الجنة والنار وما فيهما من الأكل والشرب واللباس ونحو ذلك إن كنت من المثبتين له وإثبات وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحريم الربا والخمر وغير ذلك من الشرائع إن كنت من المثبتين له - إذا قال لك منازعك: هذه الظواهر التي احتججت بها قد عارضها دلائل عقلية وجب تقديمها عليها فما كان جوابك لهؤلاء كان جواب أهل الإثبات لك
فإن قلت: ما أثبته معلوم معلوم بالاضطرار من الدين قال لك أهل الإثبات للعلو: وهذا معلوم لنا بالاضطرار من الدين
فإن قلت: أنا لا أسلم هذا لكم قالوا لك: ومن نازعك من القرامطة أو الفلاسفة أو المعتزلة لا يسلم لك ما ادعيته من الضرورة
فإن قلت: لا يقدح في علمي الضروري منازعة غيري قالوا لك: لا يقدح في علمنا الضروري منازعتك لنا
فإن قلت: أنا إذا نازعني منازع في الضروريات التي عندي سكت عنه ولم أنازعه
قيل لك: وهذا مما يمكن المثبت أن يقوله لك كما تقوله لمنازعك أيضا لكن أنت لا توفي بهذا بل تتناقض وتخاصم أهل الإثبات وتنكر عليهم بل قد تعاديهم أو تكفرهم فإن كان ما فعلته سائغا لك ساع لأولئك النفاة أن يخاصموك ويعادوك ويكفروك كما فعلت هذا بأهل الإثبات وإن كنت تنكر على من يعاديك ويكفرك من النفاة لما أثبته فأنكر على نفسك معاداتك وتكفيرك لأهل الإثبات لما نفيته
وإن قلت: أنا لا أثق بصدقهم: أنهم يعلمون ذلك اضطرارا أو لا أثق بخبرتهم بالعلم الضروري
قيل لك: ومنازعك النافي لا يثق بصدقك وعلمك أيضا
فإن قلت: هو يعلم من ديني وعقلي ما يوجب معرفته بصدقي وعلمي
قيل لك: وأنت تعرف من دين أهل الإثبات وعقلهم ما يوجب معرفتك بصدقهم وعلمهم
وإن قلت: أنا بين فساد العقليات التي يعارض به النفاة لما أثبته
قيل لك: والمثبتون لما تنفيه يثبتون فساد العقليات التي تعارضهم أنت بها
وإن قلت: أنا وأولئك النفاة متفقون على النفي لما أثبته هؤلاء
قيل لك: والطائفة الفلانية والفلانية متفقتان على النفي لما أثبته
وأعلم أنه ليس من أهل الأرض إلا من يمكن مخاطبته بهذه الطريق حتى غلاة النفاة من الجهمية والقرامطة والفلاسفة فإنهم لا بد أن يثبتوا شيئا من السمعيات بوجه من الوجوه إذ لا يمكن أحدا من الطوائف أن ينفي جميع ما أثبته السمع من القضايا الخبرية والطلبية
وإذا قال: أنا أثبت ما جاء به السمع لكوني علمته بالعقل لا لمجيء السمع به أمكن أن يجاب بمثل ذلك في إثبات العلو والصفات أيضا وأمكن أن يجاب بجواب آخر وهو: أن كل من أقر بالنبوات بوجه من الوجوه فلا بد له أن يثبت بأقوال الأنبياء ما تكون الحجة فيه مجرد قولهم ولو أنه من الأمور العلمية السياسية فإن هؤلاء كلهم لا بد لهم من العمل بالشرائع: إما في الظاهر وإما للجمهور وإما أوائل سلوكهم
وإن كان ممكن لا يثبت النبوات بوجه فلا بد له من العمل بقول غير الأنبياء كالملوك والفلاسفة ونحوهم
بل لا بد للإنسان أن يفهم كلام بني جنسه إذ الإنسان مدني بالطبع لا يستقل بتحصيل مصالحه فلا بد لهم من الاجتماع للتعاون على المصالح ولا يتم ذلك إلا بطريق يعلم به بعضهم ما يقصده غيره
وأي طريق فرض من الإشارة والعبارة والكتابة وغير ذلك - كان ذلك من جنس السمعيات والنقليات فإن جماع ذلك ما به يعلم مراد الغير فإن نفى ناف ذلك بطريق جعله معارضا له من عقلياته فلا بد لمن أثبت ما يثبته من السمعيات أن يجيبه بجواب فما كان جوابا له كان نظير جوابا لأهل الإثبات فيما علموا أنه مراد للرسول ﷺ وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع
الجواب التاسع
أن يقال: نحن لا نرضى أن نجيبكم بما أجبتم به النفاة وذلك أنكم مقصرون في مناظرة النفاة لما أثبتموه عقلا وسمعا فإنكم في كثير من مناظراتكم لهم تصيرون إلى المكابرة ودعوى ما يعلمون هم نقيضها كما تفعلونه في مسالة الرؤية والكلام وإثبات الصفات بدون إثبات لوازم ذلك إذ أنتم كثيرا ما تثبتون الشيء بدون لوازمه أو مع وجود منافيه
ومن هنا تسلط عليكم القرامطة والفلاسفة والمعتزلة ونحوهم من النفاة وكلام أئمتكم معهم كلام قاصر يظهر قصوره لمن كان خبيرا بالعقليات وسبب ذلك تقصيرهم في مناظرتهم حيث سلموا لهم مقدمات عقلية ظنوها صحيحة وهي فاسدة فاحتاجوا إلى إثبات لوازمها فاضطروا إما إلى موافقتهم على الباطل وإما على التناقض الذي يظهر به فساد قولهم وإما إلى العجز الذي يظهر به قصورهم وانقطاعهم
ثم أخذوا يناظرون أهل الإثبات للعلو ونحوه بما به ناظرهم أولئك ويتسلطون على العاجز من مناظرتهم مع المثبتين كما تسلط عليهم أولئك فصاروا بمنزلة من قصروا في جهاد من يليهم من الكفار حتى غلبوهم وهزموهم فقاموا يقاتلون من يليهم من المسلمين كما قاتلهم أولئك الكفار حتى ظهر الباطل والكفر والضلال بتفريطهم أولا في جهاد من يليهم من الكفار وعداوتهم ثانيا على من يليهم من المسلمين
وصاروا على ضد ما وصف الله به المؤمنين حيث قال: { أشداء على الكفار رحماء بينهم } [ الفتح: 29 ] { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } [ المائدة: 54 ] فصاروا أعزة على المؤمنين أذلة على الكافرين كما نعت النبي ﷺ الخوارج حيث قال: [ يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ]
وحال الجهمية والرافضة شر من حال الخوارج فإن الخوارج كانوا يقاتلون المسلمين ويدعون قتال الكفار وهؤلاء أعانوا الكفار على قتال المسلمين وذلوا للكفار فصاروا معاونين للكفار أذلاء لهم معادين للمؤمنين أعزاء عليهم كما قد وجد مثل ذلك في طوائف القرامطة والرافضة والجهمية النفاة والحلولية ومن استقرأ أحوال العالم رأى من ذلك عبرا وصار في هؤلاء شبه من الذين قال الله تعالى فيهم: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا * أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا } [ النساء: 51 - 52 ]
ولهذا تجد كثيرا من هؤلاء النفاة يصنف في الشرك والسحر وعبادة الكواكب والأوثان وفي النفاق والزندقة التي توجد في كلام كثير من الفلاسفة وغيرهم بل يخضع لهؤلاء الكفار والمنافقين ويذل لهم ويريد أن يعلو على المؤمنين ويقهرهم وإن كان هذا بسبب ضعف من قاتله من المؤمنين وتفريطهم وعداوتهم كما أن قهر أولئك الكفار له كان بسبب ضعفه الحاصل من تفريطه وعدوانه فالذم لاحق له بقدر ما فرط فيه من حقوق الله وتعداه من حرماته كما أن هؤلاء يلحقهم أيضا الذم بقدر ما فرطوا فيه من حقوق الله وتعدوه حرماته
وقد قال تعالى: { ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون } [ الزخرف: 39 ]
والمقصود هنا أن يقال لهؤلاء الذين ينفون العلو ويثبتون بعض الصفات: نحن لا نرضى أن نجيبكم بنا تجيبون به أنتم نفاة الصفات وغيرها مما أثبته الرسول ﷺ بل نجيبكم وأولئك جميعا ببيان أنه ليس معكم فيما تخالفون به النصوص: لا عقل صريح ولا نقل صحيح بل ليس معكم في ذلك إلا الأكاذيب المموهة المزخرفة بالألفاظ المجملة المموهة التي تلقاها بعضكم عن بعض تقليدا لأسلافكم فإذا فسر معناها وكشف عن مغزاها ظهر فسادها بصريح المعقول كما علم فسادها بصحيح المنقول وتبين أيضا أن حجة الرسول ﷺ قائمة على من بلغه ما جاء به ليس لأحد أن يعارض شيئا من كلامه برأيه وهواه بل على كل أحد أن يكون معه كما قال تعالى: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } [ النساء: 65 ]
ونحن لا نسلم ما سلمتموه أنتم من المقدمات الفاسدة كما سلمتموه لمن عارض الكتاب من القرامطة والفلاسفة والمعتزلة وغيرهم بل نسد عليهم الطريق التي منها دخلوا على الإسلام ونمنعهم المقدمات التي جعلوا علم الكلام الذي خالفوا به الكتاب والسنة وإجماع خير الأنام