كلام ابن رشد ردا على الغزالي وتعليق ابن تيمية
وحقيقة الأمر أنهم قدروا أمورا متسلسلة كل منها واجب الوجود ضروري يمتنع عدمه وكل منها معلول وسموه باعتبار ذلك ممكنا وقالوا: إنه يقبل الوجود والعدم وحينئذ فلا يمكنهم إثبات افتقار واحد منها إلى علة فضلا عن افتقارها كلها لأن التقدير أنها جميعها ضرورية الوجود لا تقبل العدم ومثل هذا يعقل افتقاره إلى فاعل ويعود الأمر إلى المممكن الذي أثبتوه وهو الضروري الواجب الوجود القديم الأزلي: هل يفتقر إلى فاعل ومرجح يرجح وجوده على عدمه؟
وقد عرف أنه ليس لهم على ذلك دليل بل جميع العقلاء يقولون: إن هذا لا يفتقر إلى فاعل ولهذا لما بنوا إثبات واجب الوجود على إثبات هذا الممكن - كما فعله ابن سينا والرازي والآمدي وغيرهم - لم يمكنهم إقامة دليل على أن هذا الممكن - بهذا التفسير - يفتقر إلى فاعل وورد على هذا الممكن من الأسولة ما لم يمكنهم الجواب عنه كما قد ذكر بعض ذلك في غير هذا الموضع
وقد ذكر بعض ذلك الرازي في الأربعين ونهاية العقول والمطالب العالية والمحصل وغير ذلك من كتبه
وهؤلاء قسموا الوجود إلى واجب وممكن وعنوا بالممكن ما له علة وأدخلوا في الممكن القديم الأزلي الضروري الواجب الذي يمتنع عدمه فيلزمهم بيان أن هذا الممكن لا بد له من واجب فلم يثبتوا ذلك إلا بأن المحدث يفتقر إلى فاعل
هذا حق لكنه يدل على إثبات قديم أزلي لا يدل على أن القديم الأزلي ينقسم إلى واجب وممكن كما ادعوه ولما لم يثبتوا هذا الممكن والواجب لا يثبت إلا بثبوته لم يثبتوا لا واجبا ولا ممكنا ولا عرف انقسام الوجود إلى واجب وممكن على اصطلاحهم بل غايتهم ثبوت الواجب على التقديرين
وإن لم يثبت الممكن فإنه إن كان الممكن ثباتا فقد ثبت الواجب وإن لم يكن ثابتا فقد بقي القسم الآخر وهو الواجب لأنه لا واسطة بين النفي والإثبات
ونحن قلنا: الموجود: إما أن يكون له علة وإما أن يكون لا علة له والمعلول لا بد له من علة فلزم ثبوت ما لا علة له على التقديرين وهو المطلوب
قيل لهم: هذا لا ينفعكم لوجهين :
احدهما: أنكم لم تثبتوا وجودا لا علة له ومجرد التقسيم لا يدل عليه بل جوزتم أن يكون موجود قديم أزلي معلول وعلى هذا التقدير فيجوز وجود علل ومعلولات لا تتناهى فلا يثبت لكم وجود لا علة له
الثاني: أن يقال: هذا غايته أن يدل على ثبوت وجود واجب فمن قال: الوجود كله واحد وهو واجب لا ينقسم إلى واجب وممكن ولا قديم ومحدث فقد وفى بموجب دليلكم وهذا مما يبين به غاية كلام هؤلاء
ولما كان هذا منتهى كلامهم صار السالكون لطريقهم نوعين :
نوعا يقول: لم يثبت واجب الوجود لإمكان علل ومعلولات لا تتناهى ويوردون على إبطال التسلسل ما يقولون: لا جواب عنه كالآمدي وغيره
ونوعا يقول: الوجود كله واجب: قديمه ومحدثه وليس في الوجود موجودان: أحدهما قديم والآخر محدث وأحدهما واجب والآخر ممكن بل عني وجود المحدث الممكن هو عين وجود الواجب القديم كما يقوله ابن عربي وأتباعه كابن سبعين والقونوي
فليتدبر من هداه الله هذا التناقض العظيم الذي أفضى إليه هذا الطريق الفاسد الذي سلكه ابن سينا وأتباعه في إثبات واجب الوجود فنظارهم يعترفون بأنه لم يقم دليل على إثبات وجود واجب بل ولا على ممكن بالمعنى الذي قدره
ومعلوم أن هذا في غاية السفسطة فإن انقسام الموجود إلى واجب: هو قديم أزلي وإلى ممكن: هو محدث وجد بعد أن لم يوجد معلوم بالضرورة بجميع العقلاء وعوامهم
وصوفيتهم يقولون: الوجود الواجب القديم الأزلي هو عين الوجود المحدث ليس هنا وجودان: أحدهما واجب قديم والآخر ممكن محدث فهؤلاء يجمعون بين النقيضين حين يجعلون الوجود الواحد قديما حادثا ممكنا معلولا مفعولا واجبا وغير مفعول ولا معلول
وأولئك لم يثبت عندهم أحد النقيضين بل يشكون في رفع النقيضين فلم يثبت عندهم وجود واجب بل ولا ممكن بالمعنى الذي قرره
ومعلوم أن الموجود مشهود وأنه إما ممكن وإما واجب فمن رفع النوعين أو شك في ثبوتهما أوثبوتا أحدهما فهو في غاية السفسطة كما أن من لم يثبتهما بل جعل الجميع واجبا بنفسه قديما أزليا وأنكر وجود الحوادث فهو في غاية السفسطة والكلام على هؤلاء مبسوط في موضع آخر
وإنما المقصود هنا ذكر ما ذكره ابن رشد فإنه مع تعظيمه للفلاسفة وغلوه في تعظيمهم وقوله: إنهم وقفوا على أسرار العلوم الإلهية قد تفطن لفساد ما ذكره أفضل متأخريهم وأتباعه وهو عند التحقيق خير مما ذكره أرسطو وأتباعه فإذا كان هذا فسادا فذاك بطريق الأولى
وقد تبين ما ذكره ابن رشد حيث قال: ( وإن فهمنا من الممكن ما له علة وهو ضروري لم يلزم عن ذلك إلا أن ما له علة وأمكن أن نضع أن تلك لها علة وأن نمر ذلك إلى غير نهاية فلا ينتهي الأمر إلى موجود لا علة له وهو الذي يعنونه بواجب الوجود إلا أن يفهم من الممكن الذي وضعه بإزاء ما لا علة له الممكن الحقيقي فإن هذه الممكنات هي التي يستحيل وجود العلل فيها إلى غير نهاية )
قال ابن رشد: إنه إذا أريد بالممكن ما يعقل العقلاء أنه ممكن وهو المحدث بعد أن لم يكن الذي يكون أن يكون موجودا تارة ومعدوما تارة أخرى فإن هذا هو الممكن الحقيقي فإذا أريد بالممكن هذا وقيل: الوجود ينقسم إلى ممكن وغير ممكن والممكن ما له علة وهو الممكن الحقيقي وهو الحادث كان حقيقة الكلام: أنه ينقسم إلى قديم وحادث كما قاله المتكلمون
وحينئذ فهذه الممكنات - التي هي المحدثات - هي التي يستحيل فيها وجود علل لا تتناهى فإن المحدث يعلم بالضرورة أنه لا بد له من محدث فإذا قدرنا وجود ما لاينتاهى من المحدثات كان كل منها لا بد له من محدث وكان مجموع المحدثات أعظم افتقارا إلى محدث فإنه كلما كثرت المحدثات كان افتقارها إلى محدث لها أعظم من افتقر واحد منها وتسلسل المحدثات إذا قدر إلى ما لايتناهى لا يخرجها عن كونها جميعها محدثة وأن جيمعها مفتقر إلى محدث خارج عنها والمحدث الخارج عن جميع المحدثات لا يكون إلا قديما وعلى هذا التقدير فليس فيها معلول قديم أزلي ولا معلول ضروري كما قدره أولئك حيث قدروا عللا ومعلولات لا تتناهى كل منها محدث وكل منها ممكن مع أن الممكن قد يكون ضروريا ممتنع العدم واجب الوجود فكانوا محتاجين إلى بيان أن الضروري الوجود القديم الأزلي يكون معلولا حتى يكون المجموع من ذلك معلولا وهذا ممتنع عليهم حيث جمعوا بين النقيضين
قال ابن رشد: ( وأما إن عنى بالممكن ما له علته من الأشياء الضرورية فلم يتبين بعد أن ذلك مستحيل بالوجه الذي تبين من الموجودات الممكنة بالحقيقة ولا تبين بعد أن ها هنا ضروريا يحتاج إلى علة فيجب عن وضع هذا أن ينتهي الأمر إلى ضروري بغير علة إلى تبين أن الأمر في الجملة الضرورية - التي من علة معلول - كالأمر في الجملة الممكنة )
قلت: فابن رشد ذكر أولا أن الممكن إن فهمنا منه: الممكن الحقيقي وهو المحدث فقد تبين فساد كلامهم على هذا التقدير وإن عني بالممكن ما له علة من الأشياء الضرورية - كما يقوله ابن سينا وأتباعه: إن الأفلاك ضرورية واجبة الوجود يمتنع عدمها أزلا وأبدا ويقول مع ذلك: إنها ممكنة يمعنى أنها معلولة - قال ابن رشد: فلا يمكن إثبات واجب الوجود على هذا التقدير كما لا يمكنهم إثباته بطريقتهم على التقدير الأول
وذلك أن مقدمة الدليل لا بد أن تكون معلولة قبل النتيجة فيستدل على ما لا يعلم بما يعلم ويستدل بالبين على الخفي
وحينئذ فما ذكروه فاسد من وجهين: أحدهما: أنه لم يتبين بعد أنه يستحيل وجود التسلسل في هذه الممكنات بالوجه الذي تبين في الممكنات الحقيقية وهي المحدثات
ودليلهم في إثبات واجب الوجود موقوف على إبطال التسلسل وإبطال التسلسل إنما يمكن في المحدثات لا في الأمور الضرورية التي لا تقبل العدم إذا قدر تسلسلها
الوجه الثاني: قال: ( ولا تبين بعد أن ها هنا ضروريا يحتاج إلى علة فيجب عن وضع هذا إي عن تقدير هذا أن ينتهي الأمر إلى ضروري بغير علة إلى أن تبين أن الأمر في الجملة الضرورية التي من علة ومعلول كالأمر في الجملة الممكنة )
ومعنى كلامه: أن مقدمة الدليل يجب أن تكون معلومة قبل النتيجة فإذا كانوا يثبتون واجب الوجود بما جعلوه ممكنا وإن كان ضروريا واجب الوجود لكنه واجب بغيره فيجب أولا أن يثبتوا أن هاهنا ضروريا يحتاج إلى علة وهو الواجب بغيره الذي قالوا: إنه واجب أزلا وأبدا ضروري الوجود لكنه واجب بغيره لا بنفسه فلهذا سموه ممكنا
قال: ( ولم يبين بعد أن ها هنا ضروريا يحتاج إلى علة حتى يلزم عن تقدير ذلك أن يكون هنا ضروريا بغير علة وهو الواجب بنفسه ولو بين هذا أولا كان يحتاج بعد ذلك أن يبين أن الأمر في الجملة الضرورية التي من علة ومعلول كالأمر في الجملة الممكنة )
يقول: تبين أولا أنه يمكن أن يكون ضروري الوجود واجب الوجود أزلا وأبدا وهو مع ذلك معلول غيره
لقيل: هذا يدل على ضروري آخر يكون واجب الوجود ويكون علة له وحينئذ فنحتاج أن نقول: إنه يمتنع وجود علل ومعلولات كل منها ضروري واجب الوجود قديم يمتنع عدمه أزلا وأبدا فيكون التسلسل فيها باطلا كما كان التسلسل باطلا في الممكن الحقيقي وهو المحدث
فإنه قد علم بالعقل واتفاق العقلاء أنه يمتنع وجود محدثات متسلسة كل منها محدث الآخر ليس فيها قديم فلو ثبت إمكان معلول قديم أزلي لوجب بعد هذا أن ينظر في امتناع التسلسل وقد تقدم أن التسلسل في ذلك على هذا التقدير لا يمكن إقامة الدليل على امتناعه فيكيف إذا لم يثبت الأصل الذي بنوا عليه كلامهم؟
وهذا الأصل الذي بنوا عليه كلامهم - وهو أن الممكن قد يكون قديما أزليا ضروريا واجبا بغيره وأن الواجب الضروري القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه أزلا وأبدا ينقسم إلى واجب بنفسه وإلى ممكن بنفسه واجب بغيره - هو مما ابتدعه ابن سينا وخالف فيه عامة العقلاء من سلفه ومن غيره سلفه
وقد صرح أرسطو وسائر الفلاسفة أن الممكن الذي يمكن وجوده وعدمه لا يكون إلامحدثا وأن الدائم القديم الأزلي لايكون إلا ضروريا لا يكون محدثا
وابن سينا وأتباعه وافقوهم على ذلك كما ذكروا ذلك في المنطق في غير موضع كما قد ذكرت ألفاظه وألفاظ غيره في غير هذا الموضع من كتابه المسمى بالشفاء وغيره
لكن ابن سينا وأتباعه تناقضوا بسبب أنهم لما وجدوا المتكلمين قد قسموا الموجود إلى واجب وممكن والممكن عندهم هو الحادث سلكوا سبيلهم في هذا التقسيم وأدخلوا في الممكن ما هو قديم أزلي ونسوا ما ذكروه في غير هذا الموضع: من أن الممكن لا يكون إلا محدثا وكان ما ذكره هؤلاء وسائر العقلاء دليلا على أن ما سوى الله تعالى محدث كائن بعد أن لم يكن لما ثبت أنه ليس واجب الوجود موجودا بنفسه إلى الله وحده وأن كان ما سواه مفتقر إليه
وكان ما ذكره أرسطو وسائر العقلاء مبطلا لما ذكره ابن سينا وأتباعه في الممكن وتناقضوا فيه وكان ما ذكره ابن سينا وأتباعه من العقلاء في الواجب بنفسه مبطلا لما ذكره أرسطو وأتباعه وابن رشد أيضا من أن الفلك ضروري الوجود واجب الوجود لا يقبل العدم فإنه محتاج إلى غيره وهم يسلمون أنه محتاج إلى الأول لأنه لا قوام له إلا بحركته ولا قوام لحركته إلا بالأول فكان لا وجود له إلا بالأول فامتنع أن يكون وجوده بنفسه بل كان معلولا بغيره وما كان معلولا بغيره لم بكن موجودا بنفسه بل كان ذلك الأول علة في وجوده وما كان له علة في وجوده ثابتة عنه علم بصريح العقل أنه ليس موجودا بنفسه فلا يكون واجبا بنفسه وما لم يكن واجبا بنفسه كان ممكنا وكان محدثا كما قد بسط في مواضع
إذا المقصود هنا ذكر كلام ابن رشد وابن رشد يقول: إن لفظ الممكن في اصطلاح الفلاسفة ليس هو لفظ الممكن في اصطلاح ابن سينا وأتباعه وما كان أزليا واجبا بغيره دائما - بحيث لا يقبل العدم - لا يسمى ممكنا بل الممكن ما كان معدوما يقبل الوجود وأما ما لم يزل واجبا يغره فليس هو بممكن
وقد ذكر هذا في غير موضع من كتابه وذكر أن ما ذكره ابن سينا خروج عن طريقة الفلاسفة القدماء وأن طريقه التي أثبت به واجب الوجود بناء على هذا الأصل إنما هو إقناعي لا برهاني كقوله في الكلام في مسألة الواحد لا يصدر عنه إلا واحد ( وما وضع في هذا القول من أن كل معلول فهو ممكن الوجود فإن هذا إنما هو صادق في المعلول المركب وليس يمكن أن يوجد شيء مركب وهو أزلي فكل ممكن الوجود عند الفلاسفة فهو محدث )
قال: ( وهذا شيء قد صرح به أرسطاطاليس في غير ما موضع من كتبه )
قال: ( وأما هذا الذي يسميه ابن سينا ممكن الوجود فهذا والممكن الوجود مقول باشتراك الاسم وكذلك ليس كونه محتاج إلى الفاعل ظاهرا من الجهة التي منها تظهر حاجة الممكن )
قلت: وهذا الذي حكاه عنهم: من أن الممكن عندهم لا يكون إلا محدثا مركبا قد ذكره في غير موضع وذكر عنهم أن الأفلاك عندهم ليست مركبة من المادة والصورة كالأجسام العنصرية والمولدات وأن القول بأن كل جسم مركب من المادة والصورة إنما هو قول ابن سينا دون القدماء وكذلك ذكر عنهم أن القول بأن الأول صدر عنه عقل ثم عن العقل عقل ونفس وفلك وهلم جرا إلى العقل الفعال ليس هو قول القدماء بل هو قول ابن سينا وأمثاله
وكذلك ذكر فيما ذكره ابن سينا وأتباعه في الوحي والمنامات: أن سببها كون النفس الفلكية عالمة بحوادث العالم فإذا اتصلت بها نفوس البشر فاض عليها العلم منها ذكر أنه ليس قول القدماء بل هو قول ابن سينا وأمثاله وهو مع هذا فالذي يذكر عن القدماء وطرقهم هو أضعف من قول ابن سينا بكثير
وعامة ما يذكر في واجب الوجود أن يكون شرطا في وجود غيره وأما كونه علة تامة لغيره وربا ومبدعا كما يقوله ابن سينا وأمثاله فهذا لا يوجد تقريره فيما ذكره عن الأوائل فإذا كانت طريقة ابن سينا يلزمها أن تكون الحوادث حدثت بغير محدث فطريقة أولئك تستلزم أن تكون الممكنات وجدت بغير واجب أو أن يكون كل من الواجبين بأنفسهما لا يتم وجوده إلا بالآخر إلى غير ذلك مما في كلامهم من الفساد
والمقصود هنا أن نبين أن خيار ما يوجد في كلام ابن سينا فإنما تلقاه عن مبتدعة متكلمة أهل الاسلام مع ما فيهم من البدعة والتقصير
ولما أورد عليهم الغزالي في قولهم: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وعدة أدلة بين بها فساد قولهم قال ابن رشد: ( إذا اعتقدت الفلاسفة أن في المعلول الأول كثرة لزمهم ضرورة أن يقال لهم: من أين كان في المعلول الأول كثرة؟ وكما يقولون: إن الواحد لا يصدر عنه كثير كذلك يلزمهم أن الكثير لا يصدر عن الواحد فقولهم: إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد يناقض قولهم: إن الذي صدر عن الواحد الأول شيء فيه كثرة إلا أن يقولوا: إن الكثرة في المعلول الأول كل واحد منها أول فيلزمهم أن تكون الأوائل كثيرة )
قال: ( والعجب كل العجب كيف خفي هذا على أبي نصر وابن سينا؟ لأنهما أول من قال هذه الخرافات فقلدهما الناس ونسبوا هذا القول إلى الفلاسفة لأنهم إذا قالوا: إن الكثرة التي في المبدأ الثاني إنما الثاني إنما هي مما يعقل من ذاته ومما يعقل من غيره لزم عندهم أن تكون ذاته ذات طبيعتين: أعني صورتين فليت شعري أيتهما الصادرة عن المبدأ الأول وأيتهما التي ليست الصادرة؟ )
قال: وكذلك إذا قالوا فيه: إنه ممكن من ذاته واجب من غيره لأن الطبيعة الممكنة يلزم ضرورة أن تكون غير الطبيعة الواجبة التي استفادها من واجب الوجود فإن الطبيعة الممكنة ليس يمكن أن تعود واجبة إلا لو أمكن أن تنقلب طبيعة الممكن ضروريا وكذلك ليس في الطبائع الضرورة إمكان أصلا كانت الضرورة بذاتها أو بغيرها )
قال: ( وهذه كلها خرافات وأقاويل أضعف من أقاويل المتكلمين وهي كلها أمور دخيلة في الفلسفة ليست جارية على أصولهم وكلها أقاويل ليست تبلغ مرتبة الإقناع الخطبي فضلا عن الجدلي ولذلك يحق ما يقول أبو حامد في غير موضع من كتبه: إن علومهم الإلهية ظنية )
وقال أيضا لما أراد أن يقرر قول أرسطو: إن كل حادث فهو مسبوق بإمكان العدم والإمكان لا بد له من محل وقد رد ذلك أبو حامد بأن الإمكان الذي ذكروه يرجع إلى قضاء العقل فكل ما قدر العقل وجوده فلم يمتنع تقديره سميناه واجبا فهذه قضايا عقلية لا تحتاج إلى موجود حتى نجعل وصفا له لأن الإمكان كالامتناع وليس للامتناع محل في الخارج ولأن السواد والبياض يقضي العقل فيهما قبل وجودهما بكونهما ممكنين
فقال ابن رشد: ( هذه مغلطة فإن الممكن يقال على القابل وعلى المقبول والذي يقال على الموضوع القابل يقابله الممتنع والذي يقال على المقبول بقابله الضروري والذي يتصف بالإمكان الذي يقاله الممتنع ليس هو الذي يخرج من الإمكان إلى الفعل من جهة ما يخرج إلى الفعل لأنه إذا خرج ارتفع عنه الإمكان وإنما يتصف بالإمكان من جهة ما هو بالقوة والحامل لهذا الإمكان هو الموضوع الذي ينتقل من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل وذلك بين من حد الممكن فإن الممكن هو المعدوم الذي يتهيأ أن يوجد وأن لا يوجد وهذا المعدوم الممكن ليس هو ممكنا من جهة ما هو معلوم ولامن جهة ما هو موجود بالفعل وإنما هو ممكن من جهة ما هو بالقوة
ولذلك قالت المعتزلة: إن المعدوم ذات ما وذلك أن العدم يضاد الوجود وكل واحد منهما يخلف صاحبه فإذا ارتفع عدم شيء ما خلفه وجوده وإذا ارتفع وجوده خلفه عدمه
ولما كان نفس العدم ليس يمكن فيه أن ينقلب وجودا ولا نفس الوجود أن ينقلب عدما وجب أن يكون القابل لهما شيئا ثالثا غيرهما وهو الذي يتصف بالإمكان والتكون والانتقال من صفة العدم إلى صفة الوجود فإن العدم لا يتصف بالتكون والتغير ولا الشيء الكائن بالفعل يتصف أيضا ) وبسط الكلام في هذا
وقال أيضا في دليلهم المشهور على قدم العالم وهو قولهم: ( يستحيل صدور حادث من قديم مطلق لأنا إذا فرضنا القديم ولم يصدر منه العالم مثلا فإنما لم يصدر لأنه لم يكن للوجود مرجح بل كان وجود العالم ممكنا عنه إمكانا صرفا فإذا حدث لم يخل: إما أن يتجدد مرجح أو لا يتجدد فإن لم يتجدد مرجح بقي العالم على الإمكان الصرف كما كان قبل ذلك فإن تجدد مرجح انتقل الكلام إلى ذلك المرجح: لم رجح الآن ولم يرجح قبل؟ فإما أن يمر إلى غير نهاية أو ينتهي الأمر فيها إلى مرجح لم يزل مرجحا )
كلام ابن رشد ردا على الغزالي وتعليق ابن تيمية
قال ابن رشد: ( هذا القول هو قول في أعلى مراتب الجدل وليس هو واصلا موصل البراهين لأن مقدماته هي عامة والعامة قريبة من المشتركة ومقدمات البراهين هي من الأمور الجوهرية المناسة وذلك أن الممكن يقال اشتراك على الممكن الأكثري الممكن الأقلي والذي على التساوي وليس ظهور الحاجة فيها إلى مرجح على التساوي وذلك أن الممكن الأكثري قد يظن به أن يترجح من ذاته لا من مرجح خارج عنه بخلاف الممكن على التساوي
والإمكان أيضا منه ما هو من الفاعل وهو إمكان الفعل ومنه ما هو من المنفعل وهو إمكان القبول وليس ظهور الحاجة فيهما إلى المرجح على السواء وذلك أن الإمكان الذي في المنفعل مشهور حاجته إلى المرجح من خارج لأنه يدرك حسا في الأمور الصناعية وكثير من الأمور الطبيعية وقد يلحق فيه شك في الأمور الطبيعية لأن أكثر الأمور الطبيعة مبدأ تغيرها منها ولذلك يظن في كثير منها أن المحرك هو المتحرك هو المتحرك وأنه ليس معروفا بنفسه: أن كل متحرك فله محرك وأنه ليس ها هنا شيء يحرك ذاته فإن هذا كله يحتاج إلي بيان فلذلك فحص عنه القدماء
وإما الإمكان الذي في الفاعل فقد يظن في كثير منها أنه لا يحتاج في خروجه إلى الفعل إلى مرجح من خارج لأن انتقال الفاعل من أن لا يفعل إلى أن يفعل قد يظن بكثير منه أنه ليس تغيرا يحتاج إلى مغير مثل انتقال المهندس من أن لا يهندس إلى أن يهندس وانتقال المعلم من أن لا يعلم إلى أن يعلم )
قال: ( والتغير أيضا الذي يقال إنه يحتاج إلى مغير: منها ما هو في الجوهر ومنه ما هو في الكيف ومنه ما هو في الكم ومنه ما هو في الأين والقديم أيضا: يقال على ما هو قديم بذاته وقديم بغيره عند كثير من الناس والتغيرات منها ما يجوز عند قوم على القديم مثل جواز كون الإرادة الحادثة على القديم عند الكرامية وجواز الكون والفساد على المادة الأول عند القدماء وهي قديمة وكذلك المعقولات: على العقل الذي بالقوة ووهو قديم عند أكثرهم ومنها ما لا يجوز وبخاصة عند بعض القدماء دون بعض )
قال: ( وكذلك الفاعل أيضا: منه ما يفعل بإرادة ومنه ما يفعل بطبيعة وليس الأمر في كيفية صدور الفعل الممكن الصدور عنهما واحدا: أعني في الحاجة إلى المرجح وهل هذه القسمة في الفاعل حاصرة أويؤدي البرهان إلى فاعل لايشبه الفاعلين بالطبيعة ولا الذي بالإرادة التي في الشاهد )؟
قال: ( وهذه كلها مسائل كثيرة عظيمة يحتاج كل واحد منها إلى أن يفرد بالفحص عنها وعما قاله القدماء فيها وأخذ المسألة الواحدة بدل المسائل الكثيرة هو موضع مشهور من مواضع السفسطائيين والغلط في واحد من هذه المبادي هو سبب لغلط عظيم آخر في الفحص عن الموجودات )
قلت: المقصود هنا أن بين اختلاف اصطلاحهم في مسمى الممكن وأن الطريفة المشهورة عند المتأخرين في الفلسفة هي الطريفة المضافة إلى أفضل متأخريهم ابن سينا والفارابي قبله
وهذا ابن رشد مع عنايته التامة بكتب أرسطو والقدماء واختصاره لكلامهم وعنايته بالانتصار لهم والذب عنهم يذكر أن كثيرا من ذلك إنما هو من قول هؤلاء المتأخرين ليس هو من قول قدمائهم
ولما ذكر عن ابن سينا أنه استعمل لفظ الممكن في أعم مما هو عند الفلاسفة قال: إنه جعل المفهوم من لفظ الممكن ما له علة
قال: وحينئذ فقول القائل: إن الموجود ينقسم إلى ما له علة وإلى ما لا علة له يحتاج إلى دليل قال: ثم ما له علة ينقسم إلى ممكن وضروري فالضروري هو الذي لا يمكن عدمه بل هو واجب دائما بعلته والممكن الحقيقي ما كان يمكن وجوده وعدمه وهو ما كان معدوما وحينئذ فالممكن الحقيقي لا يكون إلا حادثا وذلك يستلزم وجود واجب وهو الضروري ولكن لا يستلزم أنه لا علة له إلا بدليل منفصل
قال: وإذا جعلنا الممكن ما له علة كان التقدير: أن ما له علة فله علة ويمكن حينئذ تقدير ممكنات لا تنتهي فلا ينتهي الأمر إلى موجود لا علة له وهو المسمى عندهم بواجب الوجود إلا أن يفهم من الممكن الذي وضعه بإزاء ما لا علة له: الممكن الحقيقي فإن هذه الممكنات هي التي يستحيل وجود العلل فيها إلى غير نهاية وأما إن عنى بالممكن ما له علة من الأشياء الضرورية فلم يتبين بعد أن ذلك مستحيل بالوجه الذي تبين في الموجودات الممكنة بالحقيقة ولا تبين بعد أن ها هنا ضروريا يحتاج إلى علة حتى يقال: إنه لا بد أن ينتهي الأمر إلى ضروري بغير علة إلى أن يبين أن الأمر في الجملة الضرورية التي من علة ومعلول كالأمر في الجملة الممكنة
قلت: ولفظ الممكن إذا قيل فيه يمكن أن يوجد ويمكن لا يوجد فهذا لا يكون إلا إذا كان معدوما كما ذكر ابن رشد أنه اصطلاح الفلاسفة فإما كل ما يمتنع عدمه فليس بممكن بهذا الاعتبار أن يكون ممكن الوجود والعدم بل هذا واجب الوجود سواء قيل: إنه واجب بنفسه أو واجب بغيره وإذا كان من هذا ما هو واجب بغيره أزلا وأبدا فكونه ممكنا يفتقر إلى دليل فتقسيم الموجود إلى واجب وممكن بهذا الاعتبار لا بد له من دليل كما ذكر ابن رشد بخلاف المعدوم الذي يمكن وجوده فهذا يعلم أنه ممكن ولهذا كان ابن سينا ومن سلك طريقته محتاجين إلى إثبات كون الأفلاك ممكنة بنفسها لا واجبة بنفسها
وهذا وإن كان حقا لكن دليلهم عليه في غاية الضعف فإنه مبين على أن كل جسم ممكن ودليلهم عليه ضعيف جدا كما قد بين في غير هذا الموضع وقد بين ضعفه أبو حامد ووافقه ابن رشد مع عنايته بالرد عليه على ضعف هذه الطريق
والتحقيق أن هذا يسوغ تسميته ممكنا في اللغة باعتبار أنه بنفسه لا يوجد لكن ما كان كذلك لا يكون إلا محدثا فيسمى ممكنا باعتبار ويسمى محدثا باعتبار والإمكان والحدوث متلازمان وأما تسمية ما هو قديم أزلي يمتنع عدمه ممكنا يمكن وجوده وعدمه فهذا لا يعرف في عقل ولا لغة وإن قدر أنه حق فالنزاع هنا لفظي لكن إذا عرفت الاصطلاحات زالت إشكالات كثيرة تولدت من الإجمال الذي في لفظ الممكن كما قد بسط في غير هذا الموضع
واختلاف الاصطلاح في لفظ الممكن هنا غير اختلاف الاصطلاح في الممكن العام الذي هو قسيم الممتنع والممكن الخاص الذي هو قسيم الواجب الممتنع بل نفس الممكن الخاص على هذا الاصطلاح المذكور عن القدماء إنما هو في المحدث الذي يمكن وجوده وعدمه
وأما ما يقدر واجبا بغيره دائما فذاك لا يسمى ممكنا بهذا الاصطلاح
وأما على اصطلاح ابن سينا وأتباعه وهو كون الممكن ما له علة قال ابن رشد: فما له علة ينقسم إلى ممكن وضروري فالضروري هو الذي لا يمكن عدمه بل هو واجب دائما بعلة وهذا مما يقوله الفلاسفة في الأفلاك والممكن الحقيقة هو الحادث
قال: وذلك يسلتزم وجود واجب وهو ضروري ولكن لا يستلزم أنه لا علة له إلا بدليل منفصل
وهذا الذي قاله ابن رشد بناء على أن افتقار المحدث إلى المحدث أمر ضروري كما هو قول الجمهور فإذا كان المراد بالممكن الحقيقي هو الحادث فلا بد له من فاعل ليس بحادث وهو الضروري في اصطلح عامة العقلاء فإن كل قديم هو ضروري عند عامة العقلاء وكل ممكن الإمكان الخاص هو محدث عندهم ثم بعد هذا كونه لا علة له
والعلم بامتناع التسلسل في مثل هذا: بأن يكون للمحدث محدث إلى غير نهاية ممتنع عند جميع العقلاء وقد بين ذلك في موضعه
وأما كون الممكن الذي هو قديم أزلي ضروري الوجود هو معلول لغيره فهذا ليس يبين أيضا امتناع التسلسل فيه على هذا التقدير كما تقدم وعلى هذا التقدير فيمكن تقرير ما ذكره الغزالي من أن ما قالوه في امتناع التسلسل باطل على أصولهم فإن كل ممكن إذا قدر أنه معلول مع كونه واجبا قديما أزليا فالقول في علته كقول فيه فإذا قدر علل ومعلولات كل منها واجب قديم أزلي لا نهاية لها لم يظهر امتناع هذا على هذا التقدير ولم يظهر افتقار مجموعها إلى واجب خارج عنها إذ كان كل منها واجب له علة فإذا قيل: المجموع لا علة له لم يظهر امتناع ذلك كما يظهر امتناعه في المحدثات ولكن كونه له علة أو لا علة له يفتقر إلى دليل آخر
وقد تكلم ابن رشد على القول المنسوب إلى الفلاسفة في كتب ابن سينا في صدرو العالم عن الله وأنه صدر عن عقل ثم عن العقل عقل ونفس وفلك إلى العقل العاشر كما هو معرف من مذهبهم وتقريره
قال ابن رشد لما حكاه أبو حامد عنهم: ( وهذا كله تخرص على الفلاسفة من ابن سينا وأبي نصر وغيرهما ومذهب القوم القديم هو أنه ها هنا مبادىء هي الأجرام السماوية ومبادىء الموجودات السماوية موجودات مفارقة للمواد هي المحركة للأجرام السماوية والأجرام السماوية تتحرك إليها على جهة الطاعة لها والمحبة فيها والامتثال لأمرها إياها بالحركة والفهم عنها وأنها إنما خلقت من أجل الحركة
وذلك أنه لما صح أن المبادىء التي تحرك الأجسام السماوية هي مفارقة للمواد وأنها ليست بأجسام لم يبق وجه به تحرك الأجسام ما هذا شأنه إلا من جهة أن المحرك أمر بالحركة ولذلك لزم عندهم أن تكون الأجسام السماوية حية ناطقة تعقل ذواتها وتعقل مباديها المحركة لها على جهة الأمر لها ولما تقرر أنه لا فرق بين العلم والمعلول إلا أن المعلوم في مادة والعلم ليس في مادة وذلك في كتاب النفس فإذا وجدت موجودات ليست في مادة وجب أن يكون جوهرها علما أو عقلا أو كيف شئت أن تسميها وصح عندهم أن هذه المبادىء مفارقة للمواد من قبل أنها التي أفادت الأجرام السماوية الحركة الدائمة التي لا يلحقها فيها كلال ولا تعب وإن كل ما يفيد حركة دائمة بهذه الصفة فإنه ليس جسما ولا قوة في جسم وأن الجسم السماوي إنما استفاد البقاء من قبل المفارقات وصح عندهم أن هذه المبادىء المفارقة وجودها مرتبط بمبدأ أول فيها ولولا ذلك لم يكن هنا نظام موجود وأقاويلهم مسطورة في ذلك فينبغي لمن أراد معرفة الحق أن يقف عليها من عنده
وما يظهر أيضا من كون جميع الأفلاك تتحرك الحركة اليومية مع أنها تتحرك بها الحركات التي تخصها مما صح عندهم أن الآمر بهذه الحركة هو المبدأ الأول وهو الله سبحانه وتعالى وأنه أمر ساير المبادىء أن تأمر ساير الأفلاك بساير الحركات وأن بهذا الأمر قامت السماوات والأرض كما أن بأمر الملك الأول في المدينة قامت جميع الأوامر الصادرة ممن جعل الملك له ولاية أمر من الأمور من المدينة إلى جميع من فيها من أصناف الناس
كما قال سبحانه: { وأوحى في كل سماء أمرها } وهذا التكليف والطاعة هي الأصل في التكليف والطاعة التي وجبت على الإنسان لكونه حيوانا ناطقا )
قال: ( وأما ما حكاه ابن سينا من صدور هذه المبادىء بعضها عن بعض فهو شيء لا يعرفه القوم وإنما الذي عندهم أن لها من المبدأ الأول مقامات معلومة لا يتم لها وجود إلا بذلك المقام منه كما قال تعالى: { وما منا إلا له مقام معلوم } وأن الارتباط الذي بينها هو الذي يوجب كونها معلولة بعضها عن بعض وجميعها عن المبدأ الأول وأنه ليس يفهم من الفاعل المفعول والخالق والمخلوق في ذلك الوجود إلا هذا المعنى فقط وما قلناه من ارتباط وجود كل موجود بالواحد وذلك خلاف ما يفهم ها هنا من الفاعل والمفعول والصانع والمصنوع فلو تخيلت آمرا له مأمورون كثيرون وأولئك المأمورون لهم مأمورون أخر ولا وجود للمأمورين إلا في قبول الأمر وطاعة الآمر ولا وجود لم دون المأمورين إلا بالمأمورين لوجب أن يكون الآمر الأول هو الذي أعطى جميع الموجودات المعنى الذي صار به صارت موجودة وأنه إن كان شيء وجوده في أنه مأمور فلا وجود له إلا من قبل الآمر الأول وهذا المعنى هو الذي ترى الفلاسفة أنه عبرت عنه الشرائع بالخلق والاختراع والتكليف )
قال: ( فهذا هو أقرب تعليم يمكن أن يفهم به مذهب هؤلاء القوم من غير أن يلحق ذلك الشنعة التي تلحق من سمع مذاهب القوم على التفصيل الذي ذكره أبو حامد ها هنا ) يعني ما ذكره ابن سينا قال: ( وهذا كله يزعمون أنه قد بين في كتبهم فمن أمكن أن ينظر في كتبهم على الشروط التي ذكروها فهو الذي يقف على صحة ما يدعون أو ضده )
قال: ( وليس يفهم من مذهب أرسطاطاليس غير هذا ولا من مذهب أفلاطون وهو منتهى ما وقفت عليه العقول الإنسانية وقد يمكن الإنسان أن يقف على هذه المعاني من أقاويل عرض لها إن كانت مشهورة مع أنها معقولة وذلك أن ما شأنه هذا الشأن من التعليم فهو لذيذ محبوب عند الجيمع )
قال: ( وأحد المقامات التي يظهر منها هذا المعنى هو أن الإنسان إذا تأمل ما ها هنا ظهر له أن الأشياء التي تسمى حية عالمة هي الأشياء المتحركة من ذاتها بحركات محدودة بجواهر وأفعال محدودة تتولد عنها أفعال محدودة ولذلك قال المتكلمون: إن كل فعل فإنما يصدر عن حي عالم فإذا حصل له هذا الأصل وهو أن كل ما يتحرك حركات محدودة يلزم عنها أفعال محدودة منتظمة فهو حيوان عالم وأضاف إلى ذلك ما هو مشاهد بالحس وهو أن السماوات تتحرك من ذاتها حركات محدودة يلزم عند ذلك في الموجودات التي دونها أفعال محدودة ونظام وترتيب به قوام ما دونها من الموجودات تولد أصل ثالث لا شك فيه وهو أن السماوات أجسام حية مدركة فأما أن حركتها يلزم عنها أفعال محدودة بها قوام ما ها هنا وحفظه من الحيوان والنبات والجمادات فذلك معروف بنفسه عند التأمل فإنه لولا قرب الشمس وبعدها عن فلكها المائل لم يكن ها هنا فصول أربعة ولو لم يكن ها هنا فصول أربعة لما كان نبات ولا حيوان ولا جرى الكون علىنظام في كون الاستقصات بعضها من بعض على السواء لينحفظ بها الموجود مثال ذلك أنه إذا بعدت الشمس إلى جهة الجنوب برد الهواء في جهة الشمال فكانت الأمطار وكثر الاستقص المائل وكثر في جهة الجنوب تولد الاسطقس الهوائي وفي الصيف بالعكس: أعني إذا صارت الشمس فوق سمت رؤوسنا وهذه الأفعال التي تلفى للشمس من قبل القرب والبعد الذي لها دائما من موجود موجود من المكان الواحد بعينه تلفى للقمر ولجميع الكواكب فإن لكلها أفلاكا مائلة وهي تفعل فصولا أربعة في حركاتها الدورية وأعظم من هذه كلها في ضرورة وجود المخلوقات وحفظها الحركة العظمى اليومية الفاعلة للليل والنهار
وقد نبه الكتاب العزيز على العناية بالإنسان لتسخير جميع السماوات له في غير ما آية مثل قوله سبحانه: { وسخر لكم الليل والنهار } الآية
فإذا تأمل الإنسان هذه الأفعال والتدبيرات اللازمة والمتقنة عن حركات الكواكب ورأى الكواكب تتحرك هذه الحركات وهي ذوات أشكال محدودة ومن وجهات محدودة ونحو حركات محدودة وحركات متضادة - علم أن هذه الأفعال المحدودة إنما هي عن موجودات مدركة حية ذوات اختيار وإرادة ويزيده إقناعا في ذلك أن يرى أن كثيرا من الأجسام الصغيرة الحقيرة الخسيسة المظلمة الأجساد التي ها هنا لم تعدم بالحياة بالجملة على صغر أجرامها وخساسة أقدارها وقصر أعمارهما وإظلام أجسادها وأن الجود الإلهي أفاض عليها الحياة والإدراك التي لها دبرت ذاتها وحفظت وجودها - علم على القطع أن الأجسام السماوية أحرى أن تكون حية مدركة من هذه الأجسام لعظم أجرامها وشرف وجودها وكثرة أنوارها
كما قال سبحانه: { لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس } الآية وبخاصة إذا اعتبر تدبيرها الأجسام الحية التي ها هنا علم على القطع أنها حية فإن الحي لا يدبره إلى حي أكمل حياة منه فإذا تأمل الإنسان هذه الأجسام العظيمة الحية الناطقة المختارة المحيطة بنا ونظر إلى أصل ثالث وهو أن عنايتها بما ها هنا هي غير محتاجة إليها في وجودها علم أنها مأمورة بهذه الحركات ومسخرة لما دونها من الحيوانات والنباتات والجمادات وأن الآمر لها غيرها وهوغير جسم ضرورة لأنه لو كان جسما لكان واحدا منها وكل واحد منها مسخر لما دونه ها هنا من الموجودات وخادم لما ليس يحتاج إلى خدمته في وجود ذاته وأنه لو لا مكان هذا الآمر لها لما اعتنت بما ها هنا على الدوام والاتصال لأنها مدبرة ولا منفعة لها خاصة في هذا الفعل فإذن إنما تتحرك من قبل الأمر والتكليف للجرم المتوجه إليها لحفظ ما ها هنا وإقامة وجوده والآمر هو الله تعالى وهذا كله معنى قوله تعالى: { أتينا طائعين } )
قال: ( ومثال هذا في الاستدلال: لو أن إنسانا رأى جمعا عظيما من اناس ذوي نطق وفضل مكبين على أفعال محدودة لا يخلون بها طرفة عين مع أن تلك الأفعال غير ضرورية في وجودهم وهم غير محتاجين إليها - لأيقن على القطع أنهم مكلفون ومأمورون بتلك الأفعال وأن لهم آمرا هو الذي أوجب لهم تلك الخدمة الدائمة للعناية بغيرهم المستمرة هو أعلى قدرا منهم وأرفع مرتبة وأنهم كالعبيد مسخرين له
وهذا المعنى هو الذي أشار إليه الكتاب العزيز في قوله سبحانه: { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين }
وإذا اعتبر الإنسان أمرا آخر وهو أن كل واحد من الكواكب السبعة له حركات خادمة لحركاته الكلية ذوات أجسام تخدم جسمه الكلي كأنها خدمة يعتنون بخادم واحد - علم أيضا على القطع أن لجماعة كل كوكب منها آمرا خاصا بهم رقيبا عليهم من قبل الآمر الأول مثل ما يعرض عند تدبير الجيوش: أن يكون منها جماعة جماعة كل واحد منها تحت آمر واحد وأولئك الآمرون وهم المسمون العرفاء يرجعون إلى أمير واحد وهو أمير الجيش
كذلك الأمر في حركات الأجرام السماوية التي أدرك القدماء من هذه الحركات - وهي نيف على الأربعين - ترجع كلها إلى سبعة آمرين وترجع السبعة - أو الثمانية على اختلاف بين القدماء في عدد الحركات - إلى الآمر الأول
وهذه المعرفة تحصل للإنسان بهذا الوجه سواء علم كيف مبدأ خلقه هذه الأجسام - أعنى السماوية - أو لم يعلم وكيف ارتباط وجود سائر الآمرين باللآمر الأول أو لم يعلم فإنه لا شك أنها لو كانت موجودة من ذاتها أعني قديمة من غير علة ولا موجد لجاز عليها أن لا تأتمر لآمر واحد لها بالتسخير وألا تطيعه وكذلك حال الآمرين مع الآمر الأول
وإذا لم يجز ذلك عليها فهنالك نسبة بينها وبينه اقتضت لها السمع والطاعة وليس ذلك أكثر من أنها ملك له في عين وجودها لا فيعرض من اعراضها كحال السيد مع عبيده بل في نفس وجودها فإنه ليس هنالك عبودية زائدة على الذات بل تلك الذوات تقومت بالعبودية
وهذا هو معنى قوله تعالى: { إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا } وهذا الملك هو ملكوت السماوات والأرض الذي أطلع الله إبراهيم عليه في قوله تعالى: { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين } وأنت تعلم تأنه إذا كان الآمر هكذا فإنه يجب ألا تكون خلقة هذه الأجسام ومبدأ كونها على نحو كون الأجسام التي ها هنا وأن العقل الإنساني يقصر عن إدراك كيفية ذلك الفعل وإن كان يعترف بالوجود فمن رام أن يشبه الوجودين: أحدهما بالفاعل وأن الفاعل لها فاعل بالنحو الذي توجد الفاعلات ها هنا فهو شديد الغفلة عظيم الزلة كثير الوهلة )
قال: ( فهذا هو أقصى ما تفهم به مذاهب القدماء في الأجرام السماوية وفي إثبات الخلق لها وفي أنه ليس بجسم وإثبات ما دونه من الموجودات التي ليست بأجسام واحدها هي النفس )
قال: ( وأما إثبات وجوده من كونها محدثة على نحو حدوث الأجسام التي نشاهدها كما رام المتكلمون فعسير جدا والمقدمات المستعلمة في غير ذلك غير مفضية بهم إلى ما قصدوا بيانه )
قلت: فهذا الكلام لا ريب أنه إلى الكلام الذي نقله الناس عن أرسطو وأصحابه في إثبات واجب الوجود أقرب من كلام ابن سينا وأمثاله
بل هذا خير من الكلام المنقول عن أرسطو من وجوه متعددة فإن المنقول عن أرسطو إنما فيه أنه جعل الأول محركا لها من حيث هو محبوب معشوق لها للتشبه به يحركها تحريك المحبوب لمحبه بل تحريك المتشبه به للمتشبه كتحريك الإمام للمؤتم فإن هذا أضعف من تحريك المحبوب لمحبه كتحريك الطعام للآكل ولمرأة للجماع وأما هذا فقد جعله آمرا لها بالحركة مسخرا لها بذلك مكلفا لها بذلك
لكن أرسطو أثبت قوله بأن الحركة الإرادية الشوقية لا بد فيها من عقل يتشبه به الفلك كم يتشبه المؤتم بالإمام
كلام أرسطو عن الحركة الشوقية والمحرك الأول
قال: والشيء المتشوق إليه علة لحركة المتحرك إليه بالشوق والشيء المشتاق إليه معلول له من جهة تلك العلة وفي تلك الحركة وحركة كل واحد من الأجسام فتشتاق كلها وترتفع إلى محرك أول لا يتحرك
وهذا لم يذكر حجة على أن المبدأ الأول هو الآمر بالحركات فإن كان قصد أن أمره لها بمعنى كونه متشبها به محبوبا لها كما ذكر أرسطو فقد ذكر طريقة أرسطو بعينها وقد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع وبينا ما فيها من النقص والتقصير عن إثبات واجب الوجود وأنها تدل على أن هؤلاء القوم من أبعد الخلق عن معرفة الله تعالى
نقد كلام ابن رشد عن الحركة الشوقية للسماوات
وكذلك كلام هذا الرجل ليس فيه إثبات الصانع كما ليس ذلك في كلام أرسطو وفي باطل وتناقض من وجوه :
الوجه الأول
أنه جعل الحركة تاره لا قوام للسماوات إلا بها كما ذكر ذلك أرسطو حيث قال: إنه لا وجود لها إلا في قبول الأمر وطاعة الآمر يعني الحركة كما ذكر أرسطو وجعلها تارة مستغنية عنها ولكنها كلفت بها لأجل السفليات وأن حال المكبين على أفعال لا يخلون منها طرفة عين مع أن تلك الأفعال غير ضرورية في وجدهم وهم غير محتاجين إليها
الوجه الثاني
أن غاية ما في هذا أن يكون آمرا لها بالحركة وليس في مجرد الأمر بالفعل ما يوجب أن يكون الفعل القائم بالفاعل من إبداع الآمر ومن خلقه ولا أنه محتاج إلى الآمر في نفس إحداث الفعل كما ذكره في أمر الملك لنوابه وأمر القائد لجيشه وأمر السيد لعبيده
الوجه الثالث
أنه لم يذكر حجة على أنه لا قوام لها إلا بحركة التي أمرت بها فمن أين يعلم أن قوام ذاتها بتلك الحركة؟
الوجه الرابع
أنه لو قدر أنه أبدع الحركة التي قامت بها وأنه لا قوام لها إلا بالحركة فغاية ما في ذلك أن يكون ذلك شرطا في قوامها ويكون فاعلا لشرط من شروط وجودها ليس في هذا ما يقتضي أنه أبدع سائر أعراضها ولا أبدع أعيانها
الوجه الخامس
أن هذا مبني على إثبات عقول مفارقة وراء الأفلاك وأن فيها عقلا هو فوقها في الرتبة والدليل الذي ذكره هذا وابن سينا وغيرهما من الفلاسفة في إثبات العقول إنما يدل على إثبات عقول هي أعراض تفتقر إلى أعيان تقوم بها من جنس العقل الموجود في نفوسنا فأما إثبات عقول هي جواهر قائمة بنفسها فلا دليل لهم على ذلك أصلا
ولولا أن هذا ليس موضع بسط ذلك لذكرت ألفاظهم بأعيانهم ليتبين لك ما ذكرته ولكن هؤلاء القوم يجعلون الأعراض جواهر والجواهر أعراضا والصفة هي الموصوف والموصوف هو الصفة وعلى هذا بنوا كلامهم كما صرحوا به في غير موضع ومن هنا يظهر :
الوجه السادس
وهو أن هذا وأمثاله جعلوا نفس العلم هو العالم وجعلوا نفس العلم هو جوهرا قائما بنفسه واجب الوجود وهذا من أعظم سفسطة في الوجود وهو شر من كلام النصارى بكثير
وغاية ما ينتهي إليه ما يدعونه من المفارقات المجردات عن المادة وهو العقول التي جعلولها مبادىء أنها علوم كلية كالعلوم الكلية التي لنا ومن المعلوم أن العلوم الكلية لا تقوم إلا بعالم لكن هؤلاء غلطوا حيث أثبت قدماؤهم كأصحاب أفلاطون كليات مجردة عن الأعيان وهي المثل الأفلاطونية وجعلوها أزلية أبدية وإنما التغير والتحول في أعيانها فلما تبين لأرسطو وأتباعه فساد هذا أبطلوه وقالوا: الكليات لا يكون وجودها منفكة عن الأعيان وهؤلاء ظنوا أيضا أن الأعيان الموجودة تقارنها كليات مغايرة للأعيان وهو أيضا غلط فإن كل هذه الأمور الكلية إنما ثبتوها في الأذهان لا في الأعيان وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن العقول المفارقات التي أثبتوها هي من جنس هذه الكليات ولهذا يصرحون بأن العلم هو العالم حتى في واجب الوجود قالوا: إنه هو العلم وإنه العالم وأن العلم هو القدرة فجعلوا نفس الذات الموصوفة هي الصفة وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى كما قد بسط في غير هذا الموضع
ثم إنهم أثبتوا واجب الوجود بطريق الحركة وأنه لا بد لها من محرك والمحرك هو المحبوب عندهم الذي يحب التشبه به لا تحب ذاته لأن الحركة الإرادية لا بد له من ذلك وادعوا أنه لا بد له من محرك لا يتحرك وقدبين فساد هذا في غير هذا الموضع من هذا الكتاب
وابن رشد قرر طريقتهم على غاية ما أمكنه من الحسن والبيان وهي كما ترى غايتها أن تكون الأجسام المتحركة محتاجة إلى آمر يحركها والمراد بأمره بالحركة: كونه محبوبا لها أي تحب أن تتشبه به لا أنها تحب ذاته كما ذكره سلفه الفلاسفة الذين بين طريقهم وشبهه بالملك الآمر لمن دونه من نابه في مملكته بأوامر وكل واحد يأمر من دونه وكلها ترجع إلى الآمر الأول
ومعلوم أن الآمر لم يبدع شيئا من أعيان المأمورين: لا صفاتهم ولا أفعالهم بل الملك الآمر له شعور بأمره وطلب من المأمور وأما كون الشيء محبوبا مشتاقا إليه أو للتشبه به فليس في هذا صدور أمر من أمر ولا شعور بالمحب المشتاق ولا طلب لفعل منه
وابن رشد قرر بأن الآمر لها هو المبدع لها بأنها لو كانت موجودة من ذاتها أي قديمة من غير علة ولا موجد لجاز عليها أن لا تأتمر لآمر احد لها بالتسخير وألا تطيعه كذلك حال الآمرين مع الآمر الأول وإذا لم يجز ذلك عليها فهنالك نسبة بينها وبينه اقتضت لها السمع والطاعة وليس ذلك أكثر من أنها ملك له في عين وجودها لا في عرض من أعراضها
فيقال له: أنت لم تقرر أنه آمر لها وسلفك إنما ذكروا أنه محبوب لها أي تحب التشبه به وهب أنه آمر لها فأنت لم تذكر دليلا على أنها إذا كانت مأمورة كانت مملوكة إلا قولك: ( إنه ليس هنالك عبودية زائدة على الذات بل تلك الذوات تقومت بالعبودية )
وهذه دعوى مجردة
فلم لا يجوز أن يقال: تلك العبودية زائدة على الذات؟
وقولك: ( إنها تقومت بالعبودية ): إن أردت تقومت بتعبدها الذي هو طاعتها وحركتها فهذه دعوى أرسطو وقد علم ما فيها وبتقدير أن تكون حقيقتها هي تلك الحركة بل يقتضي أن تكون الحركة شرطا في وجودها
وإن أردت بتقومها بالعبودية تقومها بأن خلقها الله تعالى فهذا هو المطلوب ولم تذكر عليه حجة
وأيضا فقولك: علم أن الآمر لها غيرها وهو غير جسم لأنه لو كان جسما لكان واحدا منها - كلام لا حجة فيه لوجهين :
أحدهما: أنه مسخرا للعقول: ولم يلزم أن يكون من العقول المسخرة فلماذا يلزم إذا كان مسخرا للأجسام أن يكون من الأجسام المسخرة؟ فهو عندهم عقل وليس من العقول المسخرة فلا يلزم أيضا إذا قيل: هو قائم بنفسه أو هو حي عليم قدير أو هو جوهر أو جسم أو ذات أو غير ذلك أن يكون من جملة المسخرات من هذا الجنس
الثاني: أنه لم لا يجوز أن يكون خارجا عن جملة المسخرات المأموره كما أنه قائم بنفسه وهو آمر لأعيان قائمة بنفسها وهو موصوف وهو آمر لموصوفات وأمثال ذلك وإذا كانت الأعيان أو الأجسام أو الموصفات مختلفة الحقائق لم يلزم أن يكون الآمر لها مماثلا للمأمور
وأيضا فإنك قلت: لو تخيلت أمرا له مأمورون كثيرون وأولئك المأمورون لهم مأمورون أخر ولا وجود للمأمورين إلا في قبول الأمر وطاعة الآمر ولا وجود لمن دون المأمورين إلا بالمأمورين لوجب أن يكون الآمر الأول هو الذي أعطى جميع الموجودات المعنى الذي صارت موجودة
وهذا الكلام فيه تفريق بين المأمور الذي لا وجود له إلا في قبول الأمر كما يقولون: لا توجد الأفلاك إلا بالحركة وهي قبول الأمر أو أن العقول لا توجد إلا بما فيها من قبول الأمر وبين ما صدر عن الأفلاك أو العقول من المولدات التي لا وجود لها إلا بالعقول أو الأفلاك
ومن المعلوم أن احتياج العقول والأفلاك إلى الواجب بذاته أعظم من حاجة ما دونها إليها: فكيف يقال في هذا: لا يوجد إلا به؟ ويقال في ذلك: لا يوجد إلا بقبول الأمر؟
ومن المعلوم أن ما يظهر من تأثير الأفلاك في الأرض إنما هو في بعض أحوالها كما ذكره من تأثير قرب الشمس وبعدها والليل والنهار
ومن المعلوم بالحس أن هذا ليس وحده مستقلا بإبداع ما في الأرض وإنما هو من جملة الأسباب التي بها يتم كما يفتقر الحيوان والنبات إلى الريح وافتقارها إلى ذلك أعظم من افتقارها إلى الشمس وكما تفتقر إلى الأرض والتراب وغير ذلك من الأسباب
وبالجملة هذه الطريق التي سلكها هؤلاء مبنية على ثلاث مقدمات أن الأفلاك لا تقوم إلا بالحركة وأن الحركة لا تقوم إلا بآمر منفصل أو محبوب منفصل يحب التشبه به فالأفلاك لا تقوم إلا بذلك ثم إذا كانت لا تقوم إلا بذلك لزم أن تكون جميع أعيانها وصفاتها صادرة عنه وهم لم يقروا ذلك
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع لكن يمكن تقريره بأن يقال: إذا كان قوامها بحركتها وقوام حركتها به فقوامها به وإذا كان قوامها به امتنع أن تكون واجبة الوجود بنفسها لأن ما كان واجب الوجود بنفسه لا يكون قوامه بغيره
وإذا كان الفلك متحركا بغيره امتنع أن يكون واجب الوجود فيكون ممكن الوجود بنفسه وممكن الوجود بنفسه لا يكون إلا بالواجب بنفسه فيجب أن يكون مفتقرا إلى مبدع فاعل كما كان مفتقرا إلى محبوب مشتاق إليه للتشبه به
فهذه الطريق يمكن أن يقرر به إثبات واجب الوجود لكن هم لم يذكروا هذا وهم في إصطلاحهم لايسمون الواجب بغيره ممكنا
وإنما سلك هذه الطريقة متأخروهم لكن متأخروهم لم يثبتوا كون الفلك ممكنا لا واجبا بنفسه بهذه الطريق فظهر في كلام قدمائهم التقصير من وجه وفي كلام متأخريهم التقصير من وجه آخر
ولهذا ما صاروا مقصرين في إثبات كون الفلك ممكنا مصنوعا صار الدهرية منهم إلى أنه واجب بنفسه
عود إلى لكلام ابن رشد في الرد على الغزالي وتعليق ابن تيمية
ولهذا لما ناظرهم أبو حامد الغزالي وبين عجزهم عن إثبات كون كل جسم ممكنا كما اعترفوا بأنه ليس كل جسم محدثا قال: ( فإن قيل: إن الدليل على أن الجسم لا يكون واجب الوجود أنه إن كان واجب الوجود لم يكن له علة: لا خارجة عنه ولا داخلة فيه فإن كانت له علة لكونه مركبا كان باعتبار ذاته ممكنا وكل ممكن مفتقر إلى واجب الوجود )
أجاب بأن البرهان لم يقم على إثبات واجب الوجود بالتفسير الذي ادعيتموه وإنما قام بمعنى أنه ليس له علة فاعلة وأما كونه ليس له علة مادية أو صورية فلم يقم دليل على واجب الوجود بهذا الاعتبار
قال: ( وكل تلبياتهم في هاتين اللفظيتين ): واجب الوجود وممكن الوجود ( فلنعد إلى المفهوم وهو نفي العلة ) ( يعني العلة الفاعلة ) وإثباتها فكأنهم يقولون: إن هذه الأجسام لها علة أم لا علة لها؟ فيقول الدهري: لا علة لها فما المستنكر؟ وإذا عنى بالإمكان والوجوب هذا فنقول: إنه واجب وليس ممكنا وقولهم: الجسم لا يكون واجبا تحكم لا أصل له )
قال ابن رشد: ( قد تقدم من قولنا: إنه إذ فهم من واجب الوجود ما ليس له علة وفهم من ممكن الوجود ما له علة لم تكن قسمة الموجود بهذين الفصلين معترفا بها فإن للخصم أن يقول: ليس كما ذكر بل كل موجود لا علة له لكن إذا فهم من واجب الوجود: الموجود الضروي ومن الممكن: الممكن الحقيقي أفضى الأمر - ولا بد - إلى موجود لا علة له وهو أن يقال: كل موجود فإما أن يكون ممكنا أو ضرريا فإن كان ممكنا فله علة فإن كانت تلك العلة من طبيعة الممكن تسلسل الأمر فيقطع التسلسل بعلة ضرورية ثم يسأل في تلك العلة الضرورية: إذا جوز أيضا أن يكون من الضروري ما له علة وما ليس له علة فإن وضعت العلة من طبيعة الضروري الذي له علة لزم التسلسل وأنتهى الأمر إلى علة ضرورية ليس لها علة )
قال: ( وإنما أراد ابن سينا أن يطابق بهذه القسمة رأي الفلاسفة في الموجودات وذلك أن الجرم السماوي عند الجميع من الفلاسفة هو ضروري بغيره وأما: هل الضروري بغيره فيه إمكان بالإضافة إلى ذاته؟ ففيه نظر ولهذا كانت هذه الطريقة مختلة إذا سلك فيها هذا المسلك فأما مسلكه فهو مختل ضرورة لأنه لم يقسم الموجود أولا إلى الممكن الحقيقي والضروري وهي القسمة الموجودة بالطبع للموجودات )
قال: ( ثم قال أبو حامد مجيبا للفلاسفة في قولهم: إن الجسم ليس بواجب الوجود بذاته لكونه له أجزاء هي علته فإن قيل: لا ينكر أن يكون الجسم له أجزاء وأن الجملة إنما تقوم بالأجزاء وأن الأجزاء تكون سابقة في الذات على الجملة قلنا: ليكن كذلك فإن الجملة تقومت بالأجزاء واجتماعها ولا علة للأجزاء ولا اجتماعها بل هي قديمة كذلك بلا علة فاعلية فلا يمكنهم رد هذا إلا بما ذكروه من لزوم نفي الكثرة عن الموجود الأول وقد أبطلنا عليهم ولا سبيل لهم سواه )
قال: ( فبان أن من لا يعتقد حدوث الأجسام لا يصل لاعتقاد في الصانع أصلا )
قال ابن رشد: ( هذا القول لازم لزوما لا شك فيه لمن سلك طريقة واجب الوجود في إثبات موجود ليس بجسم وذلك أن هذه الطريق لم يسلكها القدماء وإنما أول من سلكها - فيما وصلنا - ابن سينا وقد قال: إن أشرف من طريقة القدماء وذلك أن القدماء إنما صاروا إلى إثبات موجود ليس بجسم هو مبدأ للكل من أمور متأخرة وهي الحركة والزمان وهذه الطريقة تفضي إليه - زعم - أعني إلى إثبات مبدأ بالصفة التي أثبتها القدماء من النظر في طبيعة الوجود بما هو موجود ولو أفضت لكان ما قال صحيحا لكنها ليس تفضى ) وذلك أن واجب الوجود بذاته إذا وضع موجودا فغاية ماينتفي عنه أن يكون مركبا من مادة وصورة وبالجملة أن يكون له جزء فإذا وضع موجودا مركبا من أجزاء قديمة من شأنها أن يتصل بعضها بعض كالحال في العالم وأجزائه صدق على العالم - أو على أجزائه - أنه واجب الوجود )
قال: ( هذا كله إذ سلمنا أن ها هنا موجودا هو واجب الوجود وقد قلنا نحن: إن الطريقة التي سلكها في إثبات موجود بهذه الصفة ليست برهانية ولا تفضى بالطبع إليه إلا على النحو الذي قلنا وأكثر ما يلزم هذا القول أعني ضعف هذه الطريقة عند من يضع ها هنا جسما بسيطا غير مركب من مادة وصورة وهو مذهب المشائين لأن من يضع مركبا قديما من أجزاء بالفعل فلا بد أن يكون واحدا بالذات وكل وحدة في شيء مركب فهي من قبل واحد بنفسه أعني بسيطا ومن قبل هذا الواحد صار العالم واحدا وكذلك يقول الإسكندر: إنه لا بد أن تكون ها هنا قوة روحانية سارية في جميع أجزاء العالم كما يوجد في جميع أجزاء الحيوان الواحد قوة تربط أجزاءه بعضها ببعض والفرق الذي بينهم أن الرباط الذي في العالم قديم من قبل أن الرابط قديم والرباط الذي بين أجزاء الحيوان ها هنا كائن فاسد بالشخص غير كائن ولا فاسد بالنوع من قبل الرباط القديم من قبل أنه لم يمكن فيه أن يكون غير كائن ولا فاسد بالشخص كالحال في العالم فتدارك الخالق سبحانه هذا النقص الذي لحقه بهذا النوع من التمام الذي لم يكن فيه غيره كما يقوله أرسطو في كتاب الحيوان )
قال: ( وقد رأينا في هذا الوقت كثيرا من أصحاب ابن سينا لموضع هذا الشك تأولوا على ابن سينا هذا الرأي وقالوا: إنه ليس يرى أن ها هنا مفارقا وقالوا: إن ذلك يظهر من قوله في واجب الوجود في مواضع وإنه المعنى الذي أودعه في فلسفته المشرقية قالوا: وإنما سماها فلسفة مشرقية لأنها مذهب أهل المشرق ويرون أن الآلهة عندهم هي الأجرام السماوية على ما كان يذهب إليه وهم مع هذا يضعفون طريق أرسطو في إثبات المبدأ الأول من طريق الحركة )
قال: ( ونحن قد تكلمنا على هذه الطريقة غير مامرة وبينا الجهة التي منها يقع اليقين لها وحللنا جميع الشكوك الواردة عليها وتكلمنا أيضا على طريقة الإسكندر في ذلك أعني الذي اختاره في كتابه الملقب بالمبادىء وذلك أنه يظن أنه عدل عن طريقة أرسطو إلى طريقة أخرى لكنها مأخوذة من المبادىء التي بينها أرسطو وكلا الطريقين صحيحة لكن الطبيعة أكثر ذلك هي طريقة أرسطو
قال: ( ولكن إذا حققت طريقة واجب الوجود عندي على ما أصف كانت حقا وإن كان فيها إجمال يحتاج إلى تفصيل وهو أن يتقدمها العلم بأصناف الممكنات: الوجود في الجوهر والعلم بأصناف الواجبة الوجود في الجوهر وهذه الطريقة هي أن نقول: إن الممكن الوجود في الجوهر الجسماني يجب أن يتقدمه واجب الوجود في الجوهر الجسماني وواجب الوجود في الجوهر الجسماني يجب أن يتقدمه واجب الوجود بإطلاق وهو الذي لا قوه فيه أصلا: لا في الجوهر ولا في غير ذلك من أنواع الحركات وما هكذا فليس بجسم مثال ذلك أن الجرم السماوي قد يظهر من أمره أنه واجب الوجود في الجوهر الجسماني وإلا لزم أن يكون هنالك جسم أقدم منه وظهر منه أنه ممكن الوجود في الحركة التي في المكان فوجب أن يكون المحرك له واجب الوجود في الجوهر وألا يكون فيه أصلا: لا على حركة ولا على غيرها فلا يوصف بحركة ولا سكون ولا يغير ذلك من أنواع التغيرات وما هو بهذه الصفة فليس بجسم أصلا ولا قوة في جسم وأجزاء العالم الأزلية إنما هي واجبة الوجود في الجوهر: إما في الكلية كالحال في الاسطقسات الأربع وإما بالشخص كالحال في الأجرام السماوية )
قلت: المقصود ذكر طرق هؤلاء ومنتهى نظرهم ومعرفتهم وأن خيار ما في كلام ابن سينا وأمثاله إنما تلقاه من طرق المتكلمين كالمعتزلة ونحوهم مع ما فيهم من البدعة وأما ما ذكره هذا من طريقة الفقهاء فهي أضعف وأقل فائدة في العلوم الإلهية من طريقة ابن سينا بكثير فإن ابن سينا أدخل الفلسفة من المعارف الإلهية التي ركبها من طرق المتكلمين وطرق الفلاسفة والصوفية ما كسا به الفلسفة بهجة ورونقا حتى نفقت على كثير من أهل الملل بخلاف فلسفة القدماء فإن فيها من التقصير والجهل في العلوم الإليهة ما لا يخفى على أحد
وإنما كلام القوم وعلمهم في العلوم الرياضية والطبيعية وكل فاضل يعلم أن كلام أرسطو وأمثاله في الإلهيات قليل نزر جدا قليل الفائدة إذاكان صحيحا مع أنه لا يوصل إليه إلا بالتعب كثير مع أنه يقول: هذا غاية فلسفتنا ونهاية حكمتنا
وهوكما قيل: لحم جمل غث على رأس جبل وعر ولا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل
وهذا الذي ذكره ابن رشد في إثبات واجب الوجود مضمونه: أن الممكن الوجود هو في اصطلاحه الذي ذكره عن القدماء: المحدث بعد عدم يجب أن تتقدمه واجب الوجود وهو القديم الذي لم يسبقه عدم
وهذا هو بعينه قول المتكلم: إن المحدث مفتقر إلى قديم
ثم قال: ( وواجب الوجود في الجوهر الجسماني يجب أن يتقدمه واجب الوجود بإطلاق وهو الذي لا قوة فيه أصلا وليس بجسم )
وهذا لم يذكر عليه دليلا صحيحا
وقوله: ( إن الفلك يظهر من أمره أنه واجب الوجود ) أي قديم في جوهره ( وأنه ممكن الوجود في الحركة ) هو قول الفلاسفة الدهرية الذي يقولون: إن الأفلاك قديمة وحركتها دائمة
وهذا لا دليل له أصلا بل جميع ما يذكرونه من الأدلة في قدم العالم لا يدل شيء منها على قدم الأفلاك بل غاية ما يدل على أن الله لم يزل فاعلا وأنه لا بد قبل الأفلاك من شيء آخر موجود ونحو ذلك مما لا يدل على قدم الأفلاك
ثم إذا قدر ثبوت ذلك فقوله: يجب أن يكون المحرك للفلك واجب الوجود في الجوهر وألا يكون فيه أصلا لا على حركة ولا غيرها فلا يكون جسما أي لا يقوم له فعل من الأفعال - دعوى مجردة
ثم لم قدر أنه لا يقوم به فعل فلم قال: إن ما لا يقوم به فعل لا يكون جسما؟ يقال: غاية ما ذكره أن يكون ما قاله ممكنا فيقال: كما أنه يمكن ذلك فيمكن نقيضه فإنه كما يجوز أن يكون المحرك له غير متحرك فالمحرك المتحرك أولى بالجواز والإمكان
ثم يقال: بل ما ذكرته هو على نقيض قولكم أدل منه على قولكم وذلك لأن الفلك إذا كان دائم الحركة - وقد قررت أن المحرك له غيره - فالمحرك له إما أن يكون متحركا وإما أن لا يكون فإن لم يكن متحركا كان محركا لغيره بدون حركة فيه
وهذا إما أن يكون ممكنا وإما أن يكون ممتنعا فإن كان ممكنا بطل مذهبهم وإن أمكن فالفلك نفسه: إما أن يكون واجبا بنفسه وإما أن يكون ممكنا فإن كان واجبا بنفسه وحركته ممكنة وهو محتاج في حركته إلى محرك منفصل كان واجب الوجود بنفسه جسما متحركا بحركة تقوم به يفتقر فيها إلى غيره
وحينئذ فيمكن أن يقال: المحرك للفلك هو أيضا جسم متحرك بحركة فيه سواء احتاج فيها إلى غيره أولم يحتج وإذا لم يتحج إلى غيره كان أولى وإن قيل: إن الفلك ممكن الوجود فلا بد له من الواجب فيكون الواجب علة موجبة له فلا بد أن يكون علة تامة في الأزل له لأنه لو لم يكن كذلك لم يكن كذلك
والعلة التامة لا يجوز أن يتأخر عنها شيء من معلولها فإن كان علة تامة لحركة الفلك لزم وجودها في الأزل وهو ممتنع وإن لم يكن علة تامة له لم يكن بد من أمر يتجدد يصير به علة تامة لحدوث ما يحدث من الحركة وذلك المتجدد إن كان منه فقد بطل قولهم وإن كان من الممكن كان قولهم أبطل وأبطل فإن ما من الممكن لا بد أن يكون له من الواجب إذ لا شيء له من نفسه
وهذا يصلح أن يكون حجة في أول هذه المسألة وهو أن الحركة الدائمة في الفلك إذا كانت صادرة عن موجب فالموجب لها: إن كان علة تامة لها في الأزل لم يتأخر عنها شيء من معلولها وإن لم تكن تامة في الأزل صار موجبا بعد أن لم يكن
وذلك التمام: إن كان له من نفسه كان متحركا وهو خلاف ما زعموه وإن كان من غيره كان واجب الوجود بنفسه مفقترا في تمام فعله إلى غيره
وهذا أعظم عليهم: وهو أن يكون متحركا بحركة من غيره
وإذا قيل: نقول في صدور الفعل الدائم الذي في الفلك عن الواجب ما يقال لو كان ذلك الفعل في الواجب
قيل: الفعل إذا كان قائما في الواجب بنفسه لم يكن على هذا القول يمتنع أن تقوم به الأفعال التي تتعلق بمشيئته وقدرته ولا يكون مفتقرا في شيء من ذلك إلى شيء من مخلوقاته بل كل ما سواه فقير إليه
وأما على قولهم: فهم يقولون: إنه يمتنع أن يقوم بالمبدأ الأول شيء من الأفعال ويقولون: إن الفعل الدائم القائم بالفلك صادر عنه شيئا بعد شيء
فيقال لهم: الفلك إن كان واجبا بنفسه فقد قام بالواجب بنفسه حركات شيئا بعد شيء فامتنع أن يقولوا: إن الواجب بنفسه لا تقوم به الأفعال وإن كان الفلك ليس واجبا بنفسه لم ممكن بنفسه فهو صادر عن الأول: ذاته وصفاته وأفعاله
فإذا قدر قديما لزم أن يكون المقتضى التام له قديما والفلك الممكن قابل للحركة شيئا بعد شيء فلا بد له من واجب والحركة ممكنة لا واجبة بنفسها فلا بد لها من فاعل يفعلها شيئا بعد شيء فإذا قدر الفاعل الفلك ففاعله الفلك ممكنة فإذا حدثت شيئا بعد شيء لم يكن لها بد من فاعل وحدوث الحوادث شيئا بعد شيء عن علة تامة في الأزل لا يتأخر عنها شيء من موجبها ممتنع فوجب أن يكون لحدوث تلك الحوادث أمرا يتعلق بالواجب وذلك من لوازم الواجب لا يفتقر إلى غير الواجب وما منه بخلاف ما يقوم بالممكن فإن الممكن نفسه مفتقر إلى غيره فما فيه أولى أن يفتقر إلى غيره
وهذا قد بسط في موضع آخر وبين أنهم يلزمهم التناقض وفساد قولهم سواء قدر الفلك واجبا بنفسه أو قدر ممكنا واجبا بغيره
والمقصود هنا إنما كان التنبيه على طرق الطوائف في إثبات الصانع وأن ما يذكره أهل البدع من المتكلمة والمتفلسفة فإما أن يكون طويلا لا يحتاج إليه أو ناقصا لا يحصل المقصود وأن الطرق التي جاءت بها الرسل هي أكمل الطرق وأقربها وأنفعها وأن ما في الفطرة المكملة بالشرعة المنزلة يغني عن هذه الأمور المحدثة وأن سالكيها يفوتهم من كمال المعرفة بصفات الله تعالى وأفعاله ما نيقصون به عن أهل الإيمان نقصا عظيما إذا عذروا بالجهل وإلا كانوا من المستحقين للعذاب إذا خالفوا النص الذي قامت عليهم به الحجة فهم بين محروم ومأثوم
وهذه الطرق التي أخدها ابن سينا عن المتكلمين من المعتزلة ونحوهم وخلطها بالكلام سلفه الفلاسفة صار بسبب ما فيها من البدع المخالفة للكتاب والسنة يستطيل بها على المسلمين ويجعل القول الذي قاله هؤلاء هو قول المسلمين وليس الأمر كذلك وإنما هو قول مبتدعتهم وهكذا عمل إخوانه القرامطة الباطنية: صاروا يلزمون كل طائفة من طوائف المسلمين بالقدر الذي وافقهم عليه مما هو مخالف للنصوص ويلزمونهم بطرد ذلك القول حتى يخرجوهم عن الإسلام بالكلية
ولهذا كان لهؤلاء وأمثالهم نصيب من حال المرتدين الذين قال الله تعال فيهم: { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } ولهذا آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى عبادة الأوثان والشرك بالرحمن مثل دعوة الكواكب والسجود لها أو التصنيف في ذلك كما صنفه الرازي وغيره في ذلك
والذي أحدثه الفلاسفة كابن سينا وأمثاله عن المعتزلة: منه ما هو صحيح ومنه ما هو باطل فالصحيح كقولهم: إن تخصيص شيء دون شيء بالحدوث في وقت دون وقت لا بد له من مخصص والباطل نفي الصفات
وركب ابن سينا من الأمرين ما دار به على المعتزلة ونحوهم من المتكلمين ولم يقتصر على مجرد ما قالوه بل وسع القول فيه حتى وصله كلام سلفه الدهرية
فالأول: وهو أن تخصيص الحدوث بوقت لا بد له من مخصص ضم إليه: أن كل ممكن وإن كان قديما لا يترجح إلا بمرجح وبنى على ذلك إثبات واجب الوجود
وهي الطريقة التي أحدثها في الفلسفة وهي مركبة من كلام الفلاسفة المعتزلة والمعتزلة لا تقتصر في أن التخصيص لا بد له من مخصص على تخصيص الحدوث بل تقول ذلك فيما هو أعم من ذلك ولا تفرق بين الاختصاص الواجب والاختصاص الممكن
وابن سينا وافقهم على ذلك فتناقضت عليه أصوله وأما الأصل الفاسد الذي أخذه عنهم فهو نفي الصفات ولما كانت المعتزلة تنفي الصفات وتسمي إثباتهما تجسيما والتجسيم تركيبا ويقولون: إن المركب لا بد له من مركب فلا يكون مركبا فلا يكون جسما لأن الجسم مركب فلا يقوم به صفة لأن الصفة لا تقوم إلا بجسم ولا يكون فوق العالم لأنه لا يكون فوق العالم إلا جسم
ولا يرى في الآخرة لأن الرؤية إنما تقع على جسم أو عرض في جسم
وكلامه مخلوق لأن لو قام به الكلام لكان جسما
أخذ ابن سينا وأمثاله هذه الأصول وألزمهم ما هو أبلغ من ذلك فزاد في نفي الصفات عليهم حتى كان أظهر تعطيلا منهم بل أبلغ تعطيلا من الجهم رأس نفاة الصفات وخالف ابن سينا وأمثاله المعتزلة في أمور: بعضها أصابوا في مخالفتهم وبعضها أخطأوا في مخالفتهم لكن الذي أصابوا فيه منه ما صاروا يحتجون به على باطلهم لضعف طريق المعتزلة الذي به يردون باطلهم
وهذا الذي ذكرته يجده من اعتبره في كتب ابن سينا ك الإشارات وغيرها ويتبين للفاضل أنه إنما بنى إلحاده في قدم العالم على نفي الصفات فإنهم لما نفوا الصفات والأفعال القائمة بذاته وسموا ذلك توحيدا ووافقهم ابن سينا على تقرير هذا النفي الذي سموه توحيدا بين امتناع القول بحدوث العالم مع هذا الأصل وأظهر تناقضهم
ولكن قوله في قدم العالم أفسد من قولهم ويمكن أظهار تناقض قوله أكثر من إظهار تناقض أقوالهم فلهذا تجده في مسألة قدم العالم يردد القول فيها ويحكي كلام الطائفتين وحجتهم كأنه أجنبي ويحيل الترجيح بينهما إلى نظر الناظر مع ظهور ترجيحه لقول القائلين بالقدم
وأما مسألة نفي الصفات فيجزم بها ويجعلها من المقطوع به الذي لا تردد فيه فإنهم يوافقون عليها وهو بها تمكن من الاحتجاج عليهم في قدم العالم وبها تمكن من إنكار المعاد وتحريف الكلم عن مواضعه وقال: نقول في النصوص الواردة في المعاد كما قلتم في النصوص الواردة في الصفات وقال: كما أن الكتب الإلهية ليس فيها بيان ما هو الحق في نفس الأمر في التوحيد يعني التوحيد الذي وافقته عليه المعتزلة وهو نفي الصفات بناء على نفي التجسيم والتركيب فكذلك ليس فيها بيان ما هو الحق في نفس الأمر في أمر المعاد وبنى ذلك على أن الإفصاح بحقيقة الأمر لا يمكن خطاب الجمهور به وإنما يخاطبون بنوع من التخييل والتمثيل الذي ينتفعون به فيه كما تقدم كلامه
وهذا كلام الملاحدة الباطنية الذين ألحدوا في اسماء الله وآياته وكان منتهى أمرهم تعطيل الخالق وتكذيب رسله وإبطال دينه ودخل في ذلك باطنية الصوفية أهل الحلول والاتحاد وسموه تحقيقا ومعرفة وتوحيدا ومنتهى أمرهم هو إلحاد باطنية الشيعة وهو أنه ليس إلا الفلك وما حواه وما وراء ذلك شيء
وكلام ابن عربي صاحب فصوص الحكم وأمثاله من الاتحادية القائلين بوحدة الوجود يدور على ذلك لمن فهمه ولكن يسمون هذا العالم الله فمذهبهم في الحقيقة مذهب المعطلة كفرعون وأمثاله ولكن هؤلاء يطلقون عليه هذا الاسم بخلاف أولئك وأيضا فقد يكون جهال هؤلاء وعوامهم يعتقدون أنهم يثبتون خالقا مباينا للمخلوق مع قولهم بالوحدة والاتحاد كما رأينا منهم طوائف مع ما دخلوا فيه من العلم والدين لا يعرفون حقيقة مذهب هؤلاء لما في ظاهره من الإقرار بالصانع ورسله ودينه
وإنما يعرف ذلك من كان ذكيا خبيرا بحقيقة مذهبهم ومم كان كذلك فهو أحد رجلين: إمامؤمن عليهم: علم أن هذا يناقض الحق وينافي دين الإسلام فذمهم وعاداهم
وإما زنديق منافق: علم حقيقة أمرهم وأظهرمن ما يظهرون وكان من أئمتهم فهذا وأمثاله من جنس آل فرعون الذين جعلوا أئمة يدعون إلى النار
والأول من أتباع الرسل والأنبياء كآل إبراهيم الذين جعلهم الله أئمة يهدون بأمره
كلام ابن سينا في الإشارات
وهذا الذي ذكرته لك من حال هؤلاء يتبين لكل مؤمن ذكي رأى كتبهم وتبين له مقصودهم فما ذكرته عن ابن سينا مذكور في كتابه الإشارات الذي هو زبدة الفلسفة عندهم الذي قال في خاتمته: ( أيها الأخ إن مخضت لك في هذه الإشارات عن زبد الحق وألقمتك نفي الحكم في لطائف الكلم فصنه عن المبتذلين والجاهلين ومن لم يرزق الفطنة الوقادة والروية والسعادة وكان صغاه مع الغاغة أو كان من ملاحدة هؤلاء المتفلسفة ومن همجهم فإن وجدت من تثق بنقاء سريرته واستقامة سيرته أو بتوقفه عما يفزع إليه الوسواس ونظر إلى الحق بعين الرضا والصدق فآته ما سألك منه مدرجا مجزأ مفرقا تستفرس ما تسلفه لما تستأنفه وعاهده بالله وبالأيمان التي لا مخرج له منها أن يجري فيما تؤتيه مجراك متأسيا بك فإن أذعت هذه العلم وأضعته فالله بيني وبينك )
وبهذه الوصية أوصى الرازي في شرحه له كما وصى بذلك في كلامه على حديث المعراج لما شرحه بنظير شرح هؤلاء له وهذا من جنس وصايا القرامطة الملاحدة في البلاغ الأكبر والناموس الأعظم
والمقصود هنا أن ابن سينا في الكتاب الذي عظمه لما تكلم على أفعال الرب تعالى وصفاته سلك ما ذكرته لك عنه كما قد ذكرنا في غير هذا الموضع لما ذكر النزاع في مسألة الصنع الإبداع وحدوث العالم
قال في آخره: ( فهذه هي المذاهب وإليك الاعتبار بعقلك دون هوالك بعد أن تجعل واجب الوجود واحدا )
والرازي لم يعرف وجه وصيته فقال: ( إن كان المقصود منه الأمر بالثبات على التوحيد فإنه يكون كلاما أجنبيا عن مسألة الحدوث والقدم وإن كان المقصود منه إنما هو المقدمة التي يظهر منها الحق في مسألة القدم والحدوث فهو ضعيف لأن القول بوحدة واجب الوجود لا تأثير له في ذلك أصلا لأن القائلين بالقدم يقولون: ثبت إسناد الممكنات بأسرها إلى واجب الوجود لذاته فسواء كان الواجب واحدا أو أكثر من واحد لزم من كونه واجبا دوام آثاره وأفعاله وأما القائلون بالحدوث فلا يتعلق شيء من أدلتهم بالتوحيد والتثنية فثبت أنه لا تتعلق مسألة القدم والحدوث بمسألة التوحيد )
قلت: ليس مراد ابن سينا بالتوحيد الذي جاءت به الرسل وهو عبادة الله وحدة لا شريك له مع ما يتضمنه من أنه لا رب لشيء من ممكنات سواه فإن إخوانه من الفلاسفة من أبعد الناس عن هذا التوحيد إذ فيهم من الإشراك بالله تعالى وعبادة ما سواه وإضافة التأثيرات إلى غيره بل ما هو معلوم لكل من عرف حالهم ولازم قولهم: إخراج الحوادث كلها عن فعله وإنما مقصوده التوحيد الذي يذكره في كتبه وهو نفي الصفات وهو الذي شارك فيه المعتزلة وسموه أيضا توحيدا وهذا النفي الذي سموه توحيدا لم ينزل به كتاب ولا بعث به رسول ولا كان عليه أحد من سلف الأئمة وأئمتها بل هو مخالف لصريح المعقول مع مخالفته لصحيح المنقول
والمقصود منه وجه ارتباطه بمسألة الحدوث والقدم وذلك أن الأصل الذي بنى عليه حجته في مسألة القدم: أنه كيف تحدث السماوات بعد أن لم تكن محدثة من غير حدوث أمر؟ وهذا إنما يكون على قول نفاة الصفات والأفعال القائمة به الذي يقولون: إنه لا يقوم به فعل يتعلق بمشيئته وقدرته وإلا فعلى قول أهل الإثبات تبطل حجته
وأيضا فمقصود تمهيد أصله في أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وهذا إنما يتم إذا ثبت موجودا مجردا لا صفة له ولا نعت وإلا فإذا كان الخلق موصوفا بصفات متنوعة: كالعلم والقدرة والكلام والمشيئة الرحمة بأفعال متنوعة: كالخلق والاستواء ونحو ذلك - لم يكن واحدا عندهم بل كان مركبا وجسما
وحينئذ فيقال لهم: هذا الذي تسمونه واحدا لا حقيقة له في الخارج وإنما هو أمر يقدر في الأذهان لا يوجد في الأعيان وهو نظير الواحد البسيط الذي يجعلون منه تتركب الأنواع فإن هذا الواحد الذي يثبتونه في الكليات ويقولون: إنه منه تتركب الأنواع الموجودة هو نظير الواحد الذي يثبتونه في الألهيات ويقولون: هو مبدأ الوجود وكلاهما لا حقيقة له في الخارج وإنما هو يقدره الذهن كما يقدر الكليات المجردة عن الأعيان وكما يقدر بعدا مجردا ودهرا مجردا ومادة مجردة كما يقوله شيعة أفلاطون ومن وافقهم
بل هذه الأمور أقرب إلى وجودها في الخارج من ذلك الواحد الذي يقدرونه: إما الواحد الكلي البسيط الذي تتركب منه الأنواع في حدودها وحقائقها وإما الواحد المعين الذي تصدر عنه الموجودات ومتى بطل واحدهم هذا بطل توحيدهم فبطل نفيهم للصفات وبطل قولهم: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد فبطل قولهم في الأفعال فبطل ما قرروه في قدم العالم وبطل ما احتجوا به على ذلك من الحجة حيث قالوا: كيف يصدر عنه ما لم يكن صادرا من غير قيام أمر متجدد به؟ فكان إبطال ما ألحدوا به في توحيد الله تعالى بهدم أصول ضلالهم
أيضا فالمقالات التي أبطلها ابن سينا في مسألة حدوث العالم وقدمه بنى إبطالها على هذا التوحيد الذي هو نفي الصفات فكان هذا عصمته التي لا بد له منها
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن ابن سينا ذكر مقالات الناس في مسألة الحدوث والقدم ولم يذكر مقالة أساطين الفلاسفة المتقدمين كما لم يذكر مقالة الأنبياء والمرسلين والمقالات التي حكاها من الباطل إنما احتج على إبطالها بما لا حجة له فيه فقال: ( أوهام وتنبيهات قال قوم: إن هذا الشيء المحسوس موجود لذاته واجب لنفسه لكنه إذا تذكرت ما قيل في شرط واجب الوجود لم تجد هذا المحسوس واجبا وتلوت قوله تعالى: { لا أحب الأفلين } فإن الهوي في حظيرة الإمكان أفول ما )
قلت: وهذا القول هو قول القائلين بقدم العالم وأنه واجب بنفسه ليس له موجب آخر وهو الظاهر المشهور من مذاهب الدهرية وإليه يعود كلام محقيقهم ولهذا كان أئمة الكلام القدماء من المعتزلة والأشعرية وغيرهم كأبي على الجبائي وأمثاله وك القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وأمثالهما لا يذكرون عن الدهرية إلا هذا القول
وأما القول الذي ذكره ابن سينا وهو أنه معلول علة واجبة أبدعته فهذا قوله وقول أمثاله من الفلاسفة وقد حكي هذا القول عن برقلس وقد نازعه فيه إخوانه الفلاسفة وهو لم يذكر له عليهم حجة مستقيمة وإنما احتج عليهم بما احتج عليهم بما ذكره في توحيد واجب الوجود وأنه لايكون موصوفا بصفات فتكون فيه كثرة ولا يكون جسما فتكون فيه كثرة ونفى الأنواع الخمسة التي سماها تركيبا كتركيب الجسم من أجزائه الحسية: الجواهر المفردة ومن أجزائه العقلية: وهي المادة والصورة ومن الذات والصفات ومن العام والخاص ومن الوجود والماهية
ولهذا بين أبو حامد الغزالي وغيره من المسلمين بل وابن رشد وأمثاله من الفلاسفة فساد ما ذكروه في هذا التوحيد وبطلان ما نفوه من هذه المعاني التي سموها تركيبا وأنه لا حجة لهم على ذلك أصلا إلا ما توهموه من مدلول لفظ واجب الوجود بالمعنى الذي تصوروه لا بالمعنى الذي قام عليه الدليل فكان مبنى حجتهم على ألفاظ مجملة إذا بينت ظهر فساد كلامهم
ولهذا احتاج ابن سينا في مسألة إثبات الصانع إلى توحيده فضلا عن إثبات أفعاله قال: ( وقال آخرون: بل هذا الوجود المحسوس معلول ثم افترقوا: فمنهم من زعم أن أصله وطينته غير معلولين لكن صنعته معلولة وهؤلاء قد جعلوا في الوجود واجبين وأنت خبير باستحالة ذلك ومنهم من جعل وجوب الوجود لشيئين أو لعدة أشياء وجعل غير ذلك من ذلك وهؤلاء في حكم الذين من قبلهم )
فيقال له: الذين جعلوا الوجود لشيئين أو عدة أشياء يدخل فيهم من جعل أصله وطينته غير معلومين فإن ما لم يكن معولا كان واجبا لنفسه فهؤلاء جنس واحد حيث جعلوا واجب الوجود أكثر من واحد ومع هذا فحجتك على إبطال قولهم قد عرف ضعفها ولكن الفرق بين هؤلاء وهؤلاء: أن هؤلاء يجعلون الصانع أكثر من واحد فيقولون بالتعدد في الصانع وأولئك إذا أثبتوا أصلا وطنية غير معلولة فلا يجعلونها فاعلة صانعة بل قابلة للفاعل فهؤلاء يقولون: إن الفاعل للعالم واجب بنفسه وهؤلاء يدخل فيهم من قال بقولهم كابن زكريا المتطبب حيث قالوا: القدماء خمسة وسبب حدوث العالم عشق النفس للهيولى فإن هؤلاء يقولون بقدم مادة العالم ومكانه وزمانه والنفس
وكان ابن سينا ذكر هذا القول وذكر قول المجوس الذين يقولون بقدم النور والظلمة فهذان القولان متشابهان من بعض الوجوه فإن هذا يقول: سبب حدوث العالم اختلاط النور والظلمة وهذا يقول: سببه عشق النفس للهيولى ثم ذكر قول المتكليمن وقول أصحابه فلم يذكرإلا هذه الأقوال الأربعة وأما قول أئمة الفلاسفة وأساطينهم القدماء فلم يذكره كما لم يذكر قول الأنبياء وسلف الأمة
وحينئذ فيقال: مذهب جمهور الفلاسفة أن أصل العالم معلول عن الواجب نفسه والعالم مع ذلك محدث الصورة فهؤلاء لا يقولون بتعدد الواجب ولا يقولون بقدم العالم ولا يقولون بأن طينته غير معلولة وهذا القول لم يذكره في نقله للمقالات مع أنه من أشهر الأقوال عن أساطين الفلسفة وهو أظهر أقوالهم في الحجة والدليل فإنه لا يدر عليه ما يرد على غيره ولا يمكنه أن يحتج على فساد قول هؤلاء بما احتج به على فساد قول غيرهم بل حجته الصحيحة لا تدل إلا على قول هؤلاء فإنهم يمكنهم أن يثبتوا للحوادث سببا حادثا ويجعلون الفاعل معطلا عن الفعل ولا يقولون بقدم الأفلاك وحدوث حوادثها من غير سبب حادث ولا يخالفون النصوص المشهورة عن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه فكان قولهم أقرب إلى العقل والنقل من الأقوال التي ذكرها
قال: ( ومنهم من وافق على أن واجب الوجود واحد ثم افترقوا فقال فريق منهم: إنه لم يزل ولا وجود لشيء عنه ثم ابتدأ وأراد وجود شيء عنه ولو لا هذا لكانت أحوال متجددة من أصناف شتى في الماضي لا نهاية لها موجودة بالفعل لأن كل واحد منها وجد فالكل وجد فيكون لما لا نهاية له من أمور متعاقبة كلية منحصرة في الوجود قالوا: وذلك محال وإن لم تكن كلية حاصرة لأجزائها معا فإنها في حكم ذلك وكيف يمكن أن تكون حال من هذه الأحوال توصف بأنها لا تكون إلا بعد ما لا نهاية له فتكون موقوفة على ما لا نهاية له فيقطع إليها ما لا نهاية له ثم كل وقت يتجدد يزداد عدد تلك الاحوال وكيف يزداد عدد ما لا نهاية له؟ ومن هؤلاء من قال: إن العالم يوجد حين كان أصلح لوجوده ومنهم من قال: لم يمكن وجوده إلا حين وجد ومنهم من قال: لا يتعلق وجوده بحين وشيء آخر بل بالفاعل ولا يسأل عن لم فهؤلاء هؤلاء )
قال: ( وبإزاء هؤلاء قوم من القائلين بوحدانية الأول يقولون: إن واجب الوجود بذاته واجب الوجود في جميع صفاته وأحواله الأزلية وأنه ليس يتميز في العدم الصريح حال الأولى به فيها أن لا يوجد شيئا أو بالأشياء أن لا توجد عنه أصلا وحال بخلافها ولا يجوز أن تسنح له إرادة متجددة إلا لداع وأن تسنح جزافا وكذلك لا يجوز أن تسنح طبيعة أو غير ذلك بلا تجدد حال وكيف تسنح إرادة لحال تجددت وحال حال ما يتجدد كحال ما يمهد له التجدد فيتجدد؟ وإذا لم يكن تجدد كانت حاله ما لم يتجدد شيء حالا واحدة مستمرة على نهج واحد وسواء جعلت التجدد لأمر تيسر أو لأمر زال مثلا لحسن من الفعل وقتا ما أو تيسر أو وقت معين أوغير ذلك مما عد أو لقبح كان يكون له قد زال أو عائق أوغير ذلك كان فزال
قالوا: فإن كان الداعي إلى تعطيل واجب الوجود عن إفاضة الخير والجود هو كون المعلول مسبوق العدم لا محالة فهذا الداعي ضعيف قد انكشف لذوي الأبصار ضعفه على أنه قائم في كل حال وليس في حال بأولى بإيجاب السبق من حال وأما كون المعلول ممكن الوجود في نفسه واجب الوجود بغيره فليس يناقض كونه دائم الوجود بغيره كما نبهت عليه
وأما كون غير المتناهي كلا موجودا ككون كل واحد وقتا ما موجودا فهو توهم خطأ فليس إذا صح على كل واحد حكمه صح على كل محصل وإلا لكان يصح أن يقال: الكل من غير المتناهي يمكن أن يدخل في الوجود لأن كل واحد يمكن أن يدخل في الوجود فيحمل الإمكان على الكل كما حمل على كل واحد
قالوا: ولم يزل غير المتناهي من الأحوال التي يذكرونها معدوما إلا شيء بعد شيء وغير المتناهي المعدوم قد يكون فيه أكثر وأقل ولا يثلم ذلك كونها غير متناهية في العدم
وأما توقف الواحد منها على أن يوجد قبله ما لا نهاية له أو احتياج شيء منها إلى أن ينقطع إليه ما لا نهاية له فهو قول كاذب فإن معنى قولنا: كذا توقف على كذا هو أن الشيئين وصفا معا بالعدم والثاني لم يكن يصح وجوده إلا بعد وجود المعلول الأول وكذلك الاحتياج ثم لم يكن البتة ولا في وقت من الأوقات يصح أن يقال: إن الأخير كان متوقفا على وجود مالا نهاية أو محتاجا إلى أن يقطع إليه ما لا نهاية له بل أي وقت فرضت وجدت بينه وبين كون الأخير أشياء متناهية ففي جميع الأوقات هذه صفته لا سيما والجميع عندكم وكل واحد واحد فإن عنيتم بهذا التوقف أن هذا لم يوجد إلا بعد وجود أشياء كل واحد منها في وقت آخر لا يمكن أن يحصى عددها وذلك محال فهذا نفس المتنازع فيه: أنه ممكن أوغير ممكن فكيف يكون مقدمة في إبطال نفسه؟ أبان يغير لفظها بتغيير لا يتغيره به المعنى؟ قالوا: فيجب من اعتبار ما نبهنا عليه أن يكن الصانع الواجب الوجود غير مختلف النسب إلى الأوقات والأشياء الكائنة عنه كونا أوليا وما يلزم من ذلك الاعتبار لزوما ذاتيا إلا ما يلزم من الاختلافات يلزم عندها فيتبعها التغير )
قال: ( فهذه هي المذاهب وإليك الاعتبار بعقلك دون هواك )