وكل من كان عارفا بسنته وسيرته علم أن ما يروى خلاف هذا فهو مختلق كذب مثل ما يذكره بعض الرافضة عن علي انه كان عنده علم خاص باطن يخالف هذا الظاهر
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة التي لا يتنازع أهل المعرفة في صحتها عن علي رضي الله عنه أنه لما قيل له هل عندكم من رسول الله ﷺ كتاب؟ فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أسر إلينا رسول الله ﷺ شيئا كتمه عن غيرنا إلا فهما يؤتيه الله لعبد في كتابه وما في هذه الصحيفة وفيها عقول الديات وفكاك الأسير أن لا يقتل مسلم بكافر وفي لفظ في الصحيح هل عهد إليك رسول الله ﷺ شيئا لم يعهده إلى الناس؟ فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة الحديث
وقد اجمع أهل المعرفة بالمنقول على أن ما يروى عن علي وعن جعفر الصادق من هذه الأمور التي يدعيها الباطنية كذب مختلق ولهذا كانت ملاحدة الشيعة والصوفية يسبون إلحادهم إلى علي وهو بريء من ذلك فأهل البطاقة من أهل الإلحاد ينسبون ذلك إلى علي وكذلك باطنية الشيعة من الإسماعلية والنصيرية وكذلك جعفر الصادق نسبوا إليه من الكلام في المجوم واختلاج الأعضاء والتفاسير المحرفة وأنواع الباطل ما برأه الله منه حتى رسائل إخوان الصفا زعم بعض رؤوسهم أنها كلامه وهذه إنما فيها من حوادث الإسلام التي حدثت بعد المائة الثالثة مثل دخول النصارى بلاد الإسلام ونحو ذلك ما يبين إنها صنفت بعد جعفر بنحو مائتي سنة
ومن هذا الباب ما ينقله آخرون عن عمر رضي الله عنه أنه قال كان النبي ﷺ وأبو بكر يتحدثان كالزنجي بينهم فهذا وأمثاله من الكذب المختلق باتفاق أهل المعرفة
وملاحدة الزهاد والعباد وجهالهم يرون من هذه الأمور فنونا مثل روايتهم أن أهل الصفة قاتلوا مع الكفار النبي ﷺ لما لم يكن النصر معه ليحتجوا بذلك على أن العارف يكون مع من غلب وإن كان كافرا ويروون أن أهل الصفة عرفهم الله تعالى بالسر الذي اوحاه إلى نبيه ﷺ صبيحة المعراج الأباطيل لم يكونوا خبيرين بالكذب فإن الصفة إنما كانت بالمدينة والمعراج كان بمكة بالنص والإجماع وقد علم كل عالم يعلم سيرة النبي ﷺ بالاضطرار أن أهل الصفة كانوا كسائر المؤمنين مع النبي ﷺ وانه لم يكن لأحد من الصحابة إلى الله طريق إلا متابعة رسوله وان أفضل الصحابة كان أقومهم بالمتابعة كأبي بكر وعمر وأبو بكر أفضل من عمر رضي الله عنهما وهو أفضل الصديقين
وقد ثبت في الصحيحين انه قال إنه قد كان في الأمم قبلك محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر
فعمر وإن كان محدثا فالصديق الذي يأخذ من مشكاة النبوة أفضل منه واكمل منه لأن ما استقر مجيء الرسول به فهو معصوم لا يتطرق إليه الخطأ وما يلقي إلى المحدث يقع فيه خطأ يحتاج إلى تقويمه بنور النبوة ولهذا كان أبو بكر يقوم عمر يرى أشياء ثم يتبين له الحق بخلافها كما جرى له هذا في عدة مواطن
وهذا وأمثاله مما يبين حاجة أفضل الخلق بعد الرسول واكملهم إلى الاهتداء بالرسول والتعلم منه ومعرفة الحق مما جاء به فكيف بمن يقول ليس في كلامه في معرفة الله واليوم الآخر علم ولا هدى ولا معرفة ينتفع بها أولو اللباب الذين هم دون عمر وأمثال عمر؟
وقد قال الله تعالى { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } النساء: 59
وكيف يحكم بين الناس في مواطن الخلاف والنزاع كلام وخطاب ليس فيه علم ولا هدى ينتفع به أولو الألباب؟
كما زعم هؤلاء الملاحدة من الفلاسفة المشائين المتأخرين وأتباعهم أن الشرائع لا يحتج بها في مثل هذه الأبواب فما لا يحتج به كيف يحتج به الناس فيما اختلفوا فيه؟
وأي اختلاف أعظم من اختلافهم في اعظم الأمور وهي معرفة الله تعالى واليوم الآخر لا سيما ومن المعلوم أن الخلاف الحقيقي إنما يكون في الأمور العلمية والقضايا الخيرية التي لا تقبل النسخ والتغيير فأما العمليات التي تقبل النسخ والتغيير فأما العمليات التي تقبل النسخ فتلك تتنوع في الشريعة الواحدة فكيف بالشرائع المتنوعة؟
وما جاز تنوعه لم يكن الخلاف فيه له حقيقة فإنه إن كانا مشروعين في وقتين أو رسولين فكلاهما حق وإن كان الخلاف في المشروع منهما أيهما هو فهذا يعلم بالخبر المنقول عن الكتاب المنزل والكتاب المنزل هو نفس الأمر والنهي والخبر وفيه الشرع الذي لا يكون خلافه شرعا
وحينئذ فما ذكره ابن سينا وأمثاله من أنه لم يرد في القرآن من الإشارة إلى توحيدهم شيء فكلام صحيح وهذا دليل على أنه باطل لا حقيقة له وأن من وافقهم عليه فهو جاهل ضال
وكذلك ما ذكره من أن من المواضع ما لا يحتمل اللفظ فيها إلا معنى واحدا لا يحتمل ما يدعونه من الاستعارة والمجاز كما ذكر في قوله تعالى { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام } البقرة: 21 وقال تعالى { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك } الأنعام: 158 على القسمة المذكورة وانه ليس تذهب الأوهام فيه البتة إلى أن العبارة مستعارة أو مجازية فإن كان أريد بها ذلك إضمارا فقد رضي بوقوع الغلط والشبهة فهذا حجة على من نفى مضمون ذلك من نفاة الصفات وهو حجة عليه وعليهم جميعا وموافقتهم له لا تنفعه فغن ذلك حجة جدلية لا علمية إذ تسليمهم له ذلك لا يوجب على غيرهم أن يسلم ذلك له فإذا بين بالعقل الصريح ما يوافق النقل الصحيح دل ذلك على فساد قوله وقولهم جميعا
وكذلك قوله ثم هب أن هذه كلها موجودة على الاستعارة فأين التوحيد والدلالة بالتصريح على التوحيد المحض الذي تدعو إليه حقيقة هذا الدين القيم المعترف بجلالته على لسان الحكماء قاطبة؟ كلام صحيح لو كان ما قاله النفاة حقا فإنه حينئذ على قولهم لا يكون التوحيد الحق قد يبين أصلا وهذا التوحيد لينقاد لهم الجمهور في صلاح دنياهم
وقد بينا في غير موضع توحيد ابن سينا وأمثاله وبينا أنه من أفسد الأقوال التي بصريح العقل فساده ولنا في ذلك مفرد مكتوب في غير هذا الموضع
وأما قوله وأين الإشارة إلى الدقيق من المعاني المشيرة إلى علم التوحيد مثل انه عالم بالذات أو عالم بعلم أو قادر بالذات أو قادر بقدرة إلى آخره
فهو خطاب لمن وافقه على ضلاله وإلحاده حيث ظن أن التعطيل هو التوحيد وان الباري تعالى لا علم له ولا قدرة ولا صفات
فأما من لم يوافقه على خطئه فإنه يعلم أن الكتاب بين دقائق التوحيد الحق الذي جاءت به السل ونزلت به الكتب على احسن وجه
فإن الله تعالى أخبر عن صفاته وأسمائه بما لا يكاد يعد من آياته وذكر علمه في غير موضع
كقوله تعالى { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } البقرة: 255
وقوله تعالى { أنزله بعلمه } النساء: 166
وقوله تعالى { وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } فصلت: 47 وغير ذلك
وقد قال تعالى { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } الذاريات: 58
وقال تعالى { والسماء بنيناها بأيد } الذاريات: 47 أي بقوة وقال تعالى: { أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } فصلت: 15
وفي الحديث الصحيح حديث الاستخارة اللهم إني استخيرك بعلمك واستقدرك بقدرتك فأي بيان لعلم الله وقدرته أبين من هذا؟
وأما قول القائل هنا هو عالم بالذات أو عالم بعلم فغن كان يظن أن الذات التي تكون إلا عالمة قادرة يمكن وجودها مجردة عن العلم والقدرة كما يقوله النفاة فهو كلام ضال متناقض فغن إثبات عالم بلا علم وقادر بلا قدرة وحي بلا حياة وسميع بلا سمع وبصير بلا بصر مما يعلم فساده بالضرورة عقلا وسمعا
وهذا بمنزلة متكلم بلا كلام ومريد بلا إرادة ومتحرك بلا حركة ومحب بلا محبة ومصل بلا صلاة وصائم بلا صيام وحاج بلا حج وأبيض بلا بياض وأسود بلا سواد وحلو بلا حلاوة ومر بلا مرارة وطويل بلا طول وقصير بلا قصر ونحو ذلك من الألفاظ المشتقة: كاسم الفاعل واسم الفعول والصفة المعدولة عنهما
فإن لم يكن هذا باطلا في بدائه العقول عقلا وسمعا لم يكن لنا طريق إلى معرفة الحق من الباطل ولهذا كان هؤلاء النفاة يعودون في آخر الأمر إلى السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات
وغن كان معنى قوله هل هو عالم بالذات أو بعلم ان هنا ذاتا مجردة موجودة بدون العلم وان العلم زائد عليها ن فهذا تصور فاسد فإن الذات المجردة عن العلم اللازم لها غنما تقدر في الأذهان لا حقيقة لها في الأعيان
ولفظ الذات يراد به الذات الموصوفة بالعلم وحينئذ فقولنا هل هو عالم بالذات أو بالعلم كلام واحد لأن لفظ الذات متضمن للعلم على هذا التفسير فلا يكون قولنا أو بالعلم قسما آخر
ويراد بالذات المجردة عن العلم فهذه لا حقيقة لها إذا كانت الذات لاتكون إلا عالمة كما أن ما لا يكون إلا حيا لا يمكن وجوده منفكا عن كونه حيا وما لا يكون إلا متحيزا لا يمكن وجوده منفكا عن التحيز فما لا يمكن وجوده إلا عالما وقادرا ويمتنع وجوده غير عالم قادر كيف يكون تقديره غير عالم ولا قادر ممكنا في الخارج؟
ونفس العلم والقدرة هو نفس كونه عالما قادرا على قول الجمهور الذين ينفون أن تكون الأحوال زائدة في الخارج على الصفات ومن أثبت الأحوال زائدة على الصفات كالقاضي أبي بكر وأبي يعلى وأبي المعالى في أول قوليه فهؤلاء يقولون ثبوت الصفات يستلزم ثبوت الأحوال وإثبات الملزوم مع أن الصواب أن الأحوال كالكليات لها وجود في الأذهان في الأعيان
ومما يبين ذلك أن النزاع في كون الرب تعالى عالما لذاته أو بالعلم أو قادرا لذاته أو بالقدرة كثير منه نزاع لفظي بل عامة المتنازعين فيه إذا حرر عليهم الكلام لم يتلخص بينهم نزاع وإنما يحصل النزاع بين مثبتة الأحوال ونفاتها فإن أهل الإثبات متفقون على أن علمه وقدرته من لوازم ذاته وانه لا يمكن وجوده غير عالم ولا قادر وينكرون وجود ذات مجردة عن العلم والقدرة وإذا قالوا هي زائدة على الذات فلا يعنون أنها زائدة على ذات مجردة عن العلم والقدرة إلا من يقول منهم إن له صفة هي العلم أوجبت كونه عالما فهؤلاء مثبتوا الحال وأكثر الصفاتية هم من نفاة الأحوال
وأما النفاة فيسلمون ثبوت الأحكام وهي انه عالم قادر وينازعون في ثبوت الصفات ويتنازعون بينهم في ثبوت الأحوال ثم الأحكام التي يثبتونها لا يجوز أن يراد بها مجرد حكمنا بأنه عالم قادر واعتقادنا لذلك وخبرنا عنه وهو الوصف بالقول فإن هذا الوصف والحكم إن لم يكن مطابقا لمضمونه كان باطلا فكونه حيا عالما قادرا ليس هو مجرد الحكم بذلك والخبر عنه ووصفه بالقول ولا هو نفس الذات التي هي العالمة القادرة فإن كون الذات حية عالمة قادرة ليس هو نفس الذات فتعين أن يكون هو الصفة
وأئمة المعتزلة يعترفون بذلك لكن يشنعون على الصفاتية بكلام لم يحققوا قولهم فيه بل ذكروا عنهم ما يفهم منه معنى فاسد إما لكونهم لم يفهموا قول أولئك أو لكونهم ألزموهم ما ظنوه لازما لهم أو لنوع من الهوى الموجب للافتراق الذي ذمه الله ورسوله
كلام أبي الحسين البصري في عيون الأدلة
واعتبر ذلك بما ذكره أبو الحسين البصري أفضل متأخري المعتزلة فإنه قال في كتاب عيون الأدلة قال باب القول في أن الله قديم وحده عندنا أنه لا قديم إلا الله وذهب قوم إلى إثبات قديم أكثر من قديم واحد فالكلابية والأشعرية أثبتوا ذواتا قديمة قائمة بذات الباري تعالى منها ذات توجب أن يكون عالما ولولاها لم يكن عالما وذات توجب كونه قادرا ولولاها لم يكن قادرا وذات توجب كونه حيا ولولاها لم يكن حيا وكذلك القول في السمع والبصر والإرادة
وأثبتت كلامه قديما وقالوا هذه المعاني لا هي الله ولا غيره ولا بعضه وكل منها ليس هو الآخر ولا غيره ولا بعضه وقالوا لو لم يكن في ذات الباري تعالى وحده لكان غير قادر ولا عالم ولا حي وعندنا أن الله تعالى قادر عالم حي لذاته ونعني بذلك أن ذاته متميزة عن سائر الذوات تمييزا يجب معه أن يعلم الأشياء ويقدر على ما لا نهاية له ويحيا ولا يحتاج إلى معنى به يقدر وإلى معنى به يعلم وإلى معنى به يحيا ولو لم يكن في الوجود إلا ذات الله تعالى فقط لكان عندنا عالما حيا قادرا سميعا بصيرا
قال فإن قالوا لله علم وقدرة وحياة قيل لهم إن أردتم بذلك أنه قادر عالم حي فنعم لله علم بكل شيء وقدرة على كل شيء مما لا نهاية له بمعنى أنه عالم قادر حي وإن أردتم بالعلم ذاتا كان بها عالما ولولاها ما كان عالما تسمونها علما وأردتم بالقدرة ذاتا بالعلم قادرا تسمونها قدرة وأردتم بالحياة ذاتا بها كان حيا تسمونها حياة فالله تعالى مستغن عن ذلك
قال وذهبت الثنوية إلى إثبات قديمين لا يقوم أحدهما بذات الآخر نور وظلمة ونسبوا الخير كله إلى النور ونسبوا الشر كله إلى الظلمة وقالوا إنهما لم يزالا متباينين ثم امتزجا فحدث من امتزاجهما العالم فكل خير في العالم فمن النور وكل شر فيه فمن الظلمة ولم يقل أحد بإثبات قديمين مثلين حكيمين ونحن نفسد ذلك وغن لم يذهب إليه ذاهب ومن المجوس من يقول بحدوث الشيطان وقدم الله تعالى وأما النصارى فإنها تقول إن الله جوهر واحد ثلاثة أقانيم وذهبوا بذلك إلى قريب من مذهب الكلابية ونسخة أمانتهم يعني النصارى تدل على انهم أثبتوا ذواتا فاعلة
قال ونحن نفسد هذه المذاهب كلها ليصح ما ذهب إليه شيوخنا من أنه لا قديم إلا الله
تعليق ابن تيمية
فيقال هذا الكلام يقتضي أنه ليس بينه وبين أئمة الكلابية والأشعرية وسائر الصفاتية خلاف معنوي فأما نقله عنهم أنهم أثبتوا أكثر من قديم واحد وانهم أثبتوا ذاتا قديمة قائمة بذات الله تعالى فيقال له أما الكلابية ومن سلك سبيلهم من أهل الحديث والفقه كأبي الحسن التميمي وأبي سليمان الخطابي وغيرهما من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم فإنهم لا يقولون عن الصفات وحدها إنها قديمة فلا يقولون العلم قديم ولكن يقولون الرب بعلمه قديم ومن أطلق منهم على الصفات أنها قديمة فلا يقول إن الذات والصفات قديمان ومن أطلق القدم على الصفات فإنهم لا يطلقون عليها لفظ الذوات فإن الذات إذا أطلقت يفهم منها أنها الذات القائمة بنفسها الموصوفة بالصفات ولهذا يفرق بين الذات والصفات
وأصل الذات تأنيث ذو ومعناه الصاحبة أي صاحبة الصفة فهم لا يسمون الصفات ذوات بهذا الاعتبار وإنما يسمونها معاني
وإذا قال بعضهم كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما إن العلة ذات من الذوات موجودة لا يصح أن يوجب الحكم إلا لذات موجودة فمرادهم بذلك أنها شيء موجود كما بينوه بقولهم إن العلة لا يجوز أن تكون معدومة ولا حكمها معدوما مع أن هذا ينازعهم فيه نفاة الحال
لكن المقصود أن مرادهم بهذا اللفظ ليس هو أنها ذات قائمة بنفسها بل معنى من المعاني وأما نقلك عنهم أنهم يثبتون ذاتا نوجب أن يكون عالما ولولاها لما كان عالما فهذا أولا ليس هو قول أئمتهم ولا جمهورهم بل هذا قول من يثبت الحال منهم وأما جمهورهم فعندهم العلم هو نفس كونه لا يثبتون هناك ذاتا أوجبت كونه عالما
وأنت قد اعترفت بأن له علما وقدرة وحياة بمعنى انه عالم قادر حي لا بمعنى أن له ذاتا بها كان عالما فقولك موافق لقول جمهورهم ثم مثبتة الحال تقول قام به معنى هو العلم أوجب كونه عالما وأما نقلك عنهم أنهم يقولون لو لم يكن في الوجود إلا ذات الباري وحده لكان غير قادر ولا عالم ولا حي فلبي الأمر على ما يفهم من هذه الشناعة فإنهم متفقون على انه لو لم يكن موجود إلا الله وحده لكان حيا قادرا عالما وإنما نقلت فإنهم متفقون على انه لو لم يكن موجود إلا الله وحده لكان حيا قادرا عالما وإنما نقلت قولهم بلفظ الذات ولفظ الذات مجمل فإن أردت أنهم يقولون لو لم يكن إلا الذات الموصوفة بهذه الصفات فإنه من المعلوم أنه لو لم يكن إلا الذات الموصوفة بالعلم والقدرة لكانت عالمة قادرة وغن أردت انهم يقولون لو لم يكن إلا الذات المجردة عن الصفات فعندهم أن وجود ذات الرب مجردة عن هذه الصفات ممتنع فهو كما تقول أنت لو قدر انه ليس في الوجود إلا هو مع كونه غير عالم ولا قادر ومعلوم انه إذا قدر هذا التقدير الممتنع لذاته لزمه حكم ممتنع
ويقال له أنت قد قلت إن الله عندكم قادر حي لذاته
قلت ويعني بذلك أن ذاته متميزة من سائر الذوات تميزا يجب معه أن يعلم ويقدر هل نفس أن يعلم ويقدر هو الذات المتميزة أو نفس أن يعلم الذات ويقدر ليس هو نفس الذات؟
فإن قلت إن نفس الذات هو نفس أن يعلم ويقدر فهذه مكابرة للضرورة فإن العلم ليس هو نفس العالم ولا القدرة نفس القادر وهذا أيضا متفق عليه بين المعتزلة وأهل الإثبات
وأيضا فيكون حقيقة قولك إن الذات متميزة تميزا تجب معه الذات وأنت لو قلت الذات أوجبت الذات لم يصح فكيف إذا كان تميزها هو الموجب لها وإن قلت ليس هذا هو هذا فهذا قول الصفاتية والعلم الذي يثبتونه هو قولك أن تعلم فإن أن والفعل هو بتأويل المصدر فقول القائل علم علما وله علم كقوله هو موصوف بأن يعلم يعلم وإذا قالوا عالم بالعلم لا بذاته لم يرد جمهورهم بذلك أن العلم هو أوجب صفة غير العلم وهو كونه عالما بل نفس علمه هو كونه عالما فيقولون عالم بصفة له هي العلم لا بذات مجردة عن العلم ومعلوم أن ذاته هي الموجبة لكونه عالما فلا ينازعون في انه عالم بالذات بمعنى أن ذاته أوجبت كونه عالما وأنه نفسه مستغن عما يجعله عالما وليس هناك شيء غيره جعله عالما
وأما قولك ولا يحتاج إلى معنى به يقدر وإلى معنى به يعلم فهذا لفظ مجمل فإن هذا إنما يصلح أن يكون حجة على مثبتة الأحوال الذين يقولون هناك معنى هو العلم أوجب كونه عالما فقولك هذا كقول القائل لا يحتاج إلى كونه عالما قادرا ولا يحتاج إلى أن يعلم ويقدر وانتم تسلمون لهم انه لا بد أن يعلم ويقدر وهذا هو عندهم العلم والقدرة فقول القائل بعد هذا يحتاج إلى هذا أو لا يحتاج سؤال لا يرد عليهم ولا على أحد وذلك أن معنى الحاجة إن أريد به أن اتصافه بصفات الكمال لا يستلزم كونه عالما قادرا فهذا باطل وإذا قيل إن ذلك يتضمن الحاجة إلى صفة فهو كقول القائل إن ذلك يتضمن الحاجة إلى ذاته وهو غني بنفسه عن كل ما سواه ولا يقال هو غني عن نفسه فغن نفسه المقدسة الموصوفة بصفة الكمال المستلزمة لذلك هي الغنية فإذا قيل هو غني عن ذلك كان مثل قول القائل هو غني عن نفسه أو غني عن غناه أو غني عما لا يكون غنيا إلا به وكقوله الحي الذي تجب الحياة له غني عن حياته أو واجب الوجود غني عن وجوده والقديم عن قدمه ونحو ذلك
فإن قال هم يقولون عالم بعلم ولا يقولون موجود بوجود ولا باق ببقاء ولا قديم بقدم
قيل منهم من يقول ذلك ومنهم من لا يقول به ويفرق بأن نفس الذات القديمة الباقية إذا قدرت غير قديمة ولا باقية لم يرجع الخلاف في ذلك إلى معنى ثبتي قام بها فإن البقاء هو الدوام والشيء الباقي إذا قدر أنه لم يتغير فحاله مع البقاء ودونه سواء بخلاف العلم والقدرة فإن الذات العالمة القادرة إذا قدر أنها غير عالمة ولا قادرة علم ذلك اختلاف حالها في نفسها بتقدير عدمه ليس هو مجرد نسبة وإضافة كالبقاء ونحوه
وأيضا فجمعك بين هؤلاء الصفاتية وبين المجوس والنصارى فيه من التحامل مالا يخفى على منصف
وقولك عن النصارى إنهم ربما أومأوا إلى مذهب الكلابية فيقال له لو كان قول النصارى ليس فيه إلا إثبات أن الله حي بحياة عالم بعلم لكان قولهم وقولك وقول الكلابية سواء والنصارى لم يكفرهم الله بهذا وغنما كفرهم الله بما ذكره عنهم في كتابه مما لا يقول به أحد من الصفاتية المسلمين وقول النصارى فيه من التناقض والاضطراب ما يتبين لكل عاقل ساده حيث يثبتون الابن صفة أقنوما ويجعلونه مع ذلك إلها فاعلا ويجعلون مع ذلك الإله واحدا ويقولون إن المتحد بالمسيح هو الابن وهو الكلمة دون الأب فهو مذهب متناقض كتناقض الفلاسفة بل والمعتزلة متناقضون ايضا في نفي الصفات وإثبتها كما تراه وهذا كلام افضل متأخريهم
ثم إنه لم يحتج على الصفاتية إلا بحجتين إحداهما انه لو كان له علم لكان علمه مثل علمنا والمثلان لا يكون أحدهما محدثا والآخر قديما
والثانية أن كونه عالما قادرا واجب والصفة إذا كانت واجبة استغنت بوجوبها عن معنى يوجبها فقد سمى ذلك صفة وهذه الحجة غنما تلزم مثبتة الحال وهم يقولون يعلل الواجب بالواجب وأما الأولى ففسادها ظاهر جدا لا سيما وأبو الحسين لا يسلم لهم أن الواحد منا عالم لمعنى ولهذا عدل عن طريقتي شيوخه المذكورتين في نفي الصفات إلى طريقة ثالثة أضعف منهما فقال إنه لا طريق إلى إثبات هذه المعاني ومالا طريق إليه لا يجوز إثباته فكان مضمون كلامه نفي الشيء انتفاؤه في نفس المر بل النافي عليه الدليل لا ينعكس ولا يلزم متى انتفى الدليل على الشيء انتفاؤه في نفس الأمر بل النافي عليه الدليل على نفي ما نفاه كما على المثبت الدليل على ثبوت ما أثبته ومن ليس عنده دليل على النفي والإثبات فعليه أن لا ينفي ولا يثبت فغاية ما عنده التوقف في نفي ذلك وإثباته يبين ذلك أنه ذكر في حجة أهل الإثبات أن الواحد منا عالم لمعنى لا يكون عالما إلا به فوجب مثل ذلك للباري سبحانه وتعالى
قال والجواب يقال لهم ولم وجب أن يكون حكم الباري سبحانه وتعالى؟ فما أنكرتم أن يكون الواحد منا عالما لمعنى ويكون الباري عالما لذاته على أن الواحد منا عالم لا لمعنى وغن لم يكن ذلك مذهب أصحاب أبي هاشم وقد فرق أصحاب أبي هاشم بين الواحد منا وبين الباري تعالى في ذلك فقالوا الواحد منا علم مع جواز أن لا يعلم فلم يجز أن يكون عالما إلا لمعنى يرجح به كونه عالما على كونه غير عالم والباري تعالى علم الأشياء ويستحيل أن لا يعلمها فلم يحتج إلى معنى يترجح به كونه عالما على كونه غير عالم
تعليق ابن تيمية
فيقال لأبي الحسين إذ كان مذهبك ومذهب نفاة الأحوال أن الواحد منا عالم لا لمعنى والباري عالم لا لمعنى فقد صحت حجة الصفاتية وتبين أن إثبات الصفة لأحد العالمين دون الآخر باطل وأما ما ذكرته من قول أبي هاشم فهو قول مثبتة الحال وحينئذ فيخاطبه مثبتة الحال من الصفاتية كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى ومن تبعهما فيقولون كونه علم مع وجوب أن يعلم لا يمنع استلزام ذلك علما به صار عالما بل الحال الواجبة تستلزم علة واجبة والحال الجائزة تستلزم علة جائزة وإنما الفرق بينهما أن الواحد منا علم مع جواز أن لا يكون له علم وان لا يكون عالما والباري علم مع وجوب أن يكون له علم وأن يكون عالما فالفرق بينهما من جهة وجوب الصفة والحال وجواز الصفة والحال أما ثبوت الصفة والحال في أحدهما دون الآخر وهذا كله مما تبين لمن علم وانصف أنه لا يمكن أبا الحسين وأمثاله من المعتزلة أن يذكروا فرقا معقولا بين قولهم وقول أئمة الصفاتية وإذا قدر أنهم يذكرون فرقا فحجتهم على النفي في غاية الفساد والتناقض فهم يتناقضون لا محالة في نفس المذهب أو في حجته ونقلهم عن منازعيهم فيه من التحريف والمجازفة والشناعة بغير حق ما يتبين لمن تأمله مثل تشنيعهم على أهل الإثبات بأنكم تقولون بتعدد القديم والقديم لفظ مجمل يوهمون به بعض الناس أنهم يقولون بتعدد الآلهية لا سيما مع قول اكثر شيوخهم كالجبائي ومن قبله إن أخص وصف الرب هو القدم وإن الاشتراك فيه يوجب التماثل فلو شاركت الصفة الموصوف في القدم لكانت مثله وهذا وإن كان في غاية الفساد فإن خصائص الرب التي لا يوصف بها غيره كثيرة مثل كونه رب العالمين وانه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه الحي القيوم القائم بنفسه القديم الواجب الوجود المقيم لكل ما سواه ونحو ذلك من الخصائص التي لا تشركه فيها صفة ولا غيرها
فيقال القدم هو من خصائصه هو قدم القائم بنفسه وكذلك وجوبه الذي هو وجوب وجود القائم بنفسه ونحو ذلك
وأما الصفات التي لا تقوم إلا به فإن قيل بقدمها أو وجوبها فلا ريب أنها ليست قائمة بنفسها بل لا تقوم إلا بالموصوف وحقيقة الأمر أن القديم الواجب بنفسه هو الذات المستلزمة لصفات الكمال وأما ذات مجردة عن هذه الصفات أو صفات مجردة عنها فلا وجود لها فضلا عن أن تكون واجبة بنفسها أو قديمة فقولهم مع فساده أوجب أن صار كثير من الناس يحترزون عن إطلاق لفظ القديم على الموصوف والصفة جميعا وإن كانوا يطلقون ذلك على أحدهما عند الانفراد وهذه طريقة ابن كلاب وأكثر أئمة متكلمي الصفاتية وعلى هذا جرى كلام أبي الحسن التميمي والخطابي وغيرهما ممن سلك هذا المسلك
كلام أبي الحسن التميمي في جامع الأصول
كما قال أبو الحسن في كتاب الإشارة له في جامع الأصول قال مسألة إن سأل سائل فقال هل يقال إن الصفات قديمة قيل له هذا سؤال ضعيف لا يسأل عنه من عرف حقائق الكلام لآن القديم الأزلي لم يكن قديما بغير صفة وغنما كان قديما بصفاته التي هي مضافة إليه في نفسه فإثبات القديم قديما بصفاته يسقط المسألة عن قدم الصفات لإضافة الصفة إلى الموصوف فكل صفة للقديم في نفسه لم يزل بها ألا ترى أن المحدث جميعه محدث فإذا سألت عنه مفرقا كانت كل طائفة منه محدثة وكل شيء منه محدث لأنه كله محدث بكماله أو لا ترى أن الإنسان محدث بجميع جوارحه وآلته فيقال هو محدث عند المسألة عنه في الجملة ويقال يده محدثة عند المسألة عنها في التفسير ولا يقال إن الإنسان ورأسه محدثان فكذلك أيضا يقال القديم بجميع صفاته قديم وكل شيء من القديم فهو قديم غير محدث
فإن قال قائل يقولون إن الموصوف قديم وصفته القديمة قديمان قيل له هذا خطأ لا يجوز أن يقال كما أنه لما لم يجز حين كان المحدث محدثا بجميع صفاته أن أجبت من سألني عنه منفردا وعن صفاته مفردة أن أقول إنه وصفته محدثان لنه واحد هو وصفاته فهو كله محدث وهي على حالها محدثة ولا يجوز أن أقول هما جميعا محدثان لأن في قولنا إنهما جميعا محدثان فسادا لإثبات الواحد المحدث وإيهام أنه اثنان وليس بواحد فكذلك في قولي في الأول الواحد القديم الذي له صفات إنه قديم وصفاته قديمة فإذا قلت هو وصفاته قديمان ففيه إثبات تعطيل لتوحيده وقدمه وإيجاب أنه اثنان دون واحد ففسد من ذلك أن يقال هو وصفته قديمان كما فسد أن يقال للمحدث هو وصفته محدثان وكان الواجب أن يقال إن القديم الأزلي لم يزل موصوفا فمن سأل عن صفة صفة مفردة جاز أن يقال له هي قديمة صفة لقديم لم يزل بها ولم تزل به كما لا تكون صفة المحدث إلا محدثة فما جرى على القديم في شرط القدم فهو واقع عليه بصفاته وليس بواقع عليه دون صفاته
فإذا قال القائل الموصوف قديم فقد قال إن صفاته قديمة كما إذا قال الموصوف محدث فقد أوجب أن صفاته محدثة
تعليق ابن تيمية
قلت فهذه الطريقة التي سلكها هؤلاء في انهم يقولون عن الذات إنها قديمة وعن الصفات إنها قديمة ولا يقولون عن الذات والصفات إنهما قديمان من الإشعار بالتغاير وهم لا يطلقون على الصفات إنها غير الذات
ولهم في لفظ المغايرة ثلاث طرق احدها وهي طريق الأئمة كالإمام احمد وغيره وأظنها قول ابن كلاب وغيره وقد ذكرها أبو إسحاق الإسفراييني انهم لا يقولون عن الصفة إنها الموصوف ولا يقولون غنها غيره ولا يقولون ليست هي الموصوف ولا غيره لأن لفظ الغير مجمل فلا ينفونه عند الإطلاق ولا يثبتونه
والطريقة الثانية وهي المحكية عن الأشعري نفسه انه قال أقول مفرقا إن الصفة ليست هي الموصوف وأقول غنها ليست غير الموصوف لكن لا أجمع بين السلبين فأقول ليست الموصوف ولا غيره وهكذا أبو الحسن التميمي ومن سلك هذه الطريقة يقولون في العلم ونحوه من الصفات إنه ليس غير الله وان الصفات ليست متغايرة كما يقولون إنها ليست هي الله كما يقولون إن الموصوف قديم والصفة قديمة ولا يقولون عند الجمع قديمان كما لا يقال عند الجمع لا هو الموصوف ولا غيره
والثالثة قول من يجمع بين السلبين كما هي طريقة ابن الباقلاني والقاضي أبي يعلي وغيرهما وهؤلاء قد يطلقون القول بإثبات قديمين: أحدهما الصفة والآخر الموصوف كما ذكروا ذلك في كتيهم وإذا احتج عليهم المعتزلة بانه إذا كانت صفاته قديمة وجب إثبات قديمين ولو كان علمه قديما لكان إلها أجابوهم بان كونهما قديمين لا يوجب تماثلهما كالسواد والبياض اشتركا في كونهما مخالفين للجوهر ومع هذا لا يجب تماثلهما وأنه ليس معنى القديم معنى الإله لأن القديم هو ما بولغ له في الوصف بالتقدم ومنه بناء قديم ودار قديمة إذا بولغ له في الوصف بالتقدم وليس معنى الإله مأخوذا من هذا ولأن النبي محدث وصفاته محدثة وليس إذا كان الموصوف نبيا وجب أن يكون صفاته أنبياء لكونها محدثة كذلك لا يجب إذا كانت الصفات قديمة والموصوف بها قديما أن تكون إلهة لكونها قديمة وبسط الكلام على ذلك له موضع آخر
كلام ابن سينا في الرسالة الأضحوية في مسألة الصفات وتعليق ابن تيمية عليه
وأما قول ابن سينا وهل هو: واحد الذات على كثرة الأوصاف أو قابل لكثرة؟ تعالى عنها بوجه من الوجوه
فيقال له: الكتاب الإلهي مملوء بإثبات الصفات لله تعالى كالعلم والقدرة والرحمة ونحو ذلك ولم يتنازع اثنان من العقلاء أن النصوص ليست دالة على نفي الصفات بل إنما هي دالة على قول أهل الإثبات لكن غاية ما تدعيه النفاة أن ظاهرها دال على ذلك وأنه يمكن تأويله للدليل المعارض
ولا ريب أن ما ذكره لازم لنفاة الصفات إذ لو كان قولهم هو الحق لكان الواجب بيان ذلك وإن لم يبين فلا أقل من السكوت عن الحق ونقيضه فأما ذكر ما يدل ظاهره على نقيض الحق من غير ذكر للحق فهذا ممتنع في حق من قصده هدى الخلق وإن كان هذا جائزا فهو حجة لهؤلاء الملاحدة عليهم في المعاد بل وفي الشرائع أيضا فإن أجابوا الملاحدة في المعاد بانا نعلم بالاضطرار معاد الأبدان من أخبار الرسول فلا يحتاج أن نتلقاه من ألفاظ السمع لئلا يقدح في دلالة السمع بالتأويل كان هذا جوابا بعينه لأهل الإثبات فإنهم يقولون: إنا نعلم بالاضطرار أن إثبات الصفات مما أخبر به الرسول ﷺ وأنه أخبر الأمة أن ربهم الذي يعبدونه فوق العالم وأنه عليم قدير رحيم له العلم والقدرة والرحمة إلى أمثال ذلك من الصفات
والعلم بإثبات الصفات من قول الله ورسوله بعد تدبر النصوص الإلهية علم ضروري لا يرتاب فيه وهو أبلغ من العلم بثبوت الشفعة وميراث الجدة وتحريم المرأة على عمتها وخالتها وسجود السهو في الصلاة ونحو ذلك من الأحكام المعلومة عند الخاصة دون العامة فإن ما في الكتب الإلهية من إثبات علو الله تعالى وإثبات صفاته وأسمائه هو من العلم العام الذي علمته الخاصة والعامة كعلمهم بعدد الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وغير ذلك من الشرائع الظاهرة المتواترة ولا تجد أحدا من نفاة الصفات يعتمد في ذلك على الشرع ولا يدعي أن أصل اعتقاده لذلك من جهة الكتاب والسنة ولا ينقل قوله عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا عن أئمة المسلمين المشهورين بالعلم والدين وإنما ينقل قوله في النفي عمن هو معروف بتقليد أو بدعة أو إلحاد وعلى قدر بدعته وإلحاده يكون إيغاله في النفي وبعده عن الإثبات
وقوله: أو قابل لكثرة تعالى عنها لفظ مموه فإنه إن عني كثرة الآلهة وهو لم يعن ذلك فقد علم أن الله سبحانه قد بين أن الإله إله واحد في غير موضع والقرآن ملآن من نفي تعدد الآلهة ونفي الشرك بكل طريق وإن عني كثرة صفاته التي دلت عليها أسماؤه آياته فتعليته الرب عنها كتعلية المشركين له أن يدعى ويعبد بلا واسطة وتعليتهم له عن أن يرسل رسولا من البشر فتنزيهه له عن صفاته كتنزيه المشركين له عن أن يكون إلها واحدا وأن يكون له رسول من البشر
وقد أنكر الله تعالى على المشركين نفيهم اسم الرحمن كما قال تعالى { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا } الفرقان 60 وقوله تعالى { كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن } الرعد 30
ومعلوم أن الاسم العلم لا ينكره أحد ولو كانت أسماؤه أعلاما لم يكن فرق بين الرحمن والجبار كيف وقد قال ﷺ في الحديث المعروف في السنن: يقول الله: أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتتته
فإذا كانت الرحم مشتقة من اسم الرحمن امتنع أن يكون علما لا معنى فيه
وفي الصحيح عنه الرحم شجنة من الرحمن
فإذا كان هذا قوله سبحانه فيمن ينكر الرحمن فما الظن بمن ينكر جميع معاني أسمائه وصفاته؟ وحمية هذا الملحد وأمثاله أن يكون له صفات حمية جاهلية شر من حمية الذين قال الله فيهم { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } الفتح 26 فإنه قد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ لما اصطلح هو والمشركون عام الحديبية أمر عليا أن يكتب في أول كتاب الصلح بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل بن عمرو وكان إذ ذاك مشركا لا نعرف الرحمن ولكن اكتب كما كنت تكتب باسمك اللهم فأمر عليا فكتب باسمك اللهم ثم قال اكتب هذا ما قاضي عليه محمد رسول الله فقالوا لو علمنا أنلك رسول الله ما قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله
فهؤلاء أخذتهم حمية جاهلية في إثبات أسماء الله ونبوة رسوله والملاحدة شاركوهم في ذلك من وجوه كثيرة فإنهم ينفون حقائق أسماء الله وحقيقة رسالة رسوله صلى الله لعيه وسلم وغايتهم أن يؤمنوا بها من وجه ويكفروا من وجه كالذين قالوا نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويقال له ذات لا صفة لها لا وجود إلا في الذهن بل لفظ ذات تأنيث ذو ولا تستعمل إلا مضافا وذات معناه صاحبة كقوله تعالى { عليم بذات الصدور } آل عمران 119 وقوله تعالى { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } الأنفال 1 وقوله خبيب
وذلك في ذات الإله
أي في سبيل الإله وجهته
ثم استعملها أهل الكلام بالتعريف فقالوا الذات أي الصاحبة والمعنى صاحبة الصفات
فتقدير المستلزم للإضافة بدون الإضافة ممتنع وهذا كما أثبته ابن سينا وأمثاله من هؤلاء الملحدة حيث جعلوه وجودا مطلقا إما بشرط النفي وإما بشرط الإطلاق إنما وجوده في الأذهان لا في الأعيان فكيف بالمطلق المشروط بالنفي فإنه أبعد عن الوجود من المشروط بالإطلاق وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
وقوله أهو متحيز الذات أم منزهها عن الجهات؟
هو أيضا من حججهم على نفاة الصفات فإن الكتب الإلهية وصفته بالعلو والفوقية ولم تنف أن يكون فوق العالم كما تقوله النفاة
وإذا كانت النصوص الإلهية قد بينت أن لعلي الأعلى الذي يصعد إليه الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه الذي تعرج الملائكة والروح إليه الذي نزل منه القرآن والملائكة تنزل من عنده الذي خلق السماوات والأرض في ستته أيام ثم أستوى على العرش ونحو ذلك من النصوص المبينة لمباينته لخلقه وعلوه عليهم فأي بيان للمقصود أعظم من هذا؟
وأما لفظ التحيز والجهة فلفظان مجملان ومراد النفاة منهما غير المراد في اللغة المعروفة فإن المتحيز اسم فاعل من تحيز يتحيز فهو متحيز مثل تعوذ وتكبر وتجبر ونحو ذلك والحيز ما يحوز الشيء ويحوطه والمفهوم من ذلك في اللغة الظاهرة أن يكون هناك شيء موجود بحوز غيره
ولا ريب أن الخالق مباين للمخلوقات عال عليها كما دلت النصوص الإلهية واتفق عليه السلف والأئمة وفطر الله تعالى على ذلك خلقه ودلت عليه الدلائل العقلية
وإذا كان كذلك وليس ثم موجود إلا خالق ومخلوق فليس وراء المخلوقات شيء موجود يكون ميزا لله تعالى فلا يجوز أن يقال هو متحيز بهذا الاعتبار
وهم قد يريدون بالحيز أمرا عدميا حتى يسموا العالم متحيزا وإن لم يكن في شيء آخر موجود غير العالم وإذا كان كذلك فكونه متحيزا بهذا الاعتبار معناه انه في حيز عدمي والعدم ليس بشيء وما ليس بشيء فليس في كونه فيه أكثر من كونه وحده لا موجود معه وانه منحاز عن الخلق متميز عنهم بائن عنهم ليست ذاته مختلطة بذات المخلوق فإذا أريد بالمتحيز المباين لغيره وقد دلت النصوص على أن الله تعالى عال على الخلق بائن عنهم ليس مختلطا بهم فقد دلت على هذا المعنى فالقرآن قد دل على جميع المعاني التي تنازع الناس فيها دقيقها وجليلها كما قال الشعبي ما ابتدع أحد بدعه إلا وفي كتاب الله بيانها وقال مسروق ما نسأل أصحاب محمد عن شيء إلا وعلمه في القرآن ولكن قصر عنه
ولما كان لفظ المتحيز فيه إجمال وإبهام امتنع طوائف من أهل الإثبات عن إطلاق القول بنفيه أو إثباته ولا ريب أنه لا يوجد عن أحد من السلف والأئمة لا إثباته ولا نفيه كما لا يوجد مثل ذلك في لفظ الجسم والجهر ونحوهما
وذلك لأنها ألفاظ مجملة يراد بها حق وباطل وعامة من أطلقها ف بالنفي أو الإثبات أراد بها ما هو باطل لا سيما النفاة فإن الصفات كلهم ينفون الجسم والجوهر والمتحيز ونحو ذلك ويدخلون في نفي ذلك صفات الله وحقائق أسمائه ومباينته لمخلوقاته بل إذا حقق الأمر عليهم وجد نفيهم متضمنا لحقيقة نفي ذاته إذ يعود الأمر إلى وجود مطلق لا حقيقة له إلا في الذهن والخيال أو ذات مجردة لا توجد إلا في الذهن والخيال أو إلى الجمع بين المتناقضين بإثبات صفات ونفي لوازمها
فعامة من يطلق ذلك إما متناقض في نفيه وإثباته يثبت الشيء بعبارة وينفيه بأخرى أو يثبته وينفي نظيره أو ينفيه مفصلا ويثبته مجملا أو بالعكس أو يتكلم في النفي والإثبات بعبارات لا يحصل مضمونها ولا يحقق معناها
وهكذا كثير في الكبار فضلا عن الصغار وكثير منهم لا يفهم مراد أكابرهم بهذه العبارات وهم يعلمون أن عامتهم لا يفهمون مرادهم وإنما يظنونه تعظيما وتسبيحا من حيث الجملة والواجب على المسلمين أن يتلقوا الأقوال الثابتة عن الرسول بالتصديق والقبول مطلقا في النفي والإثبات
وأما الألفاظ التي تنازع فيها أهل الكلام فلا تتلقى بتصديق ولا تكذيب حتى يعرف مراد المتكلم بها فإن وافق ما قاله الرسول كان من القول المقبول وإلا كان من المردود ن ولا يكون ما وافق قول الرسول مخالفا للعقل الصريح أبدا كما لا يكون ما خالف قوله مؤيدا ببرهان العقل أبدا كما قد بين ذلك في غير هذا الموضع
وكذلك لفظ الجهة لفظ مجمل فإن الناطقين به من أهل الكلام والفلسفة وقد يريدون بلفظ الجهة أمرا وجوديا غما جسما وغما عرضا في جسم
وقد يريدون بلفظ الجهة ما يكون معدوما كما وراء الموجودات
فقول القائل إن الحق في جهة
إن أراد به ما هو موجود مباين له فلا موجود مباين له إلا مخلوقاته فإذا كان مباينا لمخلوقاته فكيف تكون محتوية عليه؟
وإن أراد بالجهة ما فوق العالم فلا ريب أن الله فوق العالم وليس هناك إلا هو وحده وليس فوق المخلوقات إلا خالقها هو العلي الأعلى
فصل
وقول ابن سينا فإنه لا يخلو إما أن تكون هذه المعاني واجبا تحققها وإتقان المذهب الحق فيها أو يسع الصدوف عنها وإغفال البحث والروية فيها فإن كان البحث عنها معفوا عنه وغلط الاعتقاد الواقع فيها غير مؤاخذ به فجل مذهب هؤلاء القوم المخاطبين بهذه الجملة تكلف وعنه غنية وإن كان فرضا محكما فواجب أن يكون مما صرح به في الشريعة
فهذا كله حجة على إخوانه نفاة الصفاة وهم المخاطبون بهذه الجملة واما أهل الإثبات فهم يقولون إن ذلك كله مما صرح به في الشريعة
وكذلك قوله وليس التصريح المعمى أو الملبس أو المقتصر فيه بالإشارة والإيماء بل بالتصريح المستقصي فيه والموفى حق البيان والإيضاح والتفهيم والتعريف
فهذا كله حجة على إخوانه نفاة الصفات الجهمية وأما أهل الإثبات فيقولون إنه قد صرح بالتوحيد الحق التصريح المستقصي فيه الموفى حق البيان والإيضاح والتفهيم والتعريف وهذه نصوص القرآن والأحاديث الثابتة عن النبي ﷺ وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم من السلف فيها من البيان للإثبات ما لا يحصيه إلا رب السماوات
وقوله فإن المبرزين المنفقين أيامهم لسرعة الوقوف على المعاني الغامضة يحتاجون في تفهم هذه المعاني إلى فضل وشرح وعبارة فكيف غتم العبرانيين وأهل الوبر من العرب؟
فهذا الكلام حجة له على إخوانه الجهمية من المعتزلة وأتباعهم نفاة الصفات الذين يقولون إن التوحيد الحق هو قول أهل السلب نفاة الصفات ولا ريب أن فهم قولهم فيه غموض ودقة لأنه قول متناقض فاسد أعظم تناقضا من قول النصارى كما قد بين في موضعه فما يفهمه إلا الذكي الذي مرن ذهنه على تسليم المقدمات التي بها يفسدون ذهنه أو على تصور أقوالهم المتناقضة فإن كان من متابعيهم نقلوه من درجة إلى درجة كما تفعل القرامطة بنقل المستجيبين لهم من درجة إلى درجة وكذلك هؤلاء الجهمية النفاة لا يمكنهم أن يخاطبوا ذكيا ولا بليدا بحقيقة قولهم إن لم يتقدم قبل ذلك منه تسليم لمقدمات وضعوها تتضمن ألفاظا مجملة يلبسون بها لعيه الحق بالباطل فيبقى ما سلمه لهم من المقدمات مع ما فيه من التلبيس والإبهام حجة لهم عليه فيما ينازعهم فيه إلى أن يخرجوه أن تمكنوا من العقل والدين كما تخرج الشعرة من العجين فإن من درجات دعوتهم الخلع والسلخ وأمثال هذه العبارات
وقد رأيت كتبهم فرأيتهم يحتجون على طوائف المسلمين الذين فيهم بدعة بما وافقوهم عليه من البدعة كما احتج ابن سينا على المعتزلة ونحوهم من نفاة الصفات بما وافقوه عليه من هذه الأقوال المبتدعات وإلا فالفطر السليمة تنكر أقوال النفاة إذ قد توافق على إنكارها الفطر والمعقول والسمع المنقول وإنما يخالف بنوع من الشبه الدقيقة التي هي من أبطل الباطل في الحقيقة
ولقد حدثني بعض أصحابنا أن بعض الفضلاء الذين فيهم نوع من التهجم عاتبه بعض أصحابه على إمساكه عن الانتصار لأقوال النفاة لما ظهر قول الإثبات في بلدهم بعد ان كان خفيا واستجاب له الناس بعد أن كان المتكلم به عندهم قد جاء شيئا فريا فقال هذا إذا سمعه الناس قبلوه وتلقوه بالقبول وظهر لهم أنه الحق الذي جاء به الرسول ونحن إذا أخذنا الشخص فربيناه وغذيناه ثلاثين سنة ثم أردنا أن ننزل قولنا في حلقه لم ينزل في حلقه إلا بكلفة
وهو كما قال: فإن الله تعالى نصب على الحق الأدلة والأعلام الفارقة بين الحق والنور وبين الباطل والظلام وجعل فطر عباده مستعدة لإدراك الحقائق ومعرفتها ولولا ما في القلوب من الاستعداد لمعرفة الحقائق لم يكن النظر والاستدلال ولا الخطاب والكلام كما أنه سبحانه جعل الأبدان مستعدة للاغتذاء بالطعام والشراب ولولا ذلك لما أمكن تغذيتها وتربيتها وكما ان في الأبدان قوة تفرق بين الغذاء الملائم والمنافي ففي القلوب قوة تفرق بين الحق والباطل أعظم من ذلك
وهذا كما أن لأرباب السحر والنيرنجيات وعمل الكيمياء وأمثالهم ممن يدخل في الباطل الخفي الدقيق يحتاج إلى أعمال عظيمة وأفكار عميقة وأنواع من العبادات والزهادات والرياضات ومفارقة الشهوات والعادات ثم آخر امرهم الشك بالرحمن وعبادة الطاغوت والشيطان وعمل الذهب المغشوش والفساد في الأرض والقليل منهم من ينال بعض غرضه الذي لا يزيده من الله إلا بعدا وغالبهم محروم مأثوم يتمنى الكفر والفسوق والعصيان وهو لا يحصل إلا على نقل الأكاذيب وتمنى الطغيان سماعون للكذب أكالون للسحت عليهم ذلة المفترين
كما قال تعالى { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين } الأعراف 152 ولهذا تجد أهل هذه الأباطل الصعبة الشديدة في الغالب: إما ملحدا من أهل النفي والتكذيب وإما جاهلا قد أضلوه ببعض شبهاتهم
وأما قوله: فكيف غتم العبرانيين وأهل الوبر من العرب؟ فيقال له: نحن لا ننكر أن في العبرانيين والعرب من يكون ذهنه مقصرا عن بعض دقيق العلم لكن إذا وازنت من كان من محمد صلى الله لعيه وسلم من العرب الخاصة والعامة ومن كان مع موسى عليه الصلاة والسلام أيضا بمن فرضته من الأمم وجدتهم أكمل منهم في كل سب ينال به دقيق العلم وجليله فإذا قدرت بعض الناقصين من ذلك القرن فقابله بإخوانك القرامطة الباطنية وعوام الفلاسفة الدهرية وأمثالهم من عوام النصيرية والإسماعيلية وأمثالهم فإنك تجد بين أدنى اولئك وخيار هؤلاء في الذهن والعلم من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق أليس أصحابك هم المستجيبين لدعوة بني عبيد الذين راج عليهم مكرهم وكيدهم في الدنيا والدين حتى اعتقدوا فيمن هو من أكفر الناس وأكذبهم: انه إمام معصوم يعلم علم الأولين والآخرين بل عوام النصارى مع فرط جهلهم وضلالهم احذق وأذكى من عوام أصحابك المستجيبين لمثل هؤلاء المنقادين لهم
وهل وجد في العالم أمة أجهل وأضل وأبعد عن العقل والعلم من أمة يكون رؤسها فلاسفة أو لم تكن أئمتكم اليونان كأرسطو وأمثاله مشركين يعبدون الأوثان ويشركون بالرحمن ويقربون أنواع القرابين لذرية الشيطان؟
أو ليس من أعظم علومهم السحر الذي غايته أن يعبد الإنسان شيطانا من الشياطين ويصوم ويصلي ويقرب له القرابين حتى ينال بذلك عرضا من الدنيا فساده أعظم من صلاحه وأثمه أكبر من نفعه؟
أو ليس أضل الشرك في العالم هو من بعض هؤلاء المتفلسفة؟ أو ليس كل من كان أقرب إلى الشرائع ولو بدقيقة كان أقرب إلى العقل ومعرفة الحقيقة؟ وهل رأيت فيلسوفا أقام مصلحة قرية من القرى فضلا عن مدينة من المدائن؟ وهل يصلح دينه ودنياه إلا بأن يكون من غمار أهل الشرائع؟
ثم يقال له: أنت وأمثالك أئمة أتباعكم وهذا قولك وقول أرسطو وأمثالكم من أئمة الفلاسفة في واجب الوجود وصفاته وأفعاله مع دعواكم نهاية التوحيد والتحقيق والعرفان في واجب الوجود وصفاته وأفعاله مع دعواهم نهاية التوحيد والتحقيق والعرفان قول لا يقوله إلا من هو من أجهل الناس وأضلهم وأشبههم بالبهائم من الحيوان
وكون الواحد منكم حاذقا في طب أو نجوم أو غرس أو بناء هو لقلة معرفتكم بالله وأسمائه وصفاته وافعاله وعبادته وقلة نصيبكم وحظكم من هذا المطلب الذي هو أجل المطالب وأرفع المواهب فاعتضتم بالأدنى عن الأعلى: إما عجزا وغما تفريطا
ولا ريب أن أئمة اليهود والنصارى بعد أن بدلوا الكتاب ودخلوا فيما نهوا عنه احذق وأعرف بالله من أئمتكم وعوام اليهود والنصارى الذين هم ضالون ومغضوب عليهم أصح عقلا وإدراكا وأصوب كلاما في هذا الباب من عوام أصحابكم وهذا مما لا يشك فيه من له عقل وإنصاف
واعتبر ذلك بعوام النصيرية والإسماعيلية والدرزية والطرقية والعرباء وعوام التتر المشركين الذين كان علماؤهم المشركون السحرة من البخشية والطوينية وأمثالهم وكان خيار علمائهم رؤوس الملاحدة فاعتبر عوام هؤلاء مع عوام اليهود والنصارى تجد عوام اليهود والنصارى أقل فسادا في الدنيا والدين من أولئك وتجد أولئك أفسد عقلا ودينا
وأما متوسطوكم كالمنجمين والمعزمين وأمثالهم ففيهم من الجهل والضلال والكذب والمحال مالا يحصيه إلا ذو الجلال وهل كان الطوسي وامثاله ينفقون عند المشركين من التتر إلا بأكاذيب المنجمين ومكايد المحتالين المنافية للعقل والدين؟
وأما أئمتكم البارعون كأرسطو وذويه فغايته ان يكون مشركا سحارا وزيرا لملك مشرك سحار كالإسكندر بن فيلبس وأمثاله من ملوك اليونان الذين كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان وإنما صار فيهم ما صار من الهدى والفلاح لما دخلت فيهم النصرانية بعد أرسطو بنحو ثلاثمائة سنة وتسع وعشرة سنة او اكثر منها وقد قيل إن ذلك كان على عهد آخر ملوكهم بطليموس صاحب المجسطي فناهيك ممن تكون النصارى أعقل منهم وأعلم وأهدى إلى الدين الأقوم
ومن الضلال أن من يظن ذا القرنين المذكور في القرآن العزيز هو الإسكندر بن فيلبس الذي يقال إن أرسطو كان وزيره وهذا جهل فإن ذا القرنين قديم متقدم على هذا بكثير وكان مسلما موحدا حنيفا وقد قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة أو ما يقارب ذلك
وهذا الكلام وأمثاله إنما قيل لمقابلة لما في كلام هؤلاء من الاستخفاف بأتباع الأنبياء وأما أئمة العرب وغيرهم من أتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كفضلاء الصحابة مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وأبي الدرداء وعبد الله بن عباس ومن لا يحصى عدده إلا الله تعالى فهل سمع في الأولين والآخرين بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بقوم كانوا أتم عقولا وأكمل أذهانا وأصح معرفة وأحسن علما من هؤلاء؟
فهم كما قال فيهم عبد الله بن مسعود: من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم
وما طمع أهل الإلحاد في هؤلاء إلا بجهل أهل البدع كالرافضة والمتكلمين من المعتزلة ونحوهم
وابن سينا وأمثاله من ملاحدة الفلاسفة لما كانوا إنما يخاطبون من المسلمين من هو ناقص في العلم والدين: إما رافضي وإما معتزلي وإما غيرهما صاروا يتكلمون في خيار القرون بمثل هذا الكلام
وقد تواتر عن النبي ﷺ انه قال خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم
ثم يقال لهذا الأحمق: أن كل أمة فيها ذكي وبليد بالنسبة إليها لكن هل رأى في أجناس الأمم امة أذكى من العرب؟
واعتبر ذلك باللسان العام وما فيه من تفصيل المعاني والتمييز بين دقيقها وجليلها بالألفاظ الخاصة الناصة على الحقيقة ويليه في الكمال اللسان العبراني فأين هذا من لسان أصحابك الطماطم الذين يسردون ألفاظا طويلة والمعنى خفيف؟ ولولا أن مثلك وأمثالك ممن شملته بعض سعادة المسلمين والعرب فصار فيكم بعض كمال الإنسان في العقل واللسان فعربتم تلك الكتب وهذبتموها وقربتموها إلى العقول وإلا لكان فيها من التطويل والهذيان ما يشح بمثله على الزمان وهي كما قال فيها ابو حامد الغزالي هي بين علوم صادقة لا منفعة فيها ونعوذ بالله من علم لا ينفع وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها وإن بعض الظن أثم فإن ما يقوم عليه الدليل من الرياضي ونحوه كثير التعب قليل الفائدة لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى وما لم يقم عليه الدليل فظنون وأباطيل
ثم يقال له: هب أن ما ذكرته من غتم العرانيين والعرب أهل الوبر لا يمكنهم معرفة الدقيق فهل يمكنك أن تقول ذلك في أذكياء العرب والعبرانيين وكل أحد يعلم أن عقول الصحابة والتابعين وتابعيهم أكمل عقول الناس
واعتبر ذلك بأتباعهم فإن كنت تشك في ذكاء مثل مالك والأوزاعي والليث بن سعد وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وزفر بن الهذيل والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم وأبي عبيد وإبراهيم الحربي وعبد الملك بن حبيب الأندلسي والبخاري ومسلم وأبي داود وعثمان بن سعد الدارمي بل ومثل أبي العباس بن سريج وأبي جعفر الطحاوي وأبي القاسم الخرقي وإسماعيل بن إسحاق القاضي وغيرهم من امثالهم فإن شككت في ذلك فأنت مفرط في الجهل أو مكابر فانظر خضوع هؤلاء للصحابة وتعظيمهم لعقلهم وعملهم حتى انه لا يجترئ الواحد منهم أن يخالف لواحد من الصحابة إلا أن يكون قد خالفه صاحب آخر
وقد قال الشافعي رحمة الله عليه في الرسالة أنهم فوقنا في كل عقل وعلم وفضل وسب ينال به علم أو يدرك به صواب ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا أو كما قال رحمة الله عليه
وأما قوله لو كلف الله رسولا من الرسل أن يلقي حقائق هذه الأمور إلى الجمهور من العامة الغليظة طباعهم المتعلقة بالمحسوسات الصرفة أذهانهم إلى آخر كلامه
فيقال: لا ريب أن فيما غاب عن المشاهدة أمورا من الغيب بعضها يمكن التعريف به مطلقا وبعضها لا يمكن التعريف به إلا بعد شروط واستعداد وبعضها لا يمكن التعريف به في الدنيا إلا على وجه مجمل وبعضها لا يمكن التعريف به في الدنيا بحال وبعضها لا يمكن مخلوقا أن يعلمه ولهذا قال تعالى { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } السجدة 17
وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ قال: يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فما لا يخطر بالقلوب إذا عرفت به لم تعرفه إلا إذا كان له نظير وإلا لم يمكن التعريف على وجهه
وفي الدعاء المشهور: اللهم إني أسألك اسم هو لم سميت به نفسك أو انزلته في كتابك او علمته أحدا من خلقك أو أستأثرت به في علم الغيب عندك فإذا كان من أسمائه ما استأثر بعلمه لم يعلمه غيره ذلك وما خص به بعض عباده لم يعلمه غيره
وفي الحديث الصحيح انه ﷺ كان يقول في دعائه لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك
وفي حديث الشفاعة ينفتح على محامد أحمده بها لا احسنها الآن
فإذا كان اعلم الخلق بالله لا يحصى ثناء عليه فكيف غيره؟ وإذا كان يفتح عليه في الآخرة بمحامد لم يعرفها في الدنيا فكيف حال غيره؟
ونذكر في هذا قصة موسى والخضر عليهما السلام ونقر العصفور من البحر
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيما ذكره البخاري حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون ان يكذب الله ورسوله؟
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سأل رجل تفسير أية فقال: ما يؤمنك أني لو أخبرتك بها لكفرت بها وكفرك بها تكذيبك بها فتبين انه ليس كل أحد يليق بمعرفة جميع العلوم
ولهذا قال تعالى { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها } إلى قوله { يضرب الله الأمثال } الرعد 17 فإن هذا مثل ضربة الله فشبه فيه ما ينزله من السماء من العلم والإيمان بالمطر وشبه القلوب بالأودية والأودية منها صغار وكبار فكل واد يسيل بقدره
فهذا ونحوه حق ولكن حقائق الأمور التي يدعيها هؤلاء الملاحدة هي في الحقيقة نفي وتعطيل تنكرها القلوب العارفة الذكية أعظم مما تنكرها قلوب العامة وكلما قوي عقل الرجل وعلمه زاد معرفة بفسادها ولهذا لا يستجيب لهم الرجل إلا بقدر نقص عقله ودينه
وقوله: هبك الكتاب العزيز جاء على لغة العرب في الاستعارة والمجاز فما قولهم في الكتاب العبراني هو من أوله إلى آخره تشبيه صرف؟ إلى آخر كلامه
فيقال: هذا من أعظم حجج أهل الإثبات على نفاة الصفات ومن أعظم الحجج على صدق الرسولين العظيمين وصدق الكتابين الكريمين اللذين لم يأت من عند الله كتاب أهدى منهما
قال تعالى { ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى } القصص 43 إلى قوله: { قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا } القصص 48 إلى قوله { قل فاتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين } الآيات القصص 49
وقال تعالى حكاية عن الجن { قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم } الأحقاف 30
وقال تعالى: { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون * وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها } الأنعام 91 92
وقال تعالى: { ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون * وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون } الأنعام 154 - 155 فقد قرن الله تعالى بين الكتابين العربي والعبري في غير موضع
ومن المعلوم ان موسى كان قبل محمد صلوات الله عليهما وسلامه ولم يأخذ عنه شيئا وكل من عرف حال محمد ﷺ يعلم أنه لم يأخذ عن أهل الكتاب شيئا فإذا أخبر هذا بمثل ما أخبر به مرسل واحد من غير تواطؤ ولا تشاعر فيما يمتن في العادة التوافق فيه من غير تواطؤ كان هذا مما يدل على صدق كل من الرسولين في أصل الرسالة وعلى صدق خبر كل من الرسولين فيما أخبر به صفات ربه إذا كان كل منهما أخبر بمثل ما أخبر به الآخر وهب أن بعض ألفاظ أحد الكتابين قد يحرفها المحرف فالكتاب الآخر المصدق له يبطل ذلك التحريف ويبين أن المقصود واحد
وما ذكره من امتناع التحريف على كلية الكتاب العبري حق كما قال ويبين ذلك أن النبي ﷺ بين من تحريف أهل الكتاب ما شاء الله وذمهم على ما وصفوا الله تتعالى به من النقائص كقولهم: إن الله فقير وإن الله بخيل وإنه تعب لما خلق السماوات والأرض فاستراح فقال تعالى { وما مسنا من لغوب } ق 38
فلو كان ما في التوراة من إثبات الصفات مما بدلوه وافتروه لكان إنكار هذا من أعظم الواجبات ولكان الرسول يعيبهم بما ينكره النفاة متن التشبيه والتجسيم وأمثال هذه العبارات فلما كان الرسول العربي مقرا لما في التوراة من الصفات ومخبرا بمثل ما في التوراة كان ذلك من أعظم دليل على أن ما في التوراة من الصفات التي أخبر بها الرسول العربي أيضا ليس مما كذبه أهل الكتاب
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود أن خبرا من اليهود لما أخبر النبي ﷺ أن الله يوم القيامة يمسك السماوات على اصبع والأرضين على أصبع والجبال على اصبع والشجر والثرى على اصبع وسائر الخلق على أصبع ثم يهزهن ثم يقول: أنا الملك أنا الملك ضحك رسول الله ﷺ تعجبا وتصديقا لقول الخبر ثم قرأ قوله تعالى { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } الزمر 67
وهذا الحديث رواه من هو من أعلم الصحابة وأعظمهم اختصاصا بالنبي ﷺ: عبد الله بن مسعود ورواه عنه وعن أصحابه من هو أجل التابعين وأتباع التابعين قدرا ورواه أيضا عبد الله بن عباس الذي هو من أعلم الصحابة في زمانه وأصحاب ابن مسعود وابن عباس من اعظم التباعين علما وقدرا عند الأمة
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ وفيهما أيضا من حديث ابن عمر في تفسير هذه الآية { وما قدروا الله حق قدره } الزمر 67 ما يناسب هذا الحديث ويوافق قول أهل الإثبات ويبين أن النبي ﷺ لم يكن ينكر على أهل الكتاب ما يخبرون به من الصفات التي تسميها النفاة تجسيما وتشبيها وإنما أنكر عليهم ما وصفوا الله تعالى به من النقائص والعيوب
ولهذا لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين أنهم ذموا أهل الكتاب بما يذمهم به نفاة الصفات ولا يذكرون لفظ التجسيم ونحوه من الألفاظ التي أحدثها المحدثون: لا بمدح ولا ذم ولا يقولون ما تقوله النفاة إن التوراة فيها تشبيه كما قال ابن سينا الكتاب العبراني كله من أوله إلى آخره تشبيه صرف
فإنه يقال له: ما تعني بقولك: إنه تشبيه أتعني أنه متضمن للإخبار بأن صفات الرب مثل صفات العباد أو متضمن لإثبات الصفات التي يوصف الخلق بما هو بالنسبة إليهم كتلك الصفات بالنسبة إلى الله؟
فإن أردت الأول فهذا كذب على التوراة فليس فيها الإخبار بأن صفات كصفات عباده بل فيها نفي التمثيل بالله
وإن أردت الثاني فهذا أمر لا بد منه لك ولكل أحد فإنك وأمثالك تقولون: إن الله موجود مع قولكم: إن الموجود ينقسم إلى واجب وممكن وتقولون وتقولون إنه عقل وعاقل ومعقول مع قولكم: إن اسم العقل يقع على العقول العشرة وتقولون: إنه علة للعالم مع قولكم: إن العلة تنقسم إلى واجب وممكن وقديم ومحدث وتقولون: إن له عناية مع أن لفظ العناية يقال على صفات العباد وتقولون: إنه مبدأ ومبدع ونحو ذلك من العبارات التي تسمون بها غيره فإنكم تطلقون اسم المبادئ على العقول وتطلقون الإبداع على العقول وتقولون: إن كل عقل أبدع ما دونه والعقل العاشر أبدع ما تحت فلك القمر وتقولون: إنه موجب بالذات مع أن لفظ الإيجاب يطلق على غيره
ويقولون: إنه عاشق ومعشوق وعشق مع أن لفظ العشق فيه من التشبيه واحتمال النقص مالا يخفى على عاقل وليس في الكتب الإلهية تسميته بعقل ولا عاشق ولا معقول ولا معشوق
ويقولون أيضا: إنه يلتذ ويبتهج ولفظ اللذة فيها من التشبيه واحتمال النقص ما لا يخفى على عاقل ويقولون إنه مدرك وأن اللذة أفضل إدراك لأفضل مدرك فيسمونه مدركا ومدركا
ثم أعجب من هذا كله انكم تقولون: الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة ومن هنا دخل من وافقكم في إثبات تشبه العبد بالرب في الذات والصفات والأفعال كصاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها ومن مشى خلفه من القائلين بالوحدة المطلقة والاتحاد وقالوا: إن الإنسان مثل الله وأن قوله: { ليس كمثله شيء } الشورى: 11 المراد أنه ليس كالإنسان الذي هو مثل الله شيء ويقولون إن الفلك إنما يتحرك تشبها بما فوقه فيجعلون العبد قادرا على أن يتشبه بالله وأن الفلك يتشبه بالله أو يتشبه بالعقل المشبه لله
فإذا كان في التوراة: أنا سنخلق بشرا على صورتنا يشبهنا أو نحو هذا فغايته أن يكون الله خالقا لمن يشبهه بوجه وأنتم قد جعلتم العبد قادرا على أن يتشبه بالله بوجه فإن كان التشبه بالله باطلا من كل وجه ولا يمكن الموجود أن يشبهه بوجه من الوجوه فتشبيهكم أنكر من تشبيه أهل الكتاب لأنكم جعلتم العبد قادرا على ان يتشبه بالرب وأولئك أخبروا عن الرب أنه قادر على أن يخلق ما يشبهه
فكان في قولكم إثبات التشبيه وجعله مقدورا للعبد وأولئك مع إثبات التشبيه إنما جعلوه مقدورا للرب فأي الفريقين أحق بالذم والملام؟ أنتم أم أهل الكتاب؟ إن كان مثل هذا التشبيه منكرا من القول وزورا وإن لم يكن منكرا من القول وزورا فأهل الكتاب أقوم منكم لأنهم تبعوا ألفاظ النصوص الإلهية التي أثبتت مقدورا لرب البرية وانتم ابتدعتم ما ابتدعتم بغير سلطان من الله
وأيضا فيقال: إنه ما من موجودين إلا بينهما قدر مشترك وقدر مميز فإنهما لا بد أن يشتركا في أنهما موجودان ثابتان حاصلان وأن كلا منهما له حقيقة: هي ذاته ونفسه وماهية حتى لو كان الموجودان مختلفين اختلافا ظاهرا كالسواد والبياض فلا بد أن يشتركا في مسمى الوجود والحقيقة ونحو ذلك بل وفيما هو أخص من ذلك مثل كون كل منهما لونا وعرضا وقائما بغيره ونحو ذلك وهما مع هذا مختلفان
وإذا كان بين كل موجودين جامع وفارق فمعلوم أن الله تعالى ليس كمثله شيء: لا في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله فلا يجوز ان يثبت له شيء من خصائص المخلوقين ولا يمثل بها ولا أن يثبت لشيء من الموجودات مثل شيء من صفاته ولا مشابهة في شيء من خصائصه سبحانه عما يقول الظالمون علوا كبيرا
وإذا كان المثل هو الموافق لغيره فيما يجب ويجوز ويمتنع فهو سبحانه لا يشاركه شيء فيما يجب له ويمتنع عليه ويجوز له وإذا أخذ القدر المطلق الذي يتفق فيه الخالق والمخلوق مثل: مسمى الوجود والحقيقة والعالم والقادر ونحو ذلك فهذا لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان والمخلوق لا يشارك مخلوقا في شيء من صفاته فكيف يكون للخالق شريك في ذلك؟ لكن المخلوق قد يكون له من يماثله في صفاته والله تعالى لا مثل له أصلا والقدر المشترك المطلق كالوجود والعلم والحقيقة ونحو ذلك لا يلزمه شيء من صفات النقص الممتنعة على الله تعالى فما وجب للقدر المطلق المشترك لا نقص فيه ولا عيب وما نفي عنه فلا كمال فيه وما جاز له فلا محذور في جوازه
وأما ما يتقدس الرب تعالى ويتنزه عنه من النقائص والافات فهي ليست من لوازم ما يختص به ولا من لوازم القدر المشترك الكلي المطلق أصلا بل هي من خصائص المخلوقات الناقصة والله تعالى منزه عن كل نقص وعيب وهذه معاني شريفة بسطت في غير هذا الموضع
وما يذكره هؤلاء من تعظيم علوم الأسرار والأمر بكتمانها عن الجمهور وقصور الجمهور عن إدراك حقائق هو كلام مجمل يقوله الصديق والزنديق
والمخالفون من نفاة الصفات الخبرية أو نفي الأوامر الشرعية من المتفلسفة ومن دخل معهم من متصوفة النفاة ونحوهم يشيرون إلى ذلك ويحملون ما يروى من الآثار الصحيحة والسقيمة على ذلك فالأثر المروي: إن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفه إلا أهل العلم بالله فإذا ذكروه لم ينكروه إلا أهل الغرة بالله تعالى وهذا الحديث وإن لم يكن له إسناد صحيح فقد ذكره شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي وأبو حامد الغزالي وغيرهما
لكن ذكر شيخ الإسلام عن شيخه يحيى بن عمار أن من هذا أحاديث الصفات الموافقة لقول أهل الإثبات
وأبو حامد قد يحمل هذا إذا تفلسف على ما يوافق أقوال الفلاسفة النفاة
وكذلك ما في البخاري عن علي حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله وقد حمله ابن رشد الحفيد على أقوال الفلاسفة الباطنية النفاة ومن المعلوم ان أقوال النفاة لا توجد في كلام الله ورسوله وإنما لا يحملها عقله أفضى إلى تكذيب الله ورسوله
والأمور الباطنة فيها إجمال فالملاحدة يدعون الباطن المخالف للظاهر وأما أهل الإيمان فالباطن الحق عندهم موافق للظاهر الحق فما في بواطنهم من المعارف والأحوال وتحقيق التوحيد ومقامات أهل العرفان موافق لما جاء به الكتاب والرسول يزداد صاحبها بأخبار الأنبياء إيمانا بخلاف الملاحدة كلما امعن الواحد منهم فيه بعد عن الله ورسوله
وقول ابن سينا هو الإقرار بالصانع مقدسا عن الكم والكيف والأين ومتى والوضع والتغير حتى يصير الاعتقاد أنه ذات واحدة لا يمكن أن يكون له شريك في النوع أو يكون له جزء وجودي كمي او معنوي إلى آخره
فكلامه هذا يتوهم الجاهل أنه تعظيم لله تعالى ومراده انه ليس لله علم ولا قدرة ولا إرادة ولا كلام ولا محبة وأنه لا يرى ولا يباين المخلوقات
قلت: وقد تكلمنا على هذا وعلى ثبوت الكليات في الخارج التي ذكرها في إشارته وشرحها شارحو إشاراته كالرازي والطوسي وابن كمونه اليهودي وأمثالهم فإنه ذكر دليل توحيدهم وقدم قبله مقدمات
كلام ابن سينا عن الصفات الذاتية والعرضية تعليق ابن تيمية عليه
قال في الإشارات: كل أشياء تختلف بأعيانها وتتفق في أمر مقوم لها: فإما أن يكون ما تتفق فيه لازما من لوازم ما تختلف فيه فيكون للمختلفات لازم واحد وهذا غير منكر وإما أن يكون ما تختلف فيه لازما لما تتفق فيه فيكون الذي يلزم الواحد مختلفا متقابلا وهذا منكر وإما أن يكون ما تتفق فيه عارضا عرض لما تختلف فيه وهذا غير منكر وغما أن يكون ما تختلف فيه عارضا عرض لما تتفق فيه وهذا أيضا غير منكر
قال الشارحون لكلامه: كل شيئين فلا بد أن يكونا متخالفين في هويتهما وتشخصهما لأن تشخص هذا لو كان حاصلا لذاك لكان هذا ذاك لا غيره والأشياء قد تكون متوافقة في شيء من المقومات كالأجناس العالية فإنها لا تكون متوافقة في شيء من المقومات وإن كانت ربما توافقت في شيء من الصفات العرضية
وإذا كان كذلك فإذا اتفقت في أمر مقوم لها كان ما به الاختلاف مغايرا لما به الاشتراك لا محالة فتكون هوية كل واحد منهما مركبة مما به شارك الآخر ومما به امتاز عن الآخر وعند ذلك فإما أن يكون ما به الاشتراك لازما لما به الاختلاف أو بالعكس أو يكون ما به الاشتراك عارضا لما به الاختلاف أو بالعكس
فأما الأول فهو غير منكر كفصول الأنواع الداخلة تحت جنس فإن طبيعة ذلك الجنس لازمة لطبائع تلك الفصول وكالوجود اللازمين للمقولات والتماثل والاختلاف والتضاد والتغاير اللوازم للحقائق الكثيرة المختلفة فإن السواد والبياض وإن كانا مختلفين لكنهما مشتركان في كون كل منهما ضد الآخر
وأما الثاني وهو كون ما به الاختلاف لازما لما به الاشتراك فهو محال كالناطق مع الحيوان لو كان لازما له لكان كل حيوان ناطقا
وأما الثالث والرابع فهما جائزان
قلت: وهذا الكلام مبني على أصول سلمها لهم من لم يفهمها مثل كلامهم في الفرق بين الذاتيات المقومة والعرضية اللازمة وكلامهم في تركب الأنواع من الأجناس والفصول ونحو ذلك
ونحن نبين ما يعرف الحق به فنقول: معلوم أن هذا الإنسان يشابه غيره في الإنسانية ويشابه سائر الحيوانات في الحيوانية وهذا معنى قولهم: متفقان في مسمى الإنسانية أو الحيوانية أو يشتركان في ذلك لكن نفس إنسانيته التي تخصه وحيوانيته التي تخصه لم يشركه فيها غيره أصلا وإن كان قد ماثله فيها وشابهه فمشابهة الشيء الشيء ومماثلته لا تقتضي أن يكون عين أحدهما يشاركه الآخر فيها أو في شيء من صفاتها القائمة بها فزيد المعين ليس فيه شيء من غيره أصلا ولا في شيء من صفاته القائمة به
فقول القائل: اشتركا في الإنسانية أو اتفقا فيها ونحو ذلك فيه إجمال فإن الاشتراك يراد به الاشتراك في الأمور الموجودة في الخارج كاشتراك الشركاء في العقار بحيث يكون لهذا بعضه ولهذا بعضه مشاعا أو مقسوما وإذا اقتسما ذلك كان لهذا بعضه ولهذا بعضه والمقسوم لا يصدق على كل من القسمين ولا يعمهما فهذا اشتراك في الكل وقسمة للكل إلى أجزائه كالقسمة التي ذكرها الفقهاء في كتبهم وقسمة النبي ﷺ الغنائم والمواريث ومنه انقسام الكلام إلى اسم وفعل وحرف
ومعلوم أن اشتراك الأعيان ف بالنوع أو الجنس وانقسام الأجناس إلى الأنواع والأشخاص ليس من هذا فإن هذا قسمة الكلي إلى جزئياته واشتراك الجزئيات في كلي يتناولها فالكليات لا توجد في الخارج كليات فلا بد إلا مشخصة معينة
وإذا قال القائل: الكلي الطبيعي موجود في الخارج وهو المطلق لا بشرط كالإنسان من حيث هو هو والحيوان من حيث هو هو فإن أراد بذلك أنه يوجد ما يصدق عليه المعنى الذي يقال له إذا كان في الذهن كليا مثل أن يوجد الشخص الذي يقال له إنسان وحيوان وجسم ونحو ذلك فقد صدق وإن أراد أنه يوجد الكلي كليا فقد أخطأ فإن الكلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه والمعين يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه فكيف يكون ذاك جزءا من هذا منحصرا في هذا؟ وهو يصلح لأن يدخل فيه من الأعيان أضعاف هذا؟ وكيف يكون الكبير جزءا من لا قليل والعظيم جزءا من الصغير؟ ولا ريب أن الذهن يتصور إنسانا مطلقا لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه فيكون كليا في التصور والذهن فإذا وجد فلا يوجد إلا معينا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه
فمن أراد بقوله: الكلي يوجد في الأعيان ما يراد بوجود الصور الذهنية في الخارج مثل قول القائل: ما كان في نفسي فقد حصل ولله الحمد وما كان في نفسي فقد فعله زيد ونحو ذلك فإن أول الفكرة آخر العمل والإنسانية يتصور في نفسه أشياء ثم يفعل ما تصوره ولا يريد بذلك أن نفس الصورة الذهنية التي تصورها وقصدها وجدت في الخارج بعينها ولكن وجد في الخارج ما هو مطابق لها موافق لها
وقد يقال: إن هذا هو هذا كما يقال للمكتوب أنه الملفوظ وللملفوظ إنه المعلوم وللمعلوم إنه الموجود فإن الأشياء لها وجود في الأعيان ووجود في الأذهان ووجود في اللسان ووجود في البيان: وجود عيني وعلمي ولفظي ورسمي فإذا كتب اسم زيد وقيل إن هذا هو زيد لم يرد بذلك أن الخط هو الصوت ولا أن الصوت هو العلم ولا أن العلم هو الشخص المعين بل الناس يعلمون أن القائل إذا قال: هذا هو زيد فالمراد هذا المكتوب اسمه زيد ونظائر هذا كثيرة فإذا قيل: إن الكلي وجد في الخارج بهذا الاعتبار فهو صحيح لأن الكلي يتصوره الذهن مطلقا غير مشروط بشرط فيوجد في الخارج ما يطابقه بمعنى انه يصدق عليه المطلق الذي لا يشترط فيه شرط فيوجد في الخارج ما يطابقه بمعنى انه يصدق عليه المطلق الذي لا يشترط فيه شرط إذا قيل: هذا حيوان هذا إنسان لكن إذا صدق عليه المطلق لا بشرط لم يلزم أن يكون قد وجد المطلق مطلقا لا بشرط فإن صدقه عليه يقتضي أن يكون صفة له ومحمولا عليه وهذا عين التقييد والتخصيص
وهذا كما إذا قلنا: هذا حيوان هذا جسم لم يلزم من ذلك أن يكون قد وجد حيوان مطلق فضلا عن أن يكون إنسانا أو فرسا أو نحو ذلك من الأنواع أو جسم معين مجرد عن أن يكون معينا من الأجسام المعينة
وقول القائل: المطلق لا بشرط ينفي اشتراط الإطلاق فإن ذلك هو المطلق بشرط الإطلاق وذاك ليس بموجود في الخارج بلا نزاع من هؤلاء المنطقيين أتباع أرسطو فإن المنطق اليوناني يضاف إليه ولهذا لا يذكرون فيه نزاعا وإنما يثبته في الخارج أصحاب أفلاطون وإذا لم يكن الإطلاق شرطا فيه لم يمتنع اقتران القيد به فيكون وجوده مقيدا وإذا كان وجوده مقيدا امتنع أن يكون مطلقا فإن الإطلاق ينافي التقييد
وإن قلت: المقيد يدخل في المطلق بلا شرط
قلت: وإذا دخل فيه هو إياه في الذات مغايرا له في الصفات كما إذا قلت: الناطق حيوان لم يكن هناك جوهران: أحدهما مطلق والآخر مقيد
وهذا أمر يشهد به الحس ولا ينازع فيه من تصوره فليس في الموجودات المعينة إلا صفاتها المعينة القائمة بها وكل ذلك مشخص معين وما ثم إلا عين قائمة بنفسها سواء سميت جوهرا أو جسما أو غير ذلك أو صفة لها: سواء سميت عرضا أو لم تسم بذلك
والمقصود أن الشيئين إذا اتفقا واشتركا في شيء كالإنسانية والحيوانية واختلفا وامتاز كل منهما عن الآخر بشيء كتعينة وتخصصه فكل ما اتفقا فيه واختلفا فيه يمكن أخذه مطلقا ومعينا فإذا أخذ معينا لم يكن واحد منهما شارك الآخر ووافقه في ما تعين فيه وإذا أخذ مطلقا أو كليا كان كل منهما قد شارك الآخر ووافقه في الكلي المطلق الذي يصدق عليهما ولكن الكليات في الأذهان وليس ف بالأعيان إلا ما هو معين مختص
لكن بين المعينات تشابه واختلاف وتضاد فإذا قيل: هذا الإنسان يشارك هذا في الإنسانية ويمتاز عنه بالتعين
قيل له: يشاركه في إنسانيته التي تخصه أو في مطلق الإنسانية؟ فالأول باطل ومخالف لقوله: ويمتاز عنه بالتعيين وإن أراد الثاني قيل له: وكذلك التعين فإنه يشاركه في مطلق التعين فلكل منهما تعين يخصه ويشتركان في مطلق التعين كما قلنا في الإنسانية
فقول هؤلاء: كل أشياء تختلف بأعيانها وتتفق في أمر مقوم لها فإما أن يكون ما تتفق فيه لازما لما تختلف فيه أو ملزوما له أو عارضا له أو معروضا له فالأول والثالث والرابع جائز والثاني يمتنع
يقال لهم: الأشياء المعينة كالإنسانيين والموجودين سواء قدرا واجبين أو ممكنين أو قدر أحدهما كذلك لم تتفق في أمر هو بعينه في هذا وفي هذا سواء سمي مقوما أو لم يسم فهذا الإنسان لم يوافق هذا في نفس إنسانيته وإنما وافقه في إنسانية مطلقة وتلك المطلقة يمتنع أن تقوم بالمعين فالتي وافقه فيها يمتنع أن تكون بعينها موجودة في الخارج فضلا عن أن تكون مقومة لشيء من الأشياء والأشياء المعينة لا تقوم بها ولا يقومها إلا ما هو مختص بها لا يشركها فيه غيره
فهذا الإنسان المعين لا يقومه ولا يقوم به ولا يلزمه ولا يعرض له قط إلا ما هو مختص به سواء كان جوهرا أو عرضا كما أن يده ورجله ورأسه مختصة به فما يقوم ببدنه ونفسه من الحياة والنطق والحس والحركة والجسمية وغير ذلك كل ذلك مختص به ليس بقائم بغيره
فليتدبر العاقل اللبيب هذا المكان الذي حصل بسبب الضلال فيه من فساد العقول والأديان ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى
وباشتباه هذا اشتبه الأمر على هؤلاء المنطقيين وعلى من قلدهم وأتبعهم فضلوا في العقليات المنطقيات والإلهيات ضلالا بعيدا وجعلوا الصور الذهنية الخيالية حقائق موجودة في الخارج حتى آل بهم الأمر إلى أن جعلوا لواجب الوجود الخالق للسماوات والأرض رب العالمين وجودا مطلقا في إذ انهم وعرضا ثابتا في نفوسهم ليس له حقيقة في الخارج ولا وجود ولا ثبوت ويقولون: وجوده معقول لا محسوس وإنما هو معقول في عقولهم كما يعقلون الكليات الثابتة في العقول فالوجود المطلق: كالحيوان المطلق والإنسان والجسم المطلق والشمس المطلقة والقمر المطلق والفالك المطلق ونحو ذلك مما لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان
وهذا هو نهاية التوحيد الذي زعموا أن الرسل جاءت به ولا ريب أن أقل أتباع الرسل أصح وأكمل عقلا من أن يجعل هذا ثابتا ف بالوجود الخارج فضلا عن أن يجعله رب العالمين مالك يوم الدين سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
وقوله إما أن يكون المتفق لازما أو ملزوما أو عارضا أو معروضا
فيقال: ما سميته متفقا ومشتركا هو ما جعلته مختلفا مميزا لازما له وملزوما يشتركان في العموم والخصوص والإطلاق والتعيين فالاشتراك والامتياز والاتفاق والاختلاف إذا أخذته باعتبار الذهن والخارج فكل شيئين اشتركا في أمر فذلك المشترك هو في الذهن وكل منهما هو في الخارج متميز فالحيوانان المشتركان في الحيوانية هما مشتركا في الحيوانية المطلقة ويمتاز أحدهما عن الآخر بالحيوانية الموجودة التي تخصه كما يشترك الناطقان في الناطقية ويمتاز أحدهما عن الآخر بالناطقية التي تخصه
وأما الأمور الموجودة في الخارج فبينها تشابه وتماثل واختلاف وتضاد ليس فيها شيء يشارك شيئا لا في ذاته ولا في صفة من صفاته
فقولهم في القسم الأول هو مثل فصول الأنواع الداخلة تحت جنس واحد فإن طبيعة ذلك الجنس لازمة لطبائع الفصول كالوجود والوجود والوحدة والتماثل والاختلاف والتضاد والتغاير اللوازم للحقائق الكثيرة
يقال لهم: فصول الأنواع: كالناطقية والصاهلية ونحوهما التي هي فصول أنواع الحيوان كالفرس والإنسان وغيرهما مما يدخل تحت جنس الحيوان إذا قيل طبيعة الجنس وهو الحيوان لازمة لطبائع هذه الفصول كما هو لازم لهذه الأنواع فإذا أخذت عين اللازم والملزوم في الخارج كان التلازم من الطرفين يلزم من ثبوت أحدهما ثبوت الآخر ومن انتفائه انتفاؤه فلا يقال إن أحدهما أعم من الآخر ولا أخص
وإذا قيل: إنهما يشتركان في الحيوانية وكل منهما متميز عن الآخر بالناطقية والصاهلية فكل من هذه الموجودات متميزعن غيره بحيوانيته كما هو متميز بناطقيته وصاهليته ونوع الناطقية لا يميز معينا عن معين وإنما يميز نوعا عن نوع والأنواع إنما هي في الأذهان لا في الأعيان فإن الحيوان إذا لزم الناطق والصاهل فنفس الحيوان هو نفس الصاهل ونفس الناطق ليس الحيوان فيه
وهم قد يقولون: إن في الناطق والصاهل حيوانا وهذا غلط فإن الحيوان هو الموصوف بأنه صاهل وأنه ناطق وليس في الجوهر المعين جوهر آخر: لا مطلقا ولا معينا بل هو جوهر واحد موصوف بهذا وبهذا بل وهذا الصاهل المعين هو حيوان وليس هو هذا الصاهل المعين الذي هو حيوان فضلا عن أن يكون هذا الناطق المعين
ولو قيل: إن هذا الصاهل المعين فيه حيوان فليس الحيوان الذي فيه هو الحيوان الذي فيه الصاهل المعين فكيف بما في الناطق وأمثاله؟
وإذا أراد أن الطبيعة العامة أو المطلقة أو الكلية لازمة لهذه الطبائع الخاصة فالمعنى الصحيح: أن هذا المعنى الذي يوجد في الذهن عاما مطلقا كليا والذي يوجد أعيانه في الخارج أكثر من أعيان الطبيعة الخاصة هو لازم للطبيعة الخاصة فحيث كان ناطق أو صاهل كان هناك ما هو حيوان وليس إذا كان حيوان يلزم أن يكون هناك ناطق أو صاهل
وهنا كلام ليس هذا موضعه وهو أن الحيوانية التي للإنسان مثلا هي مماثلة للتي للفرس مخالفة لها فهؤلاء يقولون: هي مماثلة والمختلفات يلزمها امور متماثلة وغيرهم يقولون: بل لوازم المختلفات مختلفة وليست الحيوانية التي في هذا النوع مثل الحيوانية التي في النوع الآخر
وهذا نظير اختلافهم في الحكم الواحد بالنوع: هل يجوز تعليله بعلتين مختلفتين؟ فمن قال بالأول جوز ذلك
ومن قال بالثاني منع ذلك وقال: اختلاف العلل يقتضي اختلاف الأحكام ويجيبون عن قول من يقول إن الملك نوع واحد وهو يستفاد بالبيع والإرث والاتهاب ونحو ذلك بأن الملك أنواع مختلفة وليس هذا مثل هذا وإن اشتركا في كثير في كثير من الأحكام وكذلك حل الدم الثابت بالردة والقتل والزنا
وقد عورضوا بنقض الوضوء الثابت بأسباب مختلفة فأجابوا بأنه قد يختلف الحكم بالقوة والضعف
وهذا الآن كلام في تماثل الأحكام والعلل المختلفة وتماثل لوازم الأنواع المختلفة وأما كون هذا المعين ليس هو هذا المعين فهذا مما لا نزاع فيه
والمقصود هنا أن المتفقات في أنر من الأمور إذا قيل: إن ما به الاشتراك لازم لما به الامتياز فما اشتركا فيه لا يفارق ما به من الامتياز من جهة كونه مشتركا ولا يوجد معه فضلا عن أن يلزمه إذ الاشتراك إنما هو فيه إذا كان في الذهن وهو من هذه الجهة لا يوجد في الخارج ولكن الوصف الذي يقال إنهما تشاركا فيه معناه انه يوجد لهذا معينا ويوجد لهذا من نوعه آخر معين والمعين لا اشتراك فيه فلا يظن انه وجد في الخارج ما اشتركا فيه في الخارج وإن كان مشتركا فيه في الذهن
واعتبر عموم المعاني والاشتراك فيهما بعموم الألفاظ والاشتراك فيهما فإذا قلت: لفظ إنسان يشترك فيه هذا وهذا ويعمها ولفظ حيوان يشترك فيه أكثر مما يشترك في لفظ إنسان لم يكن بين المسميات في الخارج شيء اشتركت فيه فليس بين هذا الإنسان وهذا الإنسان ولا بينهما وبين الفرس في الخارج شيء مشترك بينهما لأجل الاشتراك والاتفاق في لفظ إنسان ولفظ حيوان فكذلك اتفاقهما واشتراكهما في المعنى المدلول عليه بهذا اللفظ
وكذلك اتفاقهم واشتراكهم في الخط المرقوم المطابق لهذا اللفظ فالخط يطابق اللفظ واللفظ يطابق المعنى والثلاثة تتناول الأفراد الموجودة في الخارج وتعمها والأعيان متفقة فيها مشتركة من غير أن يكون بين الأعيان في الخارج شيء اشتركت فيه لكن بينها تشابه بحسب ذلك المعنى الشامل لها واللفظ المطابق له والخط المطابق للفظ وبذلك يتبين الكلام في القسم الثاني وهو أن ما به الاختلاف لازم لما به الاشتراك انه قسم ممتنع فإنه ليس في الخارج إلا ما به الاختلاف الذي هو ضد الاشتراك إذ ليس في الخارج مشترك بل كل شيء فهو نفسه ليس مشاركا لغيره في شيء فيكون مخالفا له إذا جعل الاختلاف قسم الاشتراك وأما الاختلاف الذي هو قسيم التشابه ن فهذا قد يكون في الخارج وقد لا يكون فالبياضان المتماثلان هما غير مختلفين بهذا الاصطلاح وهما مختلفان بالاصطلاح الأول الذي هو بمعنى الامتياز فإذا كان كل من البياضين ممتازا عن الآخر ببياضه الذي يخصه فهو ممتاز عنه أيضا بلونيته وعرضيته التي تخصه وكذلك الإنسانان فما امتاز به كل منهما عن الآخر لازم للمشترك الكلي الذي في الذهن فذاك ليس بلازم ولا ملزوم إذ يمكن تقدير حيوان ولون مجردا في الذهن ليس له لازم ولا ملزوم وأما الحيوان الموجود في الخارج فهو حيوان معين يلزمه معين إما إنسان معين وإما فرس معين وإما نحو ذلك وهذا المعين حاصل مع هذا المعين أبدا ولكن ليس لازما لحيوان آخر فإذا عدم هذا الإنسان المعين عدم هذا الحيوان المعين فإذا وجد آخر لم يكن هو المستلزم لهذا المعين فالحاصل أن كل موجود في الخارج بعينه فجميع صفاته اللازمة متلازمة يلزم من وجود إنسانيته وجود حيوانيته ويلزم من وجود حيوانيته وجود إنسانيته