الوجه التاسع عشر
قوله: والأول الواجب يعقل تلك الجواهر مع تلك الصور لا بصور غيرها بل بأعيان تلك الجواهر والصور وكذلك الوجود على ما هو عليه فإذن لا يعزب عنه مثقال ذرة من غير لزوم محال من المحالات المذكورة
فيقال له: ما هي الصورة التي يعقلها مع الجواهر؟ أهي / صورة عقلية قائمة به؟ فهذا عندك باطل وليس عندك إلا الموجودات
أم صور أخرى منفصلة عنه مقارنة للموجودات فيكون علمه بها خارجا عن ذاته مقارنا لها؟ وهذا أيضا باطل كما تقدم
أم تعني بالصور الماهيات التي تدعي أنت وسلفك أنها ماهيات غير مجعولة مقارنة للموجودات؟ فتلك لم تذكرها وكيف نعلمها وهي عندك غير مجعولة له حتى يكون جعله لها يوجب العلم بها كما ذكرت؟ ولم يرد شيئا من ذلك وإنما أراد بالصور: الصور العقلية القائمة بالجواهر أي تعقل الجواهر وتعقل عقلها للموجودات ومن جملة عقلها للموجودات عقلها له فهو يعلم علمها له ولكل شيء وهو نفسه ليس له علم عنده إلا وجود المخلوقات فهل هذا القول إلا من أعظم الأقوال فسادا في العقل والدين؟
ثم قوله: يعقل تلك الجواهر بأعيان تلك الجواهر من العجب فإنه ليس عنده موجود إلا تلك الجواهر فما العقل الذي يكون به؟ أهو عقل يتصف به؟ فعنده لا يتصف بعقل يقوم به بل عقله نفس مخلوقاته
فحقيقة قوله: إنه يعقل تلك الجواهر التي هي عقله وهي معقوله ليس له عقل يقوم به
الوجه العشرون
أن يقال: حقيقة القول هذا الرجل هو قول غلاة النفاة للعلم من سلفه وهو أن الخالق تعالى لا يعلم شيئا: لا نفسه ولا غيره فإن العلم لا يكون إلا بقيام صفة به وإذا كان قيام الصفات به ممتنعا عندهم امتنع كونه عالما بنفسه وبغيره فهذا حقيقة ما قاله
وأما كون المخلوقات هي العلم فكلام لا حقيقة له وإن كان يظن من يجهل معناه أن فيه إثباتا لعلم الله فمن تصوره حق التصور علم أنه ليس فيه إثبات لعلم الله وعلم بذلك أن ابن سينا وابن رشد وأبا البركات ونحوهم من الفلاسفة أقرب إلى صحيح المنقول وصريح المعقول من النفاة الملحدين الذين قالوا في علم الله مثل هذا الافتراء
ومعلوم أنه إنما دعاهم إلى ذلك القول بنفي الصفات والأحوال الاختيارية التي تقوم بذات الله وظنهم أن ذلك مستلزم للكثرة التي يجب نفيها ومستلزم لتغير الأحوال الذي يجب نفيه
ونفي هذين هو الذي أوقع نفاة العلم في نفيه فإنهم رأوا إثبات العلم لا يمكن إلا مع إثبات الصفات اللازمة والأحوال العارضة وظنوا وجوب نفي هذين
وإذا كان العلم مستلزما لهذين فلازم الحق حق لا سيما ومهما قدر من توهم تنزيه وتعظيم في نفي لوازم العلم - لأن ثبوت العلم مستلزم ما يظن نقصا من تجسيم وحلول حوادث وغير ذلك - فنفي العلم فيه من النقص والعيب ما هو أحق بتنزيه عنه من لوازم العلم ونفي ما يناقض العلم هو أولى بالنفي من نفي لوازم العلم
والأدلة العقلية الصريحة مع النقلية الصحيحة إنما تدل على إثبات العلم ولوازمه لا يدل شيء منها على نقيض ذلك بل كل ما يظن من لوازم العلم أنه منفي بدليل العقل يوجب ثبوته لا نفيه ولكن هم استسلفوا مقدمات باطلة ظنوها عقلية واحتاجوا إلى القول بلوازمها فألجأهم ذلك إلى الأقوال الباطلة المخالفة لصريح العقول وصحيح المنقول مع أنها من أعظم الفرية على رب العالمين وأعظم الجهل بما هو عليه سبحانه من نعوت الكمال دع ما في ذلك من تكذيب رسله والإلحاد في أسمائه وآياته
والمقدمات الفاسدة التي بنوا عليها أقوالهم هي نفيهم صفاته سبحانه وظنهم أنه لا تقوم به المعاني وإن كانت قديمة النوع أو العين ولهذا كان من تكلم منهم مع التزام هذا الأصل فكلامه ظاهر البطلان مع ما فيه من التناقض
وقد تكلم في ذلك السهروردي المقتول صاحب التلويحات وحكمة الإشراق وغيرهما مع تألهه على طريقتهم ومع أنه في حكمة الإشراق سلك طريقا لم يقلد فيها المشائين بل بين فساد أقوالهم فيها في مواضع وكان كلامه في مواضع متعددة خيرا من كلامهم وإن كانت سمة الإلحاد تتناولهم كلهم
فالمقصود بيان الحق وإذا كان بعضهم ينازع بعضا ويرد عليه وكان أحدهما أقرب إلى الحق في ذلك الموضع من الآخر كان بيان رد بعضهم على بعض بما قاله من الباطل مما يؤيد الله به الحق
فرد عليهم دعواهم أن العقول عشرة وهؤلاء المتأخرون يقولون: إنها الملائكة بلسان أهل الملل ويسميها صاحب حكمة الإشراق الأنوار ويقول: إن قدماء الفلاسفة وفلاسفة الفرس والهند يقولون: هي كثيرة أكثر مما أثبته المشاؤون مع أنا قد بينا في غير هذا الموضع أن ما أثبته المشاؤون من العقول لا حقيقة له في الخارج البتة وإنما الحق ما أثبته الله ورسوله من الملائكة التي أخبرت بها الأنبياء ودلت عليها الدلائل العقلية
والمقصود هنا مسألة العلم
كلام السهرودي في حكمة الإشراق
قال السهروردي: فصل لما تبين أن الإبصار ليس من شرطه انطباع شبح أو خروج شيء بل كفى عدم الحجاب بين الباصر والمبصر فنور الأنوار ظاهر لذاته فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض لا يحجبه شيء عن شيء فعلمه وبصره واحد ونوره قدرته إذ النور مباين لذاته
قال: والمشاؤون وأتباعهم قالوا: علم واجب الوجود ليس بزائد عليه بل هو عدم غيبته من ذاته المجردة عن المادة وقالوا: وجود الأشياء عن علمه بها
قال: فيقال لهم: إن علم لزم من العلم شيء فيقدم العلم على الأشياء وعلى عدم الغيبة فإن عدم الغيبة عن الأشياء يكون بعد تحققها فكما أن معلوله غير ذاته فالعلم بمعلوله غير العلم بذاته
قال: وأما ما يقال: إن علمه بلازمه منطو في علمه بذاته فكلام لاطائل تحته فإن علمه سلبي عنده فكيف يندرج العلم بالأشياء في السلب؟ والتجرد عن المادة سلبي وعدم الغيبة أيضا سلبي فإن عدم الغيبة لا يجوز أن يعني به الحضور إذ الشيء لا يحضر عند ذاته فإن الذي حضر غير من يكون عنده الحضور فلا يقال إلا في شيئين - بل أعم فكيف يندرج العلم بالغير في السلب؟ ثم الضاحكية غير الإنسانية فالعلم بها غير العلم بالإنسانية والضاحكية علمها عندنا ما انطوى في الإنسانية فإنها ما دلت مطابقة أو تضمنا عليها بل دلالة خارجية فإذا الضاحكية التي احتجنا في العلم بها غلى صورة أخرى ودون تلك الصورة إنما هي معلومة لنا بالقوة
قال: وما ضربوه من المثال في الفرق بين العلم التفصيلي بمسائل وبين العلم بالقوة بها كمسائل ذكرت فوجد الإنسان من نفسه ملكة وقدرة على الجواب لهذه المسائل المذكورة فهذه القوة أقرب مما كانت قبل السؤال فإن القوة مراتب ولا يكون عالما بجواب كل واحدة على الخصوص ما لم يكن عنده صورة كل واحد وواجب الوجود منزه عن هذه الأشياء ثم إذا كان ج غير باء فسلب باء كيف يكون علما بهما وعناية بكيفية ما يجب أن يكونا عليه من النظام وإن كان علمه بالأشياء هو العلم المتقدم؟
قال: فإذا الحق في العلم هو قاعدة الإشراق وهو أن علمه بذاته هو كونه نورا لذاته وظاهرا لذاته وعلمه بالأشياء كونها ظاهرة له إما أنفسها أو متعلقاتها التي هي مواضع الشعور المستمر للمدبرات العلوية وذلك إضافة وعدم الحجاب سلبي
قال: والذي يدل على أن هذا القدر كاف هو أن الإبصار إنما كان بمجرد إضافة ظهور الشيء للمبصر مع عدم الحجاب فإضافته إلى كل ظاهر له إبصار إدراك له وتعدد الإضافات العقلية لا يوجب تكثرا في ذاته
قال: وأما العناية فلا حاصل لها
الرد عليه
فيقال: قد بين هو بطلان قولهم وما أختاره هو أيضا باطل فإن قوله: علمه بذاته كونه نورا لذاته وظاهرا لذاته علمه بالأشياء كونها ظاهرة له وذلك إضافة وعدم الحجاب أمر سلبي
يقال له: هذا الذي أبنته من الظهور والإضافة ورفع الحجاب هو عدم محض أو يتضمن أمرا ثبوتيا فإن كان عدما محضا لم يكن هناك علم أصلا فإنا نعلم بصريح العقل أن علم العالم بالمعلومات ليس عدما محضا بل نعلم أن قولنا: لا يعلم هو العدم فنعلم أن نفي العلم عدم وإثباته وجود
ومما يبين ذلك أن ثبوت العلم ونفيه يتناقضان فإن كان ثبوته عدما فنفيه ثبوت فيلزم إذا قيل: لا يعلم أن نكون أثبتنا شيئا ومعلوم أن هذا قلب للحقائق
وأما قوله: والذي يدل على أن هذا القدر كاف هو أن الإبصار إنما كان بمجرد إضافة ظهور الشيء للمبصر مع عدم الحجاب
فيقال: إن ادعيت أن الإبصار الذي هو ظهور المبصر للبصر إضافة هي عدم محض كان القول في هذه المقدمة كالقول في الدعوى فإن الإنسان يحس من نفسه عند الرؤية أمرا وجوديا مخالفا لحالة عدم الرؤية كما يجد من نفسه ذلك في العلم
فدعوى كون الرؤية أمرا عدميا مثل دعوى كون العلم أمرا عدميا ومضمون الأمرين أن الحس والعقل أمر عدمي وأن مشاهدة المحسوسات والعلم بالمعقولات أمر عدمي
ومعلوم أن من لم يشهد شيئا ولم يعلمه فقد عدم الرؤية والعلم فإن كان بعد الرؤية والعلم لم يحصل له إلا عدم فلا فرق بين أن يرى ويعلم وبين أن لا يرى ولا يعلم وهذا تسوية بين الأعمى والبصير العالم والجاهل
وأصدق الكلام كلام الله الذي قال: { وما يستوي الأعمى والبصير } [ فاطر: 19 ] وقال: { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } [ الزمر: 9 ] ومعلوم بصرائح المعقول أن البصير أكمل من الأعمى والعالم أكمل من الجاهل
ومعلم هؤلاء أرسطو زعم أنه سبحانه أن لا يعلم ولا يبصر أفضل في حقه من أن يعلم ويبصر وهؤلاء الذي خالفوا معلمهم واستقبحوا له هذا القول وأثبتوا له أمرا حال الرؤية والعلم يمتاز به عن حاله إذا لم ير ولم يعلم فذاك فضل الجاهل الأعمى على العالم المبصر وهؤلاء يلزمهم التسوية بينهما
وأيضا فيقال له: قولك: علمه بذاته كونه نورا لذاته وظاهرا لذاته وعلمه بالأشياء كونها ظاهرة له إن أردت بقولك: كونه نورا لذاته وظاهرا لذاته أي كونه مرئيا لذاته ومعلوما لذاته - كان حقيقة الكلام: علمه بذاته كونه معلوما لذاته وهذا أمر معلوم ليس فيه قدر زائد على ما دل عليه قولنا: هو عالم بذاته
وإن أردت بذلك: أن علمه بذاته كونه في نفسه بحيث يظهر لذاته نورا يتجلى لذاته - كان المعنى أن علمه بذاته معناه: أن ذاته متصفة بما يجب لأجله أن يظهر لذاته فهي متصفة بما يوجب أن تكون معلومة له ظاهرة
وكذلك إن أردت أنها متصفة بما يوجب أن تكون عالمة ظاهرا لها غيرها وكذلك إن فسر بما يوجب كونها عالمة معلومة فسواء فسر ذلك بنفس كونه عالما أو معلوما أو مجموعهما أو رائيا أو مجموعهما إنما يوجب أحد هذه الأمور الستة
فهذا كله لا يمنع كون العلم صفة ثبوتية ولا يقتضي أن العلم مجرد نسبة عدمية بل إذا فسره بمجرد أمر عدمي كان هذا بمنزلة القول الذي رده وهو قولهم: إنه ليس بزائد عليه بل هو عدم غيبته عن ذاته المجردة عن المادة فإذا كان يجعل الظهور الذي أثتبه أمرا عدميا فهو بمعنى عدم الغيبة الذي أثبتوه وأكثر ما يقال إنهم جعلوا العلم نفس عدم الغيبة وأنا أجعله نسبة تستلزم عدم الغيبة فهم فسروه بعدم الغيبة وأنا أفسره بالنسبة
فيقال له: هذه النسبة: إن لم تكن موجودة فهي من جنس عدم الغيبة
ويقال للجميع: عدم الغيبة يكون معه علم بنفسه أو مجرد عدم الغيبة عن نفسه هو العلم؟
فإذا قالوا بالأول أصابوا وهو قول الرسل وإن قالوا: بل نفس عدم الغيبة هو نفص العلم كان هذا معلوم البطلان فإنه ما من موجود من الموجودات إلا وليس هو غائبا عن نفسه مع كونه كثير منها ليس عالما بنفسه فعلم أن حقيقة العلم أمر مغاير لحقيقة عدم الغيبة
وإن قالوا: إنما قلنا: هو عدم غيبته عن ذاته المجردة قيل: الجواب من وجوه :
أحدها: أن حقيقةالعلم: إن كان هو عدم الغيبة لم يختلف ذلك بمعلوم ومعلوم فإن العلم يتعلق بكل معلوم وكل شيء يمكن أن يكون معلوما وهو غير غائب عن ذاته فيجب أن يكون كل شيء معلوما لنفسه ويكون علمه بنفسه أولى من علم غيره به لكون عدم غيبته عن نفسه أولى من عدم غيبته عن غيره
الثاني: أن الشيء كما لا يغيب عن نفسه قد لا يغيب عن غيره فإن كان العلم عدم الغيبة فكل ما كان حاضرا لشيء يجب أن يكون عالما به
الثالث: أن يقال: عدم غيبته عن ذاته المجردة ما تعنون بقولكم: المجردة؟ إن أردتم ذاته المعقولة أو المعلومة أو التي يمكن أن تعقل أو تعلم ونحو ذلك من العبارات الدالة على كونه عالما أو معلوما أو يمكن كونه عالما أو معلوما كان معنى الكلام: أنه عدم الغيبة عن ذاته التي هي عالمة أو معلومة أو يمكن أن تكون كذلك
ومعلوم أن هذا أيضا عدم فكل ما كانت ذاته عالمة ومعلومة إذا لم تغب ذاته عن ذاته كان عالما بها وأما إن أمكن أحدهما دون الآخر لم يجب ذلك وإن أمكنا معا فعدم الغيبة يستلزم العلم وعدم الغيبة مستلزم للعلم لا أنه نفس العلم
وإن قال: أعني بالمجردة أنها ليست جسما ولا مدبرة لجسم
فيقال: أولا: هذا بناء على ثبوت مجردات بهذا الوصف وجمهور العقلاء ينكرون هذا - حتى من يعظم هؤلاء الفلاسفة المشائين: أرسطو وأتباعه لما تأملوا كلامهم في العقول والنفوس وجدوه باطلا - إما أن يقولوا: ليس قائما بنفسه إلاالجسم كما يقوله ابن حزم وغيره
وإما أن يقولوا: الفرق بين النفس والعقل ليس إلا فرقا عارضا كنفس الإنسان التي هي حال مقارنتها للبدن: نفس وحال مفارقتها: عقل كما يقوله أبو البركات وغيره
وإما أن يقولوا: هذه العقول التي يثبتها هؤلاء المتفلسفة لا تزيد على العقل الذي هو عرض قائم بعاقل وإثبات عقل هو قائم بنفسه ليس جسما هو باطل وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر
والمقصود أن لفظ التجريد فيه إجمال وإذا فسروه فقد يفسرونه بما يعلم بطلانه أو بما لا دليل على صحته
الوجه الرابع: أن يقال: هب أنه ثبت التجريد بالمعنى الذي يدعونه لكن شعور الشيء بنفسه ليس مشروطا بكونه مجردا ولا مجرد كونه مجردا موجب للعلم بنفسه فإنه إن قدر أن المجرد ليس بحي لم يكن شاعرا فضلا عن أن يعلم أنه عالم
وإذا قيل: كل مجرد حي
قيل: فلا بد أن يقال هذا بالدليل فإن هذا ليس معلوما بنفسه وأيضا فكل حي شاعر سواء قيل: إنه مجرد أو قيل: إنه ليس بمجرد فبدن الإنسان يشعر بأمور كثيرة مع كونه جسما غير مجرد عن المادة على اصطلاحهم
وأما ما اعترض به على قولهم: إن وجوده بالأشياء عن علمه بها وأن هذا يوجب كون الأشياء معلومة له قبل وجودها فتكون ثابتة في علمه وهي أشياء في علمه فيلزم كون علمه أمرا ثبوتيا ويلزم التعدد في علمه - فاعتراض متوجه
وكذلك إذا فسروا العلم بعدم الغيبة عنها فعدم الغيبة لا يكون إلا بعد تحققها فيلزم أن يكون عالما بها بعد تحققها وأن ذلك مغاير لعلمه بها قبل وجودها فإن ذلك العلم سبب وجودها بخلاف الثاني
وكذلك قوله: كما أن معلوله غير ذاته فالعلم به غير العلم بذاته وهذا لازم لأنهم إنما نفوا كون العلم ثبوتيا لما يستلزم من تكثر العلوم وتغيرها إذ كان العلم بهذا غير العلم بهذا
وإذا قالوا: إنه يعلم معلوله ويعلم نفسه لزم أن يكون هذا العلم ليس هذا العلم
وأما قولهم: إن علمه بالمعلول يندرج في علمه بالعلة فقد رده بأمور :
أحدها: أن العلم عندهم سلبي وكذلك التجرد عن المادة وكذلك عدم الغيبة والسلب لا يتضمن العلم بالأشياء وهذا الذي قاله صحيح مع ما تقدم من أن ذلك السبب ليس هو علما فلا هو علم ولا متضمن لعلم
وإذا قدر أن ذلك السلب علم كان تقديرا باطلا وحينئذ فهل يقال: إنه يتضمن غيره من السلوب هذا مما قد ينازعونه فيه ولكن له أن يقول: إن السلب إنما يتضمن غيره غذا كان أعم منه وليس هنا سلب عام ليتضمن سلبا خاصا بل السلب عندهم نفي معنى زائد على نفسه أو نفي المادة عنه أو نفي الغيبة عنه وكل هذا سلب خاص لا يتضمن سلبا عاما
الأمر الثاني: أنه قد بين لهم أن المندرج في غيره هو ما يدل عليه بالتضمن لا بالالتزام فالدال على غيره بالالتزام لا بالتضمن لا يكون مشتملا عليه ولا يكون الثاني مندرجا فيه ومثل ذلك اللوازم الخارجة عن الماهية على أصلهم كالضاحكية فإن الإنسانية ما انطوت على الضاحكية ولا انطوى علم الضاحكية في علم الإنسانية فإنها ما دلت عليها مطابقة ولا تضمنا بل دلالة خارجية فإن هذه اللوازم التي احتجنا في العلم بها غلى صورة أخرى إنما هي معلومة لنا بالقوة لا بالفعل
فإذا جعلوا علمه بمفعولاته كذلك لزم أن يكون عالما بها بالقوة لا بالفعل وهم قد يضربون لقولهم مثالا وهو العلم بالأشياء جملة مع العلم بها تفصيلا فإن العلم بالمفصل يندرج في العلم بالمجمل وإن كان العلم بالمجمل متضمن تلك التفاصيل وشبهوا ذلك بمن سئل عن مسائل فقد يستحضر العلم بجوابها مفصلا وقد يجد من نفسه علما بجوابها مجملا لم يستحضر العلم بجوابها مفصلا وقد يجل من نفسه علما بجوابها مجملا لم يستحضر تفصيله فيما بعد فأجاب بأن هذا علم بالقوة والقوة مراتب فهو بعد السؤال حصل له من القوة على الجواب أعظم مما كان حاصلا قبله وأما العلم بجواب كل مسألة بخصوصها فلا يحصل إن لم يكن عنده صورة العلم بجواب كل واحدة
ثم ادعى الأصل الذي شاركهم فيه وهو قوله: وواجب الوجود منزه عن ذلك بناء على أنه عندهم لا تقوم به المعاني والصفات المتعددة ومن هذا الأصل منشأ ضلالهم
قال: وإذا كان أحد الشيئين غير الآخر فكيف يكون سلب أحدهما علما بهما وعناية بكيفية ما يجب أن يكونا عليه من النظام؟ وذلك أنهم يقولون: هو وجود مجرد عن المادة والمجردات غير الماديات فكيف يكون سلب المادة علما بالمجرد والمادة وعناية بكيفية ما يجب أن يكونا عليه من النظام؟ كيف وهم يقولون: إنه وجود مشروط بسلب كلام ثبوتي فهو وجود بسلب كل ما يعرف من الحقائق وتلك الحقائق مغايرة له فكيف يكون سلبها عنه علما به وبها؟ وعناية بكيفية ما يجب أن تكون الحقائق معه عليه؟
فحقيقة قولهم: إنهم جعلوا العلم به والعلم بكل واحد واحد من المخلوقات وعنايته بالمخلوقات المتضمنة لإرادته وحكمته التي باعتبارها انتظمت المخلوقات - جعلوا هذا كله أمرا سلبيا وهو التجرد أو عدم الغيبة أو العقل الذي ليس بمعنى زائد على ذاته وهو عندهم وجود مقيد بسلب جميع الحقائق عنه وهذا مما يعلم بصريح العقل بطلانه في الخارج
فإن الموجودين لا يكون المميز بينهما عدما محضا ولو قدر ثبوت هذا لكان كل موجود خيرا منه لأنه امتاز بوصف ثبوتي ومن قال من متأخريهم: له وجود خاص غير هذا الوجود فلم يعرف حقيقة قولهم فإن الوجود الخاص إن امتاز بأمر وجودي فليس هو قولهم وإن لم يميز إلا بالسلب فيكون هذا هو الموجود قد شارك الموجودات في مسمى الوجود وامتاز عنه بالسلب فتكون سائر الموجودات خيرا منه لو كان له وجود
وبيان بطلان أقوالهم النافية للصفات يطول وإنما القصد هنا إبطال بعضهم لقول بعض فإن هذا يؤنس نفوسا كثيرة قد تتوهم أنه ليس الأمر كذلك
فصل تابع كلام ابن سينا في مسألة علم الله تعالى
قال ابن سينا في تمام مسألة العلم: ونحن قد بينا في كتب أخرى أن كل صورة لمحسوس وكل صورة خيالية فإنما ندركها بآلة متجزئة
فيقال له: هذا إن كان حقا فهو منتقض على أصلك بعلمه بالأفلاك والكواكب فإنها محسوسة وعندك أنه يعلمها بأعيانها
وقد قال في بيان أن كل صورة لمحسوس وكل صورة خيالية فإنما ندركها بآلة متجزئة وأن مدرك الجزئيات لا يكون عقلا بل قوة جسمانية: أما المدرك من الصور الجزئية كما تدركه الحواس الظاهرة على هيئة غير تامة التجريد والتعرية عن المادة ولا نجرده أصلا عن علائق المادة فالأمر فيه واضح سهل وذلك لأن هذه الصور إنما تدرك ما دامت المواد موجودة حاضرة والجمس الحاضر الموجود إنما يكون موجودا حاضرا عند جسم وليس يكون حاضرا عند ما ليس بجسم فإنه لا نسبة له غلى قوة تفرده من جهة الحضور والغيبة فإن الشيء الذي ليس في مكان لا يكون للشيء المكاني إليه نسبة في الحضور عنده والغيبة عنه بل الحضور لا يقع إلا مع وضع وقرب أو بعد للحاضر عند المحضور وهذا لا يمكن إذا كان الحاضر جسما إلا أن يكون المحضور جسما او في المحضور وهذا لا يمكن إذا كان الحاضر جسما إلا أن يكون المحضور جسما أو في جسم
قال: وأما المدرك للصور الجزئية على تجريد تام من المادة وعدم تجريد البتة من العلائق كالخيال فهو لا يتخيل إلا أن ترتسم الصورة الخيالية فيه في جسم ارتساما مشتركا بينه وبين الجسم
قال: ولتفرض الصورة المرتسمة في الخيال: صورة زيد على شكله وتخطيطه ووضع أعضائه بعضها عند بعض فنقول: إن تلك الأجزاء والجهات من أعضائه يجب أن ترتسم في جسم وتختلف جهات تلك الصورة في جهات ذلك الجسم وأجزاؤها في أجزائه
قال: ولننقل صورة زيد غلى صورة مربع ثم فرض مربعين متساويين من كل جهة وقرر أنه لا يمتاز أحدهما عن الآخر إلا بمحله
معارضة ابن ملكا لابن سينا
وقد اعترض عليه أبو البركات بما مضمونه أن الأجسام المرئية والمتخيلة كثيرة ومحل ذلك في الجسم لا يكون أكثر من مجموع جسم الإنسان وجسم الإنسان لا يسع مقادير هذه الأجسام
قال أبو البركات: أول المعارضة أن نناقض فنقول وندعي نقيض المسألة المصدر بها وهو أن مدرك الجزئيات فينا من المبصرات والمسموعات وسائر المحسوسات ليس بقوة جسمانية وإذا ثبت في هذه التي هي الأظهر صار بطلانه في النقيض الأخفى والأضعف يقينا
قال: وذلك أن القوة الجسمانية فينا لا يكون محلها أكبر من جسم الإنسان الواحد بجملته وقد قالوا: إنه جزء صغير من أجزائه حيث جعلوا محل القوة الخيالية جزءا من جوهر الدماغ الذي في البطن المقدم من الرأس أو جزءا من الروح الدماغي وهو الذي يختص بهذا الجزء منه ونحن فندرك من المتخيلات ونتصور من الموجودات الجزئية أشياء كثيرة محفوظة في أذهاننا وملحوظة بها يكون الواحد منها أضعافا كثيرة لجسمنا بأسره فكيف للجزء المذكورة من بعض أجزائه؟
قال: وهو فقد طلب في احتجاحه الأخير جسما يتخيل به السواد والبياض ليثبت كلا منهما في جزء منه غير الجزء الذي أثبت فيه الآخر فكيف أعرض عن المقدار؟ ونحن إنما ندرك الألوان في الأجسام مع مقاديرها حتى غذا رأيناها مرة أخرى على قدر مخالف عرفنا أنها زادت أو نقصت فلو لم نكن أدركنا المقدار الأول لما حفظناه ولو لم نحفظه لم نعرف الزيادة والنقصان هذا في شخص واحد في تمثله وتخيله فكيف في أشخاص كثيرة جدا نحفظها بأشكالها وصورها ومقاديرها وأوضاعها لا تسعها خزانة من خزائن تسع عدة من أشخاص الناس؟ بل ولا بلدة من أكبر البلدان؟ فإن من جملة ما نحفظه في ذلك صورة بلدة مع مقدارها الكبير وأوضاع أجزائها حتى لو صغرت أو كبرت عن ذلك شعرنا بموضع الزيادة والنقصان مقيسا إلى ما استثبتناه وحفظناه
قال: ففي هذا كفاية لمن تأمله بذهن سليم ونظر ثابت
قال: وأما ما قاله من أن المدرك بالحواس الظاهرة فالأمر فيه سهل واضح لأن هذه الصورة إنما تدرك ما دامت المواد حاضرة موجودة والجسم الحاضر الموجود إنما يكون حاضرا موجودا عند جسم وليس يكون حاضرا عند ما ليس بجسم فإنه لا نسبة للجسم إلى قوة مفردة من جهة الحضور والغيبة فإن الشيء الذي ليس في مكان لا يكون للشيء المكاني إليه نسبة في الحضور عنده والغيبة عنه
قال: وأعجب ما في هذا القول استسهاله أذ قال: إن الأمر فيه واضح سهل ولو كان هذا القول حقا على ما قيل لبطلت علائق النفوس الناطقة بالأبدان فإنها ينسب إليها بفي ومع وعند ومقارنة ومفارقة وغيبة وحضور كما ينسب المدرك غلى مدركه ثم لو كان هذا حقا لما أدركنا بعقولنا معنى شيء مما ندركه بحواسنا البتة فإن رأيه هو أن البصر يرفع صورة المبصر غلى الخيال وهو جسماني فالعقل إن أدركها في الخيال فقد أدركها جسمانية أيضا وإن إدركها قوة جسمانية في الخيال نقلها إلى قوة أخرى فأدركها العقل فيها - كان القول كذلك أيضا ولو كانت الوسائط ما كانت إذ كان أو لما يلقاها إما أن يلقاها في قوة جسمانية فيكون حكمها حكم الأولى وإما أن يلقاها في قوة مجردة فحكمها حكم العقل
فإن قيل: إن العقل لا يدركها في القوة الجسمانية بل يرفعها إليه وينتزعها منه أو يجردها فكل تلك العبارات المقولة تقتضي لقاء من الرافع للمرفوع إليه وحضورا من المرفوع عند الرافع وكذلك من المنتزع عند المنتزع منه والمجرد عند المجرد عنه فلولا نسبة لقاء وحضور وما شئت سمه للنفس إلى البدن لما كان آلة لها وإلى المدركات لما أدركها ولو لم يدركها لما عقلها كلية ولا جزئية وكيف والشيء المدرك واحد في معناه والكلية تعرض له بعد كونه مدركا باعتبار ونسبة وإضافة بالمشابهة والمماثلة إلى كثيرين وهو هو بعينه؟ وإذا اعتبر من حيث هو لم يكن كليا ولا جزئيا وإنما يدرك من حيث هو موجود لا من حيث هو كلي ولا جزئي وتعرض له الكلية والجزئية في الذهن بعد إدراكه فمدرك الكلي هو مدرك الجزئي لا محالة لأن الكلي هو الجزئي في ذاته ومعناه لا في نسبه وإضافاته التي صار بها كليا وجزئيا
تعليق ابن تيمية
فيقال: ما ذكره أبو البركات يدل على تناقض ابن سينا حيث زعم أنه ما ليس في مكان لا يكون للشيء المكاني إليه نسبة في الحضور عنده والغيبة عنه وذكر أن الأمر في ذلك واضح سهل فإن هذا مناقض لقوله: إن النفس ليست جسما مع أن الجسم حاضر عندها لكن هذا التناقض يدل على بطلان أحد قوليه: إما قوله: إن النفس ليس جسما وإما قوله: ما ليس في مكان لا يكون للمكان إليه نسبة في الحضور عنده والغيبة عنه ولا يلزم من ذلك أن تكون هذه القضية هي الكاذبة بل قد تكون الكاذبة قوله: إن النفس ليس إلا جسما
ونظير هذا التناقض قوله: إن واجب الوجود يعقل من ذاته ما هو مبدأ له وهو مبدأ للموجودات التامة بأعيانها فيعقل الموجودات التامة بأعيانها والكائنة الفاسدة بأنواعها ويتوسط ذلك أشخاصها فإنه إذا كان واجب الوجود يعقل الأفلاك بأعيانها وهي أجسام وقد قال: إن الجسم لا يرتسم إلا في جسم لزم أن يكون جسما
ومع قوله: ما ليس في مكان لا يكون للشيء المكاني إليه نسبة في الحضور عنده والغيبة عنده
ومع قوله: الجسم الحاضر الموجود إنما يكون حاضرا موجودا عند جسم وليس يكون حاضرا عند ما ليس بجسم
فهذه الأقوال إذا ضم بعضها إلى بعض لزم أن يكون واجب الوجود على قوله جسما وأن تكون النفس على أقواله أيضا جسما
وما ذكره أبو البركات إنما هو إلزام لابن سينا بطريق المناقضة وليس فيه ما يدل على بطلان ما ذكره من الإدراك وإنما احتج أبو البركات على بطلان ذلك بأن المدركات كبار والمدرك إذا كان جسما أو قوة في جسم فهو صغير لا يسعها
وهذه حجة ضعيفة فإن القائلين بارتسام المدرك في المدرك لا يقولون: إن المرتسم فيه مساو في المقدار للموجود في الخارج كما أنهم لا يقولون: إن المرتسم حقيقته مساوية لحقيقة الموجود في الخارج
وإنما هذا من جنس اعتراض الرازي عليهم بأنه لو كان من أدرك النار وجب أن يسخن ومن أدرك الثلج وجب أن يبرد ومن أدرك الرحى وجب أن يدور ونحو ذلك مما لا يقوله عاقل
ولهذا صاروا يتعجبون بل يسخرون ممن يورد عليهم مثل هذا وهم يشبهون تمثل المدركات في المدرك بتمثل المرئيات في المرآة ومعلوم أن ما في المرآة ليس مماثلا في الحقيقة والمقدار للموجود في الخارج
أما حقيقته فلأن غايته أن يكون عرضا في المرآة والمرئي الخارج يكون جسما موجودا كالسماء والشمس والإنسان وغير ذلك مما يرى في المرآة
وكذلك الإدراك فإنه عرض قائم بالمدرك والمدرك نفسه يكون عينا قائمة بنفسها سواء كان مرئيا أو معلوما بالقلب
وأما قدره فلأن مقدار المرئي يختلف باختلاف المرآة فإذا كانت كبيرة رئي كبيرا وإذا كانت صغيرة رئي صغيرا وهو على التقديرين يشبه الصورة الموجودة في الخارج
فكذلك إذا قيل: إن المدرك يتمثل في المدرك لم يلزم أن يكون قدره في المدرك مثل قدره في نفسه
ولهذا يقال: للشيء وجود في الأعيان وفي الأذهان وفي اللسان وفي البنان ووجود عيني وعلمي ولفظي ورسمي
ومعلوم أن مطابقة العلمي للعيني هي مطابقة العلم للمعلوم ليس كمطابقة الموجود في الخارج لمماثله الموجود في الخارج فإن هذا لا يقوله عاقل بل العاقل يجد تفرقة ضرورية بين ما تمثله في نفسه وبين الحقائق الموجودة في الخارج
ومن أظهر ذلك الخيال فإنه يتخيل ما رآه بعد مغيبه عنه وفي حال تغميض عينيه ونومه ويعلم قطعا أنه خياله ومثاله وأنه مشابه له ويعلم قطعا أن ذلك المثال في الباطن لا في الخارج سواء قيل: إنه منطبع في النفس أو في جزء من البدن أو فيهما وسواء قيل: إن النفس تدركه أو قيل: إن المدرك له هو البدن
فعلى كل تقدير يعلم الناس فرقا ضروريا بين حقيقة ذلك المثال وبين حقيقة الموجود في الخارج وأنه لا يماثله: لا في ذاته ولا صفاته ولا مقداره ولكن يشابهه ويحكيه نوع مشابهة وحكاية والمشابهة من وجه لا تقتضي المماثلة في الذات والصفات والمقدار
وهذا المثال الإدراكي لا يمتنع في اجتماع ما هما ضدان في الخارج بل يجتمع فيه مثال السواد والبياض ويجتمع فيه المثلان كالسوادين ويجتمع فيه مثال وجود الشيء وعدمه فيجتمع فيه تقدير الوجود والعدم لا يمتنع فيه اجتماع مثالي النقيضين كما امتنع اجتماع النقيضين في الخارج ويتمثل فيه الموجود والمعدوم والممتنع وما له وجود في الخارج وما ليس وجود في الخارج فهو أوسع بهذا الاعتبار من الوجود الخارجي
لكن تلك الأمور مثل خيالية ليست حقائق موجوده في أنفسها وقد يشتبه على بعض الناس ما يتخيله فيه فيظنه موجودا في الخارج وطائفة من فلاسفة الصوفية كابن عربي يسمي هذا أرض الحقيقة ويذكر فيه من العوالم وأنواعها وأقدارها ما يطول وصفه
وذلك أن الخيال لا حد له بل تخيلات النفوس لما ليس له وجود في الخارج أعظم من أن تحصر
فهؤلاء الضالون قالوا: هذا أرض الحقيقة وهو عالم الخيال وقد يشتبه على بعضهم فيظنه في الخارج ويتخيل لهم فيه مدائن ورجال عوالم كما يتخيل للنائم ويتخيل لأحدهم أنه صار إلها ونبيا أو أنه المهدي أو خاتم الأولياء غلى غير ذلك مما يطول وصفه ويعرض للممرورين وغيرهم من التخيلات الباطلة ما يطول وصفه
ومن قال من المتفلسفة: إن النفس ليست جسما وأنكر معاد البدن فمنهم من يقول: إن من النفوس من يتعلق بجزء من الفلك فيتخيل فيه ما يتنعم فيه تنعما خياليا وأن ذلك يقوم مقام اللذة الحسية وقد يقال: إنه أعظم منها كما ذكر ذلك ابن سينا
فقول هؤلاء من جنس حقيقة أولئك الذي جعلوا عالم الخيال هو أرض الحقيقة
ونحن لا ننكر وجود الخيالات فإن هذا لا ينكره عاقل لكن ننكر تعظيمها وتسويتها بالذات الحقيقية أو أن ما وعد الله به عباده المؤمنين من هذا الجنس
والمقصود هنا أن الصور الخيالية لا ينكرها أحد ولا يقول أحد: إنها مماثلة في الحقيقة والصفات والمقدار للموجودات في الأعيان سواء كانت تلك الخيالات هو خيال تلك الموجودات أو غيرها
فقد تبين أن ما ذكره ابن سينا وغيره من الفلاسفة وقرروه بالأدلة العقلية ليس منافيا لعلم الله بالجزئيات بل فيه ما هو دليل على ذلك
ولكن غاية ما فيه تناقضهم حيث يثبتون الشيء دون لوازمه كما أثبت ابن سينا علمه بأعيان الموجودات التامة وبأنواع المتغيرات دون التغير في العلم
وأدلته الصحيحة توجب علمه بالمتغيرات وأنه يعلم الكليات والجزئيات كما سنذكر ألفاظه
وكذلك أبو البركات أثبت علمه بالكليات والجزئيات والمتغيرات لكنه قال في القدر وفي علمه بما لا يتناهى قولا منكرا سنذكره إن شاء الله
وكل من قال في مسألة العلم قولا يخالف النصوص النبوية من أهل الكلام والفلسفة فلا بد أن يكون قوله مناقضا لأصوله الصحيحة مخالفا لصريح المعقول ولهذا كثر اضطراب هؤلاء في مسألة العلم
فصل عود لكلام ابن سينا في مسألة علم الله تعالى
قد تقدم ما ذكرناه من أقوال ابن سينا في تقرير أنه سبحانه عالم بمفعولاته حيث قال: واجب الوجود يجب أن يعقل ذاته بذاته على ما حقق ويعقل ما بعده من حيث هو علة لما بعده ومنه وجوده ويعقل سائر الأشياء من حيث وجوبها في سلسلة الترتيب النازل من عنده طولا وعرضا
فقد ذكر هنا أن علمه بنفسه يستلزم علمه بمفعولاته وأما تقرير كونه عالما بنفسه فسيجيء إن شاء الله تعالى
كلام الطوسي في شرح كلام ابن سينا
قال الطوسي في شرح هذا الفصل: لما تقرر أن علم الأول تعالى فعلي ذاتي أشار إلى إحاطته بجميع الموجودات فذكر أنه يعقل ذاته بذاته لكونه عاقلا لذاته معقولا لذاته على ما تحقق قبل ذلك ويعقل ما بعده يعني المعلول الأول من حيث هو علة لما بعده والعلم التام بالعلة التامة يقتضي العلم بالمعلول فإن العلم بالعلة التامة لا يتم من غير العلم بكونها مستلزمة لجميع ما يلزمها لذاتها وهذا العلم يتضمن العلم بلوازمها التي منها معلولاتها الواجبة بوجوبها ويعقل سائر الأشياء التي بعد المعلول الأول من حيث وقوعها في سلسلة المعلولية النازلة من عنده إما طولا: كسلسلة المعلومات المترتبة المنتهية إليه في ذلك الترتيب أو عرضا: كسلسلة الحوادث التي لا تنتهي في ذلك الترتيب إليه لكنها تنتهي إليه من جهة كون الجميع ممكنة محتاجة إليه وهو احتياج عرضي تتساوى جميع آحاد السلسلة فيه بالنسبة إليه تعالى
قلت: أما قوله: لما تقرر أن علم الأول تعالى فعلي إشارة إلى إحاطته بجميع الموجودات فذكر أنه يعقل ذاته بذاته ويعقل ما بعده
فيقال: علمه بذاته لا يمكن أن يكون فعليا وإنما يكون فعليا علمه بخلقه فإن علمه له تأثير في فعل خلقه وليس له تأثير في وجود نفسه وهذا مما لا ينازع فيه عاقل فهمه ولعله ما أراد إلا هذا
فإن القدرية من أهل الكلام يقولون: العلم تابع للمعلوم مطابق له لا يكسبه صفة ولا يكتسب عنه صفة وكثير من المتفلسفة يقولون: علم الرب فعلي وقد يجعلون نفس علمه إبداعه
وقد بسطنا الكلام على هذا في موضع آخر وبينا أن العلم نوعان: علم العالم بما يريد أن يفعله فهذا علم فعلي هو شرط في وجود المعلوم إذ وجود المعلوم بدونه ممتنع
ومذهب أهل السنة أن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها فعلمه فعلي لجميع المخلوقات بهذا الاعتبار لا باعتبار أن مجرد العلم هو الإبداع من غير قدرة وإرادة كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة فإن هذا باطل كما قد بين في موضعه
والقدرية عندهم أن الله يخلق أفعال العباد فعلمه بها علم بأمر أجنبي منه فلهذا لا يجعلون علمه بالمخلوقات فعليا لكن علمه بمخلوقاته لا ينازعون فيه وأما علم العالم بما ليس علمه به شرطا في وجوده كعلمنا بالله وملائكته وأنبيائه وسمواته وأرضه فهذا علم تابع للمعلوم مطابق له ليس فعليا بوجه من الوجوه
وعلم الرب بنفسه من هذا الباب لكن إذا سمي علميا انفعاليا فلا بأس فإنه علم حادث وأما علم الرب تعالى فإنه من لوازم نفسه المقدسة لم يحدث فليس انفعاليا بهذا الاعتبار لكنه مطابق للمعلوم موافق له فعلمه تابع لنفسه ومخلوقاته تابعة لعلمه
والمقصود هنا أنه إذا كان عالما بنفسه لزم أن يكون عالما بخلقه وهذه قضية صحيحة ويمكن تقريرها بطرق :
أحدها: أنه لا يكون عالما بنفسه علما تاما إلا إذا كان عالما بلوازمها والخلق من لوازم مشيئته التي هي من لوازم نفسه فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ومشيئته من لوازم نفسه
والفلاسفة يعبرون عن أصلهم بقولهم: إنه علة تامة والعلم بالعلة التامة يقتضي العلم بالمعلول
ومن سلم منهم أنه يفعل باختياره وسماه مع ذلك علة فالنزاع معه لفظي والمعنى صحيح فإنه حينئذ مع قدرته على الشيء إذا شاءه وجب وجوده فما شاء كان فهو بمشيئته وقدرته موجب لوجود ما شاءه والعلم بالموجب التام يوجب العلم بموجبه
وأما من لم يسلم أنه يفعل باختياره فهذا القول باطل من جهة نفيه لاختياره لا من جهة أن كونه فاعلا يوجب العلم بالمفعول فإذا قدر أنه فاعل على هذا الوجه كان علمه بنفسه يوجب علمه بمفعولاته لأن العلم بالموجب التام يوجب العلم بالموجب
ففي الجملة لا يكون عالما بنفسه إن لم يكن عالما بلوازمها وقدرته وإرادته من لوازمها ومراده من لوازم الإرادة فالمفعولات لازمة للإرادة اللازمة لذاته ولازم اللازم لازم ومجرد النظر إلى كونه مستلزما لمفعوله يوجب العلم مع قطع النظر عن توسط الإرادة لكن هي ثابتة في نفس الأمر وإن لم يستحضر المستدل ثبوتها
وهذا الدليل يستقيم على أصول أهل السنة الذين يقولون: إرادته من صفاته التي هي من لوازم ذاته
وأما القدرية الذين ينكرون قيام إرادة به فينفونها أو يقولون: أحدث إرادة لا في محل فهؤلاء لا يسلكون هذه الطريق
وهذا الدليل مأخوذ من معنى قوله: { ألا يعلم من خلق } [ الملك: 14 ] ودلالة الآية تقرر بطريق ثان وهو أن يقال: خلق الخالق مشروط بتصوره للمخلوق قبل أن يخلقه فإن الخلق إنما يخلق بالإرادة والإرادة مشروطة بالعلم فإرادة ما لا يشعر به محال وإذا كان إنما يخلق بإرادته وإنما يريد ما يصوره لزم من ذلك أن يعلم كل ما خلقه
وهذه الطريقة هي طريقة مشهورة لنظار المسلمين والقرآن قد دل عليها والعقل الصريح يدرك صحتها وطرد هذه الدلالة على أصول أهل السنة أن من سوى الله لا يخلق شيئا لأنه لا يحيط علما بجزيئات أفعاله فلا يكون خالقا لها وإن كان شاعرا بها من بعض الوجوه ومريدا لها من بعض الوجوه فهو فاعل لها من ذلك الوجه
وهذه الطريقة هي الطريقة التي سلكها الأشعري في كون العبد ليس خالقا لفعل نفسه
قال: لو كان خالقا لها لكان محيطا بتفاصيلها واللازم منتف لكن الأشعري وطائفة فرضوا الكلام في العاقل الذي يفعل مع الغفلة
وطائفة أخرى قالوا: لا يحتاج إلى فرض في العاقل بل كل فاعل من الآدميين لا يحيط علما بتفاصيل أفعاله لكنه يشعر بها من حيث الجملة ولهذا كان العبد لا يريد شيئا إلا بعد شعوره به فهو يتصور المراد تصورا مجملا وإن لم يكن مفصلا وهذا مما علم به الناس أن الفاعل المريد لا بد أن يتصور المراد وإن لم تكن إرادتهم مثل إرادة الرب ولا علمهم كعلمه كما أنهم يعلمون أن العبد فاعل لأفعاله وإن لم يكن خالقا لها
وهذا القول الوسط وهو إثبات كون الرب خالقا لكل شيء ومع كون أفعال العباد مخلوقة له ومع كونها أفعالا للعباد أيضا وأن قدرة العباد لها تأثير فيه كتأثير الأسباب في مسبباتها وأن الله خالق كل شيء بما خلقه من الأسباب وليس شيء من الأسباب مستقلا بالفعل بل هو محتاج إلى أسباب أخر تعاونه وإلى دفع موانع تعارضه ولا تستقل إلا مشيئة الله تعالى فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فما شاء الله كان وإن لم يشأ العباد وما لم يشأ لم يكن ولو شاء العباد
وهذا الذي عليه سلف الأمة وأئمتها وجمهورها وليس المقصود هنا الكلام في مسائل القدر وإنما المقصود الكلام في تحقيق علم الله
الطريق الثالث الذي به نعلم أن علمه بنفسه يوجب علمه بمخلوقاته أن يقال: كل ما كان من صفات الرب وأفعاله فليس هو موقوفا على شيء سواه فلا شريك له بوجه من الوجوه فهو نفسه موجب تام لجميع صفاته وهو بصفاته موجب لجميع مفعولاته فإذا كان عالما بنفسه لم يكن أن يكون عالما بذاته دون صفاته فإن ذلك ليس علما بنفسه فإن الذات المجردة عن الصفات ليست ذاته ولا وجود لها وإذا علم صفاته لزم من ذلك علمه بأفعاله وإلا لم يكن عالما بصفاته لأنه إذا علم أنه خالق للعالم لم يعلم كونه خالقه إن لم يعلم العالم وإلا فالعلم بكونه خالقا للعالم مع عدم العلم بالعالم بمنزلة كونه خالقا للعالم بدون وجود العالم وهذا ممتنع فذاك ممتنع
ولو قدر نفي الصفات فالعلم بكونه خالقا للعالم يوجب العلم بالعالم وهم يعبرون عن ذلك بكونه علة ومبدأ ونحو ذلك من العبارات التي يشترك فيها هم والمسلمون
وكونه مبدعا وفاعلا فالعلم بنفسه يوجب العلم بكونه فاعلا وإلا لم يكن عالما بنفسه والعلم بكونه فاعلا يوجب العلم بالمفعول كما أن يحقق ذاته تحقق كونه فاعلا لأن وجود ذاته الفاعلة للعالم بدون كونها فاعلة ممتنع ووجود فعلها بدون العالم ممتنع وكون الفعل قديم العين أو النوع أو حادثهما مسألة أخرى وكون العلم قديما أو حادثا واحدا أو متعددا فالمقصود هنا إثبات أنه عالم بكل موجود إذ كل موجود مفعوله وهذا يتناول علمه بكل موجود وكل موجود جزئي فهو يقتضي علمه بكل جزئي
قال تعالى: { وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور * ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } [ الملك: 13 - 14 ] وقد استدل طوائف من أهل السنة بهذه الآية على أنه خالق أقوال العباد وما في صدورهم
وهذه الآية تدل على كونه عالما بالجزئيات من طرق :
أحدها: من جهة كون الخلق يستلزم العلم بالمخلوق
والثاني: من جهة كونه في نفسه لطيفا خبيرا وذلك يوجب علمه بدقيق الأشياء وحفيها
ثم يقال: اللطيف الخبير علمه بنفسه أولى من علمه بغيره وعلمه بنفسه مستلزم لعلمه بلوازم ذاته كما تقدم فقد تضمن الآية هذه الطرق الثلاثة
اعتراض الرازي على ابن سينا
وقد اعترض الرازي على ما قرره ابن سينا من كون علمه بذاته يستلزم علمه بمفعولاته فقال في شرحه: كنا قد بينا في الأبواب السالفة أنه علام بذاته وبسائر المعلومات والآن نريد أن نبحث عن كيفية حصول تلك العالمية له فنقول :
قد بينا قبل هذا الفصل أن علمه بالأشياء لا بد وأن يكون حاصلا له لذاته فنقول: إنه يجب أن يعلم ذاته بذاته ثم إذا علم ذاته فذاته علة لما بعده يجب أن يعلم من ذاته كونه علة لما بعده فإذا علم ذاته علم لا محالة معلوله ثم يلزم من علمه بمعلوله علمه بسائر المعلولات النازلة من عنده طولا وعرضا وأما طولا فكالعقول التي كل واحد منها علة للعقل الذي تحته وأما عرضا فكما إذا صدر شيئان أو أكثر عن علة واحدة كما يقال: إنه يصدر عن كل عقل: عقل ونفس وفلك معا
قال: ولقائل أن يقول: لم قلتم: إن علمه بذاته يقتضي علمه بمعلوله؟ بيناه: أنكم إما أن تقولوا: إن علمه بذاته من حيث إنها تلك الذات المخصوصة علة لعمله بمعلوله أو تقولوا إن علمه بذاته من حيث إنها علة لذلك المعلول يقتضي وجوده بذلك المعلول والأول ممنوع فلم قلتم: إن علمه بذاته المخصوصة - التي من جملة لواحقها واعتباراتها كونها علة لذلك المعلول - يقتضي العلم بذلك المعلول؟
وظاهر أن هذه المقدمة ليست بدهية بل لا بد فيها من الدلالة وأنتم ما ذكرتم الدلالة عليها
وأما الثاني فباطل لأن علمه بأن ذاته علة للشيء الفلاني علم بإضافة مخصوصة بين ذاته وبين ذلك الشيء والعلم بإضافة أمر إلى أمر مسبوق بالعلم بكل واحد من المضافين فلو كان العلم بذلك المعلول مستفادا من العلم بتلك الإضافة لزم الدور وأنه محال
تعليق ابن تيمية
قلت: فيقال في الجواب عما ذكره الرازي قوله: إن قلتم: إن علمه بذاته من حيث إنها تلك الذات المخصوصة علة لعلمه بمعلومه فهو ممنوع وهذه المقدمة ليست بدهية فلا بد لها من الدليل
فيقال: هي بعد التصور التام بديهية وبدون التصور التام تفتقر إلى بيان وذلك لأن العلم بذاته المخصوصة لا يكون علما بها إلا مع العلم بلوازمها التي تلزم الذات بنفسها ولا تفتقر في لزومها إلى سبب منفصل فإن هذه اللوازم هي عند نظار المسلمين كلها صفات ذاتية فإنهم لا يفرقون في الصفات اللازمة للموصوف بين الذاتي المقوم والعرضي الخارج بل الجميع عندهم ذاتي بمعنى أنه لازم لذات الموصوف لا تتحقق الذات إلا بتحققه
وأما كون بعض الصفات داخلة في الذات وبعضها خارجا فإن أريد بذلك أن بعضها داخل فيما يتصور الذهن وينطق به اللسان فهذا حق ولكن يعود الدخول والخروج إلى ما يدخل في علمه وكلامه وما يخرج عن ذلك
وإن أريد بذلك أن نفس الموجود في الخارج: بعض صفاته اللازمة داخل في حقيقته وبعضها خارج عنه فهذا باطل كما قد بسط
وأما على طريقة المنطقيين فالصفات اللازمة: إما ذاتية يتعذر معرفة الموصوف بدونها وإما لازمة لماهيته أو لازمة لوجوده وهذه اللوازم لا بد لها من لازم بغير وسط لئلا يلزم التسلسل كما قرر ذلك ابن سينا في الإشارات واللازم بوسط هو اللازم بتوسط دليل لا بتوسط علة مبنية له فجميع اللوازم للذات بغير توسط شيء في الخارج
هذا مراده وإن أريد بذلك أن من اللوازم شيئا يلزم توسط في الخارج فذلك الوسط لازم لآخر بنفسه فلا بد على كل تقدير من لازم بنفسه وللازم لازم وهلم جرا
وحينئذ فإذا عرف نفسه التي لها لوازم لا توجد إلا بها فيلزم من معرفته بها معرفته بلوازمها كما يلزم من وجودها وجود لوازمها وإلا لم تكن المعرفة معرفة بها فكما أن وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع فالمعرفة به بدون معرفة لازمة ممتنعة وإنما تقع الشبهة في هذا الموضع لظن الظان أن التصور الناقص معرفة به وليس كذلك فإن الشعور مراتب وقد يشعر الإنسان بالشيء ولا يشعر بغالب لوازمه ثم قد يشعر ببعض اللوازم دون بعض
ونحن لا نعرف شيئا من الأشياء على الوجه التام بل لو علمنا شيئا على الوجه التام لعلمنا لوازمه ولوازم لوازمه فلا يكون علمنا بشيء من الأشياء مماثلا لعلم الرب
ولهذا لما تكلم الناس في دلالة المطابقة والتضمن والالتزام فاعتبر بعضهم اللزوم مطلقا واعتبر بعضهم اللزوم الذهني قالوا: لأن اللزوم الخارجي لا نهاية له لأن للازم لازما وللازم لازما فلفظ البيت إذا جل على الحيطان والأرض والسقف بالمطابقة وعلى بعض ذلك بالتضمن فهو مستلزم للأساس ولأساس الأساس وللصانع ولأب الصانع ولأب أبيه ولصانع الآلات وأمور أخر فيجب اعتبار اللزوم الذهني
فيقال لهم: اللزوم الذهني ليس له ضابط فإنه قد يخطر لهذا من اللوازم ما لا يخطر لهذا
فإن قلتم: كل ما خطر للمستمع لزومه فقد دل اللفظ عليه باللزوم وإلا فلا
قيل لهم: فحينئذ يخطر له لزوم هذا ثم لزوم هذا ويلزم ما ذكرتم من التسلسل فلا فرق
وحينئذ فالتحقيق أن كلا اللزومين معتبر فاللزوم الخارجي ثابت في نفس الأمر وأما معرفة المستمع به فموقوف على شعوره باللزوم فمهما شعر به من اللوازم استدل عليه باللزوم وليس لذلك حد بل كل ملزوم فهو دليل على لازمه لمن شعر بالتلازم
وهذا هو الدليل فالدليل أبدا مستلزم للمدلول من غير عكس وليس المراد بدلالة الالتزام أن المتكلم قصد أن يدل المستمع بها فإن هذا لا ضابط له بل المراد أن المستمع يستدل هو بثبوت معنى اللفظ على ثبوت لوازمه وهي دلالة عقلية تابعة للدلالة الإرادية وجعلت من دلالة اللفظ لأنه دل على التلازم بتوسط دلالته على الملزوم
وفي الجملة فكل دليل في الوجود هو ملزوم للمدلول عليه ولا يكون الدليل إلا ملزوما ولا يكون ملزوم إلا دليلا فكون الشيء دليلا وملزوما أمران متلازمان وسواء سمي ذلك برهانا أو حجة أو أمارة أو غير ذلك
وأما كونه علة فأخص من كونه دليلا فكل علة فهي دليل على المعلول وليس كل دليل علة
ولهذا كان قياس الدلالة أعم من قياس العلة وإن كان قياس العلة أشرف لأنه يفيد السبب العلمي والعيني وقياس الدلالة إنما يفيد السبب العلمي
ولهذا يعظمون برهان اللمية على برهان الإنية ويقولون: برهان لم أشرف من برهان إن
فمن كان علمه أكمل العلوم وقد علم علة كل موجود كيف لا يكون عالما بأكمل دليل يدل على كل موجود؟
ولو قدر أن الواحد منا يعلم الرب على ما هو عليه لكان عليما بكل شيء لكن قوانا تعجز عن ذلك وأما هو سبحانه فهو يعلم نفسه وهي ملزمة لكل موجود وخالقة لكل شيء وموجبة بمشيئتها وقدرتها لكل شيء وبلغتهم: هي علة لكل شيء
وهو سبحانه الدليل والبرهان على كل شيء من هذه الجهة ومن جهة أنه يدل عباده بإعلامه وهدايته وكلامه فإذا كان هو سبحانه عالما بنفسه المستلزمة لك شيء التي هي دليل على كل شيء وموجبة لكل شيء وباصطلاحهم: علة لكل شيء - وجب أن يكون عالما بكل شيء وإلا لم يكن عالما بنفسه بل كان عالما ببعض أحوال نفسه والتقدير أنه عالم بنفسه
ثم يقال: الموجب لعلمه بنفسه يوجب علمه بجميع أحوال نفسه كما سيأتي تقريره ويمتنع أن يخص علمه ببعض أحوال نفسه إذ لا موجب للتخصيص بل الموجب للتعميم قائم وإذا كان عالما بجميع أحوال نفسه وجب ضرورة أن يعلم لوازمها
واعلم أن المقصود هنا: أن علمه بنفسه يستلزم علمه بخلقه ويمتنع وجوده بدونه كما يستلزم العلم بالدليل على الوجه التام العلم بالمدلول عليه ويمتنع وجوده دونه
وأما كون العلم بنفسه أوجب ذلك وكان علة في وجوده - فهذا وإن كان المتفلسف قد يقوله فلا حاجة بنا إليه بل لا يجوز أن يقال ذلك كما لا يجوز أن يقال: علمه بالدليل سبب لعلمه بالمدلول على فإن علمه سبحانه ليس باستدلالي بحيث يستفيد العلم بهذا من العلم بهذا سواء كان الدليل علة أو لم يكن
بل هذا مما يطعن به في كلام بعض هؤلاء المتفلسفة الذين جعلوا علمه من هذا الباب فإن علمه سبحانه من لوازم نفسه ونفسه المقدسة مستوجبة للعلم بكل شيء
كما دل عليه قوله تعالى: { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } [ الملك: 14 ] فإنه في نفسه لطيف خبير يمتنع أن يخفى عليه شيء
لكن المقصود هنا أن علمه بنفسه مستلزم لعلمه بخلقه فيمتنع أن يكون عالما بنفسه علما تاما بدون علمه بخلقه
وحينئذ فنحن نستدل بعلمه بنفسه على أنه عالم بخلقه كما نستدل بكل ملزوم على لازمه وإن كان هو سبحانه لا يحتاج إلى شيء من الاستدلالات
ولهذا كان من القضايا الصادقة قول القائل: العلم بالسبب يوجب العلم بالمسبب أي العلم بالسبب التام وهو العلة التامة فإذا علمنا أن الخشبة وقع فيها نار لا تطفأ علمنا أنها تحترق
وهو سبحانه رب كل شيء ومليكه وهو بمشيئته وقدرته موجب لكل موجود فعلمه بنفسه يستلزم علمه بمخلوقاته أعظم من استلزام علم كل عالم بكل علة لكل معلول فإنه ما من علة تفرض لمعلول وموجب مقدر لموجب إلا وهو سبحانه في فعله وإيجابه أكمل من ذلك في إيجابه واقتضائه
وما من عالم يفرض علمه بعلة إلا وعلم الرب بنفسه أكمل من علم كل عالم بتلك العلة فإن علم كل حي بنفسه أكمل من علمه بغيره فكيف بعلم رب العالمين بنفسه؟ !
وحينئذ فالعلم بهذا الدليل يستلزم العلم بمدلوله أعظم من استلزام كل علم بكل دليل لكل مدلول وعلمه بنفسه بكون هذا الموجب أو العلة أو المبدأ أو السبب يوجب العلم بموجبه ومعلوله أكمل من علم كل عالم بكل موجب وعلة
وكلما تدبر العاقل هذه المعاني ولوازمها تبين له أن كون علمه بنفسه يستلزم علمه بمخلوقه عند التصور التام هي من أعظم البديهيات وعند النظر والاستدلال هي من أعظم القضايا التي تقوم عليها الأدلة النظرية
ومما يبين ذلك أنه إذا كان عالما بنفسه فإن قيل: هو يفعل المخلوقات ولا يشعر بأنه يفعل فهذا يمتنع أن يكون شاعرا بنفسه فإنه ما من عالم بنفسه يقدر أنه يفعل شيئا إلا ولا بد أن يعلم أنه يفعله بل لا بد أن يتصور مفعوله مع غفلته عن نفسه فكيف مع علمه بنفسه؟
فهو يجب أن يعلم مفعوله من جهة علمه بنفسه ومن جهة أنه يفعله بإرادته كما تقدم التنبيه على الطريقين بل العالم بنفسه لو حصل لنفسه حال من غيره لعلم به وإلا لم يكن عالما بها فكيف إذا كانت فاعلة؟ !
وأما قول الرازي على التقدير الثاني: إن قلتم: إن علمه بذاته من حيث إنها علة لذلك المعلول يقتضي علمه بذلك المعلول لأن علمه بأن ذاته علة للشيء الفلاني علم بإضافة مخصوصة بين ذاته وبين ذلك الشيء والعلم بالإضافة مسبوق بالعلم بالمضافين فلو كان المعلول مستفادا من العلم بتلك الإضافة لزم الدور
فيقال له: العلم بالإضافة مشروط بالعلم بالمضافين ولا يجب أن يكون العلم بالمضافين متقدما عليه تقدما زمانيا بل لا يكون عالما بالإضافة إلا مع تصور المضاف والمضاف إليه ثم إذا كان المضاف هو العلة للمضاف إليه أمكن أن يكون العلم بها من جهة إنها علة لذلك المعلول مستلزما للعلم بذلك المعلول
والعلم بأنها علة للمعلول يتضمن ثلاثة أشياء: العلم بها وهي المضاف الذي هو علة والعلم بالمعلول وهو المضاف الذي هو معلول والعلم بالعلية وهي الإضافة
والثلاثة متلازمة لا يجب أن يتقدم بعضها على بعض بالزمان ولا نقول: إن العلم ببعضها يستفاد من العلم ببعض كما ذكره فإن الرب لا يحتاج أن يستدل بشيء من معلوماته على بعض وإنما يحتاج إلى ذلك من لا يكون عالما بالمدلول حتى يدله عليه الدلي وأما هو فعلمه من لوازم نفسه المقدسة
ولكن المقصود أن علمه بنفسه وبمخلوقاته متلازمان يمتنع ثبوت العلم بنفسه دون العلم بخلقه كما يمتنع ثبوت العلم بخلقه بدون العلم بنفسه
والرازي لعله رد ما قد يضاف إلى ابن سينا وحزبه من أن علمه بنفسه هو الذي أوجب علمه بخلقه وكان ذلك العلم علة لهذا العلم كعلمنا نحن بالدليل الذي يوجب حكمنا بالمدلول عليه
وما ذكره يدل على فساد قول هؤلاء فإنه إذا قيل: إن علمه بكونه علة للمعلول هو الموجب لعلمه بالمعلول لزم الدور كما ذكر فإنه لا يعلم كونه علة للمعلول حتى يعلم المعلول كما ذكره من أن العلم بالإضافة مشروط بالعلم بالمضافين فلا تعلم أن هذا علة لذاك حتى تعلم هذا وذاك فلو كان علمك بذاك مستفادا من علمك بهذه الإضافة لزم الدور
ونحن قد بينا فساد هذا وقلنا: المراد إن علمه بهذا يستلزم علمه بهذا أي يمتنع تحقق هذا العلم بدون هذا العلم وإن لم يكن أحدهما هو العلة للآخر كما يمتنع تحقق إرادته دون علمه وعلمه دون قدرته وسائر صفاته المتلازمة ويمتنع تحقق ذاته دون صفاته وصفاته دون ذاته فكل منها يستلزم الآخر فيستدل بثبوت واحد منها على ثبوت سائرها إذا عرف بلازمها وإن لم يجعل هذا هو العلة في وجود هذا
ونحن مقصودنا بيان ما دل على أن الله بكل شيء عليم وبيان ما ذكره ابن سينا وغيره من الفلاسفة والمتكلمين مما يدل على ذلك وإن كان قد يكون فيما يقوله الواحد من هؤلاء باطل وقد يكون قصر في بيان الحق وقد يجتمع الأمران
فنحن نستدل بعلمه بذاته على أنه لا بد أن يعلم مخلوقاته لما بينهما من التلازم الدال على أن ثبوت أحدهما يستلزم ثبوت الآخر لا نحتاج أن نجعل علمه بهذا هو الموجب لهذا
فإن قيل: فبتقدير أن لا يكون موجبا فليس معكم ما يدل على أن علمه بذاته يستلزم علمه بمخلوقاته كما أنا إذا قدرنا أن علم أحدنا بالملزوم ليس موجبا لعلمه باللازم لم يكن معنا ما يدل على أنه عالم باللازم
قيل: بل كون أحد العلمين مستلزما للآخر ثابت وإن لم يكن أحدهما موجبا للآخر فإن الملزوم أعم من أن يكون علة أو غير علة وإذا قدر أنه ليس علة لم يمتنع أن يكون ملزوما
وإذا كان في بعض الناس ملزوما وعلة لم يجب أن يكون في كل عالم ملزوما وعلة إلا إذا لم يكن للعالم طريق إلى العلم باللازم سوى عمله بعلته
وهذا باطل في حق الله ولا يمكن دعواه فلا يمكن أحدا أن يدعي أن الله لا يمكن أن يعلم شيئا من الموجودات إلا لعلمه بعلته إذ لا دليل على هذا النفي وإذا قدر أن ذاته مستلزمة لنفسها أن تعلم كل شيء لا يخفى عليها شيء أوجب ذلك أن لعلم كل شيء
وإن قدر أنه غير مفعول له كما يعلم المعدومات والممتنعات التي ليست مفعولة وكما يعلم المقدرات
كقوله: { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } [ الأنعام: 28 ] وقوله: { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء: 22 ]
وإن كان وجود إله غيره ممتنعا فعلمه سبحانه بما يعلمه ليس من شرطه كونه مفعولا له بل كونه مفعولا له دليل على أنه يعلمه والدليل لا ينعكس
وكذلك علمه بنفسه مستلزم لعلمه بمخلوقاته وإن لم يكن علمه بنفسه علة لعلمه بمخلوقاته
فينبغي تدبر هذه المعاني الشريفة فإنه يبين كثرة الطرق البرهانية الدالة على علمه سبحانه بخلاف من يقول: لا يمكننا إثبات علمه إلا بطريق الإرادة ونحو ذلك
وهكذا كلما كان الناس أحوج إلى معرفة الشيء فإن الله يوسع عليهم دلائل معرفته كدلائل معرفة نفسه ودلائل نبوة رسوله ودلائل ثبوت قدرته وعلمه وغير ذلك فإنها دلائل كثيرة قطعية وإن كان من الناس من قد يضيق عليه ما وسعه الله على من هداه كما أن من الناس من يعرض له شك وسفسطة في بعض الحسيات والعقليات التي لا يشك فيها جماهير الناس
والمقصود هنا أنا نحن أخرجنا الله من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا فنفتقر في حصول العلم لنا إلى أسباب غير أنفسنا ومن الأشياء ما نعلمها بمشاعرنا بلا دليل ومنها ما نفتقر في العلم به إلى دليل فلا نكون عالمين به حتى نعلم الدليل الذي يستلزم في علمنا به علمنا بالمدلول عليه
والرب تعالى علمه من لوازم نفسه المقدسة وكذلك قدرته لم يستفد شيئا من صفاته المقدسة من غيره ولم يحتج إلى سواه بوجه من الوجوه بل هو الغني عن كل ما سواه
وإذا قدر أن علمه بالملزوم شرط في علمه باللازم كما أن وجود الملزوم شرط في وجود اللازم وإبداعه للملزوم شرط في إبداعه للازم كما أن خلقه للأب من حيث هو أب شرط من خلق الابن فالابن لا يكون ابنا إن لم يكن له أب فلا بد في خلق الابن من خلق الأب قبله
فهو سبحانه خالق الملزوم واللازم وعالم بالملزوم واللازم وكل ما سواه هو مما خلقه بمشيئته وقدرته فليس مفتقرا في شيء من الأمور إلى شيء سواه
وقول القائل: علمه بهذا شرط في علمه بهذا معناه أنه لا يوجد علمه بهذا إلا مع وجود علمه بهذا ليس المراد به: أنه يكون العلم بأحدهما متقدما موجودا مع عدم العلم الآخر فإن الشرط لا يجب أن يتقدم المشروط بل لا بد من وجوده معه بخلاف العلة
فإذا قيل: ليس علمه بهذا علة لهذا وإنه لم يستفد علمه بهذا من علمه بهذا ولا استدل على هذا بهذا لم يكن في هذا نفي كون أحد العلمين شرطا في الآخر أي ملزوما له بل ولا نفي كون كل منهما شرطا في الآخر وملازما له كما أن العلم والقدرة أو الإرادة كل منهما لا يوجد إلا مع الآخر وهو ملازم له فوجوده شرط في وجوده بهذا الاعتبار وإن لم يكن أحدهما علة لوجود الآخر
وكذلك علمه بنفسه المقدسة هو مستلزم لعلمه بمخلوقاته وشرط في علمه بها فلا يكون عالما بمخلوقاته إلا وهو عالم بنفسه وإن لم يكن علمه بنفسه هو العلة لعلمه بمخلوقاته ولم يكن هو محتاجا أن يستدل بعلمه بنفسه على علمه بمخلوقاته بل نفس ذاته المقدسة اقتضت العلم بهذا وبهذا
وإن كان أحد الأمرين شرطا في الآخر فكونه شرطا في الآخر غير كونه علة فإن الشرط لا يجب أن يتقدم على المشروط والعلة يجب تقدمها على المعلول والشرط لا يوجب المشروط والعلة توجب المعلول
فما علمه من مخلوقاته فعلمه به مشروط بعلمه بنفسه ويلزم من علمه بنفسه علمه به ويلزم من علمه به علمه لنفسه وإن لم يكن أحد العلمين يجب أن يقدم على الآخر ولا يكون هو العلة في وجود الآخر ولا يحتاج أن يستدل بأحد المعلومين على الآخر
فلهذا كان علمه بأنه خالق يستلزم العلم بالمخلوقات من وجهين :
من جهة أن علمه بأنه خالق لا يكون إلا مع علمه بالمخلوقات لأن العلم بالإضافة يتضمن العلم بالمتضايفين
ومن جهة أنه عالم بنفسه علما تاما
وكونه خالقا من صفات نفسه فلا يكون عالما بنفسه علما تاما إلا مع علمه بأنه خالق ولا يكون عالما بأنه خالق إلا مع علمه بالمخلوقات
ومما ينبغي أن يعرف أن كلا من المتلازمين يلزم من وجوده وجود الآخر فكل منهما يصلح في حقنا أن نستدل به على الآخر فنستدل على هذا بذاك تارة ونستدل بذاك على هذا تارة
إما أن نستدل على المجهول منهما بالمعلوم أو نستدل بالمعلوم على المعلوم لبيان أنه دليل عليه أيضا ولتقوية العلم ولحصوله في النفس تارة بهذا الدليل وتارة بهذا إذا عزب عنها علمه بالآخر فإن النفس قد تعلم الشيء ثم يعزب عنها فإذا كثرت الأدلة كان كل منها يقتضي العلم به إذا قدر عزوب غيره من الأدلة
ولهذا جاز تعدد الأدلة الكثيرة على المدلول الواحد وكل ما يصلح أن يستدل به على غيره فإن علم الرب به يستلزم علمه بالمدلول عليه لامتناع العلم التام بالملزوم بدون العلم باللازم وإن كان هو سبحانه لا يحتاج أن يستدل بالعلم بأحدهما على العلم بالآخر فهذا هذا
ومرادنا بيان ما يذكره الناس من الدلالة على الحق فإن قصروا في بيان الدليل تممناه وإن قالوا بخلاف موجبه من وجه آخر أبطلناه
وهذه حال ابن سينا وأمثاله في تقرير علم الله تعالى فإن كلامه في العلم فيه تقصير عظيم من وجهين: من جهة تقصيره في بيان ما ذكره من الحق ومن جهة ما ذكره من الباطل فإنه ذكر حقا وذكر ما يستدل به عليه لكنه لم يعرف البيان حقه من جهة أنه لم يعط الدليل حقه في التزام ما يلزمه ومن جهة أن بعض المقدمات قد تقصر في بيانها وإلا فالمادة التي سلكها في الدلالة مادة جيدة مستقيمة إذا أعطيت حقها كانت مما تبين أن الله بكل شيء عليم من الجزئيات والكليات
ولهذا كان الذين قدحوا في دلالة ابن سينا كالغزالي والشهرستاني والرازي إنما يقدحون بكونه لم يقرر مقدماته أو بكونه لم يقل بموجبها ولم يلتزم لوازمها بل تناقض فيوردون عليه سؤال الممانعة والمعارضة: المنع لكونه لم يقرره والمعارضة لكونه ناقض موجبها
وهذان السؤالان إذا توجها فإنما يدلان على قصور ابن سينا لا على قصور مادة الدليل الذي استدل به بل هو من أحسن المواد وهو مما يعلم به أن الله بكل شيء عليم: بالكليات والجزئيات
ونحن نذكر من كلامهم ما يبين ما ذكرناه
كلام الغزالي في تهافت الفلاسفة وتعليق ابن تيمية عليه
قال الغزالي: مسألة في تعجيز من يرى منهم أن الأول يعلم غيره ويعلم الأجناس والأنواع بنوع كلي
فنقول: أما المسلمون - يعني المتكلمين الذي هم يذبون عنده عن المسلمين - لما انحصر عندهم الموجود في حادث وقديم ولم يكن عندهم قديم إلا الله وصفاته وكان ما عداه حادثا من جهته بإرادته حصلت عندهم مقدمة ضرورية في علمه فإن المراد بالضرورة لا بد أن يكون معلوما للمريد فبنوا عليه أن الكل معلوم له لأن الكل مراد له وحادث بإرادته ولا كائن إلا وهو حادث بإرادته ولم يبق إلا ذاته ومهما ثبت أنه مريد عالم بما أراده فهو حي بالضرورة وكل حي يعرف غيره فهو بأن يعرف ذاته أولى فصار الكل عندهم معلوما لله وعرفوه بهذا الطريق بعد أن بان لهم أنه مريد لإحداث العالم
فأما أنتم إذا زعمتم أن العالم قديم لم يحدث بإرادته فمن أين عرفتم أنه يعرف غير ذاته فلا بد من الدليل عليه
قال: وحاصل ما ذكره ابن سينا في تحقيق ذلك في أدراج كلامه يرجع إلى فنين
قلت: ما ذكره الغزالي من الاستدلال بالإحداث على العلم طريق صحيح يوصل إلى تقرير أنه بكل شيء عليم لكن الطرق إلى ذلك كثيرة متعددة لم تنحصر في هذه الطريق لا سيما إذا أريد تقرير حدوث العالم بحدوث الأجسام وامتناع حوادث لا أول لها كما سلكه
فإن هذه الطريق مبتدعة في الإسلام باتفاق علماء الإسلام وهي باطلة عند أئمة الإسلام وجمهور العقلاء والعلم بكون الرب مريدا لا يقف على هذه الطريق بل ولا على العلم بحدوث الأجسام بل يكفي في ذلك مجرد العلم بأنه فاعل حتى أن كثيرا من الفلاسفة القائلين بقدم العالم يقول: إنه مريد وإنه عالم بالجزئيات كما ذهب إلى ذلك من ذهب إليه من الفلاسفة وهو الذي نصره أبو البركات فهؤلاء يثبتون العلم بطريق الإرادة
وأما المسلمون الذين يقولون: إن كل ما سوى الله مخلوق فأئمتهم وجمهورهم لا يثبتون ذلك بامتناع حوادث لا أول لها كما سلكه الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم بل هذا من الكلام المذموم عند السلف والأئمة
وأيضا فالرب إذا عرف أنه علام بمخلوقاته لأنه خلقهم بإرادته علم أنه إذا كان عالما بكل ما سواه فعلمه بنفسه أولى فإن هذه المقدمة لا تحتاج إلى توسيط كونه حيا وإن كان ذلك طريقا صحيحا وإن كانت الحياة شرطا في كونه عالما لكن ليس كل ما كان شرطا في الوجود كان العلم به شرطا في الاستدلال فإنه من علم أن الله يعلم كل ما سواه ثم نظر: هل يعلم نفسه أم لا؟ علم أن علمه بنفسه أولى من علمه بكل ما سواه قبل أن يستشعر أنه حي وأن كل حي يعرف غيره فهو بأن يعرف نفسه أولى
بل إذا كانت هذه القضية بينة وهو أن كل حي عرف غيره فهو بأن يعرف ذاته أولى قضية بينة بنفسها فهي بينة وإن لم يذكر فيها كونه حيا إذ علم الإنسان بهذه الأولوية غير مشروط بهذا وإن كانت الحياة شرطا في كل علم
كما أنا إذا علمنا أنه مريد علمنا أنه عالم بما أراده وإن لم يخطر بقلوبنا أنه حي وإن كانت الحياة شرطا في العلم والإرادة فالعلم باستلزام علمه بغيره لعلمه بنفسه لا يقف على العلم بهذه المقدمة وإن كانت هذه المقدمة تفيد هذا المطلوب أيضا
وأيضا فعلم المسلمين بأن الله بكل شيء عليم له طرق غير الاستدلال بالإرادة كما هو مذكور في موضعه
والمقصود كلامه على ما ذكره ابن سينا
قال: وحاصل ما ذكره يرجع إلى فنين: الأول: أنه عقل محض وكل ما هو عقل محض فجميع المعقولات مكشوفة له
إلى أن قال: وإن عنيت بأنه عقل: أنه يعقل نفسه فربما يسلم لك إخوانك من الفلاسفة ذلك ولكن يرجع حاصله إلى أن ما يعقل نفسه يعقل غيره
فيقال: ولم ادعيت هذا وليس ذلك بضروري وقد انفرد به ابن سينا عن سائر الفلاسفة فكيف تدعيه ضروريا؟ وإن كان نظريا فما البرهان عليه؟
إلى أن قال: الفن الثاني: قوله: إنا وإن لم نقل: إن الأول مريد للإحداث ولا إن الكل حادث حدوثا زمانيا فإنا نقول: إنه فعله وقد وجد منه إلا أنه لم يزل بصفة الفاعلية فلم يزل فاعلا فلا نفارق غيرنا إلا في هذا المقدار وأما في أصل الفعل فلا وإذا وجب كون الفاعل عالما - بالاتفاق - بفعله فالكل عندنا من فعله
قال أبو حامد: والجواب من وجهين :
أحدهما: أن الفعل قسمان: إرادي: كفعل الحيوان والإنسان وطبيعي: كفعل الشمس في الإضاءة والنار في التسخين والماء في التبريد
وإنما يلزم العلم بالفعل في الفعل الإرادي كما في الصناعات البشرية فأما في الفعل الطبيعي فلا
وعندكم أن الله فعل العالم بطريق اللزوم عن ذاته بالطبع والاضطرار لا بطريق الإرادة والاختيار بل لزم الكل ذاته كما يلزم النور الشمس وكما لا قدرة للشمس على كف النور ولا النار على كف التسخين فلا قدرة للأول على الكف عن أفعاله تعالى عن قولهم علوا كبيرا
قال: وهذا النمط وإن تجوز بتسميته فعلا فلا يقتضي علما للفاعل أصلا
فإن قيل: بين الأمرين فرق وهو أن صدور الكل عن ذاته بسبب علمه بالكل فتمثل النظام الكلي هو سبب فيضان الكل ولا مبدأ له سوى العلم بالكل والعلم بالكل عين ذاته فلو لم يكن له علم بالكل لما وجد منه الكل بخلاف النور من الشمس
قلنا: وفي هذا خالفك إخوانك فإنهم قالوا: ذاته ذات يلزم منها وجود الكل على ترتيبه بالطبع والاضطرار لا من حيث هو عالم بها فما المحيل لهذا المذهب مهما وافقتهم على نفي الإرادة؟
وكما لم يشترط علم الشمس بالنور للزوم النور بل يتبعها النور ضرورة فليقدر ذلك في الأول ولا مانع منه
الوجه الثاني: هو أنه إن سلم أن صدور الشيء من الفاعل يقتضي العلم أيضا بالصادر فعندهم فعل الله واحد وهو المعلول الأول الذي هو عقل بيسط فينبغي أن لا يكون عالما إلا به والمعلول الأول يكون أيضا عالما بما صدر منه فقط فإن الكل لم يوجد من الله دفعة بل بالوسط والتولد واللزوم فالذي يصدر مما يصدر منه لم ينبغ أن يكون معلوما له ولم يصدر منه إلا شيء واحد بل هذا لا يلزم في الفعل الإرادي فكيف في الطبيعي؟ فإن حركة الحجر من فوق جبل قد تكون بتحريك إرادي يوجب العلم بأصل الحركة ولا يوجب العلم بما يتولد منه بوساطته من مصادمته وكسر غيره فهذا أيضا لا جواب له عنه
قال: فإن قيل: فلو قضينا بأنه لا يعرف إلا نفسه لكان ذلك في غاية الشناعة فإن غيره يعرف نفسه ويعرفه ويعرف غيره فكيف يكون في الشرف فوقه؟ وكيف يكون المعلول أشرف من العلة؟
قلنا: فهذه الشناعة لازمة من مقال الفلاسفة في نفي الإرادة ونفي حدوث العالم فيجب ارتكابها كما ارتكبت سائر الفلاسفة له ولا بد من ترك الفلسفة والإعتراف بأن العالم حادث بالإرادة ثم يقال: بم تنكرون إلى آخره
قلت: ما ذكره أبو حامد من منازعة إخوانه الفلاسفة في أن العلم بنفسه يستلزم العلم بمفعولاته تقدم بيانه له وكون ابن سينا خالفهم في هذا هو من محاسنه وفضائله التي علم فيها ببعض الحق والحجة معه عليهم كما أن أبا البركات كان أكثر إحسانا منه في هذا الباب
فكل من أعطى الأدلة حقها وعرف من الحق ما لم يعرفه غيره كان ذلك مما يفضل به ويمدح وهو لم يقل: إن عقله لنفسه مستلزم لغيره بل قال: يستلزم عقله لمفعولاته كما تقدم
والأصول العقلية التي يوافقونه على صحتها توجب موافقتهم له في هذا الموضع كما تقدم
هذا لو كان الفلاسفة ينفون الإرادة وليس كذلك بل بينهم من يصرح بثبوتها وهو القول الذي نصره أبو البركات منهم
كلام ابن رشد في تهافت التهافت وتعليق ابن تيمية عليه
ومنهم من يحكي إثبات الإرادة عنهم مطلقا كما اختاره ابن رشد عنهم فإنه قال في تهافت التهافت: استفتح أبو حامد هذا الفصل بأن حكى عن الفلاسفة شيئا شنيعا وهو أن الباري ليس له إرادة لا في الحادث ولا في الكل لكون فعله صادرا عن ذاته ضرورة كصدور الضوء من الشمس ثم يحكي عنهم أنهم قالوا: من كونه فاعلا يلزم أن يكون عالما
قال: والفلاسفة ليس ينفون الإرادة عن الباري تعالى ولا يثبتون له الإرادة البشرية لأن البشرية إنما هي لوجود نقص في المريد وانفعال عن المراد فإذا وجد المراد له تم النقص وارتفع ذلك الانفعال المسمى إرادة وإنما يثبتون له من معنى الإرادة أن الأفعال الصادرة عنه هي صادرة عن علم وكل ما صدر عن علم وحكمة فهو صادر بإرادة الفاعل لا ضروريا طبيعيا إذ ليس عن طبيعة العلم صدور الفعل عنه كما حكى هو عن الفلاسفة لأنا إذا قلنا: يعلم الضدين لزم أن يصدر عن الضدان معا وذلك محال فصدور أحد الضدين عنه يدل على صفة زائدة على العلم وهي الإرادة
وهكذا ينبغي أن يفهم ثبوت الإرادة في الأول عند الفلاسفة فهو عندهم: عالم مريد عن علمه ضرورة
وقال ابن رشد أيضا: وأما قول أبي حامد: إن الفعل قسمان: إما طبيعي وإما إرادي - فباطل بل فعله عند الفلاسفة: لا طبيعي بوجه من الوجوه ولا إرادي بإطلاق بل إرادي منزه عن النقص الموجود في إرادة الإنسان وكذلك اسم الإرادة مقول عليهما باشتراك الاسم كما أن اسم العلم كذلك على العلمين: القديم والحادث فإن الإرادة في الحيوان والإنسان انفعال لاحق له عن المراد فهي معلولة عنه
هذا هو المفهوم من إرادة الإنسان والباري سبحانه منزه عن أن يكون فيه صفة معلولة فلا يفهم من معنى الإرادة إلا صدور الفعل مقترنا بالعلم وأن العلم كما قلناه يتعلق بالضدين ففي العلم الأول بوجه ما علم بالضدين ففعله أحد الضدين دليل على أن هنا صفة أخرى وهي التي تسمى إرادة
قلت: ابن رشد يتعصب للفلاسفة فحكايته عنهم أنهم يقولون: إنه مريد كحكايته عنهم إنهم يقولون: إنه عالم بالمخلوقات ولا ريب أن كلاهما قول طائفة منهم وأما نقل ذلك عن جملتهم أو المشائين جملة فغلط ظاهر ولكن الذي انتصر لثبوت هذا وهذا انتصارا ظاهرا أبو البركات ونحوه وابن رشد وهو إثبات ذلك دونه وابن سينا دونهما
ولا ريب أن كلام أرسطو في الإلهيات كلام قليل وفيه خطأ كثير بخلاف كلامه في الطبيعيات فإنه كثير وصوابه فيه كثير
وهؤلاء المتأخرون وسعوا القول في الإلهيات وكان صوابهم فيها أكثر من صواب أوليهم لما اتصل إليهم من كلام أهل الملل وأتباع الرسل وعقول هؤلاء وأنظارهم في الإلهيات فإن بين كلام هؤلاء في الإلهيات وكلام أرسطو وأمثاله تفاوتا كثيرا
والمقصود أن ما ذكره أبو حامد من أنه إنما يلزم العلم بالفعل في الفعل الإرادي فكلام صحيح وهذا يدل على أن الفعل إذا كان إراديا لزم كون الفاعل عالما بفعله فنستدل بكونه مريدا على كونه عالما وهو استدلال صحيح ويقتضي أنه إذا قدر نفي اللازم وهو العلم انتفت الإرادة وهو أيضا صحيح
وكذلك ما ذكره من أن العلم لا يلزم إلا في الفعل الإرادي لا في الفعل الطبيعي الذي ليس بإرادي فإذا قدر فعل ليس بإرادي لم يلزم كون الفاعل عالما هو كلام صحيح
وعلى هذا فإذا قدر أن الفاعل عالم لزم أن يكون الفعل إراديا لأن الفعل الإرادي مستلزم للعلم وغير الإرادي مستلزم لنفيه وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم وإذا ثبت الملزوم ثبت اللازم
فالإرادة ملزومة للعلم والعلم لازم لها ونفي الإرادة ملزوم لنفي العلم ونفي العلم ملزوم لنفي الإرادة
فإذا قدر ثبوت العلم لزم انتفاء نقيضه وهو نفي العلم ولازم نقيضه وهو انتفاء الإرادة وإذا انتفى هذا الانتفاء ثبت نقيضه وهو الإرادة
وإيضاحه أن العلم لازم للإرادة كما ذكروا أن كل مريد فهو عالم فما ليس بعالم ليس بمريد وهذا الذي يسمونه عكس النقيض فإن العلم لازم للإرادة فإذا انتفى هذا اللازم وهو العلم انتفى الملزوم وهو الإرادة
وذكروا أن الفعل الذي ليس بإرادي مستلزم لنفي العلم فإذا انتفت الإرادة في الفعل لزم نفي العلم فإذا انتفى هذا اللازم وهو نفي العلم انتفى ملزومه وهو انتفاء الإرادة فحصلت الإرادة فصار يلزم من ثبوت العلم في الفعل ثبوت الإرادة ومن نفيه نفيها ومن ثبوتها ثبوته ومن انتفائها انتفاؤه
وهذا بين إذ كان كل فعل بالإرادة فمعه العلم ولك فعل ليس بإرادة فلا علم معه فينعكس كل منهما عكس النقيض
فيقال: كل ما ليس معه علم فليس معه إرادة وكل ما معه علم فمعه إرادة فهذا يفيد أنه يلزم في الفعل من ثبوت كل واحد من العلم والإرادة ثبوت الآخر ومن انتفائه انتفاؤه وهذا حق وهو يدل على فساد قول من أثبت العلم ونفى الإرادة وهم بعض الفلاسفة وبعض المعتزلة
ولكن ليس في هذا ما يدل على فساد الطريق التي سلكها ابن سينا في إثبات العلم فإنه إذا استدل على كونه عالما بمخلوقاته: بأن الفاعل يجب أن يكون عالما بفعله وبأن العلم بالعلة التامة يستلزم العلم بمعلولها - كان دليلا صحيحا كما تقدم تقريره وإن لم يذكر في الدليل كونه فاعلا بالإرادة فإن هذا شرط في كونه فاعلا كما أن كونه حيا شرط في كونه فاعلا وكما أن كونه عالما شرط في كونه مريدا
والدليل قد يدل على ثبوت المشروط قبل أن يعلم شرطه ثم بعد ذلك قد يعلم بشرطه وقد لا يعلم كما يدل الدليل على كونه فاعلا بالاختيار وشرط الفاعل بالاختيار أن يكون عالما ثم إذا علم أنه فاعل بالإرادة علم بعد ذلك أنه عالم وقد يعلم العالم أنه مريد ولا يخطر بقلبه أنه عالم فليس كما من علم من البشر شيئا علم لوازمه لقصور علم البشر بخلاف علم الخالق الذي علمه تام فلا يعلم الملزوم إلا ويعلم لازمه كما تقدم
وإذا كان كذلك فالصواب في هذا الباب أن يقرر ما ذكره ابن سينا من الطريق الدال على كونه عالما بالمخلوقات فإنها طريق صحيحة لا تتوقف على ما ذكروه
ولكن يقال له: هذه الطريق تستلزم كونه مريدا فإثباتك لفاعل عالم بمفعولاته بدون الإرادة تناقض وموجب الدليل شيء وفساد الدليل شيء آخر فمطالبته بموجب دليله الصحيح هو الصواب دون القدح في دليله الصحيح
وأما ما ذكره عن إخوانه المنازعين له في العلم حيث قالوا: ذاته ذات يلزم منها وجود الكل بالطبع والاضطرار لا من حيث إنه عالم بها
وقوله: فما المحيل لهذا المذهب مهما وافقهم على نفي الإرادة؟
فيقال له: المحيل لهذا المذهب ما تقدم من أن علمه بنفسه يوجب علمه بمخلوقاته والكلام في هذا المقام بعد تقرير أنه عالم نفسه فمن قال: إنه عالم بنفسه دون مخلوقاته كان قوله باطلا وأما تقرير كونه عالما بنفسه فهذا مذكور في موضعه
وبهذا يظهر الجواب عن الفاعل بالطبع كالنار والماء فإن ذاك إنما قيل: ليس بعالم بفعله لكونه ليس عالما بنفسه ولم يقل عاقل: إن ذلك الفاعل عالم بنفسه دون فعله كما لم يقل عاقل: إنه عالم بفعله دون نفسه إذ كان العلم بكل منهما يستلزم العلم بالآخر