عود لكلام الباقلاني في شرح اللمع
قال القاضي أبو بكر: ( وأما قول أبي الحسن: إن الانقلاب والتغير والاعتمال والتأثير من سمات الدحث وما لم يسبق المحدثات كان محدثا مثلها - ففيه وجهان من الكلام :
أحدهما: أن نقول: إن التغييرات من سمات الحدوث بدلالة أن التغير هو خروج الشيء من صفة إلى صفة - فلا يخلو إما أن يكون خروجا من صفة قدم إلى صفة قدم أو من صفة حدث إلى صفة حدث أو من صفة قدم إلى صفة حدث أو من صفة حدث إلى صفة قدم
والأول باطل لوجهين :
أحدهما: أن المنتقل انتقل إلى أمر مستأنف لم يكن عليه وذلك لا يكون قديما الثاني: أن ذلك يقتضي عدم القديم كما تقدم والقديم لا يجوز عدمه )
قال: ( ويستحيل أن يكون التغيير خروجا من حال حدث لأن ذلك لا يثبت إلا بأحد وجهين :
إما بحدوث تغيير القديم أو ببطلان معنى منه قد ثبت قدمه ووجوب حدوث ما اكتسبه وصفا بعد أن لم يكن مستحقا له وما قبل الحوادث لم يخل منها أو من أضدادها وما لم يوجد قبل أول الحوادث ولم يعر منها كان محدثا مثلها )
قال: ( ولا خلاف بيننا وبينهم - يعني المعتزلة - في هذا القسم لنطنب فيه )
وقال: ( وأما الوجه الآخر: فهو أن نقول: إنما أراد بقوله: إنها من سمات الحدث ودلائلة - إنها إذا ثبت حدوثها وأن الجسم لم يخل منها ولم يوجد قبل أولها: وجب له من الحدث ما وجب لها إذ لا يخلو أن يكون وجد مع وجودها أو بعد وجودها إذ قد فسد أن يكون موجودا قبلها
فإن كان وجد مع وجودها وجب له من الحدث ما وجب لها وإن كان وجد بعد وجودها كان أولى بالحدوث لأن ما وجد بعد المحدث كان أولى أن يكون محدثا )
قال القاضي أبو بكر: ( واعلم أن هذا الدليل على حدوث النطفة وغيرها من الأجسام إذا علق على هذه النكتة وسلك فيها هذا الضرب من الاستدلال - فلا بد فيه من مقدمات أربع :
أولها: الدلالة على إثبات الأعراض
والثانية: الدلالة على حدوثها وأن لها أولا تنتهي إليه
والثالثة: أن الجسم لا يخلو منها ولا يوجد قبل أولها
والرابعة: أن ما لم يسبق المحدثات فواجب أن يكون محدثا مثلها )
ثم تكلم على إثبات هذه المقدمات بالكلام المعروف فهم في ذلك
ولما قيل له: لم قلتم: إن الجسم لا ينفك من هذه الحوادث ولا يوجد قبل أولها؟
قال: ( لأدلة منها: أنا نعلم بالاضطرار وببدائه العقول ومقدماتها: أن الأجسام إذا كانت موجودة فلا تخلو من الاجتماع والافتراق وذلك لأنها لا تعدو إذا كانت موجودات من أن تكون متماسة متلاصة كل شيء منها إلى جنب صاحبه أوتكون متباينة متباعدة كل شيء منها لا إلى جنب صاحبه وليس بين هذين منزلة
فإن كانت متماسة فذلك معنى الاجتماع وإن كانت متباينة فذلك هو معنى الافتراق )
قال: ( ومما يبين ذلك أيضا: أنا لوجاز لنا وجود جسم خاليا من الحركة والسكون والاجتماع والافتراق والحياة والموت والسواد والبياض غيرهما من الألوان ومن سائر الهيئات لم يجد إلى ذلك سبيلا ولكان ذلك ممتنعا لأنا وجدنا هذه الأعراض متعاقبة عن الأجسام وتفسير التعاقب: أن الشيء منها يوجد بعقب غيره )
تعليق ابن تيمية
قلت: أما الاجتماع والافتراق: فإذا قدر وجود جسمين فلا بد من يجتمعا أو يفترقا وأما الجسم الواحد الذي ليس معه غيره فلا يوصف بمجامعة غيره ولا مفارقته
وإنما يصفه بالاجتماع والافتراق من يقول: بأنه مركب من الأجزاء المفردة فيقول: تلك الأجزاء إما مجتمعة وإما مفترقة وهذا ليس معلوما بالبديهة ولا الحس ولا يسلمه جمهور الناس
وأما الحياة والموت: فقد ينازعه من ينازعه من النظار في ذلك فإن نظار المسلمين وغيرهم متنازعون في الموت: هل هو وجودي أو عدمي؟
ثم من قال: إنه عدمي يقول كثير منهم: إن هذين متقابلان تقابل العدم والملكة
وما لا يقبل الحياة والموت كالجماد لا يوصف بواحد منهما
لكن القاضي وجمهور الناس يردون على هؤلاء: بأنه هذا اصطلاح منكم لا يلزمنا
ويقولون: إنا نفسر الموت بما يكون النزاع معه لفظيا
ويقول القاضي وأكثر الناس: إن كل جسم فإنه يقبل الحياة
لكن الذي يقال له: الجسم لا يخلو من أن يكون حيا أو ميتا كما لا يخلو من أن يكون متحركا أو ساكنا واتصافه بالحياة لايستلزم إمكان اتصافه بالموت فإن القديم سبحانه موصوف بالحياة والعلم والقدرة ولا يمكن اتصافه بضد ذلك
وحينئذ: فلا يمكن أن يقال: إن كل جسم يقبل الحياة والموت إلا بدليل يدل على ذلك والحياة لايجب أن تكون حادثة لا نوعا ولا شخصا كما قد يقال مثل ذلك في الحركة
تابع كلام الباقلاني وتعليق ابن تيمة عليه
ثم قال القاضي أبو بكر: ( فإن قال قائل: فما الدليل على أن لم يسبق المحدثات محدث وأنه واجب لا محالة القضاء على حدوث الجسم متى لم يوجد قبل أول الحوادث ولم زعمتم ذلك؟
قيل له: الدليل على هذا قريب واضح: وذلك أنه لا حال للجسم مع الحوادث إلا بثلاثة أحوال: إما أن يكون موجودا قبل أولها أو يكون موجودا مع وجودها أو يكون موجودا بعدها
فإذا بطل أن يكون الجسم عاريا عن الحوادث ومنفكا من سائرها - وجب أنه ليس له معها إلا حالان: إما أن يكون موجودا مع وجودها أو بعدها
فإن كان موجودا مع وجودها ولوجودها أول: فواجب أن يكون حكمه في الوجود عن أول وحصوله عن عدم حكمها وذلك يوجب من حيث شركها في علة الحدوث متى لم يكن سابقا لها
وإن كان موجودا بعدها: كان أولى بالحدوث منها لوجوده بعدها )
فهذا منتهى كلام القاضي وأبي الحسن في إثبات الصانع وكلام أبي الحسن أجود فإنه بناه على التغير المحسوس في النطفة لم يحتج من ذلك إلى إثبات جنس الأعراض لكل جسم
وقول القاضي: إن الدليل على حدوث النطفة وغيرها من الأجسام إذا علق على هذه النكتة فلا بد فيه من إثبات الأعراض أولا وعلى حدوثها ثانيا - فليس كما قال بل الأشعري عدل عن هذه الطريق قصدا كما ذكره في رسالة الثغر وذم هذه الطريق وعابها
وذلك أن ما ذكره من تحول النطفة وانقلابها أمر مشهود محسوس لا ينازع فيه عاقل سليم سواء سمي ذلك تحول عرضا أولم يسم وسواء قيل: إن ذلك العرض مغاير للجسم أوقيل ليس بمغاير له وتحولها مشهود حدوثه لا يحتاج من ذلك إبطال كمون الأعراض ولا انتقالها
لكن منتهى الدليل إلى مقدمة واحدة: وهو أن ما قامت به الحوادث فهو حادث بناء على أن ما قامت به لم ينفك عنها وما لم يسبق الحوادث فهو حادث وهذه المقدمات فيها نزاع مشهور
وجمهور الناس من المسلمين واليهود النصاري والمجوس والصابئين والمشركين يخالفون في ذلك حتى جمهور الفلاسفة المتقدمون والمتأخرون القائلون بقدم العالم وحدوثه يخالفون في ذلك
والجمهور القائلون بأن الله خلق السماوات والأرض بعد أن لم تكونا مخلوقتين لا يتوقف إثبات ذلك عندهم على هذه المقدمة بل ويقولون: إن إثبات خلقهما لا يثبت إلا مع نقيض هذه المقدمة بل وكذلك القول بأن الله خالق كل شيء وأنه هو القديم وحده وما سواه محدث مسبوق بالعدم كما هو مذهب أهل الملل
وجمهور العقلاء يقول أئمتهم: إنها لا تحتاج إلى هذه المقدمة بل لا تثبت إلا مع نقيض هذه المقدمة ومع القول بإبطالها ويقولون: إن موجب هذه المقدمة أن كل موجود محدث وأنه ليس في الوجود قديم مع أن هذا معلوم الفساد بالضرورة
وأما الكلام في أن ما قبل الحوادث لم يخل منها ففيها نزاع مشهور بين أهل الكلام وذلك قوله: ما لم يسبق الحوادث فهو حادث فيها من منازعة أهل الحديث والكلام والفلسفة ما هو معروف
وقد يسلم هذه من ينازع في الأولى من الكرامية ونحوهم وقد ينازع في هذه من لا ينازع في الأولى من أهل الحديث والفلسفة والكلام وغيرهم
وهذه المقدمة هي التي جعلها الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم عليها من الأشعرية والكرامبة وأتباع الأئمة الأربعة - أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد - أصل الدين
ثم إن قدماءهم كانوا يأخذونها مسلمة ويظنونها ضرورية ولا يميزون بين ما لا يسبق الحادث المعين والحوادث المحدودة التي لها مبدأ وما لا يسبق جنس الحوادث
فإن ما لا يسبق الحادث المعين أو الحوادث المحددة التي لها مبدأ فهو محدث بالضرورة ولا ينازع في هذا عاقل
فإن ما كان عينه حادثا فما لم يكن قبله فإنه محدث مثله بالضرورة كما قرره لأنه إما بعده وما كان مع الحادث أو بعده فهو حادث بالضرورة
وأما ما لا يسبق جنس الحوادث وهو ما قدر أنه لم يزل يقارنها حادث بعد حادث وهلم جرا كما أنه يقارنه حادث بعد حادث وفان بعد فان في الأبد فيقدر ليس متقدما على جنس الحوادث ولا متأخرا عن جنس الحوادث والفانيات فهذا محل نزاع: نازعهم فيه جمهور الناس من أهل الملل والفلاسفة القائلين بحدوث العالم وبقدمه
وقد رأيت في كتب كثير من المتكلمين: من المعتزلة والأشعرية وغيرهم أنهم أخذوا هذه المقدمة مسلمة وجعلوها ضرورية واشتبه عليهم ما لم يسبق عين الحادث بما لم يسبق نوع الحادث
والأول ظاهر معلوم لكل احد
وأما الثاني فليس كذلك فصاروا ينتهون في أصل أصول دينهم الذي زعموا أنه ثابت بصريح المعقول وأنهم به عرفوا وجود الخالق وصدق رسله وأنه به يردون على من خالف الملة وبه خالفوا ما خالفوه من نصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة وأهل الحديث إلى هذه المقدمة وهي لفظ مجمل فيه عموم وإطلاق أحد نوعيه بين
فإذا ذكروا ذلك النوع البين ظنوا أن المقدمة صارت معلومة ضرورية والمطلوب لا يتم إلا ببيان النوع الآخر وهم لم يبينوه
وهذا مما يبين للفاضل المعتبر كيف تدخل الشبهات والبدع على كثير من الناس وإن كانوا من أعقل الناس وأذكاهم وأفضلهم وإن كانوا لم يعتمدوا التلبيس لا على أنفسهم ولا على من يعلمونه ويخاطبونه لكن اشتبه الأمر عليهم فوقعوا في شبهات ظنوها بينات
وهذا مما يعتبر به المسلم فلا يعدل عن كلام الله وكلام رسوله المعصوم الذي عرف أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إلى كلام من يروج عليهم مثل هذه الشبهات ويغرقون في مثل هذه المجملات ولا يتبين لهم ما فيها من فصل الخطاب والتقسيم المميز للصحيح من السقيم
ويعرف بهذا حذق السلف والأئمة الذين ذموا مثل هذا الكلام وجعلوه من الجهل الذي يستحق أهله العقوبة والانتقام
لكن هؤلاء ذكروا في موضع آخر الكلام مع من يدعي وجود ما لا يتناهى وبحثوا معه وإن كانوا لم يجعلوا ذلك من المقدمات التي لا بد منها في هذه المسألة
وقد ذكر القاضي أبو بكر بعد هذا فقال: ( فصل: فإن قال قائل من أهل الدهر الذاهبين إلى أنه: لا حركة إلا وقبلها حركة ولا حادث إلا وقبله حادث لا إلى غاية: فما أنكرتم من ألا تدل الحوادث على حدوث الجسم أصلا إذ كان لا أول لوجودها ولا شيء منها إلا وقبله شيء لا إلى غاية؟
يقال له: أنكرنا ذلك لأمور: أقربها أن هذا الذي قلته محال متناقض وذلك أنه لا يخلو ما ما مضى من الحوادث وانقضى أن يكون محدثا موجودا عن أول وأن يكون الفعل والفراغ قد أتيا عليه أو أن يكون منها ما هو غير وجود عن أول ولا كائن عن حدوث
فإن كان الماضي من الحوادث مستفتحا مبتدأ قد أتى عليه الفراغ - استحال قولكم: إنها لم تزل موجودات شيئا قبل شيء لأن ما لم يزل موجودا فقديم غير مستفتح
وقولنا: إنها حوادث وجب لها الاستفتاح والوجود عن أول والجمع بين ذلك متناقض - محال
وإن كان فيما أوقعنا عليه هذه التسمية وهو قولنا: حوادث ما هو موجود لا عن أول وكائن عن عدم فالموجود لا بحدوث والكائن لا عن عدم واجب أن يكون قديما لا محالة كما أن الفلك عندكم وعناصر الأشياء - التي هي: الماء والأرض والنار والهواء - قديمة عندكم إذ كانت موجودة لا عن عدم وكانت لا بحدوث فواجب أن يكون الفلك قديما لا أول لوجوده
ولو أمكن أن يكون فيما أوقعنا عليه قولنا: حوادث ما هو كائن لا بحدوث موجود لا عن عدم وهو مع ذلك محدث في الحقيقة - لوجب أن يكون الفلك أيضا وهذه الأعراض موجودة لا بحدوث كائنا لا عن عدم وهو مع ذلك محدث غير قديم
وكذلك القول في سائر أجسام العالم المركبة من هذه الأصول ولو جاز ذلك جاز في جميع أجسام العالم فإن لم يجز هذا ووجب قدم الفلك الكائن لا عن عدم الموجود بغير حدوث - وجب قدم ما كان من الحوادث لا عن عدم وما هو موجود فيها بغير حدوث
وهذا يوجب أن من الحوادث ما هو قديم وذلك غاية التناقض والجهل لمن بلغه لأن هذين الوصفين متناقضان
وإذا كان كذلك استحال ما قلتموه من أن الحوادث لم تزل شيئا قبل شيء لا إلى أول
قال: ( وتحرير ذلك أن هذا قول يوجب أن منها ما هو قديم لا محالة والقديم لا يكون محدثا ولا مجموعا من الحوادث لأن قولنا محدث جمع مبني من لفظ واحد ومن المحال أن يكون من جملة الحوادث
فوجب أن للحوادث كلا وجميعا وأن ما انقضى منها ومضى قد لقي الفراغ على جميعه وأن لم يسبقه ولم يكن قبله فواجب أن يكون محدثا مثله )
فدل ما ذكره أبو الحسن في حال النطفة وما يلحقها من التغييرات والانقلاب والتأثيرات على أنها محدثة وهي وسائر الأجسام إذ سائر الأجسام هي كالنطفة فيما استدل به على حدوثها من الاعتمال والتأثير والانقلاب والتغيير )
قال: ( وهذا الطريق من الكلام في حدوث الأجسام هو المعتمد في هذا الباب )
تعليق ابن تيمية
قلت: هذا القاضي هو المقدم على أبناء جنسه وهذا منتهى كلامه في هذا الموضع الذي هو عندهم أصل الدين الذي جعلوه أصلا لرد ما خالفه من النصوص النبوية ولما خالفه من مذاهب الدهرية
والمنازعون من أئمة السنة وأئمة الفلسفة يقولون لهم: ما ذكرتموه ليس فيه إلا مجرد الدعوى المبنية على عدم تصور النزاع فإن قولكم: لا يخلو ما مضى من الحوادث أن يكون موجودا عن أول أو يكون فيها ما هو غير موجود عن أول - جوابه: أن ما مضى من الحوادث يراد به كل فرد بعينه ويراد به النوع المتعاقب شيئا بعد شيء
فإن كان المراد كل واحد واحد من الحوادث فليس فيها شيء قديم بل كل منها كائن بعد أن لم يكن
وإن كان مرادك النوع المتعاقب شيئا بعد شيء فليس له أول وليس هو حادثا بل النوع قديم من أن كل فرد من أفراده حادث وأنت لم تذكر دليلا على امتناع هذه البتة وإنما ذكرت أنه ليس فيها شيء قديم وهذا مسلم لا نزاع فيه
وقلت: فإن كان الماضي من الحوادث مستفتحا مبتدأ قد أتى الفراغ عليه استحال قولكم: إنها لم تزل موجودة شيئا قبل شيء لأن ما لم يزل فقديم غير مستفتح
فيقال لك: كل واحد منها مستفتح مبتدأ ولكن لم قلت: إنه إذا كان كذلك استحال قول القائل: إنها لم تزل موجودة شيئا قبل شيء لأن ما لم يزل فقديم غير مستفتح؟
فإن هذا القائل يقول: إن الذي لم يزل إنما هو الجنس المتعاقب شيئا بعد شيء وأما كل واحد واحد من تلك الحوادث فلا يقول عاقل: إنه لم يزل
فقول القائل: فإن كان الماضي من الحوادث مستفتحا مبتدأ قد أتى الفراغ عليه استحال قولكم: إنها لم تزل موجودة شيئا قبل شيء
يقال له: هم لا يقولون: إن جنس الماضي مستفتح مبتدأ فإن ما لم يزل موجودا شيئا قبل شيء لا يكون إلا قديما لم يزل ولكن يقولون: إن كل واحد من تلك الحوادث مستفتح مبتدأ وهذا لا يقولون فيه: إنه لم يزل موجودا
فالذي يقولون: إنه لم يزل ليس هو الذي يقولون: إنه مستفتح مبتدأ وهذا كما يقولون في المستقبلات الفانية المنقضية المتصرمة كالحركات: إن كل واحد منها فان منقض والجنس ليس بفان منصرم بل هو دائم كما قال تعالى: { أكلها دائم } وقال: { إن هذا لرزقنا ما له من نفاد } فالجنس دائم لا نفاذ له وكل واحد واحد من أفراد الرزق المأكول ينفذ لا يدوم
ولما تفطن كثير من أهل الكلام لما في هذه المقدمة من الإجمال والإبهام وأنها لا بد من بيان هذه المقدمة في هذا الموضع ميزوا بين النوعين كما فعل ذلك أبو الحسين البصري وأبو المعالي الجويني والشهرستاني والرازي وغيرهم فعرفوا أن المراد أنه ما لم يسبق جنس الحوادث لا عين الحوادث وأن ذلك لا يتم إلا ببيان أن الحوادث يجب أن يكون لها ابتداء وأنه يمتنع وجود حوادث لا يتناهى نوعها فإخذوا يحتجون على ذلك بما ذكرناه وذكرنا اعتراض الناس عليه في غير هذا الموضع
ولهذا جعل أبو الحسين وأبو المعالي ونحوهما هذا الدليل مبنيا على أربع مقدمات: إثبات الأعراض وإثبات حدوثها وإثبات استلزام الجسم لها واستحالة حوادث لا أول لها
وجعلوا النتيجة: أن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث فإن ذلك حينئذ يكون معلوما بالضرورة بخلاف ما فعله كثير من أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة والأشعرية والشيعة وغيرهم حيث جعلوا المقدمات أربعا: إثبات الأعراض وإثبات حدوثها وأثبات استلزام الجسم لها والرابعة: أن ما لم يسبق الحوادث فهو محدث وهذه هي النتيجة وتصلح أن تكون مقدمة إذا تبين أن ما لم يسبق جنس الحوادث فهو محدث لكن هم لم يثبتوا ذلك هنا واللفظ مجمل كما ترى
لكن قد بين هؤلاء ك القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما الكلام على هذا الأصل وهو امتناع وجود ما لا يتناهى في موضع آخر فجعلوا الكلام في إبطال ما لا يتناهى من الحوادث والأجزاء التي هي الجواهر المفردة ونحو ذلك جنسا
ومنهم من يجعل ذلك دليلا ثابتا في المسألة كما فعله ابن عقيل والقشيري وغيرهما
وقد ذكرنا: أن الناس لهم في وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل ثلاثة أقوال قال بكل قول طائفة من نظار المسلمين وغيرهم
أحدها: امتناع وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل وهذا قول أبي الهذيل والجهم بن صفوان وعن هذا الأصل قال الجهم بفناء الجنة والنار واشتد إنكار سلف الأمة عليه ذلك
وليس هذا قول من يقول بأنهما ليستا مخلوقتين ولو كانتا مخلوقتين لفنيتا كما قال ذلك طائفة من الجهمية والمعتزلة فإن هؤلاء يقولون: إن العالم كله لا بد أن يفنى جميعه ثم يعاد فلو كانت الجنة مخلوقة لفنيت فيما يفنى ثم تعاد فلا تفنى والجهم يقول: تفنى فناء لا تعاد بعده وأبو الهذيل يقول: تفنى حركات أهل الجنة والنار
والقول الثاني: قول من يقول بامتناع ما لا يتناهى في الماضي دون المستقبل لأن الماضي قد وجد والمستقبل لم يوجد بعد وهو قول أكثر المعتزلة والأشعرية والكرامية ومن وافقهم
والثالث: قول من يقول بإمكان وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل كما هو قول أئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة
لكن أئمة أهل الملل وغيرهم ممن يقر بأن الله خالق كل شيء وأن كل ما سواه محدث مسبوق بعدم - يقولون: لا يجوز وجود حوادث لا تتناهى إلا من قديم واحد وأما من يقول بوجود قديمين متحركين كمن يقول بقدم الأفلاك فإن هؤلاء - كأرسطو وأتباعه - لا يجوزون أن يوجد بكل من القديمين - بل والقدماء - حوادث لا بداية لها ولا نهاية مع أن إحداهما أكثر من الأخرى فيجوزون فيما لا أول له ولا آخر أن يكون غيره أكثر منه وأن يكون قابلا للزيادة بخلاف الذين قبلهم فإنهم إنما يجوزون ذلك في قديم واحد فإذا كان ما يفعله لا بداية له ولا نهاية لم يلزم أن يكون قابلا للزيادة
وعلى هذا فللناس في أن ما لا يسبق جنس الحوادث هل هو حادث؟ أقوال :
أحدها: أنه يجب أن يكون حادثا مطلقا
والثاني: لا يجب أن يكون حادثا
والثالث: أنه كان محتاجا إلى غيره وجب أن يكون حادثا وإن كان غنيا عن غيره لم يجب أن يكون حادثا
وأيضا فإن ما لم يسبق حوادث نفسه لم يجب أن يكون حادثا وإن لم يسبق حوادث غيره كان حادثا وقد قرر هذا في موضع آخر
ومن فهم ما ذكرناه ونظر فيما صنفه الناس في هذا الباب من الاستدلال على حدوث الأجسام بأنها لا تخلو من الحوادث وما لم يسبق الحوادث فهو حادث - تبين له تقصير كثير منهم في استيفاء مقدمات الدليل ثم الذين استوفوا مقدماته يبقى الكلام معهم في صحة تلك المقدمة وقد عرف منازعه أكثر أهل الملل وأكثر الفلاسفة أو كثير من الطائفتين فيها وإبطالهم لها
ولما كان هؤلاء وأمثالهم يدعون أن معرفة الله لا تحصل إلا بالمعقول ويفسرون المعقول بمثل هذا الدليل الذي هو باطل وغايته إذا قيل: إنه صحيح أنه لا يصل به إلى المطلوب إلى قليل من الناس بعد كلفة شديدة ومخاطرة عظيمة ويريدون أن يردوا بمثل هذا ما دل عليه الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة بل ما علم بفطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها ودلت عليه العقليات الصريحة قابلهم من قال: إن المعرفة لا تحصل إلا بالشرع وهؤلاء في الغالب لا يريدون بذلك المعرفة الحاصلة لعموم الخلق من الكفار وغيرهم فإن هذه عندهم فطرية ضرورية أو مكتسبة بنوع من نظر العقل
وقد تقدم كلام الناس في أن أصل الإقرار بالصانع فطري ضروري أو قد يكون ضروريا خلافا لمن قال: إنه لا يحصل إلا بالنظر
وكلام السلف والأئمة في ذلك كثير ولهذا كان كثير من أتباعه ممن يقول: إن أول الواجبات هو النظر وأن المعرفة لا تحصل إلا به قد يقول خلاف ذلك في موضع آخر
وقد تقدم أن القاضي أبا يعلى وغيره كانوا يقولون بوجوب النظر في هذه الطريقة: طريقة الأعراض ثم رجعوا عن ذلك ويقولون: إن المعرفة نظرية وإنها حاصلة بالنظر في الأدلة المذكورة في القرآن
وكثير من الناس كانوا يقولون أولا بوجوب النظر المعين الذي توجبه الجهمية والمعتزلة وهو النظر في حدوث الأعراض ولزومها للأجسام وأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وأنه أول واجب على العباد ثم رجعوا عن ذلك لما تبين له فساد القول بوجود ذلك
كلام أبي يعلى في المعتمد عن وجوب النظر
ومن هؤلاء القاضي أبو يعلى وابن عقيل وأبو المعالي الجويني والغزالي والرازي وغيرهم فإن هؤلاء وأمثالهم سلكوا أولا الطريقة التي وجدوها للمتكلمين الذي سلكوا مسلك الجهمية والمعتزلة فقالوا - وهذا لفظ القاضي أبي يعلى في المعتمد -: ( إذا ثبت صحة النظر ووجوبه فإن أول ما أوجب الله على خلقه العقلاء النظر والاستدلال المؤديين إلى معرفة الله تعالى )
قال: ( وقد قيل: إن أول الواجبات إرادة النظر والاستدلال المؤدي إلى معرفة الله تعالى )
قلت: هذا قول أبي المعالي في إرشاده وذكر القاضي أبو بكر وغيره
واختار القاضي أبو يعلى هذا في موضع آخر فقال: ( أول ما أنعم الله على المؤمنين - بعد الحياة - من النعم الدينية: خلق القدرة على الإرادة للنظر والاستدلال المؤديين إلى إثبات المعاني وحدوثها وأن الجواهر لم تخل منها ولم تسبقها في الوجود الموصل له إلى معرفة الله تعالى )
قال: ( وقد قيل: أول نعمة دينية خلق القدرة على الإيمان )
قال: ( وجه الأول: أول طاعة واجبة لله على الخلق اكتساب الإرادة للنظر المؤدي إلى إثبات المعاني وحدوثها وأن الجواهر لم تسبقها وإذا كان ذلك أول الواجبات وجب أن يكون أول النعم عليه من النعم الدينية )
قال: ( وأعظم نعمة الله على المؤمنين من النعم الدينية وأجلها: كتب الإيمان في قلوب المؤمنين )
قال: ( وقد قيل: أعظم النعم الدينية هي: خلق القدرة على الإيمان والأول أشبه
فإن أعظم الطاعات هو الإيمان فإنه بوجوده والموافاة به يحصل الثواب الدائم في الآخرة وإذا لم يوجد لا يحصل ذلك ثم قالوا: - وهذا لفظ القاضي أبي يعلى - خلافا لمن قال: إن أول الواجبات المعرفة بالله وخلافا لمن قال: معرفة الله غير واجبة وأن الواجب الإقرار به والتصديق له
قال: ( والدلالة على ما ذكرنا أنه قد ثبت أن من لا يعرف الله لا يمكنه أن يتقرب إليه كما أن من لا يعرف زيدا لا يمكنه أن يتقرب إليه
لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفا بالمتقرب إليه وليس بمشاهد لنا ولا معلوم لنا ضرورة فوجب ألا نعلمه إلا بالنظر والاستدلال في الطريق الموصل إليه فلما لم تتم المعرفة إلا به وجب أن يكون واجبا وإذا وجب علم أنه أول الواجبات )
ثم قال: ( فصل ): وإذا ثبت أن أول الواجبات فإنما يجب النظر في الطريق الموصل إلى معرفة الله وهو حدوث الأشياء من الجواهر والأجسام وإذا كانت محدثة وجب أن يكون لها محدث لأن المحدث لو لم يعلق بمحدث لم تتعلق الكتابة بكاتب والضرب بضارب لأن ذلك كله يبعد إذ استحالة محدث لا محدث له كاستحالة كتابة لا كاتب لها فلو جاز محدث لامحدث له لجاز محدث لا إحداث له وذلك محال
وأيضا فإنا نرى الحوادث يتقدم بعضها على بعض ويتأخر بعضها عن بعض فلولا أن مقدما قدم منها ما قدم وأخر منها ما أخر لم يكن ما تقدم منها أولى من أن يكون متأخرا وما تأخر منها أولى من أن يكون متقدما فدل ذلك على أن لها مقدما محدثا لها قدم منها ما قدم وأخر منها ما أخر )
وكان القاضي قد سمع رسالة الخطابي في الغنية عن الكلام وأهله على مسعود السجزي عن علي بن سري السجستاني عن الخطابي وذكر أن بعض الناس اعترض عليها
فإن الخطابي ذكر عن الغنية عن الاستدلال بحدوث الجواهر والأجسام لكونها لا تنفك عن الحوادث كما تقدم وقال: ( فأموا مثبتوا النبوات فقد أغناهم الله تعالى عن ذلك )
وهذه طريقة السلف من أئمة المسلمين في الاستدلال على معرفة الصانع وحدوث العالم لأنه إذا ثبتت نبوته بقيام المعجز ( وجب تصديقه على ما أنبأهم عنه من الغيوب ودعاهم إليه من أمر وحدانية الله تعالى وصفاته وكلامه ) ( وقد نبههم في كتابه على الاستدلال به على ربوبيته فقال: { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } ) وقال: { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت } وقوله: { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات } وما أشبه ذلك مما يدل على إثبات الصانع ) إلى آخر كلامه
قال القاضي: ( وقد اعترض على هذا بعضهم فقال: هذه رجوع منهم ومناف لما ذكره لأنه حث على الاعتبار بأنفسنا وبالسماوات والأرض وليس ذلك بمعجزات الأنبياء وإنما هي الأجسام والأعراض )
قال: ( وإنما احتج المتكلمون بالأعراض لأن الجسم لا ينفك منها وهي محدثة في أنفسها لعلمنا بأن العرض يعدم في حال ويوجد في حال أخرى وهذا شاهد على حدوثها وعلى حدوث ما لا ينفك منها )
قال: ( ومعنى قوله: انقلابها فيها انقلاب الجواهر في الأعراض ومعناه تغيره من سواد إلى بياض ومن حركة إلى سكون )
قلت: قد يراد بانقلابها فيها انقلاب الأعراض في الجواهر فإنها تنقلب من عدم إلى وجود ومن وجود إلى عدم ومن نوع إلى نوع: كالبياض والسواد والحركة والسكون
وهذا المعترض على الخطابي أخطأ فإن الخطابي ذكر طريقين كما ذكرنا :
أحدهما: المعجزات بناء على أن الإقرار بالصانع فطري أو على المعجزات يستدل بها على الخالق وعلى صدق أنبيائه كما ذكرنا في عصا موسى
والطريق الثاني: أن القرآن نبه على الأدلة العقلية الصحيحة كما اعترف أئمة النظار بأن القرآن دل على الطريق العقلية
فقال: ( وإلى ذلك ما وجدوه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة ودلائل الحكمة الشاهدة على أن لها صانعا حكيما عالما خبيرا تام القدرة بالغ الحكمة
وقد نبههم الكتاب على ذلك ودعاهم إلى تدبره وتأمله والاستدلال به على ثبوت ربوبيته فقال عز وجل: { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } إشارة إلى ما فيها من آثار الصنعة ولطيف الحكمة الدالين على وجود الصانع الحكيم )
ثم تكلم في خلق الإنسان بما تقدم ذكره قال: ( وكقوله: { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت } وبقوله تعالى: { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } وما أشبه ذلك من خلال الأدلة وظواهر الحجج التي يدركها كافة ذوي العقول وعامة من يلزمه حكم الخطاب مما يطول تتبعه واستقراؤه )
قال: ( فبهذه الوجوه ثبت عندهم أمر الصانع وكونه )
فقد بين الخطابي بعض ما نبه عليه القرآن من الاستدلال بالآيات النفسية والأفقية وهي أدلة عقلية
والخطابي ذم طريقة الاستدلال بالأعراض وأنها لازمة للأجسام وهذه الطريقة لم ينبه القرآن عليها ولكن بعض الناس ذكروا: أن هذه طريقة إبراهيم الخليل صلوات الله عليه في قوله: { لا أحب الأفلين } قالوا: لأن الأفول هو الحركة التي لم يخل الجسم منها
بطلان استدلال الفلاسفة
وهذا باطل لوجوه :
أحدها: أن الأفول باتفاق أهل اللغة والتفسير هو المغيب والاحتجاب
والثاني: أنه لو استدل بالحركة لكان من حين بزغت استدل بذلك لم يؤخر الدلالة إلى حين الغروب
الثالث: أن قصة إبراهيم هي على نقيض مطلوبهم أدل فإنه لم يجعل الحركة منافية لما قصده بل المنافي هو الأفول
الرابع: أن إبراهيم لم يكن معنيا بقوله: { هذا ربي } أنه رب العالمين عل أي وجه قاله ولا اعتقد ذلك قومه ولا غيرهم وإنما كان الذي يقول ذلك يتخذه ربا لينال بذلك أغراضه كما كما عباد الكواكب والشمس والقمر يفعلون ذلك وكان قومه من هؤلاء لم يكونوا جاحدين للصانع بل مشركين به
ولهذا قال لهم: { أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين }
وقال في آخر قوله: { إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين * وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون } وقد بسط هذا في موضع آخر
والمقصود هنا: أن القاضي كان أولا يقول بطريقة من يقول: إن أول الواجبات هو النظر في حدوث الأجسام ثم رجع القاضي عن ذلك ووافق الخطابي وغيره ممن سلك مسلك السلف والأئمة وقالوا: إن هذه الطريقة ليست واجبة بل هي عند محققيهم باطلة وإن كان النظر واجبا في غيرها من الطرق الصحيحة
وقد افتتح القاضي كتابه بقوله: ( الحمد لله مبتدىء الأشياء ومخترعها من غير شيء العالم بها قبل تكوينها والقادر عليها قبل أنشائها جاعل العلامات وناصب الدلالات ومبين الآيات الآمر أولي الأبصار بالأفكار وأولي الألباب بالاعتبار أرسل الرسل بالإنذار وأنزل الكتب بالأنوار وباعث النبيين ومنقذ العمين وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى وأمينه المرتضى أنزل عليه كتابه الهدى نورا لمن التمسه وضياء لمن اقتبسه ودليلا لمن طبله دلهم فيه على معاني حكمته ولطيف صنعته وبيان جلاله أثبت الحجة به على أوليائه وأعدائه وهو كلامه الذي يعجز الخلق أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا لا معقب لأمره ولا راد لفضله تعالى عما يقول الجاحدون علوا كبيرا )
ثم قال: ( وهذه خطبة شيخنا أبي بكر عبد العزيز بن جعفر بن أحمد ذكرها في أول كتابه الشافي قصدت أن أفتتح كتابي بها تبركا به ولأنه قد صرح فيها بالقول وبالنظر والاستدلال بقوله: الآمر أولي الأبصار بالأفكار وأولي الألباب بالاعتبار )
قال: ( وفي هذا بيان لوجوب النظر وصحته وإزالة الإشكال عمن توهم غير هذا في المذهب )
قلت: وإيجاب النظر مطلقا غير إيجاب النظر في الطريق المعين طريقة كون الأعراض حادثة وهي لازمة للأجسام فإن هذه لا يقول بوجوبها على المسلمين أحد من أئمة المسلمين الذي يعرفون ما جاء به الرسول ﷺ ويتبعونه إذ كان معلوما بالاضطرار لكل من عرف ذلك أن الرسول ﷺ لم يوجب النظر في هذه الطريقة بل ولا دل على صحتها بل ما أخبر به يناقض موجبها وهي وإن جعلها من جعلها من أهل الكلام المحدث أصلا في معرفة الصانع وصفاته وصدق رسله فهي عند التحقيق تناقض معرفة الصانع ومعرفة صفاته وصدق رسله كما قد بسط في مواضع والمقصود هنا أن القاضي أبا يعلى ونحوه ممن كان يقول أولا: إن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر في هذه الطريقة وهو أول الواجبات لما ذكروا قوله ﷺ: [ كل مولود يولد على الفطرة ] قالوا: - واللفظ للقاضي في الفطرة -: ( ما الفطرة هنا؟ على روايتين عن أحمد :
كلام القاضي أبي يعلى عن معنى الفطرة
أحداهما: الإقرار بمعرفة الله تعالى وهي العهد الذي أخذه عليهم في أصلاب آبائهم حين مسح ظهر آدم فأخرج من ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى فليس أحد إلا وهو يقر بأن له صانعا ومدبرا وإن سماه بغير اسمه
قال تعالى: { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } فكل مولود يولد على ذلك الإقرار الأول )
قال: ( وليس الفطرة ها هنا الإسلام لأمرين :
أحدهما: أن معنى الفطرة: ابتداء الخلقة ومنه قوله تعالى: { فاطر السماوات والأرض } أي مبتدئهما وإذا كانت الفطرة هي الأبتداء وجب أن تكون تلك هي وقعت لأول الخلق وجرت في فطرة المعقول وهو استخراجهم ذرية لأن تلك حالة ابتدائهم ولأنها لو كانت الفطرة هنا: الإسلام لوجب إذ ولد من بين أبوين كافرين ألا يرثهما ولا يرثانه ما دام طفلا لأنه مسلم واختلاف الدين يمنع الإرث ولوجب ألا يصح استرقاقه ولا يصح إسلامه بإسلام أبيه لأنه مسلم )
قال: ( وهذا تأويل ابن قتيبة ذكره في إصلاح الغلط على أبي عبيد وذكره أبو عبد الله بن بطة في الإبانة
قال: ( وليس كل من ثبت له المعرفة حكم بإسلامه كالبالغين من الكفار فإن المعرفة حاصلة لهم وليسوا بمسلمين )
قال: ( وقد أومأ أحمد إلى هذا التأويل في رواية الميموني فقال: الفطرة الأولى التي فطر الله عليها فقال له الميموني: الفطرة: الدين؟ قال: نعم )
قال القاضي: ( وأراد أحمد بالدين: المعرفة التي ذكرناها )
قال: ( والرواية الثانية: الفطرة هنا: ابتداء خلقه في بطن أمه )
قال: لأن حمله على العهد الذي أخذه عليهم وهو الإقرار بممعرفة الله تعالى حمل للفطرة على الإسلام لأن الإقرار بالمعرفة إقرار بالإيمان والمؤمن مسلم )
قال: ( ولو كانت الفطرة الإسلام لوجب إذا ولد بين أبوين كافرين ألا يرثهما ولا يرثانه لأن ذلك يمنع أن يكون الكفر خلقا لله وقد ثبت من أصولنا أن أفعال العباد خلق لله عن طاعة ومعصية )
قال: ( وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية علي بن سعيد وقد سأله عن كل مولود يولد على الفطرة فقال: على الشقاوة والسعادة
وكذلك نقل محمد بن يحيى الكحال أنه سأله عن كل مولود يولد على الفطرة قال: هي التي فطر الناس عليها: شقي أو سعيد
وكذلك نقل حنبل عنه قال: الفطرة التي فطر الله العباد من الشقاء والسعادة )
قال: ( وهذا كله يدل من كلامه على أن المراد بالفطرة ها هنا: ابتداء خلقه في بطن أمه )
تعليق ابن تيمية
قلت: أحمد لم يذكر العهد الأول وإنما قال: الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها وهي الدين وقد قال في غير هذا موضع: إن الكافر إذا مات أبواه أو أحدهما حكم بإسلامه
واستدل بهذا الحديث: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه
فدل على أنه فسر الحديث: بأنه يولد على فطرة الإسلام كما جاء ذلك مصرحا به في الحديث: ولو لم يكن كذلك لما صح استدلاله بالحديث
وقوله في موضع آخر: يولد على مافطر عليه من شقاوة وسعادة لا ينافي ذلك فإن الله تعالى قدر الشقاوة والسعادة وكتبها وقدر أنها تكون بالأسباب التي تحصل بها كفعل الأبوين فتهويد الأبوين وتنصيرهما وتمجيسهما هو مما قدره الله تعالى
والمولود ولد على الفطرة سليما وولد على أن هذه الفطرة السليمة يغيرها الأبوان كما قدر الله تعالى ذلك وكتبه كما مثل النبي ﷺ ذلك بقوله: [ كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ] فبين أن البهيمة تولد سليمة ثم يجدعها الناس وذلك بقضاء الله وقدره فكذلك المولود يولد على الفطرة سليما ثم يفسده أبواه وذلك أيضا بقضاء الله وقدره
وإنما قال الأئمة: ولد على ما فطر عليه من شقاء وسعادة لأن القدرية كانوا يحتجون بهذا الحديث على أن الكفر والمعاصي ليس بقدر الله بل مما فعله الناس لأن كل مولود يولد خلقه على الفطرة وكفره بعد ذلك من الناس
ولهذا قالوا ل مالك بن أنس: إن القدرية يحتجون علينا بأول الحديث فقال: احتجوا عليهم بآخره وهو قوله: الله أعلم بما كانوا عاملين
فبين الأئمة أنه لا حجة فيه للقدرية فإنهم لا يقولون إن نفس الأبوين خلقا تهوده وتنصره بل هو تهود وتنصر باختياره لكن كانا سببا في ذلك بالتعليم والتلقين فإذا أضيف إليهم بهذا الاعتبار فلأن يضاف إلى الله الذي هو خالق كل شيء بطريق الأولى لأن الله وإن خلقه مولودا على الفطرة سليما فقد قدر عليه ما سيكون بعد ذلك من تغييره وعلم ذلك
كما في الحديث الصحيح: ( إن الغلام الذي قتله الخضر يوم طبع كافرا ولو بلغ لأرهق أبويه طغيانا وكفرا )
فقوله: طبع أي طبع في الكتاب أي قدر وقضي لا أنه كان كفره موجودا قبل أن يولد فهو مولود على الفطرة السليمة وعلى أنه بعد ذلك يتغير فيكفر كما طبع كتابه يوم طبع
ومن ظن أن المراد به الطبع على قلبه وهو الطبع المذكور على قلوب الكفار فهو غالط فإن ذلك لا يقال فيه: طبع يوم طبع إذ كان الطبع على قلبه إنما يوجد بعد كفره
وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عياض بن حمار [ عن النبي ﷺ فيما يروي عن ربه تعالى أنه قال: خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ] وهذا صريح في أنه خلقهم على الحنيفية وأن الشياطين اجتالتهم بعد ذلك
وكذلك في حديث الأسود بن سريع الذي رواه أحمد وغيره قال: [ بعث النبي ﷺ سرية فأفضى بهم القتل إلى الذرية فقال لهم النبي ﷺ: ما حملكم على قتل الذرية؟ قالوا: يا رسول الله: أليسوا أولاد المشركين؟ قال: أو ليس خياركم أولادكم المشركين؟ ثم قام النبي ﷺ خطيبا فقال: ألا إن كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه ] فخطبته لهم بهذا الحديث عقب نهيه عن قتل أولاد المشركين وقوله لهم: أو ليس خياركم أولاد المشركين؟ يبين أنه أراد أنهم ولدوا غير كفار ثم الكفر طرأ بعد ذلك ولو كان أراد أن المولود حين يولد يكون إما كافرا وإما مسلما على ما سبق له القدر - لم يكن فيما ذكره حجة على ما قصده ﷺ من نهية لهم عن قتل أولاد المشركين
وقد ظن بعضهم أن معنى قوله: [ أو ليس خياركم أولاد المشركون؟ ] معناه: لعله أنه قد يكون سبق في علم الله أنهم لو بقوا لآمنوا فيكون النهي راجعا إلى هذا المعنى من التجويز وليس هذا معنى الحديث ولكن معناه: إن خياركم هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار هؤلاء من أولاد المشركين فإن آباءهم كانوا كفارا ثم إن البنين أسلموا بعد ذلك فلا يضر الطفل أن يكون من أولاد المشركين إذا كانوا مؤمنا فإن الله إنما يجزيه بعمله لا بعمل أبويه وهو سبحانه يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن
وهذا الحديث قد روي بألفاظ يفسر بعضها بعضا ففي الصحيحين - واللفظ للبخاري - عن ابن شهاب عن أبي سلمة [ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبو هريرة: اقرأوا: { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم } قالوا: يا رسول الله: أفرأيت من يموت صغيرا؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين ]
وفي الصحيح: قال الزهري: يصلي على كل مولود متوفى وإن كان لغية من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام إذا استهل صارخا ولا يصلى على من لم يستهل من أجل أنه سقط و[ إن أبا هريرة كان يحدث أن النبي ﷺ قال: ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبو هريرة: { فطرة الله التي فطر الناس عليها } ]
وفي الصحيح من رواية الأعمش: [ ما من مولود يولد إلا وهو على الملة ] وفي رواية أبي معاوية عنه: إلا على هذه الملة حتى يبين عنه لسانه فهذا صريح في أنه يولد على ملة الإسلام كما فسره ابن شهاب راوي الحديث واستشهاد أبي هريرة بالآية يدل على ذلك
قال ابن عبد البر في التمهيد: ( روي هذا الحديث عن النبي ﷺ من حديث أبي هريرة وغيره فممن رواه عن أبي سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن وحميد بن عبد الرحمن وأبو صالح السمان وعبد الرحمن الأعرج وسعيد بن أبي سعيد ومحمد بن سيرين )
كلام ابن عبد البر في التمهيد عن معنى الفطرة
قال: ( ورواه ابن شهاب واختلف في إسناده منهم من رواه عن سعيد عن أبي هريرة ومنهم من رواه عن أبي سلمة عن أبي هريرة ومنهم من رواه عن حميد عن أبي هريرة قال محمد بن يحيى الذهلي: كل هذه صحاح عن ابن شهاب محفوظة )
قال ابن عبد البر: ( وقد سئل ابن شهاب عن رجل عليه رقبة مؤمنة أيجزىء الصبي عنه أن يعتقه وهو رضيع؟ قال: نعم لأنه ولد على الفطرة )
قال ابن عبد البر لما ذكر النزاع في تفسير هذا الحديث: ( وقال آخرون: الفطرة ها هنا الإسلام قالوا: وهوالمعروف عند عامة السلف أهل التأويل وقد أجمعوا في تأويل قوله عز وجل: { فطرة الله التي فطر الناس عليها } على أن قالوا: فطرة الله: دين الله الإسلام واحتجوا بقول أبي هريرة في هذا الحديث: اقرأوا إن شئتم: { فطرة الله التي فطر الناس عليها }
وذكروا عن عكرمة ومجاهد والحسن وإبراهيم والضحاك وقتادة في قول الله عز وجل: { فطرة الله التي فطر الناس عليها } قالوا: فطرة الله: دين الإسلام لا تبديل لخلق الله قالوا: لدين الله
واحتجوا بحديث محمد بن إسحاق عن ثور بن يزيد عن يحيى بن جابر عن عبد الرحمن بن عائذ الأزدي عن عياض بن حمار المجاشعي [ أن رسول الله ﷺ قال للناس يوما: ألا أحدثكم بما حدثني الله في الكتاب: إن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين وأعطاهم المال حلالا لا حرام فيه فجعلوا ما أعطاهم الله حلالا وحراما ] الحديث
قال: ( وكذلك روى بكر بن مهاجر عن ثور بن يزيد بإسناده مثله في هذا الحديث ( حنفاء مسلمين )
( قال أبو عمر: روى هذا الحديث قتادة عن مطرف بن عبد الله عن عياض بن حمار ولم يسمعه قتادة من مطرف ولكن قال: حدثني ثلاثة: عقبة بن عبد الغافر ويزيد بن عبد الله بن الشخير والعلاء بن زياد كلهم يقول: حدثني مطرف عن عياض عن النبي ﷺ فقال فيه: [ وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ] لم يقل: مسلمين وكذلك رواه الحسن عن مطرف عن عياض ورواه ابن إسحاق عمن لا يتهم عن قتادة بإسناده وقال فيه: [ وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ] ولم يقل مسلمين )
قال: ( فدل هذا على حفظ محمد بن إسحاق وإتقانه وضبطه لأنه ذكر ( مسلمين ) في روايته عن ثور بن يزيد لهذا الحديث وأسقطه من رواية قتادة وكذلك رواه الناس عن قتادة قصر فيه عن قوله: مسلمين وزاد ثور بإسناده والله أعلم )
قال: ( والحنيف في كلام العرب: المستقيم المخلص ولا استقامة أكثر من الإسلام )
قال: ( وقد روي عن الحسن قال: الحنيفة: حج البيت وهذا يدلك على أنه أراد الإسلام وكذلك روي عن الضحاك والسدي: ( حنفاء ) قال: حجاجا وعن مجاهد: ( حنفاء ) قال: متبعين )
قال: ( وهذا كله يدلك على أن الحنيفية: الإسلام )
قال: ( وقال أكثر العلماء: الحنيف: المخلص وقال الله عز وجل: { ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما } وقال: { ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل } فلا وجه لإنكار من أنكر رواية من روى : حنفاء مسلمين
قال الشاعر - وهو الراعي - :
أخليفة الرحمن إنا معشر... حنفاء نسجد بكرة وأصيلا
عرب نرى لله في أموالنا... حق الزكاة منزلا تنزيلا
فهذا وصف الحنيفية بالإسلام وهو أمر واضح لا خفاء به (
قال: ( ومما احتج به - من ذهب إلى أن الفطرة في هذا الحديث: الإسلام - قوله ﷺ [ خمس من الفطرة ] ويروى [ عشرة من الفطرة ] يعني فطرة الإسلام )
قلت: الدلائل الدالة على أنه أراد: على فطرة الإسلام - كثيرة كألفاظ الحديث التي في الصحيح مثل قوله: ( على الملة ) ( وعلى هذه الملة ) ومثل قوله في حديث عياض بن حمار: [ خلقت عبادي حنفاء كلهم ] وفي لفظ [ حنفاء مسلمين ] ومثل تفسير أبي هريرة وغيره من رواة الحديث ذلك وهو أعلم بما سمعوا
وأيضا فإنه لو لم يكن المراد بالفطرة الإسلام لما سألوا عقب ذلك: ( أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير؟ ) لأنه لو لم يكن هناك ما يغير تلك الفطرة لم سألوه والعلم القديم وما يجري مجراه لا يتغير
وكذلك قوله: [ فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] بين فيه أنهم يغيرون الفطرة التي فطر الناس عليها
وأيضا فإنه شبه ذلك بالبهيمة التي تولد مجتمعة الخلق لا نقص فيه ثم تجدع بعد ذلك فعلم أن التغيير وارد على الفطرة السليمة التي ولد العبد عليها
وأيضا فإن الحديث مطابق للقرآن لقوله تعالى: { فطرة الله التي فطر الناس عليها } وهذا يعم جميع الناس فعلم أن الله فطر الناس كلهم على فطرته المذكورة وفطرة الله أضافها إليه إضافة مدح لا إضافة ذم فعلم أنها فطرة محمودة لا مذمومة
يبين ذلك أنه قال: { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها } وهذا نصب على المصدر الذي دل عليه الفعل الأول عند سيبويه وأصحابه فدل على أن إقامة الوجه للدين حنيفا هو فطرة الله التي فطر الناس عليها كما في نظائره ومثل قوله: { كتاب الله عليكم } وقوله: { سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا } فهذا عندهم مصدر منصوب بفعل مضمر لازم إضماره دل عليه الفعل المتقدم كأنه قال: كتب الله ذلك عليكم وسن الله ذلك وكذلك هنا فطر الله الناس على ذلك: على إقامة الدين لله حنيفا وكذلك فسره السلف كما تقدم النقل عنهم
كلام الطبري في تفسيره عن معنى الفطرة
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره المشهور يقول: فسدد وجهك نحو الوجه الذي وجهك الله يا محمد لطاعته وهي الدين حنيفا يقول: مستقيما لدينه وطاعته فطرة الله التي فطر الناس عليها يقول: صنعة الله التي خلق الناس عليها ونصب فطرة على المصدر من معنى قوله: { فأقم وجهك للدين حنيفا } وذلك أن معنى ذلك: فطر الله الناس على ذلك فطرة )
قال: ( وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ) وروي ( عن يونس بن عبد الأعلى عن عبد الله بن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: { فطرة الله التي فطر الناس عليها } قال: الإسلام فمنذ خلقهم الله من آدم جميعا يقرون بذلك وقرأ: { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين }
فهذا قول الله كان الناس أمة واحدة يومئذ فبعث الله النبيين بعد )
وروي بإسناده الصحيح عن ( ابن أبي نجيح عن مجاهد: فطرة الله قال: الدين الإسلام وقال ( ثنا ابن حميد ثنا يحيى بن واضح ثنا يونس بن أبي إسحاق عن يزيد بن أبي مريم قال: مر عمر بمعاذ بن جبل فقال: ما قوام هذه الأمة؟ قال معاذ: ثلاث وهن المنجيات: الإخلاص - وهو الفطرة فطرة الله التي فطر الناس عليها - والصلاة: وهي الملة والطاعة: وهي العصمة فقال عمر: صدقت )
قال: حدثني يعقوب - يعني الدورقي - ثنا أبن علية ثنا أيوب عن أبي قلابة أن عمر قال لمعاذ: ما قوام هذه الأمة؟ فذكر نحوه )
قال: ( وقوله { لا تبديل لخلق الله }: يقول: لا تغيير لدين الله أي لا يصلح ذلك ولا ينبغي أن يفعل )
ثم ذكر بإسناده الصحيح عن ( ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: لا تبديل لخلق الله قال: لدين الله )
وروي عن ( عبد الله بن إدريس عن ليث قال: أرسل مجاهد رجلا يقال له قاسم إلى عكرمة يسأله عن قول: { لا تبديل لخلق الله } فقال عكرمة: هو الخصاء فرجع إلى مجاهد فقال: أخطأ لاتبديل لخلق الله إنما هو الدين ثم قرأ: { لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم } )
وروي عن ( وكيع عن نصر بن عربي عن عكرمة: لا تبديل لخلق الله: لدين الله )
وروي أيضا عن ( حسين بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة: فطرة الله التي فطر الناس عليها قال: الإسلام وكذلك روي ( عن وكيع عن سفيان الثوري عن ليث عن مجاهد قال: لدين الله ) وروي ( عن سعيد عن قتادة: { لا تبديل لخلق الله }: أي لدين الله )
وكذلك روي ( عن ابن عيينة عن حميد الأعرج قال: قال سعيد بن جبير: { لا تبديل لخلق الله } قال: لدين الله )
وكذلك عن ( المحاربي عن جويبر عن الضحاك في قوله { لا تبديل لخلق الله } قال: دين الله )
وكذلك عن ( وكيع عن سفيان الثوري ومسعر عن قيس بن مسلم عن إبراهيم النخعي: { لا تبديل لخلق الله } قال: دين الله )
وكذلك عن ( مغيرة عن إبراهيم قال: لدين الله )
وعن ( عمرو بن أبي سلمة سألت عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن قوله تعالى: { لا تبديل لخلق الله } قال: لدين الله )
وروي أيضا عن ابن عباس أنه سئل عن إخصاء البهائم فكرهه وقال: لا تبديل لخلق الله وعن حميد الأعرج قال: قال عكرمة: الإخصاء وعن حفص بن غياث عن ليث عن مجاهد قال: الإخصاء )
تعليق ابن تيمية
قلت: مجاهد وعكرمة: روي عنهما القولان إذ لا منافاة بينهما كما قال تعالى: { ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } فتغيير ما خلق الله عليه عباده من الدين تغيير لخلقه والخصاء وقطع الأذن أيضا تغيير لخلقه
ولهذا شبه النبي ﷺ أحدهما بالآخر في قوله: [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ ]
فأولئك يغيرون الدين وهؤلاء يغيرون الصورة بالجدع والخصاء هذا تغيير لما خلقت عليه نفسه وهذا تغيير ما خلق عليه بدنه
واعلم أن هذا الحديث لما صارت القدرية يحتجون به على قولهم الفاسد صار الناس يتأولونه تأويلات يخرجونه بها عن مقتضاة فالقدرية من المعتزلة وغيرهم يقولون: كل مولود يولد على الإسلام والله لا يضل أحدا ولكن أبواه يضلانه
الحديث حجة على المعتزلة ونحوهم من المتكلمين
والحديث حجة عليهم من وجهين :
أحدهما: أنه عند المعتزلة ونحوهم من المتكلمين: لم يولد أحد على الإسلام أصلا ولا جعل الله أحدا مسلما ولا كافرا ولكن هذه أحدث لنفسه الكفر وهذا أحدث لنفسه الإسلام والله لم يفعل واحدا منهما عندهم بلا نزاع بين القدرية ولكن هو دعاهما إلى الأسلام وأزاح علتهما وأعطاهما قدرة مماثلة فيهما تصلح للإيمان والكفر ولم يختص المؤمن بسبب يقتضي حصول الإيمان فإن ذلك عندهم غير مقدور ولو كان مقدورا لكان ظلما وهذا قول عامة المعتزلة وإن كان بعض متأخريهم كأبي الحسين يقول: إنه خص المؤمن بداعي الإيمان ويقول عند الداعي والقدرة يجب وجود الإيمان فهذا في الحقيقة موافق لأهل السنة فهذا أحد الوجهين
الثاني: أنهم يقولون: إن معرفة الله لا تحصل إلا بالنظر المشروط بالعقل فيستحيل أن تكون المعرفة عندهم ضرورية أو تكون من فعل الله تعالى
وأما آخر الحديث فهو دليل على أن الله تعالى يعلم ما يصيرون إليه بعد ولادتهم على الفطرة هل يبقون عليها فيكونون مؤمنين؟ أو يغيرونها فيصيرون كفارا؟
وإن احتجت القدرية بقوله: [ فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] من جهة كونه أضاف التغيير إلى الأبوين - فيقال لهم: أنتم تقولون: إنه لا يقدر: لا الله ولا أحد من مخلوقاته على أن يجعلهما يهوديين أو نصرانيين أو مجوسيين بل هما فعلا بأنفسهما ذلك بلا قدرة من غيرهما ولا فعل من غيرهما فحينئذ لا حجة لكم في قوله: [ فأبواه يهودانه ]
وأهل السنة متفقون على أن غير الله لا يقدر على جعل الهدى أو الضلال في قلب أحد فقد اتفقت الأمة على أن المراد بذلك: دعوة الأبوين لهما إلى ذلك وترغيبهما فيه وتربيتهما عليه ونحو ذلك مما يفعل المعلم والمربي مع من يعلمه ويربيه وذكر الأبوين بناء على الغالب إذ لكل طفل أبوان وإلا فقد يقع ذلك من أحد الأبوين وقد يقع من غير الأبوين حقيقة وحكما
عود إلى كلام ابن عبد البر وتعليق ابن تيمية عليه
وأما غير القدرية فقال أبو عمر بن عبد البر: اختلف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث اختلافا كثيرا وكذلك اختلفوا في الأطفال وحكمهم في الدنيا والآخرة فذكر ما ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام في غريبه المشهور قال: قال ابن المبارك: يفسره آخر الحديث: قوله ﷺ: [ الله أعلم بما كانوا عاملين ]
قال ابن عبد البر: هكذا ذكر عن ابن المبارك لم يزد شيئا
وذكر عن محمد بن الحسن أنه سأله عن تأويل هذا الحديث فقال: ( كان هذا القول عن ﷺ قبل أن يؤمر الناس بالجهاد ) هذا ما ذكره أبو عبيد
قال ابن عبد البر: ( أما ما ذكره عن ابن المبارك فقد روي عن مالك نحوه وليس فيه مقنع من التأويل ولا شرح موعب في أمر الأطفال ولكنها جملة تؤدي إلى الوقوف عن القطع فيهم بكفر أو إيمان أو جنة أو نار ما لم يبلغوا العمل )
قال: ( وأما ما ذكره عن محمد بن الحسن فأظن محمد بن الحسن حاد عن الجواب فيه: إما لإشكاله عليه أو لجهلة به أولما شاء الله وأما قوله: إن ذلك كان من النبي ﷺ قبل أن يؤمر الناس بالجهاد فلا أدري ما هذا فإن كان أراد أن ذلك منسوخ فغير جائز عند العلماء دخول النسخ في إخبار الله تعالى وأخبار رسوله لأن المخبر بشيء كان أو يكون إذا رجع عن ذلك لم يخل رجوعه عن تكذيبه لنفسه أو غلطة فيما أخبر به أو نسيانه وقد جل الله وعصم رسوله في الشريعة والرسالة منه وهذا لا يجهله ولا يخالف فيه أحد له أدنى فهم فقف عليه فإنه أمر جسيم من أصول الدين
وقول محمد بن الحسن: إن ذلك كان قبل أن يؤمر الناس بالجهاد ليس كما قال لأن في حديث الأسود بن سريع ما يبين أن ذلك كان منه بعد الأمر بالجهاد )
وروي بإسناده ( عن الحسن عن الأسود بن سريع قال: [ قال رسول الله ﷺ: ما بال أقوام بلغوا في القتل حتى قتلوا الولدان؟ فقال رجل: أو ليس إنما هو أولاد المشركين؟ فقال رسول الله ﷺ: أو ليس خياركم أولاد المشركين؟ إنه ليس من مولود يولد إلا على الفطرة حتى يبلغ فيعبر عنه ليسانه ويهوده أبواه أو ينصرانه ]
قال: وروى هذا الحديث عن الحسن جماعة منهم بكر المزني والعلاء بن زياد والسري بن يحيى وقد روي عن الأحنف عن الأسود بن سريع قال: وهو حديث بصري صحيح قال: وروى عوف الأعرابي عن سمرة بن جندب [ عن النبي ﷺ قال: كل مولود يولد على الفطرة فناداه الناس: يا رسول الله وأولاد المشركين؟ قال: وأولاد المشركين ]
قلت: أما ما ذكره عن ابن المبارك ومالك فيمكن أن يقال: إن المقصود أن آخر الحديث يبين أن الأولاد قد سبق في علم الله ما يعملون إذا بلغوا وأن منهم من يؤمن فيدخل الجنة ومنهم من يكفر فيدخل النار فلا يحتج بقوله: ( كل مولود يولد على الفطرة ) على نفي القدر كما احتجت به القدرية ولا على أن أطفال الكفار كلهم في الجنة لكونهم ولدوا على الفطرة فيكون مقصود الأئمة أن يستقر الأطفال على ما في آخر الحديث
وأما قوله محمد فإنه رأى الشريعة قد استقرت على أن ولد اليهودي والنصراني يتبع أبوية في الدين في أحكام الدنيا فيحكم له بحكم الكفر في أنه لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين ولا يرثه المسلمون ويجوز استرقاقهم ونحو ذلك - فلم يجز لأحد أن يحتج بهذا الحديث على أن حكم الأطفال في الدنيا حكم المؤمنين حتى تعرب عنهم ألسنتهم وهذا حق لكن ظن أن الحديث اقتضى أن يحكم لهم في الدنيا بأحكام المؤمنين فقال: هذا منسوخ كان قبل الجهاد لأنه بالجهاد أبيح استرقاق النساء والأطفال والمؤمن لا يسترق ولكن كون الطفل يتبع أباه في الدين في الأحكام الدنيوية أمر ما زال مشروعا وما زال الأطفال تبعا لأبويهم في الأمور الدنيوية
والحديث لم يقصد بيان هذه الأحكام وإنما قصد ما ولد عليه من الفطرة وإذا قيل: إنه ولد على فطرة الإسلام أو خلق حنيفا ونحو ذلك فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده
فإن الله تعالى يقول: { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا } ولكن فطرته مقتضية موجبة لدين الإسلام لمعرفته ومحبته
فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه ومحبته وإخلاص الدين له وموجبات الفطرة ومقتضاها تحصل شيئا بعد شيء بحسب كمال الفطرة إذا سلمت عن المعارض
وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك أكثر من غيره كما أن كل مولود يولد فإنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الإغذية والأشربة فيشتهي اللبن الذي يناسبه
وهذا من قوله تعالى: { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } وقوله: { الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى } فهو سبحانه خلق الحيوان مهتديا إلى طلب ما ينفعه ودفع ما يضره ثم هذا الحب والبغض يحصل فيه شيئا فشيئا بحسب حاجته ثم قد يعرض لكثير من الأبدان ما يفسد ما ولد عليه من الطبيعة السليمة والعادة الصحيحة
قال ابن عبد البر: ( وأما اختلاف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث وما كان مثله فقالت فرقة: الفطرة في هذا الموضع أريد بها الخلقة التي خلق عليها المولود من المعرفة بربه فكأنه قال: ( كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة ) يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم التي لا تصل بخلقتها إلى معرفة ذلك )
قالوا: ( لأن الفاطر هو الخالق )
قال: ( وأنكرت أن يكون المولود يفطر على إيمان أو كفر أو معرفة أو إنكار )
قلت: صاحب هذا القول إن أراد بالفطرة التمكن من المعرفة والقدرة عليها فهذا ضعيف فإن مجرد القدرة على ذلك لا يقتضي أن يكون حنيفا ولا أن يكون على الملة ولا يحتاج أن يذكر تغيير أبوية لفطرته حتى يسأل عمن مات صغيرا ولأن القدرة هي في الكبير أكمل منها في الصغير
وهو لما نهاهم عن قتل الصبيان فقالوا: إنهم أولاد المشركين قال: أليس خياركم أولدا المشركين؟ ما من مولود إلا يولد على الفطرة
ولو أريد القدرة لكان البالغون كذلك مع كونهم مشركين مستوجبين للقتل
وإن أراد بالفطرة القدرة على المعرفة مع إرادتها فالقدرة الكاملة مع الإرادة التامة تستلزم وجود المراد المقدور فدل على أنهم فطروا على القدرة على المعرفة وإرادتها وذلك مستلزم للإيمان
قال: ( وقال آخرون معنى قوله ﷺ: [ كل مولود يولد على الفطرة ] يعني البدأة التي ابتدأهم عليها يريد أنه مولود على ما فطر الله عليه خلقه من أنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاوة وإلى ما يصيرون إليه عند البلوغ من قبولهم عن آبائهم اعتقادهم )
( قالوا: والفطرة في كلام العرب البداءة والفاطر المبدىء والمبتدىء فكأنه قال: ﷺ: يولد على ما ابتدأه الله عليه من الشقاوة والسعادة وغير ذلك مما يصير إليه وقد فطره عليه واحتجوا بقوله تعالى: { كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة }
وروي بإسناده إلى ( ابن عباس قال: لم أدر ما فاطر السماوات والأرض حتى أتى أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها أي ابتدأئتها ) ( وذكروا ما يروى عن علي رضي الله عنه في دعائه: اللهم جبار القلوب على فطرتها شقيها وسعيدها )
قلت: حقيقة هذا القول أن كل مولود فإنه يولد على ما سبق في علم الله أنه صائر إليه ومعلوم أن جميع المخلوقات بهذه المثابة فجميع البهائم هي مولودة على ماسبق في علم الله لها والأشجار مخلوقة على ما سبق في علم الله لها وحينئذ فيكون كل مخلوق مخلوقا على الفطرة
وأيضا فإنه لو كان المراد ذلك لم يكن لقوله: [ فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] معنى فإنهما فعلا به ما هو الفطرة التي ولد عليها على هذا القول فلا فرق بين التهويد والتنصير حينئذ وبين تلقين الإسلام وتعليمه وبين تعليم سائر الصنائع فإن ذلك كله داخل فيما سبق به العلم
وأيضا فتمثيله ذلك بالبهيمة التي ولدت جمعاء ثم جدعت يبين أن أبويه غيرا ما ولد عليه
وأيضا فقوله: ( على هذه الملة ) وقوله: ( إني خلقت عبادي حنفاء ) يخالف هذا
وأيضا فلا فرق بين حال الولادة وسائر أحوال الإنسان فإنه من حين كان جنينا إلى ما لا نهاية له من أحواله على ما سبق في علم الله فتخصيص الولادة بكونها على مقتضى القدر تخصيص بغير مخصص
وقد ثبت في الصحيح أنه: قبل نفخ الروح فيه يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فلو قيل: كل مولود ينفخ فيه الروح على الفطرة لكان أشبه بهذا المعنى مع أن النفخ هو بعد الكتابة
قال ابن عبد البر: ( قال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي: وهذا المذهب شبيه بما حكاه أبو عبيد عن أبن المبارك أنه سئل عن هذا الحديث فقال: يفسره الحديث الآخر حين سئل عن أطفال المشركين: الله أعلم بما كانوا عاملين
قال المروزي: وقد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول ثم تركه
قال ابن عبد البر: ما رسمه مالك في موطأه وذكره في أبواب القدر فيه من الآثار ما يدل على أن مذهبه في ذلك نحو هذا )
قلت: أئمة السنة مقصودهم أن الخلق صائرون إلى ما سبق به علم الله منهم من إيمان وكفر كما في الحديث الآخر: ( إن الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ) والطبع الكتاب أي كتب كافرا كما قال: ( فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ) وليس إذا كان الله قد كتبه كافرا يقتضي أنه حين الولادة كافر بل يقتضي أنه لا بد أن يكفر وذلك الكفر هو التغيير كما أن البهيمة التي ولدت جمعاء وقد سبق في عمله أنها تجدع كتب أنها مجدوعة بجدع يحدث لها بعد الولادة لا يجب أن تكون عند الولادة مجدوعة
وكلام أحمد في أجوبة أخرى له يدل على أنه الفطرة عنده: الإسلام كما ذكر محمد بن نصر عنه أنه آخر قوليه فإنه كان يقول: إن صبيان أهل الحرب إذا سبوا بدون الأبوين كانوا مسلمين وإن كانوا معهما فهم على دينهما وإن سبوا مع أحدهما فعنه روايتان وكان يحتج بالحديث
كلام أبي بكر الخلال في كتابه الجامع
قال أبو بكر الخلال في الجامع في كتاب أحكام أهل الملل: ( أنبأ أبو بكر المروزي أن أبا عبد الله قال في سبي أهل الحرب: إنهم مسلمون إذا كانوا صغارا وإن كانوا مع أحد الأبوين وكان يحتج بقول رسول الله ﷺ [ فأبواه يهودانه وينصرانه ]
قال: وأما أهل الثغر فيقولون: إذا كان مع أبوية: إنهم يجبرونه على الإسلام )
قال: ( ونحن لا نذهب إلى هذا قال النبي ﷺ: [ فأبواه يهودانه ]
قال الخلال: أنبأ عبد الملك الميموني قال: سألت أبا عبد الله قبل الحبس - أي قبل أن يحبس أحمد في محنة الجهمية - عن الصغير يخرج من أرض الروم وليس معه أبواه قال: إذا مات صلى عليه المسلمون قلت: يكره على الإسلام؟
قال: إذا كانوا صغارا يصلون عليه أكره من يليه إلا هم وحكمه حكمهم
قلت: فإنه كان معه أبواه؟ قال: إذا كان معه أبواه - أو أحدهما - لم يكره ودينه على دين أبويه
قلت: إلى أي شيء يذهب إلى حديث النبي ﷺ [ كل مولود يولد على الفطرة ] :
حتى يكون أبواه؟ قال: نعم
قال: وعمر بن عبد العزيز نادى به؟ قال: فرده إلى بلاد الروم إلا وحكمه حكمهم
قلت: في الحديث كان معه أبواه؟ قال: لا وليس ينبغي إلا أن يكون معه أبواه )
قال الخلال: ( ما رواه الميموني قول أول لأبي عبد الله ) ( ولذلك نقل إسحاق ابن منصور أن أبا عبد الله قال: إذا لم يكن معه أبواه فهو مسلم قلت: لا يجبرون على الإسلام إذا كان معه أبواه أو أحدهما؟ قال: نعم )
قال الخلال: ( وقد روي هذه المسألة عن أبي عبد الله خلق كلهم قال: إذا كان مع أحد أبويه فهو مسلم وهؤلاء النفر سمعوا من أبي عبد الله بعد الحبس وبعضهم قبل وبعد والذي أذهب إليه: ما رواه الجماعة )
وقال الخلال: ( ثنا أبو بكر المروزي قال: قلت لأبي عبد الله: إني كنت بواسط فسألوني عن الذي يموت هو وامرأته ويدعا طفلين ولهما عم ما تقول فيهما؟ فإنهم قد كتبوا إلى البصرة فيها وقالوا: إنهم قد كتبوا إليك فقال: أكره أن أقول فيها برأي دع حتى أنظر لعل فيها عمن تقدم فلما كان بعد شهر عاودته فقال: قد نظرت فيها فإذا قول النبي ﷺ ( فأبواه يهودانه وينصرانه ) هذا ليس له أبوان
قلت: يجبر على الإسلام؟ قال: نعم هؤلاء مسلمون لقول النبي ﷺ )
( وكذلك نقل يعقوب بن بختان قال: قال أبو عبد الله: الذمي إذا مات أبواه وهو صغير جبر على الإسلام وذكر الحديث: [ فأبواه يهودانه وينصرانه ]
( ونقل عن عبد الكريم بن الهيثم العاقولي في المجوسيين يولد لهما ولد فيقولان: هذا مسلم فيمكث خمس سنين ثم يتوفى؟ قال: ذاك يدفنه المسلمون قال النبي ﷺ [ فأبواه يهودانه وينصرانه ]
( وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن قوم يزوجون بناتهم من قوم على أنه ما كان من ذكر فهو للرجل مسلم وما كان من أنثى فهي مشركة: يهودية أو نصرانية أو مجوسية؟ فقال: يجبر هؤلاء من أبى منهم على الإسلام لأن آباءهم مسلمون حديث النبي ﷺ [ فأبواه يهودانه وينصرانه ] يردون كلهم إلى الإسلام )
ومثل هذا كثير في أجوبته يحتج بالحديث على أن الطفل إنما يصير كافرا بأبويه فإن لم يكن مع أبوين كافرين فهو مسلم فلو لم تكن الفطرة: الإسلام لم يكن بعدم أبويه يصير مسلما فإن الحديث إنما دل على أنه يولد على الفطرة ونقل عنه الميموني أن الفطرة هي الدين وهي الفطرة الأولى
قال الخلال: ( أخبرني الميموني أنه قال لأبي عبد الله: كل مولود يولد على الفطرة يدخل عليه إذا كان أبواه معناه: أن يكون حكمه حكم ما كانوا صغارا؟ فقال لي: نعم ولكن يدخل عليك في هذا فتناظرنا بما يدخل علي من هذا القول وبما يكون بقوله قلت لأبي عبد الله: فما تقول أنت فيها وإلى أي شيء تذهب؟ قال: إيش أقول أنا؟ ما أدري أخبرك هي مسلمة كم ترى ثم قال لي: والذي يقول: كل مولود يولد على الفطرة ينظر أيضا إلى الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها قلت له: فما الفطرة الأولى: هي الدين؟ قال لي: نعم
فمن الناس من يحتج بالفطرة الأولى مع قول النبي ﷺ: [ كل مولود يولد على الفطرة ] قلت لأبي عبد الله: فما تقول لأعرف قولك؟ قال: أقول: ( إنه على الفطرة الأولى )
فجوابه: أنه على الفطرة الأولى وقوله: إنها الدين - يوافق القول بأنه على دين الإسلام
وأما جواب أحمد: أنه على ما فطر عليه من شقاوة وسعادة الذي ذكر محمد بن نصر أنه كان به ثم تركه فقال الخلال: ( أخبرني محمد بن يحيى الكحال أنه قال لأبي عبد الله: كل مولود يولد على الفطرة ما تفسيرها؟ قال: هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها شقي أو سعيد )
وكذلك نقل عنه ( الفضل بن زياد وحنبل وأبو الحارث أنهم سمعوا أبا عبد الله في هذه المسألة قال: ( الفطرة التي فطر الله العباد عليها من الشقاوة والسعادة )
وكذلك نقل: ( عن علي بن سعيد أنه سأل أبا عبد الله عن كل مولود يولد على الفطرة قال: على الشقاء والسعادة فإليه يرجع على ما خلق )
( وعن الحسن بن ثواب قال: سألت أبا عبد الله عن أولاد المشركين قلت: إن ابن أبي شيبة أبا بكر قال: هو على الفطرة حتى يهودانه أبواه أو ينصرانه فلم يعجبه شيء من هذا القول وقال: كل مولود من أطفال المشركين على الفطرة يولد على الفطرة التي خلقوا عليها من الشقاء والسعادة التي سبقت في أم الكتاب ارفع ذلك إلى الأصل هذا معناه كل مولود يولد على الفطرة )
تعليق ابن تيمية
قلت: وأما ثبوت حكم الكفر في الآخرة للأطفال فكان أحمد يقف فيه تارة يقف عن الجواب وتارة يردهم إلى العلم كقوله: [ الله أعلم بما كانوا عاملين ] وهذا أحسن جوابيه كما نقل محمد بن الحكم عنه وسأله عن أولاد المشركين فقال: أذهب إلى قول النبي ﷺ: [ الله أعلم بما كانوا عاملين ]
ونقل عنه ( أبو طالب أن أبا عبد الله سئل عن أطفال المشركين فقال: كان ابن عباس يقول: ( فأبواه يهودانه وينصرانه ) حتى سمع: [ الله أعلم بما كانوا عاملين ] فترك قوله
قال أحمد: ( وهي صحاح ومخرجها كلها صحاح وكان الزهري يقول: من الحديث ما يحدث بها على وجوهها )
وأما توقف أحمد في الجواب ( فنقل عنه علي بن سعيد أنه سأله عن قوله: فأبواه يهودانه وينصرانه قال: الشأن في هذا وقد اختلف الناس ولم نقف منها على شيء أعرفه )
وقال الخلال: ( رأيت في كتاب لهارون المستملي قال أبو عبد الله: إذا سأل الرجل عن أولاد المشركين مع آبائهم فإنه أصل كل خصومه ولا يسأل عنه إلا رجل الله أعلم به قال: ونحن نمر هذه الأحاديث على ما جاءت ونسكت لا نقول شيئا )
( قال المروزي: قال أبو عبد الله سأل بشر بن السري عن سفيان الثوري عن أطفال المشركين فصاح به وقال: يا صبي أنت تسأل عن هذا؟ ! )
وكذلك نقل خطاب بن بشر وحنبل أن عبد الرحمن بن الشافعي سأل أحمد عن هذا فنهاه ولم ينقل أحد قط عن أحمد أنه قال: هم في النار ولكن طائفة من أتباعه كالقاضي أبي يعلى وغيره لما سمعوا جوابه بأنه قال: الله أعلم بما كانوا عاملين ظنوا أن هذا من تمام حديث مروي [ عن خديجة رضي الله عنها أنها سألت النبي ﷺ عن أولادها من غيره فقال النبي ﷺ: هم في النار فقالت: بلا عمل؟ فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين ] فظن هؤلاء أن أحمد أجاب بحديث خديجة وهذا غلط على أحمد فإن حديث خديجة هذا حديث موضوع كذب لا يحتج بمثله أقل من صحب أحمد فضلا عن الإمام أحمد
وأحمد إنما اعتمد على الحديث الصحيح حديث ابن عباس وحديث أبي هريرة وهو في الصحيحين [ عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم: { فطرة الله التي فطر الناس عليها } ]
وكذلك في الصحيح عن ابن عباس [ عن النبي ﷺ أنه سئل عن أطفال المشركين فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين ]
وقد ذكر أحمد أن ابن عباس رجع إلى هذا بعد أن كان يقول: هم مع آبائهم فدل على أن هذا جواب من لا يقطع بأنهم مع آبائهم
وأبو هريرة نفسه الذي روى هذا الحديث عن النبي ﷺ قد ثبت عنه ما رواه غير واحد منهم عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره وغيره من حديث عبد الرازق: أنبأ معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن أبي هريرة قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله أهل الفترة والمعتوه والأصم والأبكم والشيوخ الذين لم يدركوا الإسلام ثم أرسل إليهم رسولا: أن ادخلوا النار فيقولون: كيف ولم يأتنا رسل؟ قال: وأيم الله لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما ثم يرسل إليهم رسولا فيطيعه من كان يريد أن يطيعه ثم قال أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }
وروي هذا الأثر عن أبي هريرة: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره من رواية محمد بن الأعلى عن محمد بن ثور عن معمر ومن رواية القاسم عن الحسين عن أبي سفيان عن معمر وقال فيه: ( والشيوخ الذين جاء الاسلام وقد خرفوا ) فبين أبو هريرة أن الله لا يعذب أحدا حتى يبعث إليه رسولا وأنه في الآخرة يمتحن من لم تبلغه الرسالة في الدنيا
وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعا إلى النبي ﷺ وعن الأسود بن سريع أيضا قال أحمد في المسند: حدثنا علي بن عبد الله ثنا معاذ بن هشام ثنا أبي عن قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع: أن نبي الله ﷺ قال: [ أربعة يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئا ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات في فترة فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر وأما الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني لك رسول فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار قال: فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما ]
وبالإسناد عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة بمثل هذا الحديث غير أنه قال في آخره: [ فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن لم يدخلها يسحب إليها ]
وقد جاءت بذلك عدة آثار مرفوعة إلى النبي ﷺ وعن الصحابة والتابعين بأنه في الآخرة يمتحن أطفال المشركين وغيرهم ممن لم تبلغه الرساله في الدنيا وهذا تفسير قوله: [ الله أعلم بما كانوا عاملين ]
وهذا هو الذي ذكره الأشعري في المقالات عن أهل السنة والحديث وذكر أنه يذهب إليه
وهذا التفصيل يذهب الخصومات التي كره الخوض فيه لأجلها من كرهه فإن من قطع لهم بالنار كلهم جاءت نصوص تدفع قوله ومن قطع لهم بالجنةكلهم جاءت نصوص تدفع قوله ثم إذ قيل: هم مع آبائهم لزم تعذيب من لم يذنب انفتح باب الخوض في الأمر والنهي والوعد والوعيد والقدر والشرع والمحبة والحكمة والرحمة فلهذا كان أحمد يقول: هو أصل كل خصومه
فأما جواب النبي ﷺ الذي أجاب به أحمد آخرا وهو قوله [ الله أعلم بما كانوا عاملين ] فإنه فصل الخطاب في هذا الباب وهذا العلم يظهر حكمه في الآخرة والله تعالى أعلم