فصل في قوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
قال الله تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وللناس في هذه العبادة التي خلقوا له قولان :
أحدهما: أنها وقعت منهم ثم هؤلاء منهم من يقول: جميعهم خلقوا لها ومنهم من يقول: إنما خلق لها بعضهم
والقول الثاني: أنهم كلهم خلقوا لها ومع ذلك فلم تقع إلا من بعضهم وهؤلاء حزبان :
حزب يقولون: إن الله لم يشأ إلا العبادة لكنهم فعلوا ما لا يشاؤه بغير قدرته ولا مشيئته وهم القدرية المنكرون لعموم قدرته ومشيئته وخلقه
والثاني يقولون: بل كل ما وقع فهو بمشيئته وقدرته وخلقه لكن هو لا يحب إلا العبادة التي خلقهم لها ولا يأمر إلا بذلك فمنهم من أعانة ففعل المأمور به ومنهم من لم يفعله
واللام عند هؤلاء كاللام في قوله: { ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون } وفي قوله: { ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين }
وقوله تعالى: { اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون } على قول الأكثرين الذي يجعول ( لعل ) متعلقة بقوله: ( خلقكم ) كما قال { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }
وقوله: { كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين }
وقوله: { الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما }
وقوله: { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم }
وقوله: { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله }
ومنه قوله: { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون }
وقوله: { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم * والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما * يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا } ونحو ذلك مما فيه: أن الله يفعل فعلا لغاية يحبها ويرضاها ويأمر بها عباده وإذا حصلت لهم كان فيها نجاتهم وسعادتهم ثم منهم من يعينه على فعلها ومنهم من لا يفعلها فإن هذا قد أشكل على طائفة من الناس وقالوا: كيف يفعل فعلا لغاية مع علمه أنها لا تحصل؟
فيقال: الغاية التي يراد الفعل لها هي غاية مرادة للفاعل ومراد الفاعل نوعان: فإنه تارة يفعل فعلا ليحصل بفعله مراده فهذا لا يفعله وهو يعلم أنه لا يكون والله تعالى يفعل ما يريد فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولكن الله يفعل ما يريد
وتارة يريد من غيره أن يفعل فعلا باختياره لينتفع ذلك الفاعل بفعله ويكون ذلك محبوبا للفاعل الأول كمن يبني مسجدا ليصلي فيه الناس ويعطيهم مالا ليحجوا به ويجاهدوا به وسلاحا ليجاهدوا به ويأمرهم بالمعروف ليفعلوه وينهاهم عن المنكر ليتركوه وهم إذا فعلوا ما أراد لهم ومنهم كان صالحا لهم وكان ذلك محبوبا له وإن لم يفعلوا ذلك لم يكن صلاحا لهم ولا حصل محبوبه منهم ثم هذا قد لا يكون قادرا على فعل ما أمروا به اختيارا
ولهذا زعمت القدرية النافية أن الرب ليس قادرا على هدي العباد وهو خطأ عند أهل السنة وقد يكون قادرا فإنه سبحانه لو شاء لآتى كل نفس هداها: { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا }
لكن المخلوق قد يعين بعض من أمره لمصلحة له في إعانته ولا يعين آخر والرب تعالى قد يعين المؤمنين فيفعلوا ما أمروا به وأحبه الله منهم لا يعين آخرين لما له في ذلك من الحكمة فإن الفعل لا يوجد إلا بلوازمه وانتفاء أضداده
وقد يكون في وجود ذلك فوات حكمة له هي أحب إليه من طاعة أولئك أو وجود شيء دفعه أحب إليه من حصول معصية أولئك
وحينئذ فإذا أمر العباد ونهاهم ليطيعوه ويعبدوه ويفعلوا ما أحبه وينالوا كمالهم الذي هو غايتهم التي خلقوا لها جاز أن يقال: { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } وأن يقال: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }
وأن يقال: { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم }
وأن يقال: { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم } ونحو ذلك
وإن كان هو لم يخلق ما أمره به وإذا خلقهم وخلق لهم ما ينتفعون به ليعبدوه ويطيعوه ويشكروه ويذكروه ويبلغوا الغاية المحمودة في حقهم التي يحبها ويرضاها لهم - صح أن يقال: إنما خلقهم ليعبدوه وإن كان هو لم يخلق لكل منهم ما به يصير عابدا له كما جاز أن يقال: وإنما بنيت المسجد ليصلوا فيه وإنما أعطيتهم المال ليحجوا ويجاهدوا ونحو ذلك فإنه ليس من شرط من فعل فعلا لغاية يفعلها غيره أن يكون هو فاعلا لتلك الغاية
ثم إذا علم أن كثيرا من هؤلاء لا يصلي ولا يحج ولا يجاهد وإن من يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر لا يطيعه لم يمنع ذلك أن يفعل ما يفعل ويأمر بما يأمر به لأن نفس ذلك الفعل وذلك الأمر مصلحة له وهذا موجود في المخلوق والخالق فإن المخلوق - كالرسول وغيره - يأمر وينهي وإن كان يعلم أنه لا يطاع لأن نفس أمره لهم له فيه مصلحة ومنفعة وثواب وفيه حكمة في حق المأمور والمنهي
وكذلك يفعل ما يفعل لمصالح الناس وإن علم أنهم لا يفعلون ذلك إذا كان له في ذلك أجرا ومثوبة ومصالح أخرى فإنه إذا كان بعض الناس يصلى في المسجد وبعضهم لا يصلي فيه قامت حجته على من لا يصل واستحق العقوبة وكان قد أزاح عن نفسه العلة بأن يقال: لم يبن لهم مسجدا يصلون فيه
والخالق تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب وأنذر العباد وأزاح عللهم وفعل لهم من الأسباب التي بها يتمكنون من الطاعة أعظم مما يفعله كل آمر غيره بالمأمورين فليس أحد أزاح علل المأمورين أعظم من الله فلا تقوم حجة آمر على مأمور إلا وحجة الله على عباده أقوام ولا يستحق مأمور من آمره ذما ولاعقابا لمعصيته إلا واستحقاق عصاة الله لأمره أعظم استحقاقا وذما ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ولا ييسر أمر على مأموريه ويرفع عنهم ما لا يطيقونه إلا والله تعالى أعظم تيسيرا على مأموريه وأعظم رفعا لما لا يطيقونه عنهم
وكل من تدبر الشرائع لا سيما شريعة محمد ﷺ وجد هذا فيها أظهر من الشمس ولهذا قال في آية الصيام: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }
وقال في آية الطهارة: { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم }
وقال: { ما جعل عليكم في الدين من حرج }
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: [ إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ]
وهو سبحانه يسقط الواجبات إذا خشي المريض زيادة في المرض أو تأخر البرء فيسقط القيام في الصلاة والصيام في شهره والطهارة بالماء كذلك بل المسافر مع تمكنه من الصيام أسقطه عنه في شهره وقال: { ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }
والشريعة طافحة بهذا وأمثاله وهو سبحانه مع ذلك هو رب كل شيء ومليكه وخالقه فلا يكون شيء إلا بمشيئته وقدرته وهو سبحانه محسن متفضل إلى من أمرهم ونهاهم بقدر زائد لا يقدر عليه ولا يفعله غيره وهو أن جعلهم مؤمنين مسلمين مطيعين وهذا لا يقدر عليه غيره من الآمرين الناهين وهو في ذلك محسن إليهم منعم عليهم نعمة ثانية غير نعمته بالإرسال والبيان والإنذار فهذه نعمة يختصمون بها غير النعمة المشتركة
وأما الكفار فلم ينعم عليهم بمثل ما أنعم به على المؤمنين ومن لم ينعم ويحسن بمثل ذلك لم يكن قد أساء وظلم مع الإقدار والتمكين وإزاحة العلل إذا كان له في ترك ذلك حكمة بالغة لو فعل بهم مثلما فعل بالأولين بطلت تلك الحكمة التي هي أعظم من طاعتهم وحصلت مفسدة أعظم من مفسدة معصيتهم فمن وجه ليس ذلك بواجب عليه لهم ومن وجه له في ذلك حكمة بالغة لا تجتمع هي ومساواتهم بأولئك فتقتضي الحكمة ترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما ودفع شر الشرين بالتزام أدناهما
وقول القائل: كيف يفعل فعلا لغاية مع علمه أنها لا تحصل؟
جوابه: أن ذلك إنما يمتنع إذا كان ليس مراده إلا تلك الغاية فقط فإذا لم تحصل لم يحصل ما أراده ومن فعل شيئا لأجل مراد يعلم أنه لا يحصل كان ممتنعا
وبهذا يبطل قول القدرية الذين يقولون: لم يرد إلا المأمور وما سواه واقع بغير مراده وخلق الخلق لذلك المراد بعينه مع علمه أنه لا يكون وهذا تناقض يقولون: يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء
وأما أهل السنة الذين يقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا يقع إلا ما شاءه وإن وقع ما لم يحبه ويأمر به فلحكمة له في ذلك باعتبارها خلقه ولولا الغاية التي يريدها به لم يخلقه فلا إشكال على قولهم
وإذا علم أن الرب له مراد بما أمره وله مراد بما خلقه فإذا لم يحصل ما أمر به فقد حصل ما خلقه فما حصل إلا مراده وهو لم يخلق ذلك المعين الذي أمر به لئلا يستلزم عدم مراد أحب إليه منه وهو ما خلقه وقد يكون ذلك المأمور يستلزم تفويت مأمور آخر هو أحب إليه منه
مثاله أن فرعون لو أطاع لم يحصل ما حصل من الآيات العظيمة التي حصل بها من المأمور ما هو أعظم من إيمان فرعون وصناديد قريش لو أطاعوا لم يحصل ما حصل من ظهور آيات الرسول ومعجزة القرآن وجهاد المؤمنين الذي حصل به من طاعة الله ومحبوبه ما هو أعظم عنده من إيمان صناديد قريش
وعلى هذا فيجوز أن يقال: إن الله إنما خلق الجن والإنس ليعبدوه فإنه هذا هو الغاية التي أرادها منهم بأمره وبها يحصل محبوبه وبها تحصل سعادتهم ونجاتهم وإن كان منهم من لم يعبده ولم يجعله عابدا له إذا كان في ذلك الجعل تفويت محبوبات أخر هي أحب إليه من عبادة أولئك وحصول مفاسد أخر هي أبغض إليه من معصية أولئك
ويجوز أيضا أن يقال: { ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } فإنه أراد بخلقهم صائرون إليه من الرحمة والاختلاف ففي تلك الآية ذكر الغاية التي أمروا بها وهنا ذكر الغاية التي إليها يصيرون وكلاهما مرادة له تلك مرادة بأمره والموجود منها مراد بخلقه وأمره وهذه مرادة بخلقه والمأمور منها مراد بخلقه وأمره
وهذا معنى ما يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله: { إلا ليعبدون } قال: معناه إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي واعتمد الزجاج هذا القول فرواه ابن أبي نجيح عن مجاهد: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } قال: لآمرهم وأنهاهم وروى سليمان بن عامر عن الربيع بن أنس قال: ما خلقتهما إلا للعبادة
وأما من قال: المراد: المؤمنون فروى ابن مصلح عن الضحاك في قوله: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } قال هي خاص للمؤمنين
وأمامن قال: كلهم وقعت منهم العبادة التي خلقوا لها فروي الوالبي عن ابن عباس: إلا ليعبدون: إلا ليقروا لي بالعبودية طوعا وكرها
وقال السدي: خلقهم للعبادة فمن العبادة تنفع ومن العبادة عبادة لا تنفع: { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } هذا منهم عبادة وليس تنفعهم مع شركهم
وروى ابن أبي زائدة عن ابن جريج في قوله: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } قال: إلا ليعرفون
روى هذه الأقوال ابن أبي حاتم بأسانيده إلا قول علي
وذكر الثعلبي عن مجاهد: إلا ليعرفون قال: ولقد أحسن في هذا القول لأنه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده ودليل هذا التأويل قوله: { ولئن سألتهم من خلقهم } الآيات قال: وروى حبان عن الكلبي: إلا ليوحدون فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء بيانه: قوله: { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين } فعلى هذه الأقوال أن جميع الإنس والجن عبدوه وعرفوه ووحدوه وأقروا له بالعبودية طوعا وكرها
والأولون لا ينكرون ما أثبته هؤلاء لكن يقولون: ليست هذه هي العبادة التي خلقوا لها وإن كان قد وجد من جميعهم معرفة به وإقرار به وعبودية له طوعا وكرها
وهذا يبين أن جميع الإنس والجن مقرون بالخالق معترفون به مقرون بعبوديته طوعا وكرها وذلك يقتضي أن هذه المعرفة من لوازم نشأتهم وأنه لم ينفك عنها أحد منهم مع العلم بأن النظر المعين الذي يوجبه الجهمية والمعتزلة لا يعرفه أكثرهم فعلم بذلك ثبوت المعرفة والإقرار بدون هذا النظر
وقد روى ابن جريج عن زيد بن أسلم: إلا ليعبدون قال: جبلهم على الشقاء والسعادة
وكذلك عن وهب بن منبه: { إلا ليعبدون } قال: جبلهم على الطاعة وجبلهم على المعصية ذكرهما ابن أبي حاتم؟
وعلى هذا فيكون المراد بالعبادة دخولهم تحت قضائه وقدره ونفوذ ميشئته فيهم وقد فسر بهذا ما رواه الوالبي عن ابن عباس حيث قال: إلا ليقروا لي بالعبودية طوعا وكرها
قال الثعلبي: ( فإن قيل: كيف كفروا وقد خلقهم للإقرار بربوبيته والتذلل لأمره ومشيئته؟ قيل: إنهم قد تذللوا لقضائه الذي قضاه عليهم لأن قضاءه جار عليهم لا يقدرون على الامتناع منه إذا نزل لهم وإنما خالفه من كفر به في العمل بما أمر به فأما التذلل لقضائه فإنه غير ممتنع منه )
قلت: وهذا المعنى - وإن كان في نفسه صحيحا وقد نازعت القدرية في بعضه - فليس هو المراد بالآية فإن جميع المخلوقات - حتى البهائم والجمادات - بهذه المنزلة
وأيضا فالعبادة المذكورة في عامة المواضع في القرآن لا يراد بها هذا المعنى
وأيضا فإن قوله: { ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } دليل على أنه خلقهم ليعبدوه لا ليرزقوا ويطعموا بل هو المطعم الرازق وإطعامه لهم ورزقه إياهم هو من جملة تدبيرهم وتصريفهم الذي قد جعله أهل هذا القول عبادة له فتكون العبادة التي خلقوا لها كونهم مرزوقين مدبرين وهذا باطل
وأيضا: فقوله { ليعبدون } يقتضي فعلا يفعلونه هم وكونه يربيهم ويخلقهم ليس فيه إلا فعله فقط ليس في ذلك فعل لهم
ويلي هذا القول في الضعف قول من يقول: إنهم كلهم عبدوه أو أن الآية خاصة فإنه هذه أقوال ضعيفة كما أن قول القدرية الذين يقولون: إنه ما كان منهم كان بغير مشيئته وقدرته وإنه لم يشأ إلا العبادة فقط وما كان غير ذلك فإنه حاصل بغير مشيئته وقدرته - قول ضعيف
والناس لما خاضوا في القدر صارت الأقوال المتقابلة تكثر فيه وفي تفسير القرأن بغير المراد وهو مما [ نهى عنه النبي ﷺ حيث خرج عليهم وهم يتنازعون في القدر: هذا قول: ألم يقل الله كذا؟ وهذا يقول: ألم يقل الله كذا؟ فقال: أبهذا أمرتم؟ أم إلى هذا دعيتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض ]
والمقصود هنا أنه من المعروف عند السلف والخلف أن جميع الجن والإنس معترفون بالخالق مقرون به مع أن جمهور الخلق لا يعرفون النظر الذي يذكره هؤلاء فعلم أن أصل الإقرار بالصانع والاعتراف به مستقر في قلوب جميع الإنس والجن وأنه من لوازم خلقهم ضروري فيهم وإن قدر أنه حصل بسبب كما أن اغتذاءهم بالطعام والشراب هو من لوازم خلقهم وذلك ضروري فيهم
وهذه هو الإقرار والشهادة المذكورة في قوله: { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون }
فإن هذه الآية فيها قولان: من الناس من يقول: هذا الإشهاد كان لما استخرجوا من صلب آدم كما نقل ذلك عن طائفة من السلف ورواه بعضهم مرفوعا إلى النبي ﷺ وقد ذكره الحاكم لكن رفعه ضعيف
وإنما المرفوع الذي في السنن كأبي داود والترمذي وموطأ مالك من حديث أبي هريرة ومن حديث عمر: هو أنهم استخرجهم ليس في هذه الكتب أنهم نطقوا ولا تكلموا
ولكن في حديث أبي هريرة أنه أراهم آدم وفي حديث عمر وغيره أنه قال: هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار ففيها إثبات القدر وأن الله علم ما سيكون قبل أن يكون وعلم الشقي والسعيد من ذرية آدم وسواء كان ما استخرجه فرآه آدم هي وأمثالهم أو أعيانهم
فأما نطقهم فليس في شيء من الأحاديث المرفوعة الثابتة ولا يدل عليه القرآن فإن القرآن يقول فيه: { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم } فذكر الأخذ من ظهور بني آدم - لا من نفس آدم - وذرياتهم يتناول كل من ولده وإن كان كثيرا كما قال تمام الآية: { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم }
وقال تعالى: { إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض } وقال: { ذرية من حملنا مع نوح } وقال: { ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون } إلى قوله: { وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس } فاسم الذرية يتناول الكبار
وقوله: { وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } فشهادة المرء على نفسه في القرآن يراد بها: إقراره فمن أقر بحق عليه فقد شهد به على نفسه
قال تعالى: { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين } وهذا مما احتج به الفقهاء على قبول الإقرار
وفي حديث ماعز بن مالك: فلما شهد على نفسه أربع مرات رجمه رسول الله ﷺ أي أقر أربع مرات
ومنه قوله تعالى: { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر } فإنهم كانوا مقرين لما هو كفر فكان ذلك شهادتهم على أنفسهم
وقال تعالى: { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } فشهادتهم على أنفسهم هو إقرارهم وهو إذا الشهادة على أنفسهم
ولفظ شهد فلان وأشهدته: يراد به تحمل الشهادة ويراد به أداؤها فالأول كقوله: { فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم } والثاني كقوله: { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم }
وقوله: { وأشهدهم على أنفسهم } من هذا الثاني ليس المراد أنه جعلهم يتحملون شهادة على أنفسهم يؤدونها في وقت آخر فإنه سبحانه في مثل ذلك إنما يشهد على الرجل غيره
كما في قصة آدم لما أشهد عليه الملائكة وكما في شهادة الملائكة وشهادة الجوراح على أصحابها ولما ظن بعض المفسرين هذا قال: المراد أشهد بعضهم على بعض
لكن هذا اللفظ حيث جاء في القرآن إنما يراد به شهادة الرجل على نفسه بمعنى أداء الشهادة على نفسه وهو إقراره على نفسه فالشهادة هنا خبر
وقولهم: { بلى شهدنا } هو إقرارهم بأنه ربهم ومن أخبر بأمر عن نفسه فقد شهد به على نفسه ولهذا قال في الآية: { وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } فقولهم: بلى معناه: أنت ربنا وهذا إقرار بربوبيته لهم وهذا الإقرار هو شهادة على أنفسهم أي إنطاقهم بالإقرار بربوبيته وجعلهم شهداء على أنفسهم بما أقروا به من ربوبيته
وقوله: ( أشهدهم ) يقتضي أنه هو الذي جعلهم شاهدين علىأنفسهم بأنه ربهم وهذا الإشهاد مقرون بأخذهم من ظهور آباؤهم وهذا الأخذ المعلوم المشهود الذي لا ريب فيه هو أخذ المني من أصلاب الآباء ونزوله في أرحام الأمهات لكن لم يذكر هنا الأمهات لقوله فيما بعد: { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم } وهم كانوا متبعين لدين آبائهم لا لدين الأمهات كما قالوا: { إنا وجدنا آباءنا على أمة }
ولهذا قال: { قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم } فهو يقول: اذكر حين أخذوا من أصلاب الآباء فخلقوا حين ولدوا على الفطرة مقرين بالخالق شاهدين على أنفسهم بأن الله ربهم فهذا الإقرار حجة لله عليهم يوم القيامة فهو يذكر أخذه لهم وإشهاده إياهم على أنفسهم إذ كان سبحانه خلق فسوى وقدر فهدى
فالأخذ يتضمن خلقهم والإشهاد يتضمن هداه لهم إلى هذا الإقرار فإنه قال: { أشهدهم } أي جعلهم شاهدين وقد ذكرنا أن الإشهاد يراد به تحميل الشهادة كقوله: { وأشهدوا ذوي عدل منكم } أي احملوا هذه الشهادة على هؤلاء المشهود عليهم
وهنا لم يقل: أشهدوا على أنفسهم بما أنطقهم به فيكون هذا إقرار مشهودا به غير الشهادة سواء كان شهادة بعضهم على بعض كما قاله بعضهم أو كان شهادتهم على أنفسهم بما أقروا به بل شهادتهم على أنفسهم هو إقرارهم
فالشهادة هي الإقرار كما قال: { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم } وكما قيل لماعز: شهد على نفسه أربعا فإشهادهم على أنفسهم جعلهم شاهدين على أنفسهم أي مقرين له بربوبيته كما قال في تمام الكلام: { ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } فقولهم: بلى شهدنا هو إقرارهم بربوبيته وهو شهادتهم على أنفسهم بأنه ربهم وهم مخلوقون به فشهدوا على أنفسهم بأنهم عبيده
كما يقول الملوك: هذا سيدي فيشهد على نفسه بأنه مملوك لسيده وذلك يقتضي أن هذا الإشهاد من لوازم الإنسان فكل إنسان قد جعله الله مقرا بربوبيته شاهدا على نفسه بأنه مخلوق والله خالقه
ولهذا جميع بنى آدم مقرون بهذا شاهدون به على أنفسهم وهذا أمر ضروري لهم لا ينفك عنه مخلوق وهو مما خلقوا عليه وجبوا عليه وجعل علما ضروريا لهم لا يمكن أحدا جحده
ثم قال بعد ذلك: { أن تقولوا } أي كراهة أن تقولوا ولئلا تقولوا: إنا كنا عن هذا غافلين: عن الإقرار لله بالربوبية وعلى نفوسنا بالعبودية فإنهم كانوا غافلين عن هذا بل كان هذا من العلوم الضرورية اللازمة لهم التي لم يخل منها بشر قط بخلاف كثير من العلوم التي قد تكون ضرورية ولكن قد يغفل عنها كثير من بني آدم من علوم العدد والحساب وغير ذلك فإنها إذا تصورت كانت علوما ضرورية لكن كثير من الناس غافل عنها
وأما الاعتراف بالخالق فإنه علم ضروري لازم للإنسان لا يغفل عنه أحد بحيث لا يعرفه بل لا بد أن يكون قد عرفه وإن قدر أنه نسيه ولهذا يسمى التعريف بذلك تذكيرا فإنه تذكير بعلوم فطرية ضرورية قد ينساها العبد
كما قال تعالى: { ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم } وفي الحديث الصحيح: [ يقول الله للكافر: فاليوم أنساك كما نسيتني ]
ثم قال: { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون } ذكر لهم حجتين يدفعهما هذا الإشهاد
إحداهما: { أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } فبين أن هذا علم فطري ضروري لا بد لكل بشر من معرفته وذلك يتضمن حجة الله في إبطال التعطيل وأن القول بإثبات الصانع علم فطري ضروري وهو حجة على نفي التعطيل
والثاني: { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم } فهذا حجة لدفع الشرك كما أن الأول حجة لدفع التعطيل فالتعطيل مثل كفر فرعون ونحوه والشرك مثل شرك المشركين من جميع الأمم
وقوله: { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون }: وهم آباؤنا المشركون وتعاقبنا بذنوب غيرنا؟ وذلك لأنه قدر أنهم لم يكونوا عارفين بأن الله ربهم ووجدوا آباءهم مشركين وهم ذرية من بعدهم ومقتضى الطبيعة العادية أن يحتذى الرجل حذو أبيه حتى في الصناعات والمساكن والملابس والمطاعم إذ كان هو الذي رباه ولهذا كان أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه فإذا كان هذا مقتضى العادة الطبيعية ولم يكن في فطرتهم وعقولهم ما يناقض ذلك قالوا: نحن معذورون وآباؤنا هم الذين أشركوا ونحن كنا ذرية لهم بعدهم اتبعناهم بموجب الطبيعة المعتادة ولم يكن عندنا ما يبين خطأهم
فإذا كان في فطرتهم ما شهدوا به من أن الله وحده هو ربهم كان معهم ما يبين بطلان هذا الشرك وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء كانت الحجة عليهم الفطرة الطبيعية العقلية السابقة لهذه العادة الأبوية
كما قال ﷺ: [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] فكانت الفطرة الموجبة للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بها وهذا يقتضي أن نفس العقل الذي به يعرفون التوحيد حجة في بطلان الشرك لا يحتاج ذلك إلى رسول فإنه جعل ما تقدم حجة عليهم بدون هذا
وهذا لا يناقض قوله تعالى: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } فإن الرسول يدعو إلى التوحيد لكن إن لم يكن في الفطرة دليل عقلي يعلم به إثبات الصانع لم يكن في مجرد الرسالة حجة عليهم فهذه الشهادة على أنفسهم التي تتضمن إقرارهم بأن الله ربهم ومعرفتهم بذلك وأن هذه المعرفة والشهادة أمر لازم لكل بني آدم به تقوم حجة الله تعالى في تصديق رسله فلا يمكن أحدا أن يقول يوم القيامة: إني كنت عن هذا غافلا ولا أن الذنب كان لأبي المشرك دوني لأنه عارف بأن الله ربه لا شريك له فلم يكن معذورا في التعطيل ولا الإشراك بل قام به ما يستحق به العذاب
ثم إن الله بكمال رحمته وإحسانه لا يعذب أحدا إلا بعد إرسال رسول إليهم وإن كانوا فاعلين لما يستحقون به الذم والعقاب كما كان مشركو العرب وغيرهم ممن بعث إليهم رسول فاعلين للسيئات والقبائح التي هي سبب الذم والعقاب والرب تعالى مع هذا لم يكن معذبا لهم حتى يبعث إليهم رسولا
والناس لهم في هذا المقام ثلاثة أقوال قال بكل قول طائفة من المنتسبين إلى السنة من أصحاب الأئمة الأربعة أصحاب أحمد وغيره
طائفة تقول: إن الأفعال لا تتصف بصفات تكون بها حسنة ولا سيئة البتة وكون الفعل حسنا وسيئا إنما معناه أنه منهي عنه أو غير منهي عنه وهذه صفة إضافية لا تثبت إلا بالشرع وهذا قول الأشعري ومن اتبعه من أصحاب مالك والشافعي وأحمد كالقاضي أبي يعلى وأتباعه وهؤلاء لا يجوزون أن يعذب الله من لم يذنب قط فيجوزون تعذيب الأطفال والمجانين
وطائفة تقول: بل الأفعال متصفة بصفات حسنة وسيئة وأن ذلك قد يعلم بالعقل ويستحق العقاب بالعقل وإن لم يرد سمع كما يقول ذلك المعتزلة ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم: أبي الخطابي وغيره
وطائفة تقول: بل هي متصفة بصفات حسنة وسيئة تقتضي الحمد والذم ولكن لا يعاقب أحدا إلا بلوغ الرسالة كما دل عليه القرآن في قوله تعالى: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }
وفي قوله: { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير }
وقال تعالى لإبليس: { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين }
وهذا أصح الأقوال وعليه يدل الكتاب والسنة فإن الله أخبر عن أعمال الكفار بما يقتضي أنها سيئة قبيحة مذمومة قبل مجيء الرسول إليهم وأخبر أنه لا يعذبهم إلا بعد إرسال رسول إليهم
وقوله تعالى: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } حجة على الطائفتين وإن كان نفاة التحسين والتقبيح العقلي يحتجون بهذه الآية على منازعيهم فهي حجة عليهم أيضا فإنهم يجوزون على الله أن يعذب من لا ذنب له ومن لم يأته رسول ويجوزون تعذيب الأطفال والمجانين الذي لم يأتهم رسول بل يقولون: إن عذابهم واقع
وهذه الآية حجة عليهم كما أنها حجة على من جعلهم معذبين بمجرد العقول من غير إرسال رسول
والقرآن دل على ثبوت حسن وقبح قد يعلم بالعقول ويعلم أن هذا الفعل محمود ومذموم ودل على أنه لا يعذب أحدا بعد إرسال رسول والله سبحانه أعلم
كلام أبي محمد بن عبد البصري
وقال الشيخ أبو محمد بن عبد البصري في كتابه في أصول السنة والتوحيد: ( فصل في الخلق على الفطرة قال: وخلق الله الخلق على الفطرة وهو قوله سبحانه: { فطرة الله التي فطر الناس عليها } وهي الإقرار له بالربوبية مع معرفة الوحدانية وذلك أنه سبحانه خلق الخلق على علم منه بهم مشاهد لما يؤول أمرهم وعواقبهم إليه فخلقهم على ما علم منهم وشاء غير مؤمنين ولا كافرين صبغة بل مقرين عارفين لا موحدين ولا جاحدين وكذلك قد روي في الأثر بقول الله تعالى: خلقت خلقي حنفاء مقرين لا منكرين ولا موحدين وذلك إثبات ونفي الجبر فثابت في نظره وعلمه عامة عواقبهم وله التحكم فيهم وهو أعدل من أن يضطرهم إلىكفر وغيره فيبطل بذلك الكسب وإذا بطل الكسب بطل التكليف والامتحان إذ التكليف لا يكون جبلا ولا يقع اضطرارا وجبرا ولا يكون إلا اختيارا إذ قد أمروا بها وأنزل الكتب وأرسل الرسل وكل ما منه حق غير عابث عدل غير ظالم عالم لا يخفى عليه شيء شاء لم يزل يشاء أن يثبتهم ويعاقبهم على أفعال تكون كسبا لهم
وهو عادل في عباده: { إن الله لا يظلم الناس شيئا } وقال عز من قائل: { وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم } مع ما أنه لم يزل مالكا لهم وقادرا عليهم ومتصرفا فيهم لا غناء لهم عنه ولا محيص لهم منه فخلقهم عز وجل على الفطرة كما أخبر وخلق الأعمال كما ذكرنا ولم يضطر أحدا إلى شيء من ذلك ولو خلقهم كفارا صبغة لما قال لهم: { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم } إذ لا يليق بالحكيم أن يخلق صبغة ويغير نفس ما خلق من غير كسب
وقال سبحانه: { أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين } ولو خلقه كافرا لما صح منه الإيمان وكان معذورا مدليا بحجته والله تعالى يقول: { لا تبديل لخلق الله } وكان ذلك تكليف ما لا يطاق كما أن يصرف الأسود فيقال له أبيض والأبيض أسود وذلك مستحيل من حكيم
وأما قوله سبحانه: { هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن } يعني: أنه خلق الكل وقد اعترفوا به بذلك فمنهم من شكر خالقه واعترف له بالنعم وبالإخراج من العدم إلى الوجود فحقق فعله وقبل من رسله ووحد ربه ومنهم من كفر ولم يشكر خالقه وأشرك به ما لا يجوز له وكذب برسله فصار كافرا بفعله
وقد روي نحو من هذا عن النبي ﷺ بقوله: [ كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإذا أعرب عنه لسانه فإما شاكرا وإما كفورا ]
وقد قال تعالى: { فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون } فلما امتثل ذلك قوم وعدل عنه آخرون كانوا هم المرادين من قوله: { فمنكم كافر ومنكم مؤمن }
وقد قال سبحانه في حال المؤمنين { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } فأخبر أنه فعل ذلك بهم بعد ما خلقهم ولم يقل: خلقكم مؤمنين: وكره إليكم الكفر فدل على أنه لم يفعل بالكافر ما فعل بالمؤمن وذلك أبلغ دليل على أنهم لم يخلقوا صبغة: كافرين ولا مؤمنين )
إلى أن قال: ( وقد رأينا على الكفر برهة ثم آمن ومن كان مؤمنا ثم كفر ولو كان ذلك صبغة لما انتقلوا ولما كان من الكسب صح عليه النقلة والتحويل وقد قال تعالى: { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم } فأضافه إليهم حقيقة
وقال: { ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا } { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا } ألا ترى أنهم لما لم يخلقوا صبغة كفارا نفعهم إيمانهم؟
ولما قال فرعون ( آمنت ) لم ينفعه
وقد أشفى في الحديث بما فيه مقنع بقوله ﷺ: [ ما من مولود إلا وهو يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] وهو إجماع المسلمين أن الكافر لا يعاقب ويجلد على ما خلق إنما يعاقب ويجلد على نيته وكسبه وهو موضع إيثارهم لما نهاهم عنه على ما أمرهم به من الإيمان فكان تكذيبه لهم على كسب اكتسبوه وفعل فعلوه ونهي ارتكبوه وأمر خالفوه وهو ما أحدثوه لا شيء جبلوا عليه ولا اضطروا له ولا خلقوا مجبولين عليه إذ لو خلقهم كفارا لكانوا إلى ذلك مضطرين ولم يقل بذلك أحد من المسلمين ألاترى أنه لما خلقهم علىمعرفة لم يصح لهم ولم يقع غير ذلك ولم يثابوا على ذلك؟ أعني: معرفة الربوبية وهي الفطرة ووجدنا الكفر يصح النقل عنه إلى الإيمان ويقع الارتداد عن الإيمان إلى الكفر فكان كمعرفة التوحيد الذي يقع اختيارا
وقال سبحانه: { فمنهم من آمن ومنهم من كفر } ولم يقل: منهم من خلقت مؤمنا ومنهم من خلقت كافرا
وقال سبحانه: { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون } فأعلمنا أن كذبهم وكفرهم هو كسبهم الذي حرمهم البركات وعليه توعدهم بالعقوبات وكون الكافر مخلوقا كافرا صراح بالجبر ومن قال: ما سبق في العلم والنظر ولا هو داخل في القضاء والقدر فهو قدري رديء وقد لعنت القدرية والمرجئة وكذلك المجبرة والله لا يجبر أحدا على فعل إذ لو جبر لكانوا عن التكليف خارجين كما جبلت الملائكة على الطاعة
وقد قال سفيان وأحمد وسهل والإمام وأهل العلم: ( إن الله لا يجبر على طاعة ولا على معصية وهو الجبار الذي جبر القلوب على فطرتها )
إلى أن قال: ( قال سبحانه: { وما ربك بظلام للعبيد } مع كونه سبحانه فعالا لما يريد وليس معنى ( شاء ) معنى ( علم ) ولا معنى ( علم وشاء ) معنى ( خلق ) فشاءهم وعلمهم وقدرهم وقضاهم مؤمنين وكافرين في حكم الكينونة وهي العواقب التي لم يزل بها عالما وعليها قادرا ولها شائيا ولم يخلقهم في العبودية والدينونة والبنية والتركيب كفارا ولا إقرارا للزوم المطالبة والعبودية ومحال أن يخلقهم لذلك ويتعبدهم ويطالبهم كما زعم أهل الإجبار من ضرار وأصحابه وسالكي البدعة والمضاهي لهم بالعدوان والطغيان والمغترين المحيلين على الأقدار والمتمسكين بمعاذير ليست لهم بأعذار لم يؤمنوا أن الأعمال محصاة والعواقب مشهودة وأعمالهم في القبضتين داخلة وإلى المعبود صائرون وعلى اكتسابهم محاسبون وبها مؤاخذون
قال أصدق القائلين: { ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون } وهل الكفر وغيره إلا عملان وكسبان؟ فمن زعم أنه ما سبق في علمه عواقبهم وما قضى عليهم بما وجد منهم ولا شاء ذلك في ملكه ولا خلق أعمالهم ولا أحصى سكونهم وحركاتهم ولا شهد في القدم إلى ما إليه صائرون - فهو قدري ومعتلي مكابر معتزلي مدعي الحول والقوة وأن الأمر إليه
ومن زعم أن كلفهم صبغة وجبرهم على الأفعال وجعل كسبهم مجازا وأعمالهم لا صنع لهم فيها - فهو أخس القدرية وأعتى المجبرة وهو الغالي في دين الله المرجىء المحيل بمعاصيه على ربه وبفجوره على من تقدس عن كسبه بل تنزه عما يقول الظالمون ولم يزل عليما شائيا حكيما عادلا متفضلا منصفا محققا مجبرا خالقا آمرا ناهيا غير عابث ولا تارك لأمورهم سدى ولا لها مهملا فخلق الكافر على الفطرة وخلق كفره وشاءه في ملكه ولم يجبره عليه ولا اضطره إليه ولم يتوله بل تبرأ منه وتركه معه ونهاه عن اعتقاده والتلبس به وبفعاله وجعل له قدرة واستطاعة على كسبه وتركه مع هواه فلما دخل تحته واعتقده في نفسه واتصل به واختاره وأحبه - كان كما ذكرنا في الجمع والتفرقة والخلقة والكسب فصار بما اعتقد واكتسب كافرا وسمي فاجرا ولا هو لنفسه خالقا ولا لكفره مخترعا بل له مكتسبا وبه اجتمع ففارق الإيمان والإحسان الذي أمر بمواصلتهما فصار لذلك مجانيا وخالط الكفر فصار فيه والجا فتوجه نحوه التهديد ولزمه الوعيد فألزمه ما اكتسب ورده إل ىما علم وأدخله في وعيده واستحق عقوبته وخلده بنيته: { وما ربك بظلام للعبيد }
وقد قال ﷺ: [ يقول الله عز وجل: خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين ]
وهذا نص من صاحب الشريعة جلي واضح لا شبهة فيه يسفر عن إيضاح ما أوردناه حنفاء عارفين على فطرته وهي معرفة ربوبيته والإقرار بوحدانيته لا يقع بذلك كفر ولا إيمان بل ذلك عليهم طارىء بالحكم الجاري فخلق الكل على الفطرة وأمر الكل بالإيمان لصحة الدعوة وعموم النصيحة وأقدر الكل على ما أمر وأراد )
تعليق ابن تيمية
قلت: فهذا الكلام يوافق قول من قال: خلقهم على الفطرة التي هي المعرفة والإقرار بالصانع وأن ذلك لا يصير به العبد مؤمنا ولا كافرا وقد أبطل من يقول: إنهم خلقوا على الكفر والإيمان وهو ظاهر القول الذي تقدم عن طائفة من العلماء وصاحب هذا الكلام يقول: الذي خلقوا عليه من المعرفة والإقرار لا يمكن تغييره وهذا موافق لقول من قال: لا تبديل لخلق الله - إنها بمعنى الخبر لكن ذاك يقول: إنهم لا يخلقون إلا على الفطرة لا يبدل الخلق فيخلقون على غير ذلك
وصاحب هذا الكلام يقول: لايبدل الخلق بعد ذلك أي: لا يمكن أن يصيروا غير عارفين مقرين بالخلق بل هذه المعرفة والإقرار أمر لازم لهم وهو يقول: كل ما خلق عليه العبد فلا يمكن انتقاله عنه وهو يثبت القدر وأن الله خالق أفعال العباد وينكر أن يكونوا جبلوا على ذلك واضطروا إليه أو جبروا عليه
فأما الكلام في الجبر فهو مبسوط في غير هذا الموضع وقد بينا أن مذهب الأئمة كالأوزاعي والثوري وأحمد بن حنبل وغيرهم أنهم ينكرون إثبات الجبر ونفيه معا ومذهب الزبيدي وطائفة: نفي الجبر وإنكار إثباته فقط وهو موافق لهذا الكلام
وأما ما حكاه أحمد ونحوه: أن الله لا يجبر على طاعة ولا معصية - فهو حكاه بحسب ما بلغه واعتقده والمنصوص الصريح عنه الإنكار على من قال: جبر وعلى من قال: لم يجبر
وفي الجملة الكلام في هذا الباب له موضع آخر والمقصود هنا ما ذكره في تفسير الفطرة وأنه فسر ذلك بأن الخلق فطروا على المعرفة والإقرار
وأما قوله: ( إن ذلك ليس بإيمان وإن ذلك لا يمكن تحويله ) فقد قدمنا الكلام على ذلك وبينا أن النصوص تدل على أن ما ولدوا عليه يتغير وإن كان ذلك بقضاء الله وقدره كما تغير الشاة المولودة سليمة بجدع الأنف والأذن والمقصود هنا كلامه في أن المعرفة بالصانع فطرية ضرورية وقد بسط ذلك مستوفيا في أول كتابه
وهذا الشيخ أبو محمد بن عبد البصري المالكي طريقته طريقة أبي الحسن بن سالم وأبي طالب المكي وأمثالهما من المنتسبين إلى السنة والمعرفة والتصوف واتباع السلف وأئمة السنة والحديث كمالك وسفيان الثوري وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وعبد الرحمن بن مهدي والشافعي وأحمد بن حنبل وأمثالهم وكذلك ينسبون إلى سهل ابن عبد الله التستري وأمثاله من الشيوخ
تتمة كلام البصري وتعليق ابن تيمية
قال أبو محمد في كتابه هذا الذي صنفه في أصول السنة والتوحيد قال: ( وكان إجماع السلف والخلف وأئمة الدين وفقهاء المسلمين من شرق وغرب وسهل وجبل وسائر أقاليم الإسلام من مغرب ومصر وشام وعراق وحجاز ويمن وبحر وخراسان مجتمعين: على أن عقيدة السنة أربع عشرة خصلة: سبعة متعلقة بالشهادة وهي مما يدان بها في الدنيا وسبعة متعلقة بالغيب وهي مما يؤمن بها من أحكام الآخرة
فالتي في دار الدنيا: القول مع الاعتقاد بأن الإيمان: قول وعمل ونية والإيمان بالقدر خيره وشره وأن القرآن غير مخلوق وتخيير الأربعة على الترتيب وإثبات الإمامة وترك الخروج على أحد منهم والصلاة على من مات من أهل القبلة وترك المراء والجدل
والمتعلقة بالآخرة: الإيمان بأحكام البرزخ والآيات التي بين يدي الساعة والبعث بعد الموت ورؤية الله تعالى والإيمان بالحوض والشفاعة والصراط والميزان وخلود الدارين فمن خالف شيئا من هذا فقد خالف اعتقاد السنة والجماعة وهذا مما لا شبهة فيه بين أصحاب الحديث والفقهاء والعلماء من سائر الأقاليم وسنتكلم على كل مسألة بذاتها ونقيم الدليل على ذلك من كتاب وسنة ونظر وبه التوفيق والمعونة وهو حسبنا ونعم الوكيل لا غناء بنا عنه طرفة عين ولا أقل من ذلك إذ قد أدبنا وعلمنا كيف نقول فقال: { إياك نعبد وإياك نستعين } إثباتا للمجاهدة وفقرا إلى المعونة منه سبحانه
فأول الكلام الواقع في الخلاف في المعارف فجمهور قول المعتزلة أن جميعها اضطرار )
قلت: كأنه بالعكس وأظن الغلط في النسختين: المعتزلة ( وقال ابن كلاب وطائفة: جميعها اكتساب وقول أصحاب الحديث: إن منها اضطرارا ومنها اكتسابا وكان الأصل في ذلك أن المعرفة اسم لاضطرار ومكتسب وكأن الاضطرار راجع إلى معرفة الربوبية والوحدانية والمكتسب راجع إلى المريد ونحوه
فصل: في معرفة الوحدانية التي جبل الرحمن الرحيم الخلق عليها وبه نستعين أما معرفة الوحدانية فهي معرفة الصانع القديم المخترع لأعيان الأشياء والمتمم تصويره لها على غير مثال ولا بد لكل مخترع أن يعرف المنعم عليه بالإخراج من العدم إلى الوجود وهي غير مكتسبة لأنها تعم من يصح منه الكسب ومن لا يصح منه وهي ضرورة لا اختيار فيها كما لا كسب فيها ولا يتوصل إليها بالأسباب
دليل ذلك قوله سبحانه وتعالى: { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } يعني: وما من شيء إلا يسبح قال ابن عباس: حتى النبات الذي خلقه يسبح بحمده
وقال عكرمة: لايسبن أحدكم ثوبه ولا دابته فما من شيء إلا يسبح بحمده وروي أن صرير الباب بالتسبيح
وقال سبحانه: { يا جبال أوبي معه والطير } وقد روي: سبحي
وقال سبحانه: { أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون } يعني: صاغرون
وقال سبحانه: { ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب } الآية
وقوله سبحانه: { سبح لله ما في السماوات والأرض } وسبح إخبار عن ماض وآت وإعلام لنا أن كل شيء يسبح بحمده ويسجد لعظمته ويعترف بألوهيته ووحدانيته ولا يجوز أن تسجد الأشياء وتسبح لمجهول وكذلك اعترافها بفضائل رسله وما استفاض من مخاطبات الجمادات له ﷺ وسلامها عليه وحنينها إليه ومخاطبة الأنعام والوحوش والطير والصغار في المهود وغير ذلك
قال ﷺ: [ إن البهائم أبهمت إلا عن ثلاث ] فذكر معرفة بارئها
وهذه الأشياء مما لا يصح فيها الاستدلال والنظر ولا عقول ولا اختيار ولا كسب وقد عقل معرفتها لبارئها عز وجل وثبت بالكتاب والسنة وهذا ظاهر جلي ينفي وجود هذه المعرفة بالوسائط لأنها حق له عز وجل ينفي عن نفسه ما شمل سائر البرية من المعلوم والمجهول لأنه سبحانه خلق الأشياء مجهولة ثم جلاها بالأسماء فعرفت من بعد جهلها وذلك دليل الحدث فعز عن أن يكون كالحوادث التي عرفت بغيرها
وقال بعض الحكماء كلمات لا سبيل إلى نقضها: وهو أن كل معروف بغير نفسه مجهول وكل تام بغيره معلول ولقد أحسن فيما قال وأصاب إذ معرفته بغيره شهادة قاطعة على وجود علة المجهول فيه الذي ارتفعت عنه تغيره الذي لولاه لم يعرف فصارت معرفته بغيره صارخة بفقره إلى من ارتفعت عنه علة المجهول والغير علة والعلة لا تصحب إلا معلولا
قلت: وقد قرر كلامه صاحبنا الشيخ أبو العباس الواسطي فقال: ( المعنى: أنه لولا وجود زيد ما عرف عمرو وبوجود زيد زالت الجهالة عن عمرو فصار زيد مفتقرا إلى وجود عمرو واسمه لزوال الجهالة عنه به وباسمه والمعنى: أن المخلوق مفتقر إلى علة يعرف بها بخلاف الواحد الذي لا نظير له ولا هو مفتقر إلى علة يعرف به ويقوم بها بل العباد مفترقون إليه وإلى معرفته )
قال: وهذا إشارة إلى المعرفة الفطرية فإنه سبحانه لم يعرف فيها بغيره بل كان هو المعروف بها بنفسه إلى خلقه )
قال الشيخ أبو محمد بن عبد: ( فعز ربنا أن يقوم بالعلل فيصير دليلا بعد ماكان مدلولا ) هكذا رأيته في الكتاب وإنما أراد: ( فيصير مدلولا بعد ما كان دليلا )
قال: ( وقد جاء في الأثر: يقول الله تعالى في بعض الكتب السالفة: أنا الدال على نفسي ولا دليل أدل علي مني وقد روى: كنت كنزا لا أعرف فأحببت أن أعرف فأظهرت خلقا وتعرفت إليه بنفسي فعرفوني وهذ نص بإزالة العلل لأنه من ثبت بغيره ونفي بغيره كان إثباته تخييرا وتلك علل الحوادث فهو الثابت بثباته المعروف بنفسه لم يعرف من بعد جهل إذ ذاك تغيير عن الأزل فهو المعروف أزليا والعارفون محدثون كما أنه إله لم يزل والمألوهون المقرون له بالإلهية محدثون ولا يجوز على الإلهية تغيير ولا أن تقوم لها صفة بالحوادث وهذه المعرفة تعم سائر البرية من ساكن ومتحرك وهي جبل كجبل الملائكة على الخدمة فتلزم مكلفا وغير مكلف )
قال: ( والفصل الثاني: معرفة الربوبية وهي خاصة للمكلفين من بني آدم وهي تعم مؤمنهم وكافرهم وسائر فرقهم وهي ضرورية أيضا وهي عن رؤية وهي قوله سبحانه: { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } وهذا في غير وقت الكسب والتكليف فتعرف إليهم بنفسه بلا وسائط ولقنهم التاء وخاطبهم بحرف التعريف فأقر الكل له بتلك المعرفة إذ عاينوه جبارا قهارا وهي معرفة لا يقع بها إيمان ولا توحيد لأنها إقرار للضرورة وليس للكافر فيها اختيار إذ لو كان له فيها اختيار لجحدها كما جحد معرفة التوحيد ولو كانت كسبية لوقع له بها إيمان وثواب بلى هي ضرورية يرجع إليها في شدائده قال تعالى: { ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون }
وقد أخبر عن الكفار أنهم يعرفونه مع ردهم على رسله قال تعالى: { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } وقال سبحانه: { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } مع آيات كثيرة وذلك موجود منهم ضرورة وهم في الجاهلية يعرفونه ولا ينكرونه ويقولن: إلهنا القديم والعتيق وإله الآلهة ورب الأرباب وغير ذلك مع كفرهم
فدل ذلك على أن تلك ضرورة ألزموها وهو قوله تعالى: { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها } وقول: { فطرة الله التي فطر الناس عليها } يعني: معرفة ربوبيته
وقد جاء في الأثر: يقول الله تعالى: ( خلقت خلقي حنفاء مقرين ) يعني عرفاء عرفوه بوحدانيته وأقروا له بمعرفة ربوبيته وإنما جحدوا معرفة التوحيد الذي تعبدهم بها على ألسنة السفراء وهو قوله تعالى: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }
وقول صاحب الشرع: [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله ] لم يقل: حتى يقولوا: إن ربهم ربا إذ هم عارفون بذلك وإنما أمرتهم الرسل أن يصلوا معرفة التوحيد بمعرفة الربوبية والوحدانية فأبوا وقبل ذلك الموحدون فقال في حال المؤمنين: { والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل } وقال في حال الكفار: { ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل }
فالسفراء لهم مدخل في معرفة التوحيد دون معرفة الوحدانية والربوبية إذ لكل معرفة مقام فليس للعقل والكسب والوسائط والنظر والاستدلال في هذه المعرفة حكم لكونها عامة موجودة ممن يصح منه النظر والاستدلال وممن لا يصح منه فلو كلفهم كلهم النظر والاستدلال لكان مكلفا لهم شططا إذ لايصح من الكل النظر والاستدلال ويصح من الكل المعرفة بالاضطرار فحملهم من ذلك ما رفع به عنهم الشطط
وحديث الجارية فمشهور وهي مما لا يصح منه النظر والاستدلال وكذلك الأبله والمجنون وغيرهم لو سألتهم عن الله سبحانه لأشاروا إليه بما عرفهم فتعرف سبحانه قبل التكليف بنفسه وبعد التكليف بالسفراء لأنه لو خطابهم وكاشفهم قبل التكليف بلا سفير لبطل التكليف )
قال: وقد [ قال له أبو ذر رضي الله عنه: يا رسول الله بماذا أقول: عرفت الله؟ فقال: إنك إن قلت بمن فقد أشركت وإن حلت كفرت وإن وسطت واسطة ضللت ]
وقد قيل لعلي رضي الله عنه: بم عرفت ربك؟ فقال: بما عرفني نفسه لا يشبه صورة ولا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس
وعن ابن عباس حين سأله نجدة الحروري فقال: يا ابن عباس بما عرفت ربك إذ عرفته؟ فأجاب بنحو من جواب أمير المؤمنين
وقول الصديق الأكبر: ( سبحان من لم يجعل للخق طريقا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته )
فهذه المعرفة ضرورة للعارف موجودة فيه كوجود ضرورة المقعد وقعوده موجودة فيه فهو سبحانه المعروف الذي لا ينكره شيء والمعلوم الذي لا يجهله شيء فمن كانت معه معرفتان فهو كافر وبالمعرفة الثالثة يصح الإيمان وهو الفصل الثالث: وهي معرفة التوحيد التي دعت الرسل إليها وبعثوا بها وكلفنا قبولها وهي قوله: { وإلهكم إله واحد } وهو قوله: { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } وأخبرنا أنه ما كان معذبا قبل بعثتهم فكانوا يعرفون أن لهم ربا وإلها ولكنهم ينكرون توحيد الإله وبعث رسله وشرائع دينه وبه وقع منهم الكفر
فوجود ذلك منهم يزيل عنهم معرفة التوحيد ولا يزيل ضرورتهم وهذه المعرفة وجبت بالتوقيف وهي ما وقفتنا الرسل عليه ودلنا عليه سبحانه ووفقنا لذلك وبها يجب الخلود في الجنة وبعدمها يجب الخلود في النار وهي مكتسبة ولم تجب بالعقل كما زعمت المعتزلة لأن هذه المقالة تضاهي مقالة البراهمة حيث زعمت أن في قوة العقل كفاية عن بعث الرسل والحق لم يخبر أنه ما كان يعذبهم حتى يرزقهم عقولا وإن كان العقل حجة فهو باطن والرسل حجة الله ظاهرة
وقد قيل لبعض العارفين: بم عرفت الله؟ قال: بالله فقيل: فأين العقل؟ فقال: العقل عاجز يدل على عاجز
وقد جاء في الأثر: إن الله سبحانه لما خلق العقل وأقامه بين يديه - وهو حجة من قال: عرف بالعقل - فقال له: أقبل فأقبل ثم قال له: أدبر فأدبر فقال: عزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أكرم علي منك بك آخذ وبك أعطي وبك أعرف فتعلق الخصم بهذه الكلمة وتمام الحديث: فطفق لا ينطق فكحله بنور العزة فقال: أنت الله الذي لا إله إلا أنت فلم يعرف العقل الله إلا بالله
وإذا كان الله معروفا من طريق التوحيد بالعقل فما بال قريش - مع كونها ذوي عقول - يقول الله عنهم إخبارا: { أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب }؟ فإن كان لا عقل لها فلا حجة عليها وإن كانت ذوي عقول فما أغنت عنهم عقولهم
وقال سبحانه: { وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم } الآية وأخبر عنهم أنهم يقولون في النار: { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } لا خلاف أنهم كانوا ذوي أسماع لا يسمعون بها وكذلك عقول لا تغني عنهم ولا يستعملونها فلم تكن مغنية لهم مع تكذيبهم الرسل فبوجود الرسل صح التكليف وبالعقل تمثيل ذلك بعد التوفيق وليس للعقل مدخل فما تقدم من المعارف وإن كان له ها هنا مدخل فالأصل الرسل والعقل اتبع ذلك
وأما العقل فله مدخل بالغ في معرفة المزيد وكذلك العلم فالعلم بيان الله والعقل حجة الله والرسل هم الحجة الظاهرة المبلغة عن الله مراده والمخبرة بأمره والداعية إلى سبيله ولما كان سبحانه لا سبيل إليه ولا عقول تشرف عليه ولا لنا طاقة إلى استماع كلامه لم يكن بد من بعث الرسل لنعلم بها مراد الربوبية منا
وليس هذا للعقل وإنما للعقل الزوائد والتصرف في المراد المخبر عنه الرسل فعم سبحانه بمعرفة وحدانيته سائر ما ابتدع وخص بمعرفة ربوبيته بني آدم كما كرمهم وخص بمعرفة توحيده المؤمنين وخص بمعرفة المزيد خواص المؤمنين
وفي هذه المعرفة يتفاوت الناس فمن كان معه معرفتان كان كافرا ومن كان معه ثلاث فهو مسلم فإذا كان أربع كان مؤمنا فإذا كانت معه خمس كان مؤمنا عالما ثم يفاوتون في معرفة المزيد على قدر أحوالهم وصدق الهمم واتباع العلم وقوة اليقين وصفاء الإخلاص وصحة المعتقد ولزوم السنة
فالعقل والعلم والنظر والاستدلال والافتكار والاعتبار يكشف عن معرفة المزيد التي يتفاوت فيها العبيد فمن جعل حكم معرفة في أخرى فقد غلط غاية الغلط وأوبقه الجهل ورماه في بحر الحيرة ونقض الآثار إذ قد ورد في بعضها أنه عرف بنفسه وفي بعضها بالعلم وفي بعضها بالعقل وغير ذلك
فدل على أن كل معرفة لها حكم ومصدر ومقام وحال فللكل معرفة الوحدانية والربوبية وليس للكل معرفة التوحيد
وإذا عمت معرفة التوحيد المسلمين فليس لكل المسلمين معرفة المزيد وإذا زعم الخصم أن المعارف المتقدمة وجبت - أي حصلت - بالنظر والاستدلال - فذلك مكابر معاند
فإن احتج بقوله تعالى عن الخليل: { فلما جن عليه الليل رأى كوكبا } إلى قوله: { إني بريء مما تشركون } فتلك حجة على الخصم لا له لأنه لو عرف بالنظر والاستدلال لما صح له أن يقال: إني بريء مما تشركون ولم يحكم النظر والاستدلال ولا يقول: إني بريء مما تشركون وإني وجهت وجهي إلا عارف بربه
تتمة كلام البصري وتعليق ابن تيمية
وما كان ذلك من الخليل إلا بالرشد السابق الذي خبرت الربوبية عنه بقوله تعالى: { ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل } وإنما أراد بذلك القول الإنكار على قومه والتوبيخ لهم إذ كانوا يعبدون الشمس والقمر والنجم من دون الله فقال ما قال على طريق الإنكار ليعلمهم أن ما جاز عليه الأفول والتغيير من حال إلى حال لم يكن بإله يعبد ولا رب يوحد وإنما الإله الذي خلقكم ولمعرفته فطركم :
هو الذي أخبر عنه بقوله: { إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض } وإن كان مخرج الآية مخرج الخبر فإنما المراد به الاستفهام )
قلت: وذكر ابن عبد أشياء وإن كان في بعض ما ذكره آثار لا تثبت وكلام مستدرك فالمقصود بيان ما ذكره من أن المعرفة فطرية
إلى أن قال: وإنما كان الخليل بقوله منبها لقومه ومذكرا لهم الميثاق الأول ردا لهم إلى ضرورتهم ليصلوا إلى ما انعجم عليها بما هو ضرورتهم وكوشفوا به وإن كان ذلك من الخليل في طفوليته كم حكي فأين محل النظر والاستدلال؟ وإن كان في حال رجوليته فمتى التبس هذا الحكم على بعض المؤمنين في زماننا وغيره حتى يلتبس على الخليل الذي اصطفاه الله بالخلة من بين العالمين؟ ! نعوذ بالله من الحيرة في الدين
لا جرم وقال تعالى: { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } ولو أن الله عرف بالعقل لكان معقولا بعقل وهو الذي لا يدركه عقل ولا يحيط به إحاطة وإنما أمرنا بالنظر والتفكير فيما عرف بالتقدير لا إلى من: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } فعرفنا أن لكل أثرا مؤثرا ولك بناء بان ولكل كتابه كاتب من ضرورتنا إلى ذلك كما عرفنا اضطرارا أن السماء فوقنا والأرض تحتنا ومعرفة وجودنا وغير ذلك إذ يستحيل أن يحدث الشيء نفسه لعلمنا بأنه في وجوده وكماله يعجز كيف في عدمه وعجزه؟ ! )
قال: ( والفصل الرابع: وهي معرفة المزيد بالعقل والعلم والاستدلال وخالص الأعمال مدلول عليها وإن كان الأصل فضل الله المحض
قال الله تعالى: { فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون } وقد روى: معرفة { وزدناهم هدى } { ولدينا مزيد } { لئن شكرتم لأزيدنكم } فوعد بالزيادات وأخبر عنها فكلما نصحوا فيما عرفوا كوشفوا بما غاب عنهم في المقام الثاني من المقام الأول
وفي الحديث: [ من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم ] وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ( جهلنا بما علمنا تركنا العمل بما علمنا ولو علمنا بما علمنا لفتح الله على قلوبنا غلق ما لا تهتدي إليه آمالنا
وقد قال النبي ﷺ: [ من أراد عزا بلا عشيرة وغنى بلا مال وعلما بلا تعلم فليخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعة الله فإنه واجد ذلك كله ]
وقد روي: [ إذا زهد العبد في الدنيا وكل الله سبحانه بقلبه ملكا يغرس فيه آثار الحكمة كما يغرس أكار أحدكم الفسيل في بستانه ]
وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول - ويكتب بذلك إلى عماله -: ( احفظوا عن المطيعين لله ما يقولون فإنه يتجلى لهم أمور صادقة ) فكلما استعمل العبد عقله وعمل بعلمه وأخلص في عمله وصفا ضميره وجال بفهمه في بصيرة العقل وذكاء النفس وفطنة الروح وذهن القلب وقوى يقينه ونفى شكه وضبط حواسه بالآداب النبوية وقام على خواطره بالمراقبة وتحرى ترك الكذب في الأقوال والأفعال وصار الصدق وطنه وذهب عنه الرياء والعجب وأظهر الفقر والفاقه إلى معبوده وتبرأ من حوله وقوته ولزم الخدمة وقام بحرمة الأدب وحفط الحدود والاتباع وهرب من الابتداع زيد في معرفته وقويت بصيرته وكوشف بما غاب عن الأعيان وصار من أهل الزيادة بحقيقة مادة الشكر الموجبة للمزيد وهذه المعرفة لا يجب أن تكون ضرورة ولا أيضا معرفة التوحيد إذ لو كانت ضرورة لعمت وبطل الثواب فلم يجبر سبحانه على معرفة توحيد وعلى معرفة المزيد إذ لو كان كذلك لأغنى عن بعث الرسل وإنزال الكتب وإقامة الحجج وإنما هو الجبار الذي جبر القلوب على فطرتها وأقامها مع مقدرتها لم يكلفها فوق الطاقة ولا شططا فجبر على معرفة ربوبيته ووحدانيته ولم يجبر على ما سوى ذلك من المعارف كما زعمت المجبرة فمن أهل الكلام من يزعم أن المعارف كلها اضطرار وذلك غلط وهو قول جمهور شيوخ الاعتزال والمجبرة وبعض المتشيعة ومنهم من يزعم أن جميعها اكتساب وذلك أيضا غير صواب وبه يقول القدرية وبقايا الاعتزال وغيرهم وأصحاب الحديث وأهل الظاهر فيقولون بالاضطرار والاكتساب
والأمر هو ما ذكرنا والصواب ما شرحنا لأن كل مقالة خالفت ما رتبنا فمنقوضة مضطربة نصرح بإبطالها ونومي إلى تناقض الأحاديث فمعارف الاضطرار لا تفاوت فيها ومعارف الاكتساب يقع فيها التفاوت ويتفاضل الناس فيها على قدر ما ذكرنا
فلما ثبت أنه القديم الأزلي وحده وما سواه محدث وكان القاهر لهم على الاتحاد والفناء كانت المعرفة لهم من هذا الوجه اضطرارا وجبلا وكذلك لما اضطرهم في الذر وخاطبهم كفاحا في غير زمان التكليف لم يجز أن يكون ذلك بكسب فلما أرسل رسله وأنزل كتبه وتعرف على ألسنة السفراء لم يصح أن يكون ذلك جبرا ولا ضرورة فيسقط التكليف ولا يكون ذلك موقع الحكمة ولا ثبوت حجة: { وما ربك بظلام للعبيد } وهو الفعال لما يريد ذو الحكمة البالغة والعدل الشامل والفضل الذي يختص به فعرفناه من حيث وحدانيته وربوبيته من حيث يعرف ومن حيث توحيده ومن حيث وصف ووقف ومن حيث المزيد من حيث استعمل ووفق واختص وتفضل فلكل معرفة مقام ولكل مقام حكم فعم بالأول وأفراد بالثاني واختص بالثالث من مقامات المعارف فمعارف البلغاء بالإصابة ومعرفة النظر والاستدلال لأهل الرأي والمكايلة والكلام ومعرفة الفقه للعلماء والحديث للرواة والفراسة للحكماء والمزيد للأنبياء والأولياء مع مشاركتهم للغير في المعارف لا يشاركهم غيرهم فيما خصوا به وكوشفوا فلما استوى الكل في كونهم أحداثا مربوبين استووا في تلك المعرفة ولما وقعت الميزة بالكسب والاختصاص تباينوا وتفاوتوا في المعارف وما يعقل ذلك إلا عارف ولا ينكره إلا جاهل فوصل الكل إلى معرفة الربوبية ولم ينته أحد إلى معرفة المزيد وهو أن يعرف الله حق معرفته
قال تعالى: { وما قدروا الله حق قدره } وقد روي: ما عرفوه حق معرفته
وقال ﷺ: [ لو عرفتم الله حق معرفته لمشيتم على البحور ولزالت بدعائكم الجبال ولو خفتم الله حق خوفه لعلمتم العلم الذي ليس بعده جهل وما وصل أحد إلى ذلك قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ ! قال: ولا أنا الله أجل أن يبلغ أحد كنه أمره كله ]
هذا وهو أعرف الخلق بربه الذي تصير معارف ذوي المعارف عند معرفته نكرة
وقد كان يقول في مناجاته: [ اللهم عرفني نفسك حتى أزداد لك رغبة ومنك رهبة ] وهذا طلب الزيادة في المعرفة كما أدبه: { وقل رب زدني علما }
وقد كان الشبلي يقول: ( ما عرف الله أحد حقيقة ) يعني لو عرفوه حقيقة ما اشتغلوا بسواه
وكان الواسطي يقول: ( كما به كانوا كذلك به عرفوا ) وقال أبو الحسن المروزي في قصيدته :
به عرفوه فاهتدوا لرشادهم... ولولا الهدى منه عموا وتحيروا
وقال النبي ﷺ في كلامه: [ والله لول الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا ] الحديث )
قال: ( فليس شيء إلا وهو يعرف الله سبحانه ولو كان الحكم واحدا والمعرفة واحدة لاستووا وعدم الاستواء ووجود التفاوت يشهد بصحة ما قلنا مع تصحيح الآثار ومذاقات ألفاظ الرجال فهو أجل أن يجهل وأعز أن تنتهي فيه معارف ذوي المعارف أو تبلغه بصائر ذوي البصائر: { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير }
ومعرفة الرب بربوبيته إذ ربوبيته ظاهرة لا يدعها جاحد ولا يقدر أن ينكرها معاند إذ هو أجل أن يخفى وأعز أن يقاس وأعظم أن تشرف عليه العقول أو يتناوله معقول ليس في حيز المجهولات فيستدل عليه ولا مضبوط بالحواس فتصل الأفهام إليه فعرفناه بما تعرف ووصفناه بما وصف إذ به عرفت المعارف ووجدت الدلائل فعرفنا نفسه وعرفنا رسله بما أظهر على أيديها من المعجزات والبراهين والآيات وتعرف إلينا على ألسنتهم كيف نوحده ونشكره ونعبده إذ لا وصول لنا إلى مراده منا إلا بما أرسل وعلم لتكون المملكة معذوقة بمالكها ونوحده بما وحد به نفسه ونثني عليه بثنائه ونشكره كما علمنا على آلائه إذ هو الغني عن كل شيء وكل شيء إليه فقير قال الله: { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد } فلفقرنا لم نعرفه بنا ولغنائه عنا عرفناه به وجعل لنا الزيادة في الكسب والتوصل بالأسباب ومنه البداية وإليه المنتهى فكل من ألزمنا بسبب عكسنا عليه ذلك السبب وتسلسل الأمر وإلى الله ترجع الأمور: { وإليه يرجع الأمر كله } فلا مجهول فيستدل عليه ولا متوقع فيرتقب فللرسل تأثير في العبادات وللاستدلال تأثير في المكونات وللعقول تأثير في المدبرات وللرياضات تأثير في المكتسبات
وقد أخبر سبحانه في كتابه فقال: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وقد روي: ليعرفون فلأجل ذلك وقعت المعرفة من الجميع ولم تقع العبادة فأراد ليعرفوه ثم يعبدوه على بساط المعرفة فما جبرهم عليه من معرفة ربوبيته وقع وما ردهم فيه إلى الاكتساب وقع من بعض دون بعض ألا ترى أنه لم يقع من الكفار التعجب والإنكار من أنه سبحانه رب وإله؟ وإنما تعجبت وأنكرت التوحيد بالإلهية فقالوا: { أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب } فما أريد منهم أن يقع بهم علل وما ألزمهم من معرفة ربوبيته لم يكن لهم سبيل إلى إنكاره وجحده كغيره من المعارف )
تتمة كلام البصري وتعليق ابن تيمية
قال: ( فأصحاب المقالات وضعت كل معرفة غير موضعها وأجملت وجهلت الحكم فالتبس عليها الحكم واختلفوا بما يصاب؟: بالعقول أو الاستدلال أو بالإمام؟ فقال بعضهم: أصل المعرفة معرفة الإمام ومنهم من يقول: أهل البيت يعني معرفتهم والأئمة والعلماء والفقهاء أكثرهم يذهب إلى أن المعرفة معرفة العلم والفقه من حلال وحرام وفرائض ومندوبات وأحكام وسنن
وقال بعضهم: هي أن تعرف الله على يقين حتى تستقر معرفته في قلبك
واختلفوا: أي وقت تقع؟ فمنهم من يزعم: قبل البحث والنظر ومنهم من قال: بعد البحث والنظر وقوم يقولون: بعد البلوغ ومنهم من بجعل حدها معرفة الأجسام والأعراض والجواهر وكلام يكثر ذكره ويتبين لك في نفس الكلام - إذا لزمت ما قررنا وشرحنا - أن أهل الكلام اعتقدوا ما يليق بالطبع فأثبتوا من طريق العبودية فجعلوا معرفته بأسباب وأهل الحق اعتقدوا ما يليق بالربوبية فأثبتوه من حيث الربوبية والربوبية لا تدنسها العلل ولا يقع عليها غوامض الفطر فقرر الله الخلق ودعاهم إلى معرفته كفاحا لئلا يشركوا في العلم بمعرفته ولا تكون لهم حجة
قال سبحانه: { أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل } وذلك لموضع ما ألزمهم من الضرورة ولو قررهم بمعرفته في حال العبودية - كما زعم الجاهلون - لخرجوا عن كونهم مكلفين لموضع النظر إليه لكن تعرف إليهم من بعد ما ألزمهم من الضرورة بالوسائط والآيات فمن نصح معبوده وقام على مراعاة ما شرعه له وتعرف به إليه واتكل في المعرفة عليه وأسند جميع أموره إليه ذكره ما سلف من الحال وكشف له عن العواقب والمآل فزهد فيما يفنى وزادت رغبته فيما يبقى وصار للإله موحدا خائفا ومصدقا راجيا ومن قصر في رعايته وخلط في سعايته وسلك محجة التفريط ولم ينصح فيما أعطى من ضرورته وعقله جمت عيوبه وكثرت ذنوبه فملكه هواه فأعماه وأراده ولم يبلغ مناه فأنساه ذلك ما كان في وقت التعريف فحصل في جملة من خان وعاند ولم يكن بخارج من كون ماكان يجهله إذ قد ثبت العلم بذلك فلم يكن بخارج من النار ولم يكن بخارج من ضرورته )
قال: ( وقد ثبت أهل الكلام معارف ضرورية كمعرفة الإنسان بوجود نفسه فالربوبية أولى بذلك وكذلك الأعراض والأجسام والجواهر لأهل الكلام والجمع والتفرقة وما يعرف بالفكر ويشترط بالعلم ومعرفة الشرع للفقهاء والمعرفة التي هي الحجة والبرهان والنور والبيان للعلماء البلغاء الحكماء ومعرفة الصفات - وهي العلم به - فهي للأولياء الذين يشاهدونه بالقلوب ويكاشفهم بالغيوب إذ يظهر لهم ما لا يظهر لغيرهم وهم المكاشفون بنور اليقين وعلم اليقين وعين اليقين وحق اليقين المخصوصون بالحقائق والمبتدأون بالمكنون من ذخائر كراماته لأهل صفوته وولايته فلكل قوم مقام ولكل مقام علم ولكل علم حكم وكذلك المعارف على أحكام ومقامات فلا يتعدى بمعرفة مقامها )
قال: ( وقد قيل لأبي الحسين النوري: كيف لا تدركه العقول؟ فقال: كيف يدرك ذو مدى من لا مدى له؟ أم كيف يدرك ذو غاية من لا غاية له؟ أم كيف يدرك مكيف من كيف الكيف
وقال الواسطي: كما قامت الأشياء وبه فنيت كذلك به عرفوه وقال الشبلي: الحق لا يعرف بسواه وقال النباجي: طوبى لأهل المعرفة عرفهم نفسه قبل أن عرفوه )
قال: ( صدق أئمة الدين وشيوخ المسلمين فالله سبحانه هو المعروف الأزلي وهو الهادي إلى معرفته والمتعرف بنفسه إلى بريته إذ ضلت العقول والفهوم والعلوم والأوهام في تيه التيه أن تتوهمه والأفكار والأضمار ان تدركه لأنه العظيم الذي فاتت عظمته لكل حيث وتقدير وعجز عن توهمه كل فكر وضمير وردعت العقول فلم تجد مساغا فرجعت كليلة ورجع الوهم خاسئا وهو حسير )
إلى أن قال: ( بل هو المعروف بما تعرف والموصوف كما وصف فتعرف إلينا بربوبيته ووصف لنا توحيده ووحدانيته وأقسم على ذلك بقوله تعالى: { والصافات صفا * فالزاجرات زجرا * فالتاليات ذكرا * إن إلهكم لواحد } وهو الصادق في خبره وشهادته إذ هو الواحد في الحقيقة الذي لا شريك له في الألوهية والابتداع وتعرف إلينا بهذه المعرفة على ألسنة السفراء فأوقفتنا السفراء على توحيده الذي تعرف إلينا به في كلامه وخطاه فالأصل منه ثم السفراء { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } وأسعدنا بالعقل الذي هو الحجة والعلم الذي هو الحجة وجعل لنا السمع والأبصار والأفئدة وطالبنا بالاعتبار والافتكار والقبول ليكون أقوى في البرهان وأبلغ في البيان
قال سبحانه: { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون } فنزه نفسه عما زعموا وابتدعوا وصدق الله في خبره وصدقت الرسل )
وتكلم على هذه الآية وعلى قوله: { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } بما يناسب ذلك إلى أن قال: ( قال سبحانه: { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء }
وقال سبحانه: { ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل }
وقال: { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا } مثلا لمن عبد غيره إذ ضرب العبد مثلا لمن عبد من دونه لأنه ذليل عاجز مفتقر مدبر مملوك لا يقدر على شيء: لا نفعا ولا ضرا ولا خلقا ولا أمرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ومن رزقناه: جعله مثلا يستدل به على توحيده وكمال ربوبيته لأنه الواسع الجواد القادر الرازق للعباد سرا وجهرا فضرب الله سبحانه لهم الأمثال ليوبخهم ويريهم عجزهم فيما أضافوا إليه من الشركاء مع إقرارهم بمعرفة ربوبيته تعالى الله عما يشركون فعز من لمن يشارك في قدرته وجل من لم يرام في وحدانيته وتعظم من تفرد بالربوبية فجل أن يكون له شريك في خلقه )
إلى أن قال: ( فخلقهم على الفطرة وبعث إليهم السفراء وعلمهم العلم وركب فيهم العقل بالفكر فبالفطرة عرفوه وبالواسائل عبدوه فلولا الله سبحانه ما عرفناه من طريق ربوبيته ولولا إرسال الرسول مع ما خاطبنا به ووقفنا عليه ووفقنا له ومن علينا به وكتب في قلوبنا واختصنا - ما عرفنا توحيده ولا كيف نطيعه
ولو لا ما ظهرت من الآيات والمعجزات التي أظهرها على أيدي الرسل بحقائق معانيها التي يعجز الخلق عن الإتيان بمثلها لم نعرف رسله
ولولا زوائد الأعمال وتصحيح الأحوال والعلوم والفهوم والمعارف وأسرار مقامات القوم وحلاوة أذواقهم والروائح الواردة إلينا منهم وعنهم - ما عرفنا ذوي المزيد
وكل ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون فلو شكر الكافر ما اضطره إليه من معرفة باريه بربوبيته واعترف له بنعمه وإخراجه من العدم إلى الوجود ورأى الأفضال والنعم التي قد عم بها وكمال صورته وإدرار رزقه عليه - لأوصله شكره بمعرفة توحيده فصدق رسوله وحقق ما سلف من عهده ورجع إلى ضرورته واعترف بوحدانيته فأبطل ما سواه ولم ير إلها إلا إياه ولكن لما جهل النعمة وزاغ عن العهد ونكث في إقراره وكذب السفراء - حرمه أكبر المنن وأفضل النعم: { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } فتركه مع هواه فكان هلاكه في مناه وإذا شكر المؤمن معرفة التوحيد التي من بها عليه وشكرها قبول ماجاء به الرسول: قول وعمل وإخلاص نية وإصابة سنة ولزوم قدوة وحبس عن المخالفة أو صلة بمعرفة مزيدة فكلما نصح في مزيد رفع إلى مزيد
قال سبحانه: { لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد }
قلت: ويستدل على ما ذكره أبومحمد بن عبد وغيره من أن المعرفة الأولية الفطرية تحصل بلا دليل أن ما يعلم بالدليل إنما يعلم إذا علم أن الدليل مسلتزم له ليكون دليلا عليه وهذه هي الآية والعلامة وكذلك الاسم إنما يدل على المسمى إذا عرف أنه اسم له وذلك مشروط بتصور المدلول عليه اللازم وبأن هذا ملزوم له
ولهذا قيل: إن المقصود بالكلام ليس هو تعريف المعاني المفردة لأن المعنى المفرد لا يفهم من اللفظ حتى يعرف أن اللفظ دال عليه فلا بد أن يعرف أن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى حتى تعرف دلالته عليه فتكون المعرفة بالمعنى سابقة للمعرفة بدلالة اللفظ عليه بخلاف المعنى المركب فإنه إنما يحتاج إلى العلم بجنس المركب لا بالتركيب المعين فنعرف أنه إذا قيل: قام فلان أنه فعل القيام القائم به فإذا قيل: زيد عرف أنه فعل القيام القائم به بخلاف مسمى زيد وأنه لا يعرف أن زيدا يدل على مسماه حتى يعرف أولا مسمى زيد فلو استفيد مسمى زيد من زيد لزم الدور
وهذا موجود في كل ما دل على معنى مفرد فما دل على الباري إنما تعرف دلالته عليه إذ عرف أنه مستلزم له وذلك مشروط بمعرفة اللازم المدلول عليه فلا يعرف أن هذا دليل على هذا المعين حتى يعرف المعنى والدليل وأن الدليل مستلزم للمعين المدلول عليه فلو استفيد معرفة المعين من الدليل لزم الدور بل يكون ذلك المعين متصور قبل هذا وتلك الأمور مستلزمة له وآيات عليه فكلما تصورت تصور المدلول عليه فيكون كما قال: { تبصرة وذكرى لكل عبد منيب } تبصرة: إذا قدر أنه مس طيف من الشيطان فشككه فيما عرفه أولا فإذا رآى آياته المستلزمة لوجوده كان ذلك تبصرة من ذلك اللطيف
كما قال تعالى: { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } وتكون تذكرة إذا حصل نسيان وغفلة تذكرة بالله فهي تبصرة لما قد يعرض من الجهل وتذكرة لما قد يحصل من غفلة وإن كان أصل المعرفة فطريا حصل في النفس بلا واسطة البتة
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن الأدلة نوعان: أقيسة وآيات فأما الأقيسة فلا تدل إلا على معنى كلي لا تدل على معنى معين
فإذا قيل: هذا محدث وكل محدث فله محدث قديم أو: كل ممكن فلا بد له من واجب فإنما يدل على قديم واجب الوجود بنفسه لا يدل على عينه بل نفس تصور هذا لا يمنع من وقوع الشركة فيه فإذا قدر أنه عرف أنه واحد لا يقبل الشركة فإنه لم تعرف عينه فلا بد أن تعرف علينه بغير هذه الطريق والايات تدل على عينه لكن كون الآية دليلا على عينه مشروطة بمعرفة عينه قبل إذ لو لم تعرف عينه لم يعرف أن هذه الآية مستلزمة لها
فعلم أنه في الفطرة معرفة بالخالق نفسه بحيث يميز بينه وبين ما سواه كما ذكره أبو محمد بن عبد وغيره ولهذا كل من تطلب معرفته بالدليل فلا بد أن يكون مشعورا به قبل هذا حتى يطلب الدليل عليه أو على بعض أحواله
وأما ما لا تشعر به النفس بوجه فلا يكون مطلوبا لها وإذا كان مطلوبا لها فلا يمكن أن يستدل عليه بشيء حتى يعلم أنه يلزم من تحقق الدليل تحققه وقد بسط هذا في موضع آخر وبين فيه أن التصور البسيط المفرد لا يجوز أن يكون مطلوبا بالحد وإنما يطلب بالحد ما يكون مشعورا به من بعض الوجوه فيطلب الشعور به من وجه آخر
ولهذا لم يكن مجرد الحد معرفا بالمحدود إن لم يعرف أن الحد مطابق له وهو لا يعرف ذلك إن لم يعرف المحدود وإلا فمجرد الدعوى لا تفيد
وكذلك الدليل القياسي إذا قيل: كل مسكر خمر وكل خمر حرام فإن لم يعرف المقدمتين لم يعرف النتيجة وإذا كان آية على شيء معين مثل كون الكوكب الفلاني كالجدي مثلا علامة على جهة الكعبة فلا بد أن يكون قد عرف الجدي وعرف أنه من جهة الشمال وعرف أن الجهة المعينة جهة الكعبة في الجنوب فإذا رآى الجدي علم أن جهة الكعبة تقابله ولولا تقدم معرفته بالدليل وهو الجدي والمدلول عليه وهو جهة الكعبة لم يمكنه الاستدلال لكنه عرف أولا الدليل والمدلول عليه ثم خفى عليه المدلول وهوجهة الكعبة في بعض الأوقات والمواضع فلما رآى الدليل عرف المدلول الذي كان قد جهله بعد علمه به كمن سمع مناديا ينادي باسم من يطلبه كابنه وأخيه وقد أضل مكانه فإذا سمع الاسم استدل به عل المسمى الذي كان يعرفه قبل هذا ولكنه قد حصل له به نوع من الجهل بعد ذلك
فالآيات الدالة على الرب تعالى: آياته القولية التي تكلم بها كالقرآن وآياته الفعلية التي خلقها في الأنفس والآفاق تدل عليه وتحصل بها التبصرة والذكرى وإن كان الرب تعالى قد عرفته الفطرة قبل هذا ثم حصل له نوع من الجهل أو الشك أو النسيان ونحو ذلك
ومما ينبغي أن يعرف أن علم الإنسان بالشيء وتصوره له شيء وعلمه بأنه عالم به شيء وعلمه بأن علمه حصل بالطريق المعين شيء ثالث وكذلك إرادته وحبه شيء وعلمه بأنه مريد محب له شيء وكون الإرادة والمحبة حصلت بالطريق المعين شيء ثالث
فالمتوضىء والمصلي والصائم يحصل في قلبه نية ضرورية للفعل الاختياري ولا يمكنه دفع ذلك عن نفسه وإن لم يتكلم بالنية ثم قد يظن أن النية إنما حصلت بتكلمه بها وهو غالط في ذلك
وكذلك قد يحصل له علم ضروري بمخبر الأخبار المتواترة ثم ينظر في دلالة الخبر فيظن أن العلم الحاصل له لم يحصل إلا بالنظر وهو قد كان قبل النظر عالما وقد يقال: إن النظر وكد ذلك العلم أو أحضره في النفس بعد ذهول النفس عنه وهذا مما يبين لك أن كثيرا من النظار يظنون أنهم لم يعرفوا الله بالطريق المعين من النظر الذي سلكوه وقد يكون صحيحا وقد يكون فاسدا فإن كان فاسدا فهو لا يوجب العلم وهم يظنون أن العلم إنما حصل به وهم غالطون
بل العلم قد حصل بدونه وإن كان صحيحا فقد يكون مؤكدا للعلم ومحضرا له ومبينا له وإن كان العلم حاصلا بدونه
هذه الأمور من تصورها حق التصور تبين له حقيقة الأمر في أصول العلم وعلم أن من ظن أن الأمر الذي يعرفه عامة الخلق وهو أجل المعارف عندهم من حصره في طريق معين لا يعرفه إلا بعضهم كان جاهلا لو كان ذلك الطريق صحيحا فكيف إذا كان فاسدا !؟
ومما يوضح الكلام في هذا الذكر المشروع لله هو كلام تام كما قال النبي ﷺ: [ أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ]
فأما مجرد ذكر الاسم المفرد وهو قول القائل: ( الله الله ) فلم تأت به الشريعة وليس هو كلاما مفيدا إذا الكلام المفيد أن يخبر عنه بإثبات شيء أو نفيه وأما التصور المفرد فلا فائدة فيه وإن كان ثابتا بأصل الفطرة وإن كان المعلوم بالفطرة ما تدخل فيه أمور ثبوتية وسلبية