→ كتاب الحدود (مسألة 2174 - 2175) | ابن حزم - المحلى كتاب الحدود (مسألة 2176 - 2178) ابن حزم |
كتاب الحدود (مسألة 2179 - 2180) ← |
كتاب الحدود
2176 - مسألة : قال أبو محمد رحمه الله : فإن قال : لا أتوب , فقد أتى منكرا , فواجب أن يعزر على ما نذكره في " كتاب التعزير " إن شاء الله تعالى , لقول رسول الله ﷺ : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده إن استطاع فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان فيجب أن يضرب أبدا حتى يتوب , هذا إن صرح بأن لا يتوب , فإذا أدى ذلك إلى منيته , فذلك عقيرة الله , وقتيل الحق , لا شيء على متولي ذلك , لأنه أحسن فيما فعل به , وقد قال الله تعالى {ما على المحسنين من سبيل} فإن سكت ولم يقل : أتوب , ولا : لا أتوب , فواجب حبسه وإعادة الأستتابة عليه أبدا حتى ينطق بالتوبة , فيطلق.
برهان ذلك : أنه قد صح منه الذنب , ووجبت عليه التوبة , ولا تعرف توبته إلا بنطقه بها , فهو ما لم ينطق بها وبالإصرار : فممكن أن يتوب في نفسه , وممكن أن لا يتوب , فلما كان كلا الأمرين ممكنا لم يحل ضربه , لأنه لم يأت بمنكر تيقن أنه أتى به , ولم يجز تسريحه , لأن فرضا عليه دعاؤه إلى التوبة حتى يتوب , ولا سبيل إلى إمساكه وبالله تعالى التوفيق وهكذا أبدا متى تاب ثم واقع الذنب أو غيره , فقد جاء عن رسول الله ﷺ خبران مرسلان في أنه استتاب السارق بعد قطع يده : كما حدثنا حمام ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا الدبري ، حدثنا عبد الرزاق ، عن ابن جريج , وسفيان الثوري , ومعمر , قال ابن جريج , وسفيان , كلاهما : عن أبي خصفة , عن محمد بن عثمان بن ثوبان , وقال معمر : عن أيوب السختياني , قال أيوب , وابن ثوبان : أتي النبي ﷺ برجل سرق شملة فقيل يا رسول الله هذا سرق فقال النبي ﷺ ما إخاله , أسرقت قال : نعم , قال : فاذهبوا فاقطعوا يده , ثم احسموها , ثم ائتوني به , فأتوه به , فقال : إني أتوب إلى الله , فقال : اللهم تب عليه. وبه إلى عبد الرزاق عن معمر ، عن ابن المنكدر أن النبي ﷺ : قطع رجلا ثم أمر به فحسم قال له تب إلى الله تعالى فقال : أتوب إلى الله تعالى , فقال النبي ﷺ إن السارق إذا قطعت يده وقعت في النار , فإن عاد تبعها , وإن تاب استشالها. قال عبد الرزاق يقول استشالها استرجعها.
قال أبو محمد رحمه الله : هذان مرسلان ، ولا حجة في مرسل , وإنما الحجة فيما أوردنا من النصوص قبل , وإنما أوردناهما لئلا يموه مموه بما فيهما من الأستتابة بعد القطع وبالله تعالى التوفيق.
2177- مسألة : الامتحان في الحدود , وغيرها : بالضرب , أو السجن أو التهديد
قال علي رحمه الله : لا يحل الأمتحان في شيء من الأشياء بضرب , ولا بسجن , ولا بتهديد , لأنه لم يوجب ذلك قرآن , ولا سنة ثابتة , ولا إجماع , ولا يحل أخذ شيء من الدين , إلا من هذه الثلاثة النصوص بل قد منع الله تعالى من ذلك على لسان رسوله ﷺ بقوله إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام. فحرم الله تعالى البشر , والعرض , فلا يحل ضرب مسلم , ولا سبه إلا بحق أوجبه القرآن , أو السنة الثابتة.
وقال تعالى {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه} فلا يحل لأحد أن يمنع مسلما من المشي في الأرض بالسجن بغير حق أوجبه قرآن أو سنة ثابتة.
وأما من صح قبله حق ولواه ومنعه , فهو ظالم قد تيقن ظلمه , فواجب ضربه أبدا حتى يخرج مما عليه , لقول رسول الله ﷺ : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده إن استطاع ولأمره عليه السلام بجلد عشرة فأقل فيما دون الحد على ما نذكره في " باب التعزير " إن شاء الله تعالى , وإنما هذا فيما صح أنه عنده أو يعلم مكانه , لما ذكرنا.
وأما من كلف إقرارا على غيره فقط وقد علم أنه يعلم الجاني فلا يجوز تكليفه ذلك , لأنها شهادة , ومن كتم الشهادة فإنه فاسق , لقول الله تعالى {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} . فإذ هو فاسق آثم , فلا ينتفع بقوله , لا يحل قبول شهادته حينئذ , وهو مجرح بذلك أبدا ما لم يتب , فلا يحل أن يهدد أحد , ولا أن يروع بأن يبعث إلى ظالم يعتدي عليه وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد رحمه الله : ولا خلاف في أن كل هذا حرام في الذمي كما هو في المسلم , فإن ضرب حتى أقر , فقد جاء عن بعض السلف في هذا : ما حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا سحنون ، حدثنا ابن وهب ، عن ابن أبي ذئب ، عن ابن شهاب : أن طارقا كان جعل ثعلبا الشامي على المدينة يستخلفه , فأتى بإنسان اتهم بسرقة , فلم يزل يجلده حتى اعترف بالسرقة , فأرسل إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب فاستفتاه فقال ابن عمر : لا تقطع يده حتى يبرزها.
قال أبو محمد رحمه الله : أما إن لم يكن إلا إقراره فقط فليس بشيء , لأن أخذه بإقرار هذه صفته لم يوجبها قرآن , ولا سنة , ولا إجماع , وقد صح تحريم بشرته ودمه بيقين , فلا يحل شيء من ذلك إلا بنص أو إجماع فإن استضاف إلى الإقرار أمر يتحقق به يقينا صحة ما أقر به ، ولا يشك في أنه صاحب ذلك فالواجب إقامة الحد عليه , وله القود مع ذلك على من ضربه السلطان كان أو غيره لأنه ضربه ظالما له دون أن يجب عليه ضرب وهو عدوان وقد قال الله تعالى {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه} الآية , وليس ظلمه , وما وجب عليه من حد الله تعالى , أو لغيره , بمسقط حقه عند غيره في ظلمه له , بل يؤخذ منه ما عليه , ويعطي هو من غيره. وهكذا قال مالك , وغيره , في السارق يمتحن فيخرج السرقة بعينها : أن عليه القطع إذا كانت مما يقطع فيه , إلا أن يقول : دفعها إلي إنسان أدفعها له , وإنما اعترفت لما أصابني من الضرب : فلا يقطع.
قال أبو محمد رحمه الله : وهذا صحيح , وبه يقول .
وأما البعثة في المتهم وإيهامه دون تهديد ما يوجب عليه الإقرار فحسن واجب : كبعث رسول الله ﷺ خلف اليهودي الذي ادعت الجارية التي رض رأسها فسيق إليه فلم يزل به عليه السلام حتى اعترف فأقاد منه. وكما فعل علي بن أبي طالب إذ فرق بين المدعى عليهم القتل وأسر إلى أحدهم , ثم رفع صوته بالتكبير فوهم الآخر أنه قد أقر , ثم دعا بالآخر فسأله فأقر , حتى أقروا كلهم : فهذا حسن , لأنه لا إكراه فيه , ولا ضرب. وقد كره هذا مالك , ولا وجه لكراهيته , لأنه ليس فيه عمل محظور , وهو فعل صاحب لا يعرف له من الصحابة مخالف ينكر ذلك , وإنما الكره. ما حدثنا يونس بن عبد الله ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم ، حدثنا أحمد بن خالد ، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا أبو حيان يحيى بن سعيد التيمي عن أبيه عن الحارث بن سويد عن عبد الله بن مسعود ، أنه قال : ما من كلام يدرأ عني سوطا أو سوطين عند سلطان إلا تكلمت به. وعن شريح ، أنه قال : السجن كره , والوعيد كره , والقيد كره , والضرب كره.
وقال أبو محمد رحمه الله : كل ما كان ضررا في جسم , أو مال , أو توعد به المرء في ابنه , أو أبيه , أو أهله , أو أخيه المسلم , فهو كره , لقول رسول الله ﷺ : المسلم أخو المسلم لا يظلمه ، ولا يسلمه. ول
ما روينا من طريق البخاري ، حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، هو ابن سعيد القطان عن شعبة عن قتادة عن أنس عن النبي ﷺ قال : لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
2178 - مسألة : الشهادة على الحدود
قال علي : حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ، حدثنا عبد الله بن نصر ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا موسى بن معاوية ثنا وكيع عن سفيان الثوري عن علي بن كليب عن أبيه أن علي بن أبي طالب كان يأمر بالشهود إذا شهدوا على السارق أن يقطعوه يلون ذلك
قال أبو محمد رحمه الله : ليس هذا بواجب , لأنه لا يوجبه قرآن , ولا سنة عن رسول الله ﷺ ثابتة , لكن طاعة الإمام أو أميره واجبة , فإذا أمر الإمام أو أميره الشهود , أو غيرهم أن يقطعه لزمتهم الطاعة وبالله تعالى التوفيق. وبه إلى وكيع ، حدثنا إسرائيل عن جابر الجعفي عن الشعبي في رجلين شهدا على ثلاثة أنهم سرقوا , قال : يقطعون.
قال علي رحمه الله : وهكذا نقول ولو شهد عدلان على ألف رجل , أو أكثر , بقتل , أو بسرقة , أو بحرابة , أو بشرب خمر , أو بقذف : لوجب القود , والقطع , والحد في كل ذلك على جميعهم بشهادة الشاهدين ، ولا فرق بين شهادتهما عليهم مجتمعين , وبين شهادتهما على كل واحد منهم على انفراده.
قال أبو محمد رحمه الله : ولو أن عدلين شهدا على عدول بشيء مما ذكرنا وقال المشهود عليهم : نشهد عليهم بكذا وكذا , مثل ما شهد به الشاهدان عليهم أو شيئا آخر لم يلتفت إلى شهادة المشهود عليهم أصلا ووجب إنفاذ الحدود والحقوق عليهم بشهادة السابقين إلى الشهادة.
برهان ذلك : أن المشهود عليهم بما ذكرنا قد بطلت عدالتهم , وصحت جرحتهم بشهادة العدلين عليهم بما شهدا به , مما يوجب الحد , فإن من ثبت عليه ما يوجب الحد , أو بعض المعاصي التي لا توجب حدا , كالغصب , وغيره : فهو مجرح فاسق بيقين , ولا شهادة لمجرح فاسق أصلا. فلو أن المشهود عليهم صحت توبتهم بعد ما كان منهم : وجب بذلك أن تعود عدالتهم , فإذا كان ذلك كذلك , فإن الشهادتين معا مقبولتان , وينفذ على كلا الطائفتين شهدت به عليها الأخرى , إلا أن كلتا الشهادتين شهادة واجبة قبولها بنص القرآن والسنة , في أمره تعالى بالحكم بشهادة العدول وبالله تعالى التوفيق. فإن شهدت كلتا الطائفتين على الأخرى معا لم تسبق إحدى الشهادتين الأخرى : إما عند حاكمين ,
وأما في عقدين عند حاكم واحد , فهما أيضا شهادتان قائمتان صحيحتان , فإن كلتا الشهادتين تبطل بيقين لا شك فيه , لأنه ليست إحداهما بأولى بالقبول من الأخرى , فلو قبلناهما معا , لكنا قد صرنا موقنين بأننا ننفذ الشهادة الآن دأبا حكما بشهادة فساق , لأن كل شهادة منهما توجب الفسق والجرحة على الأخرى , والمنع من قبول الشهادة الأخرى. ولو حكمنا بإحدى الشهادتين على الأخرى مطارفة لكان هذا عين الظلم والجور , إذ لم يوجب ترجيح إحداهما على الأخرى نص ، ولا إجماع , ومن أراد أن يرجح الشهادة هاهنا بأعدل البينتين , أو بأكثرهما عددا : فهو خطأ من القول , لأنه لم يوجب الله تعالى قط شيئا من ذلك , ولا رسوله ﷺ ولا أجمعت الأمة عليه , والحكم بمثل هذا لا يجوز.