→ كتاب الحدود (مسألة 2224 - 2228) | ابن حزم - المحلى كتاب الحدود (مسألة 2229 - 2231) ابن حزم |
كتاب الحدود (مسألة 2232 - 2235) ← |
كتاب الحدود
2229 - مسألة : النفي عن النسب
قال أبو محمد رحمه الله : اختلف الناس فيمن نفى آخر عن نسبه : فقالت طائفة : فيه الحد
وقالت طائفة : لا حد فيه ,
فأما من أوجب فيه الحد فهو كما قال ابن مسعود : لا حد إلا في اثنين : أن يقذف محصنة , أو ينفي رجلا عن أبيه , وإن كانت أمه أمة. وعن الشعبي في الرجل ينفي الرجل من فخذه , قال : ليس عليه حد إلا أن ينفيه من أبيه وعن الشعبي , والحسن قالا جميعا : يضرب الحد. وعن إبراهيم النخعي قال : من نفى رجلا عن أبيه كان أبوه ما كان فعليه الحد ومن قال لرجل من بني تميم لست منهم وهو منهم أو لرجل من بني بكر لست منهم وهو منهم فعليه الحد. وعن إبراهيم النخعي في رجل نفى رجلا عن أبيه , قال له : لست لأبيك وأمه نصرانية أو مملوكة قال : لا يجلد.
ومن طريق عبد الرزاق ، أخبرنا ابن جريج قال : سمعت حفص بن عمر بن ربيع يقول : كان بين أبي وبين يهودي مرافعة في القول في شفعة , فقال أبي لليهودي : يهودي ابن يهودي , فقال : أجل , والله إني اليهودي ابن اليهودي , إذ لا يعرف رجال كثير آباءهم فكتب عامل الأرض إلى عمر بن عبد العزيز وهو عامل المدينة بذلك , فكتب , فقال : إن كان الذي قال له ذلك يعرف أبوه , فحد اليهودي , فضربه ثمانين سوطا. وعن ابن جريج ، أنه قال : سئل ابن شهاب عن رجل قيل له : يا ابن القين ولم يكن أبوه قينا قال : نرى أن يجلد الحد.
وأما من روي عنه : أنه لا حد في ذلك :
كما روينا من طريق عبد الرزاق عن إبراهيم بن محمد عن إسحاق بن عبد الله عن مكحول أن معاذ بن جبل , وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قالا جميعا : ليس الحد إلا في الكلمة ليس لها مصرف , وليس لها إلا وجه واحد : وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : إذا بلغ الحد لعل وعسى فالحد معطل. وقد روي ، عن ابن عباس رضي الله عنه فيمن قال لرجل : يا نبطي أنه لا حد عليه. وعن عطاء بن أبي رباح أنه سئل عن رجل قال لرجل : يا نبطي , ويا عبد بني فلان , فلم ير عطاء فيه شيئا. وعن الشعبي أنه سئل عن الرجل قال لعمري : يا نبطي , فلم ير الشعبي في ذلك شيئا , وقال : كلنا نبط .
وبه يقول أصحابنا
قال أبو محمد رحمه الله : فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في ذلك لنعلم الحق فنتبعه , فوجدنا الزهري يقول في نفي المرء عن أبيه , أو عن نسبه كما أوردنا عنه قبل ذلك أن السنة على النافي في كتاب الله تعالى , وسنة نبيه عليه السلام : أن يأتي بأربعة شهداء :
فنظرنا هل نجد هذا الذي ذكر الزهري في كتاب الله تعالى فلم نجده أصلا , وإنما وجدنا فيه الحد , ووجوب أربعة شهداء على رمي المحصنات فوجدنا النافي إنسانا عن نسبه , فلم يرم محصنة أصلا , والزهري وإن كان عندنا أحد الأئمة الفضلاء فهو بشر يهم كما يهم غيره , ويخطئ ويصيب , بل وجدنا نص القرآن مخالفا لقول الزهري , لأنه يسقط الحد عمن رمى المحصنات إذا قال لأبن أمة , أو ابن كافرة : يا ابن الزانية , وأوجبه حيث ليس في القرآن إيجابه إذا قال له : لست لأبيك فسقط تعلقهم بذلك جملة.
فإن قالوا : النافي قاذف ، ولا بد
قلنا : لا , ما هو قاذف , ولا قذف أحدا , وقد ينفيه عن نسبه بأنه استلحق , وأنه من غيرهم ابن نكاح صحيح , فقد كانت العرب تفعل هذا , فلا قذف هاهنا أصلا , وقد يكون نفيه له بأن أراد الأستكراه لأمه , وأنها حملت به في حالة لا يكون للزنى فيه دخول , كالنائمة توطأ , أو السكرى , أو المغمى عليها , أو الجاهلة , فقد بطل أن يكون النافي قاذفا جملة واحدة. ثم نظرنا هل في السنة لهم متعلق فوجدنا : ما ناه أحمد بن قاسم ، حدثنا أبي قاسم بن محمد بن قاسم ، حدثنا جدي قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا سحنون ، حدثنا ابن وهب أخبرني حيوة بن شريح عن سالم بن غيلان عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سليمان بن يسار عن بعض أصحاب النبي ﷺ : أن رسول الله ﷺ جلد رجلا أن دعا آخر : يا ابن المجنون
قال أبو محمد : فنظرنا في هذا الخبر فوجدناه لا متعلق لهم به أصلا من وجوه :
أولها : إنه مرسل ، ولا تقوم بمرسل حجة.
والثاني : من طريق سالم بن غيلان التجيبي وهو مجهول لم يعدل. وثالثها : أنه لو صح لم يكن فيه حجة , لأنه ليس فيه أنه عليه السلام جلده الحد , إنما فيه : أنه جلده , فلا يحل أن يراد فيه : أنه جلده الحد , ونحن لا نأبى من ذلك من سب مسلما , لأنه منكر يغير باليد , فبطل أن تكون لهم فيه حجة , بل هو عليهم. وقد روى هذا الخبر يونس بن عبد الأعلى وهو أحفظ من سحنون , وأعرف بالحديث منه , فلم يبلغه إلى رسول الله ﷺ . كما ، حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب أنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني ابن حيوة بن شريح عن سالم بن غيلان التجيبي عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار قال : إن بعض أصحاب رسول الله ﷺ جلد رجلا أن دعا آخر : يا ابن المجنون
قال أبو محمد رحمه الله : وهذا أيضا كالذي ذكرنا قبل ; لأنه ليس فيه أنه جلده الحد , والحدود لا تقام بالظنون الكاذبة , والزيادة في الحديث كذب , وتبليغ الحد المذكور إلى ثمانين كذب بلا شك ممن قطع بذلك. فبطل تعلقهم بهذا الخبر جملة. ثم نظرنا في ذلك فوجدنا الله تعالى قد أوجب في القذف بالزنى الحد , وجاءت به السنة الصحيحة , وصح به الإجماع المتيقن , فكان هذا هو الحق الذي لا شك فيه. ووجدنا رسول الله ﷺ قد قال : إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام وقد قال تعالى {تلك حدود الله فلا تعتدوها}
وقال تعالى {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} فحرم الله تعالى العدوان , وضرب الأبشار بغير برهان من العدوان , وحرم تعالى أن تتعدى حدوده , وإثبات حد بغير
برهان تعد لحدود الله تعالى. وبالله تعالى التوفيق.
2230 - مسألة : قذف المؤمنات من الكبائر , وتعرض المرء لسب أبويه من الكبائر
قال أبو محمد رحمه الله : قال الله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم الآية.
وقال تعالى {والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش} الآية.
وكما روينا من طريق مسلم ني هارون بن سعيد الأيلي ، حدثنا ابن وهب أخبرني سليمان بن بلال عن ثور بن يزيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال : اجتنبوا السبع الموبقات قيل : يا رسول الله وما هن قال : الشرك بالله , والسحر , وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق , وأكل مال اليتيم , وأكل الربا , والتولي يوم الزحف , وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات.
وقال الله تعالى : {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة} الآية.
قال أبو محمد رحمه الله : فصح أن قذف المؤمنات المحصنات البريئات من الكبائر الموجبة للعنة في الدنيا والآخرة , والعذاب العظيم في الآخرة , ودخل فيها قذف الأمة والحرة دخولا مستويا , لأن الله تعالى لم يخص مؤمنة من مؤمنة. وبقي قذف الكافرة فوجدنا الله تعالى قال : {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} الآية فهذا عموم تدخل فيه الكافرة والمؤمنة , فوجب أن قاذفها فاسق إلا أن يتوب.
وروينا من طريق مسلم ، حدثنا محمد بن الوليد بن عبد الحميد أنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، حدثنا عبيد الله بن أبي بكر قال : سمعت أنس بن مالك قال : ذكر رسول الله ﷺ الكبائر , وسئل عن الكبائر فقال : الشرك بالله , وقتل النفس , وعقوق الوالدين قال : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر , قول الزور أو قال : شهادة الزور قال شعبة : وأكبر ظني ، أنه قال شهادة الزور ".
ومن طريق مسلم أنا عمر بن محمد بن بكير الناقد ، حدثنا إسماعيل ابن علية عن سعيد الجريري ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه ، أنه قال : كنا عند رسول الله ﷺ فقال : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور أو قول الزور وكان رسول الله ﷺ متكئا فجلس , فما زال يكررها حتى
قلنا : ليته سكت
قال أبو محمد رحمه الله : ليس شك الراوي بين قوله عليه السلام شهادة الزور أو قول الزور بمحيل شيئا من حكم هذين الخبرين فأي ذلك كان فالمعنى فيه واحد لا يختلف , لأن كل قول قاله المرء غير حاك فقد شهد به , وكل شهادة يشهد بها المرء فقد قالها فالقول شهادة , والشهادة قول , وهذه الشهادة هي غير الشهادة المحكوم بها , قال الله تعالى {ستكتب شهادتهم ويسألون}
وقال تعالى {فإن شهدوا فلا تشهد معهم} فهذه الشهادة هي القول المقول , لا المؤداة عند الحاكم بصفة ما وبالله تعالى التوفيق.
فصح أن قذف الكافرة البريئة قول زور بلا خلاف من أحد , وقول الزور من الكبائر , كما بين رسول الله ﷺ .
روينا من طريق مسلم ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا ليث بن سعد ، عن ابن الهادي عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله ﷺ قال : إن من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه قالوا : يا رسول الله , وكيف يشتم الرجل والديه قال : نعم , يسب أبا الرجل فيسب أباه , ويسب أمه فيسب أمه.
فصح أن السب المذكور من الكبائر , وإن لم يكن قذفا
قال أبو محمد رحمه الله : وأما من رمى المرء بما فعل فليس قذفا , لكنه غيبة إن كان غائبا , وأذى إن كان حاضرا , هذا ما لا خلاف فيه وبالله تعالى التوفيق.
2231 - مسألة : من المحصنات الواجب بقذفهن ما أوجبه الله تعالى في القرآن
قال أبو محمد : قال الله تعالى {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم} الآية , فكان ظاهر هذا أن " المحصنات المذكورات : هن النساء " لأن هذا اللفظ جاء بجمع المؤنث فاعترض علينا أصحاب القياس هاهنا وقالوا لنا : إن النص إنما ورد بجلد الحد من قذف امرأة , فمن أين لكم أن تجلدوا من قذف رجلا بالزنى وما هذا إلا قياس منكم , وأنتم تنكرون القياس
قال أبو محمد رحمه الله : فأجابهم أصحابنا هاهنا بأجوبة كل واحد منها مقنع كاف , مبطل لأعتراضهم هذا الفاسد والحمد لله رب العالمين. فأحد تلك الأجوبة : أن من تقدم من أصحابنا , قال : جاء النص بالحد على قذف النساء وصح الإجماع بحد من قذف رجلا والإجماع حق وأصل من أصولنا التي نعتمد عليها وقد افترض الله تعالى علينا اتباع الإجماع , والإجماع ليس إلا عن توقيف من رسول الله ﷺ . وقال بعض أصحابنا : بل نص الآية عام للرجال والنساء وإنما أراد الله تعالى النفوس المحصنات قالوا :
وبرهان هذا القول ودليل صحته قول الله تعالى في مكان آخر والمحصنات من النساء قالوا : فلو كانت لفظة " المحصنات " لا تقع إلا على النساء لما كان لقول الله تعالى {من النساء} معنى وحاش لله من هذا
فصح أن المحصنات يقع على النساء والرجال فبين الله تعالى مراده هنالك بأن قال {من النساء} وأجمل الأمر في آية القذف إجمالا.
قالوا : فإن قال قائل : وإن قوله تعالى من النساء كقوله تعالى {وغرابيب سود} و {عشرة كاملة}
قلنا : لا يجوز أن يحمل كلام الله تعالى على تكرار لا فائدة أخرى فيه إلا بنص قرآن , أو سنة , أو إجماع , وليس معكم شيء من هذا في دعواكم أن قوله تعالى {من النساء} تكرار لا فائدة فيه
قال أبو محمد رحمه الله : وهذا جواب حسن ,
وأما الأول فلا نقول به ; لأنه حتى لو صح الإجماع على وجوب الحد على قاذف الرجل لما كان في الآية احتجاج وإيجابنا الحد على قاذف العبد وقاذف الكافرة , لأنه لا إجماع على ذلك
وأما جوابنا الذي نعتمد عليه ونقطع على صحته , وأنه مراد الله تعالى بالبرهان الواضح فهو أن الله تعالى إنما أراد بقوله {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} الفروج المحصنات.
برهان ذلك : أن الأربعة الشهود المذكورين لا يختلف اثنان من الأمة في أن شهادتهم التي يكلفونها هي أن يشهدوا بأنهم رأوا فرجه في فرجها والجا خارجا والإجماع قد صح بأن ما عدا هذه الشهادة ليست شهادة بزنى ، ولا يبرأ بها القاذف من الحد.
فصح أن الرمي المذكور إنما هو الفروج فقط.
وأيضا , برهان آخر :
كما روينا من طريق مسلم ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، هو ابن راهويه أنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن ابن طاووس عن أبيه ، عن ابن عباس قال : ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة فإن النبي ﷺ قال : إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فزنى العينين النظر , وزنى اللسان النطق , والنفس تمنى وتشتهي , والفرج يصدق ذلك أو يكذبه
قال أبو محمد رحمه الله : فلم يجعل رسول الله ﷺ الزنى إلا للفرج فقط وأبطله عن جميع أعضاء الجسم أولها عن آخرها إلا أن يصدقه فيها الفرج. فصح يقينا أن النفس والقلب وجميع أعضاء الجسد , حاش الفرج لا رمي فيها , ولا قذف أصلا , وأنه لا رمي إلا للفروج فقط , فإذ لا شك في هذا ، ولا مرية , فالمراد من قول الله تعالى {والذين يرمون المحصنات} هي بلا شك " الفروج " التي لا يقع " الرمي " إلا عليها , لا يكون الزنى المرمي به إلا منها
قال أبو محمد رحمه الله : فإن قال قائل : إن " المحصنات " نعت ، ولا يفرد النعت عن ذكر المنعوت
قلنا : هذا خطأ ; لأنه دعوى بلا برهان , لأن القرآن وأشعار العرب مملوء مما جاء في ذلك , بخلاف هذا
قال الله تعالى {والصائمين والصائمات} .
وقال الله تعالى {إن المصدقين والمصدقات} . ومثل هذا كثير مما ذكر الله تعالى النعت دون ذكر المنعوت. وقال الشاعر : ولا جاعلات العاج فوق المعاصم فذكر النعت ولم يذكر المنعوت وما نعلم نحويا منع من هذا أصلا , وإنما ذكرنا هذا لئلا يموه مموه. ثم إن هذا الأعتراض راجع عليهم , لأن من قولهم : إنه أراد " النساء المحصنات " فعلى كل حال قد حذف المنعوت واقتصر على النعت ، ولا فرق بين اقتصاره تعالى على ذكر " المحصنات " وحذف الفروج على قولنا , أو حذف " النساء " على قولهم فسقط اعتراضهم جملة , وقولنا نحن الذي حملنا عليه الآية الأولى من دعواهم , لأن قولنا يشهد له النص والإجماع على ما ذكرنا.
وأما دعواهم أن الله تعالى أراد بذلك " النساء " فدعوى عارية لا برهان عليها , لا من نص ، ولا إجماع , لأنهم يخصون تأويلهم هذا , ويسقطون الحد عن قاذف نساء كثيرة : كالإماء , والكوافر , والصغار , والمجانين , فقد أفسدوا دعواهم من قرب مع تعريها من البرهان وبالله تعالى التوفيق.