→ كتاب الحدود (مسألة 2176 - 2178) | ابن حزم - المحلى كتاب الحدود (مسألة 2179 - 2180) ابن حزم |
كتاب الحدود (مسألة 2181 - 2182) ← |
كتاب الحدود
2179 - مسألة : من شهد في حد بعد حين
قال أبو محمد رحمه الله : حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ، حدثنا عبد الله بن نصر ثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا موسى بن معاوية ثنا وكيع ، حدثنا مسعر بن كدام عن أبي عون هو محمد بن عبد الله الثقفي قال عمر بن الخطاب : من شهد على رجل بحد لم يشهد به حين أصابه , فإنما يشهد على ضغن.
قال علي : حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا سحنون ، حدثنا ابن وهب قال : بلغني عن ربيعة ، أنه قال في رجل زنى في صباه واطلع على ذلك رهط عدول , فلم يرفعوا أمره , ولبث بذلك سنين , وحسنت حالته , ثم نازع رجلا فرماه بذلك , وأتى على ذلك بالبينة واعترف , فإنه يرجم , لا يضع الحد عن أهله طول زمان , ولا أن يحدث صاحب ذلك حسن هيئة قال ابن وهب : يريد بصباه : سفهه بعد الأحتلام.
قال أبو محمد رحمه الله : وقال أبو حنيفة , وأصحابه : إن شهد أربعة عدول أحرار مسلمون بالزنى بعد مدة فلا حد عليه. قال أبو يوسف : مقدار المدة المذكورة شهر واحد. وقالوا : إن شهد عليه عدلان مسلمان حران بسرقة بعد مدة فلا قطع عليه , لكن يضمن ما شهد عليه بأنه سرقه. ولو شهدا عليه بشرب خمر , فإن كانت الشهادة وريح الخمر توجد منه , أو وهو سكران : أقيم عليه الحد وإن كانت تلك الشهادة بعد ذهاب الريح أو السكر , فلا حد عليه إلا أن يكونوا حملوه إلى الإمام في مصر آخر , فزال الريح أو السكر في الطريق : فإنه يحد. ولو شهد عليه بعد مدة طويلة بقذف أو جراحة حد للقذف , ووجب عليه حكم تلك الجراحة.
وقال الشافعي , وأصحابه , وأصحابنا : يقام عليه الحد في كل ذلك. وقال الأوزاعي , والليث , والحسن بن حي مثل ذلك.
قال أبو محمد رحمه الله : وإذ قد بلغنا هاهنا فلنتكلم بعون الله تعالى في حكم من اطلع على حد , أهو في حرج إن كتم الشهادة أم في سعة من ذلك فنقول : قال الله تعالى {وأقيموا الشهادة لله}
وقال تعالى {ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله} .
وقال تعالى {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} .
وقال تعالى {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} .
ووجدنا ما روينا من طريق مسلم ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا ليث ، هو ابن سعد عن عقيل عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه " أن رسول الله ﷺ قال : المسلم أخو المسلم لا يظلمه ، ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته , ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله بها عنه كربة من كرب يوم القيامة , ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة.
قال أبو محمد رحمه الله : فوجب استعمال هذه النصوص كلها ,
فنظرنا في ذلك : فوجدنا العمل في جمعها الذي لا يحل لأحد غيره لا يخلو من أحد وجهين : إما أن يخص عموم الآيات المذكورة بالخبر المذكور ,
وأما أن يخص عموم الخبر المذكور بالآيات المذكورات , إذ لا يمكن ألبتة غير هذا ، ولا بد من أحد العملين , فإن خصصنا عموم الآيات بالخبر كان القول في ذلك أن القيام بالشهادات كلها , والإعلان بها فرض , إلا ما كان منها ستر المسلم في حد من الحدود , فالأفضل الستر , وإن خصصنا عموم الخبر بالآيات كان القول في ذلك أن الستر على المسلم حسن , إلا ما كان من أداء الشهادات فإنه واجب.
فنظرنا : أي هذين العملين هو الذي يقوم البرهان على صحته فيؤخذ به , إذ لا يحل أخذ أحدهما مطارفة دون الآخر , ولا يجوز أن يكونا جمعا جميعا , بل الحق في أحدهما بلا شك.
فنظرنا في ذلك بعون الله تعالى فوجدنا الستر على المسلم الذي ندبنا إليه في الحديث لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما : إما يستره ويستر عليه في ظلم يطلب به المسلم , فهذا فرض واجب , وليس هذا مندوبا إليه , بل هو كالصلاة والزكاة.
وأما أن يكون في الذنب يصيبه المسلم ما بينه وبين ربه تعالى , ولم يقل أحد من أهل الإسلام بإباحة الستر على مسلم في ظلم ظلم به مسلما , كمن أخذ مال مسلم بحرابة واطلع عليه إنسان , أو غصبه امرأته , أو سرق حرا , وما أشبهه , فهذا فرض على كل مسلم أن يقوم به حتى يرد الظلامات إلى أهلها
فنظرنا في الحديث المذكور فوجدناه ندبا لا حتما , وفضيلة لا فرضا , فكان الظاهر منه أن للإنسان أن يستر على المسلم يراه على حد بهذا الخبر , ما لم يسأل عن تلك الشهادة نفسها , فإن سئل عنها ففرض عليه إقامتها وأن لا يكتمها , فإن كتمها حينئذ فهو عاص لله تعالى. وصح بهذا اتفاق الخبر مع الآيات , وأن إقامة الشهادة لله تعالى , وتحريم كتمانها , وكون المرء ظالما بذلك , فإنما هو إذا دعي فقط , لا إذا لم يدع , كما قال تعالى {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} . ثم نظرنا في الخبر المذكور عن رسول الله ﷺ الذي حدثناه حمام ، حدثنا عباس بن أصبغ ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ، حدثنا إبراهيم بن محمد ، حدثنا يحيى بن يعمر ، حدثنا ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن عثمان عن أبي عمرة الأنصاري هو عبد الرحمن بن زيد بن خالد أن رسول الله ﷺ قال : ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها , أو يخبر بشهادته قبل أن يسألها
قال أبو محمد رحمه الله : فكان هذا عموما في كل شهادة في حد أو غير حد , ووجدنا قول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} فسوى الله تعالى بين وجوب أداء المرء الشهادة على نفسه , وعلى والديه , وأقاربه , والأباعد , فوجب من هذه النصوص أن الشهادة لا حرج على المرء في ترك أدائها ما لم يسألها حدا كان أو غيره فإذا سئلها ففرض عليه أداؤها حدا أو غيره ، وأن من كان لأنسان عنده شهادة , والمشهود له لا يدري بها : ففرض عليه إعلامه بها , لقول رسول الله ﷺ : الدين النصيحة قيل : لمن يا رسول الله قال : لله ولكتابه , ولأئمة المسلمين , وعامتهم فإن سأله المشهود أداءها لزمه ذلك فرضا , لما ذكرنا قبل من قول الله تعالى {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} وإن لم يسأل لم يلزمه أن يؤديها وبالله تعالى التوفيق.
وأما من كانت عنده شهادة على إنسان بزنى , فقذف ذلك الزاني إنسان فوقف القاذف على أن يحد للمقذوف , ففرض على الشاهد على المقذوف الزاني أن يؤدي الشهادة ، ولا بد , سئلها أو لم يسألها علم القاذف بذلك أو لم يعلم وهو عاص لله تعالى إن لم يؤدها حينئذ , لقول الله تعالى {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} . ولقول رسول الله ﷺ : المسلم أخو المسلم لا يظلمه ، ولا يسلمه. ولقوله عليه السلام انصر أخاك ظالما كان أو مظلوما. فهذا إذا أدى الشهادة التي عنده بصحة ما قذف به , معين على إقامة حد بحق غير ظالم به , معين على البر والتقوى وإن لم يؤدها : معين على الإثم والعدوان , وهو ظالم قد أسلمه للظلم , إذ تركه يضرب بغير حق.
فإن ذكروا : ما ناه يوسف بن عبد الله وغيره قالوا : حدثنا محمد بن الجسور ثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا مطرف بن قيس حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب قال : إن رجلا من أسلم جاء إلى أبي بكر الصديق فقال : إن الآخر زنى , فقال له أبو بكر : هل ذكرت ذلك لغيري فقال : لا , قال أبو بكر : فتب إلى الله , واستتر بستر الله , فإن الله يقبل التوبة عن عباده , فلم تقر نفسه حتى أتى عمر بن الخطاب , فقال له كما قال لأبي بكر , فقال له عمر كما قال له أبو بكر فلم تقر نفسه حتى أتى رسول الله ﷺ فقال : إن الآخر زنى , قال سعيد بن المسيب : فأعرض عنه رسول الله ﷺ مرارا كل ذلك يعرض عنه حتى إذا أكثر عليه بعث إلى أهله , فقال : أيشتكي , أبه جنة فقالوا : لا , فقال رسول الله ﷺ : أبكر أم ثيب فقالوا : بل ثيب : فأمر به رسول الله ﷺ فرجم. قال سعيد : فقال رسول الله ﷺ لرجل من أسلم يقال له هزال : لو سترته بردائك لكان خيرا لك. قال يحيى : فذكرت هذا الحديث في مجلس فيه يزيد بن نعيم بن هزال الأسلمي فقال يزيد هزال جدي وهذا الحديث حق
قال علي : فإن هذا الحديث مرسل لم يسنده سعيد , ولا يزيد بن نعيم ، ولا حجة في مرسل , ولو انسند لما خرج منه إلا أن الستر , وترك الشهادة أفضل فقط هذا على أصول القائلين بالقياس إذا سلم لهم وبالله تعالى التوفيق
2180 - مسألة : اختلاف الشهود في الحدود
قال أبو محمد : فلما اختلفوا في ذلك ,
فنظرنا في ذلك , فالذي نقول به : أن كل ما تمت به الشهادة , ووجب القضاء بها , فإن كل ما زاده الشهود على ذلك فلا حكم له , ولا يضر الشهادة اختلافهم , كما لا يضرها سكوتهم عنه ، وأن كل ما لا تتم الشهادة إلا به : فهذا هو الذي يفسدها اختلافهم , فالشهادة إذا تمت من أربعة عدول بالزنى على إنسان بامرأة يعرفونها أجنبية , لا يشكون في ذلك , ثم اختلفوا في المكان , أو في الزمان , أو في المزني بها , فقال بعضهم : أمس بامرأة سوداء ,
وقال بعضهم : بامرأة بيضاء اليوم : فالشهادة تامة , والحد واجب , لأن الزنى قد تم عليه , ولا يحتاج في الشهادة إلى ذكر مكان ، ولا زمان , ولا إلى ذكر التي زنى بها فالسكوت عن ذكر ذلك وذكره سواء
وكذلك في السرقة , ولو قال أحدهما : أمس , وقال الآخر : عام أول , أو قال أحدهما : بمكة , وقال الآخر : ببغداد , فالسرقة قد صحت , وتمت الشهادة فيها ، ولا معنى لذكر المكان , ولا الزمان , ولا الشيء المسروق منه سواء اختلفا فيه , أو اتفقا فيه , أو سكتا عنه , لأنه لغو , وحديث زائد , ليس من الشهادة في شيء.
وكذلك في شرب الخمر , وفي القذف : فالحد قد وجب , ولا معنى لذكر المكان , والمقذوف في ذلك , والمسكوت عنه وذكره , والأتفاق عليه والأختلاف فيه سواء.
قال أبو محمد رحمه الله : ومن ادعى الخلاف في ذلك فيلزمه أن يراعي اختلاف الشهود في لباس الزاني , والسارق , والشارب , والقاذف , فإن قال أحدهما : كان في رأسه قلنسوة , وقال الآخر : عمامة , أو قال أحدهما : كان عليه ثوب أخضر , وقال الآخر : بل أحمر , وقال أحدهما : في غيم , وقال الآخر : في صحو فهذا كله لا معنى له.
فإن قال قائل : إن الغرض في مراعاة الأختلاف إنما هو أن تكون الشهادة على عمل واحد فقط , وإذا اختلفوا في المكان , أو الزمان , أو المقذوف , أو المزني بها , أو المسروق منه , أو الشيء المسروق : فلم يشهدوا على عمل واحد
قلنا : من أين وقع لكم أن تكون الشهادة في كل ذلك على عمل واحد , وأي قرآن , أو سنة , أو إجماع أوجب ذلك وأي نظر أوجبه وهذا ما لا سبيل إلى وجوده , بل الغرض إثبات الزنى المحرم , والقذف المحرم , والسرقة المحرمة , والشرب المحرم , والكفر المحرم فقط , ولا مزيد , وبيان ذلك : قول الله تعالى {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} الآية. فصح بهذه الآية : أن الواجب إنما هو إثبات الزنى فقط , وهو الذي رماها به , ولا معنى لذكره التي رماها ، ولا سكوته عنه , فليس عليه أن يأتي بأكثر من أربعة شهداء : على أن الذي رماها به من الزنى حق , ولا نبالي عملا واحدا كان أو أربعة أعمال , لأن كل ذلك زنا.
وكذلك إن شهد عليه بالقذف لمحصنة , فقد ثبت عليه بالقرآن ثمانون جلدة , ولم يحد الله تعالى أن يكون في الشهادة ذكر الزمان , ولا ذكر المكان فالزيادة لهذا باطل بيقين , لأن الله تعالى لم يأمر به , ولا بمراعاته.
وكذلك قال الله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} فحسبنا , وصحة الشهادة بأنها سارقة , أو أنه سارق , ولم نجد الله تعالى ذكر الزمان , أو المكان , أو المسروق منه , أو الشيء المسروق , فمراعاة ذلك باطل بيقين لا شك فيه. وهكذا قال رسول الله ﷺ : إذا شرب الخمر فاجلدوه فأوجب الجلد بشرب الخمر , فإذا صحت الشهادة بشرب الخمر فقد وجب الحد , بنص أمر رسول الله ﷺ في ذلك , ولا معنى لمراعاة ذكر مكان , أو زمان , أو صفة الخمر , أو صفة الإناء إذ لم يأت نص بذلك عن الله تعالى ، ولا عن رسوله ﷺ فمراعاة ذلك باطل بلا شك والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد : وقد جاء نحو ذلك عن السلف : كما حدثنا عبد الله بن ربيع حدثنا ابن مفرج حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا ابن وضاح حدثنا سحنون حدثنا ابن وهب أنا السري بن يحيى قال : حدثنا الحسن البصري قال : شهد الجارود على قدامة بن مظعون أنه شرب الخمر وكان عمر قد أمر قدامة على البحرين فقال عمر للجارود : من يشهد معك قال : علقمة الخصي فدعا علقمة , فقال له عمر : بم تشهد فقال علقمة : وهل تجوز شهادة الخصي قال عمر : وما يمنعه أن تجوز شهادته إذا كان مسلما , قال علقمة : رأيته يقيء الخمر في طست , قال عمر : فلا وربك ما قاءها حتى شربها : فأمر به فجلد الحد , فهذا حكم عمر بحضرة الصحابة ، رضي الله عنهم ، لا يعرف له منهم مخالف في إقامة الحد بشهادتين مختلفتين إحداهما : أنه رآه يشرب الخمر , والأخرى : أنه لم يره يشربها , لكن رآه يتقيؤها وعهدناهم يعظمون خلاف الصاحب إذا وافق تقليدهم , وهم هاهنا قد خالفوا عمر بن الخطاب , والجارود , وجميع من بحضرتهما من الصحابة , فلا مؤنة عليهم وحسبنا الله ونعم الوكيل.