→ كتاب الحدود (مسألة 2170 - 2171) | ابن حزم - المحلى كتاب الحدود (مسألة 2172 - 2173) ابن حزم |
كتاب الحدود (مسألة 2174 - 2175) ← |
كتاب الحدود
2172 - مسألة : السجن في التهمة
قال أبو محمد رضي الله عنه: قال قوم : بالسجن في التهمة واحتجوا : بما ثنا أحمد بن قاسم ثنا أبي قاسم بن محمد بن قاسم ثنا جدي قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن أبي العوام ثنا أحمد بن حاتم الطويل ثنا إبراهيم بن خثيم بن عراك عن أبيه عن جده عن أبي هريرة : أن النبي ﷺ حبس في تهمة احتياطا , أو قال : استظهارا : يوما وليلة. وبه إلى قاسم بن أصبغ ثنا ابن وضاح حدثني محمد بن آدم ، حدثنا ابن المبارك عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ أنه حبس في تهمة , ثم خلى سبيله.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده معاوية بن حيدة قال : أخذ رسول الله ﷺ ناسا من قومه في تهمة فحبسهم , فجاء رجل من قومي إلى النبي ﷺ وهو يخطب فقال : يا محمد , على ما تحبس جيرتي فصمت النبي ﷺ فقال : إن ناسا يقولون : إنك لتنهى عن الشيء وتستخلي به , فقال النبي ﷺ ما يقول فجعلت أعرض بينهما بكلام مخافة أن يسمعها فيدعو على قومي دعوة لا يفلحون بعده , قال : فلم يزل النبي ﷺ حتى فهمها قال : قد قالوها وقال قائلها منهم : والله لو فعلتها لكان علي وما كان عليهم , خلوا له عن جيرانه. وبه إلى عبد الرزاق ، عن ابن جريج أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاري عن عراك بن مالك قال : أقبل رجلان من بني غفار حتى نزلا منزلا بضجنان من مياه المدينة , وعندها ناس من غطفان معهم ظهر لهم , فأصبح الغطفانيون قد أضلوا بعيرين من إبلهم فاتهموا بهما الغفاريين , فأقبلوا إلى رسول الله ﷺ وذكروا أمرهم , فحبس أحد الغفاريين , وقال للآخر : اذهب فالتمس فلم يكن إلا يسيرا حتى جاء بهما , فقال النبي ﷺ لأحد الغفاريين حسبت أنه المحبوس استغفر لي فقال : غفر الله لك يا رسول الله , فقال رسول الله ﷺ : ولك وقتلك في سبيله , قال : فقتل يوم اليمامة.
قال أبو محمد رحمه الله : وذهب إلى هذا قوم ,
كما روينا من طريق عبد الرزاق ، عن ابن جريج قال : كتب عمر بن عبد العزيز بن عبد الله كتابا قرأته : إذا وجد المتاع مع الرجل المتهم فقال : ابتعته فاشدده في السجن وثاقا , ولا تحله بكتاب أحد حتى يأتيه فيه أمر الله تعالى , قال ابن جريج : فذكرت ذلك لعطاء فأنكره. وذهب آخرون إلى المنع من الحبس بالتهمة ,
كما روينا من طريق عبد الرزاق ، حدثنا ابن جريج , قال : سمعت عبد الله بن أبي مليكة يقول : أخبرني عبد الله بن أبي عامر قال : انطلقت في ركب حتى إذا جئنا ذا المروة سرقت عيبة لي , ومعنا رجل متهم , فقال أصحابي : يا فلان اردد عليه عيبته فقال : ما أخذتها : فرجعت إلى عمر بن الخطاب فأخبرته , فقال : من أنتم فعددتهم , فقال : أظنها صاحبها للذي أتهم فقلت : لقد أردت يا أمير المؤمنين أن تأتي به مصفدا , فقال عمر : أتأتي به مصفودا بغير بينة , لا أكتب لك فيها , ولا أسألك عنها , وغضب وما كتب لي فيها , ولا سأل عنها , فأنكر عمر رضي الله عنه أن يصفد أحد بغير بينة.
قال أبو محمد رحمه الله : فنظرنا في ذلك فوجدنا الأحاديث المذكورة لا حجة في شيء منها , لأن إبراهيم بن خثيم ضعيف , وبهز بن حكيم ليس بالقوي , وحديث عراك مرسل , ثم لو صح لكان فيه الدليل على المنع من الحبس لأستغفار رسول الله ﷺ من ذلك.
فإن ذكروا حديث المرأة الغامدية التي قالت لرسول الله ﷺ طهرني , قال : ويحك , ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه , قالت : لعلك تردني كما رددت ماعز بن مالك , قالت : إني حبلى من الزنى , قال : أثيب أنت قالت : نعم , قال : فلا نرجمنك حتى تضعي ما في بطنك , قال : فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت , فأتى بها رسول الله ﷺ فقال : قد وضعت الغامدية قال : إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه فقال رجل من الأنصار : إلي رضاعه , فرجمها.
قال أبو محمد رحمه الله : فهذا لا حجة لهم فيه , لأن رسول الله ﷺ لم يسجنها ، ولا أمر بذلك , لكن فيه : أن الأنصاري تولى أمرها وحياطتها فقط.
قال أبو محمد رحمه الله : فإن ذكروا قول الله تعالى {فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا} فإن هذا حكم منسوخ بإجماع الأمة.
قال علي رحمه الله : فإذ لم يبق لمن رأى السجن حجة , فالواجب طلب البرهان على صحة القول الآخر ,
فنظرنا في ذلك فوجدنا من قال بسجنه لا يخلو من أحد وجهين : إما أن يكون متهما لم يصح قبله شيء , أو يكون قد صح قبله شيء من الشر , فإن كان متهما بقتل , أو زنا , أو سرقة , أو شرب , أو غير ذلك : فلا يحل سجنه , لأن الله تعالى يقول {إن الظن لا يغني من الحق شيئا} .
وقال رسول الله ﷺ : إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث وقد كان في زمن رسول الله ﷺ المتهمون بالكفر وهم المنافقون فما حبس رسول الله ﷺ منهم أحدا وبالله تعالى التوفيق.
2173- مسألة : فيمن أصاب حدا مرتين فصاعدا
قال أبو محمد رحمه الله : اختلف الناس في ذلك , كمن زنى مرتين فأكثر قبل أن يحد في ذلك , أو قذف مرتين فأكثر قبل أن يحد في ذلك , أو شرب الخمر مرتين فأكثر قبل أن يقام عليه الحد , أو سرق مرتين فأكثر قبل أن يحد في ذلك , أو جحد عارية مرتين فأكثر , قبل أن يقام عليه الحد في ذلك أو حارب مرتين فأكثر قبل أن يقام عليه الحد في ذلك فقالت طائفة : ليس في كل ذلك إلا حد واحد فقط
وقالت طائفة : عليه لكل مرة حد.
قال أبو محمد رحمه الله : فوجب أن ننظر في ذلك لنعلم الحق فنتبعه بعون الله تعالى
فنظرنا في قول من قال : لكل فعلة حد فوجدناهم يحتجون بقول الله تعالى {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة}
وقال تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} .
وقال تعالى {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} ووجدنا رسول الله ﷺ يقول : ما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا محمد بن رافع ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة ، أنه قال : من شرب الخمر فاجلدوه , ثم إذا شرب فاجلدوه , ثم إذا شرب فاجلدوه وذكر باقي الخبر قالوا : فوجب بنص كلام الله تعالى , وكلام رسوله ﷺ على من زنى الجلد المأمور به , وعلى من سرق قطع يده , وعلى من قذف الجلد المأمور به وعلى من شرب الخمر الجلد المأمور به , فاستقر ذلك فرضا عليه , فإذ ذلك كذلك فبيقين ندري أنه متى زنى ثانية وجب عليه حد ثان , وإذا سرق ثانية وجب عليه بالسرقة الثانية قطع ثان , وإذا قذف ثانية وجب عليه حد ثان , وإذا شرب ثانية وجب عليه حد ثان ، ولا بد وهكذا في كل مرة.
قال أبو محمد رحمه الله : أما قولهم : إن الله تعالى قال : {الزانية والزاني} الآية
وقوله تعالى {والسارق والسارقة} الآية.
وقوله تعالى {والذين يرمون المحصنات} الآية. وقول رسول الله ﷺ : إذا شرب فاجلدوه , ثم إذا شرب فاجلدوه , ثم إذا شرب فاجلدوه فكل ذلك حق , ويكفر من أنكر لفظه ومعناه.
وأما قولهم : فاستقر ذلك فرضا عليه , فهذا وهم أصحابنا , ولسنا نقول بهذا , لكن نقول : إنه لا يجب شيء من الحدود المذكورة بنفس الزنى , ولا بنفس القذف , ولا بنفس السرقة , ولا بنفس الشرب , لكن حتى يستضيف إلى ذلك معنى آخر وهو ثبات ذلك عند الحاكم بإقامة الحدود , إما بعلمه , وأما ببينة عادلة , وأما بإقراره ,
وأما ما لم يثبت عند الحاكم فلا يلزمه حد , لا جلد , ولا قطع أصلا.
برهان ذلك : هو أنه لو وجبت الحدود المذكورة بنفس الفعل لكان فرضا على من أصاب شيئا من ذلك أن يقيم الحد على نفسه ليخرج مما لزمه , أو أن يعجل المجيء إلى الحاكم فيخبره بما عليه ليؤدي ما لزمه فرضا في ذمته , لا في بشرته , وهذا أمر لا يقوله أحد من الأمة كلها بلا خلاف. أما إقامته الحد على نفسه فحرام عليه ذلك بإجماع الأمة كلها , وأنه لا خلاف في أنه ليس لسارق أن يقطع يد نفسه , بل إن فعل ذلك كان عند الأمة كلها عاصيا لله تعالى , فلو كان الحد فرضا واجبا بنفس فعله لما حل له الستر على نفسه , ولا جاز له ترك الإقرار طرفة عين , ليؤدي عن نفسه ما لزمه. وإنما أمر الله تعالى ورسوله عليه السلام الأئمة وولاتهم بإقامة الحدود المذكورة على من جناها , وبيقين الضرورة ندري أن الله تعالى لم يأمرهم من ذلك إلا إذا ثبت ذلك عندهم , وصح يقينا أن لكل زنا يزنيه , وكل قذف يقذفه , وكل شرب يشربه , وكل سرقة يسرقها , وكل حرابة يحارب , وكل عارية يجحدها قبل علم الإمام بذلك , فلم يجب عليه فيه شيء , لكنا نقول : إن الله تعالى أوجب على من زنى مرة , أو ألف مرة إذا علم الإمام بذلك جلد مائة , وعلى القاذف , والسارق , والمحارب , وشارب الخمر , والجاحد مرة , وألف مرة حدا واحدا , إذا علم الحاكم ذلك كله.
قال أبو محمد رحمه الله : وأما إن وقع على من فعل شيئا من ذلك تضييع من الإمام , أو أميره لغير ضرورة , ثم شرع في إقامة الحد فوقعت ضرورة منعت من إتمامه فواقع فعلا آخر من نوع الأول , فقولنا , وقول أصحابنا سواء : يستتم عليه الحد الأول , ثم يبتدئ في الثاني ، ولا بد.
برهان ذلك : أن الحد كله قد وجب بعلم الإمام , أو أميره مع قدرته على إقامة جميع الحد , ثم أحدث ذنبا آخر , فلا يجزي عنه حد قد تقدم وجوبه.
قال أبو محمد رحمه الله : ونسأل المخالفين عن قولهم فيمن زنى مرات , أو شرب مرات , أو قذف مرات إنسانا واحدا , أو سرق مرات , أو حارب مرات وعلم الإمام كل ذلك وقدر على إقامة الحدود عليه , ثم لم يحد حتى واقع ما ذكرنا , فلم يوجبوا عليه إلا حدا واحدا , ما الفرق بين هذا وبين قول من قال منهم : إن أفطر عامدا فوطئ أياما من شهر رمضان أن عليه لكل يوم كفارة ومن حلف أيمانا كثيرة على أشياء مختلفة فعليه لكل يمين كفارة ومن قال منهم : إن ظاهر مرات كثيرة فإن لكل ظهار كفارة وقولهم كلهم : إن من أصاب وهو محرم صيودا فعليه لكل صيد جزاء بل قال بعضهم : إنه لو أصاب صيدا واحدا وهو قارن فعليه جزاءان. فإن ادعوا في كفارة الإفطار في رمضان إجماعا : ظهر جهل من ادعى ذلك , أو كذبه , لأن زفر بن الهذيل وغيره منهم يرى أن من أفطر بوطء أو غيره جميع أيام شهر رمضان ولم يكفر فليس عليه إلا كفارة واحدة فقط وهذا هو الواجب على قول سعيد بن المسيب لأن المحفوظ عنه أن شهر رمضان كله صوم واحد , من أفطر يوما منه فعليه قضاء جميعه يقضي شهرا , ولا بد , ومن أفطره كله فعليه شهر واحد أيضا ، ولا مزيد.