الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد السادس/الصفحة التاسعة والأربعون

كتاب الحدود

2181 - مسألة : الإقرار بالحد بعد مدة , وأيهما أفضل الإقرار أم الأستتار به

قال أبو محمد رحمه الله : اختلف الناس في ذلك , فلما اختلفوا وجب أن ننظر فيما اختلفوا فيه لنعلم الحق من ذلك فنتبعه بعون الله تعالى :

فنظرنا فيما احتجت به الطائفة المختارة للستر , وأن جميع الأمة متفقون على أن الستر مباح , وأن الأعتراف مباح , إنما اختلفوا في الأفضل , ولم يقل أحد من أهل الإسلام : إن المعترف بما عمل مما يوجب الحد : عاص لله تعالى في اعترافه , ولا قال أحد من أهل الإسلام قط : إن الساتر على نفسه ما أصاب من حد : عاص لله تعالى :

فنظرنا في تلك الأخبار التي جاءت في ذلك فوجدناها كلها لا يصح منها شيء , إلا خبرا واحدا في آخرها , لا حجة لهم فيه , على ما نبين إن شاء الله تعالى.

وأما خبر هزال الذي صدرنا به من طريق شعبة عن محمد بن المنكدر ، عن ابن هزال عن أبيه : فمرسل , فلا حجة فيه ; لأنه مرسل.

وكذلك الذي من طريق ابن المبارك عن يحيى بن سعيد ، عن ابن المنكدر ويزيد بن النعيم أيضا مرسل.

وكذلك حديث مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري : مرسل أيضا. وحديث الليث عن يحيى بن سعيد مرسل أيضا فبطل الأحتجاج برواية يحيى بن سعيد وبالله تعالى التوفيق. ثم نظرنا في هذا الخبر من طريق عكرمة بن عمار , فوجدناه لا حجة فيه لوجهين : أحدهما : أنه مرسل ,

والثاني : أن عكرمة بن عمار ضعيف. ثم نظرنا فيه من طريق حبان بن هلال عن أبان بن يزيد عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن يزيد بن نعيم بن هزال الأنصاري عن عبد الله بن دينار فوجدناه أيضا مرسلا. ثم نظرنا فيه من طريق ابن جريج عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عبد الله بن دينار : فوجدناه أيضا مرسلا. ثم نظرنا فيه من رواية معمر عن أيوب السختياني عن حميد بن هلال : فوجدناه أيضا مرسلا. ثم نظرنا فيه من رواية الحبلي عن أبي قلابة فوجدناه مرسلا.

وأما حديث حماد بن سلمة , ففيه أبو المنذر لا يدرى من هو وأبو أمية المخزومي ، ولا يدرى من هو وهو أيضا مرسل , وحتى لو صح هذا الخبر لما كان لهم فيه حجة , لأنه ليس فيه إلا ما إخالك سرقت ورسول الله ﷺ لا يقول إلا الحق فلو صح أن رسول الله ﷺ قال للذي سيق إليه بالسرقة ما إخالك سرقت لكنا على يقين من أنه عليه السلام قد صدق في ذلك , وأنه على الحقيقة يظن أنه لم يسرق , وليس في هذا تلقين له , ولا دليل على أن الستر أفضل فبطل تعلقهم بهذا الخبر جملة.

وأما حديث مسلم في الإجهاد فلا حجة فيه لوجهين : أحدهما : أنه من رواية محمد بن عبد الله بن أخي الزهري , وهو ضعيف.

والثاني : أنه لو صح لما كانت لهم فيه حجة أصلا , لأن الإجهاد المذكور إنما هو ما ذكره المرء مفتخرا به , لأنه ليس في هذا الخبر أنه يخبر به الإمام معترفا ليقام عليه كتاب الله تعالى , وإنما فيه ذم المجاهرة بالمعصية وهذا لا شك فيه حرام. ثم نظرنا في حديث مسلم الذي رواه ابن شهاب عن أبي سلمة , وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ أعرض عن المعترف مرات فوجدناه صحيحا لا داخلة فيه لأحد , إلا أنه لا حجة لهم فيه , لأن الناس في سبب إعراض رسول الله ﷺ عنه على قولين : فطائفة قالت : إنما أعرض عنه , لأن الإقرار بالزنى لا يتم إلا بتمام أربع مرات , وطائفة قالت : إنما أعرض عنه عليه السلام لأنه ظن أن به جنونا , أو شرب خمرا ولم يقل أحد من الأمة : أن الحاكم إذا ثبت عنده الإقرار بالحد جاز له أن يستره ، ولا يقيمه فبطل تعلقهم بهذا الخبر , وسنستقصي الكلام في تصحيح أحد هذين الوجهين بعد هذا إن شاء الله تعالى.

قال أبو محمد : فلم يبق لهذه الطائفة خبر يتعلقون به أصلا ثم نظرنا فيما روي في ذلك عن الصحابة ، رضي الله عنهم ، فوجدناه أيضا لا يصح منه شيء : أما الرواية عن أبي بكر , وعمر رضي الله عنهما في قولهما للأسلمي : استتر بستر الله , فلا تصح , لأنها عن سعيد بن المسيب مرسلة.

وكذلك حديث إبراهيم بن طهمان عن موسى بن عقبة عن عبد الله بن يزيد عن محمد بن عبد الرحمن : أن أبا بكر فهو مرسل.

قال أبو محمد : ثم نظرنا فيما احتجت به الطائفة الأخرى , فوجدنا الرواية عن الصحابة أن الطائفة منهم قالت : ما توبة أفضل من توبة ماعز : جاء إلى رسول الله ﷺ فوضع يده في يده وقال : اقتلني بالحجارة. فصح هذا من قول طائفة عظيمة من الصحابة ، رضي الله عنهم ، بل لو

قلنا : إنه لا مخالف لهذه الطائفة من الصحابة ، رضي الله عنهم ، لصدقنا , لأن الطائفة الأخرى لم تخالفها , وإنما قالت : لقد هلك ماعز , لقد أحاطت به خطيئته فإنما أنكروا أمر الخطيئة لا أمر الأعتراف , فوجدنا تفضيل الأعتراف لم يصح عن أحد من الصحابة ، رضي الله عنهم ، خلافه. ثم نظرنا فيما احتجوا به من الآثار : فوجدناها في غاية الصحة والبيان , لأن رسول الله ﷺ حمد توبة ماعز , والغامدية , وذكر عليه السلام : أن توبة ماعز لو قسمت بين أمة لوسعتهم ، وأن الغامدية لو تاب توبتها صاحب مكس لغفر له ، وأن الجهينية لو قسمت توبتها بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم , ثم رفع عليه السلام الإشكال جملة , فقال : إنها لم تجد أفضل من أن جادت بنفسها لله. فصح يقينا أن الأعتراف بالذنب ليقام عليه الحد أفضل من الأستتار له بشهادة النبي ﷺ أنه لا أفضل من جود المعترف بنفسه لله تعالى.

قال أبو محمد رحمه الله : ومن البرهان على ذلك أيضا. ما رويناه من طريق مسلم ، أخبرنا يحيى بن يحيى , وأبو بكر بن أبي شيبة , وعمرو الناقد , وإسحاق بن إبراهيم ، هو ابن راهويه ، ومحمد بن عبد الله بن نمير كلهم عن سفيان بن عيينة واللفظ لعمرو , قال سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبي إدريس الخولاني عن عبادة بن الصامت قال : كنا مع رسول الله ﷺ في مجلس , فقال : بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا , ولا تزنوا , ولا تسرقوا , ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق , فمن وفى منكم فأجره على الله , ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له , ومن أصاب شيئا فستره الله عليه , فأمره إلى الله , إن شاء عفا عنه , وإن شاء عذبه.

قال علي رحمه الله : فارتفع الإشكال جملة والحمد لله رب العالمين وصح بنص كلام رسول الله ﷺ وإعلامه أمته , ونصيحته إياهم بأحسن ما علمه ربه تعالى , أن من أصاب حدا فستره الله عليه فإن أمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ، وأن من أقيم عليه الحد فقد سقط عنه ذلك الذنب , وكفره الله تعالى عنه وبالضرورة ندري : أن يقين المغفرة أفضل من التعزير في إمكانها أو عذاب الآخرة , وأين عذاب الدنيا كلها من غمسة في النار نعوذ بالله منها فكيف من أكثر من ذلك

قال أبو محمد رحمه الله : فصح أن اعتراف المرء بذنبه عند الإمام أفضل من الستر بيقين , وأن الستر مباح بالإجماع وبالله تعالى التوفيق


2182 - مسألة : تعافوا الحدود قبل بلوغها إلى الحاكم

قال أبو محمد رحمه الله : أنا عبد الله بن ربيع أنا عمر بن عبد الملك أنا محمد بن بكر أنا أبو داود أنا سليمان بن داود المهري ، حدثنا ابن وهب سمعت ابن جريج يحدث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله عمرو بن العاص " أن رسول الله ﷺ قال : تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب. حدثنا حمام ، حدثنا عباس بن أصبغ ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ، حدثنا محمد بن وضاح ، حدثنا سحنون ، حدثنا ابن وهب قال : سمعت ابن جريج يحدث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله ﷺ قال : تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب. حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب أخبرني عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا سعيد ، هو ابن أبي عروبة عن قتادة عن عطاء بن أبي رباح عن طارق بن مرقع عن صفوان بن أمية أن رجلا سرق بردة فرفعه إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فأمر بقطعه , فقال : يا رسول الله قد تجاوزت عنه , قال فلولا كان هذا قبل أن تأتيني به يا أبا وهب فقطعه رسول الله ﷺ . حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب ، حدثنا هلال بن العلاء الرقي ، حدثنا حسين ، حدثنا زهير ، حدثنا عبد الملك ، هو ابن أبي بشير أنا عكرمة عن صفوان بن أمية أنه طاف بالبيت فصلى ثم لف رداء له في برده فوضعه تحت رأسه فنام , فأتاه لص فاستله من تحت رأسه , فأخذه فأتى به النبي ﷺ فقال : إن هذا سرق ردائي فقال له النبي ﷺ أسرقت رداء هذا قال : نعم , قال : اذهبا به فاقطعا يده قال صفوان : ما كنت أريد أن تقطع يده في ردائي قال : فلو ما كان هذا قبل. حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب ، حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم ، حدثنا عمرو عن أسباط عن سماك عن حميد بن أخت صفوان عن صفوان بن أمية , قال : كنت نائما في المسجد على خميصة لي ثمن ثلاثين درهما , فجاء رجل فاختلسها مني , فأخذ الرجل فأتى به النبي ﷺ فأمر به ليقطع , فأتيته فقلت له : تقطعه من أجل ثلاثين درهما , أنا أضعه وأنسئه ثمنها قال : فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به . حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا سحنون ، حدثنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث أن عمرو بن دينار المكي حدثه : أنه قيل لصفوان بن أمية : لا دين لمن لم يهاجر فأقبل إلى رسول الله ﷺ فدخل عليه , فقال : ما أقدمك , قال : قيل لي : إنه لا دين لمن لم يهاجر , قال فأقسمت عليك لترجعن إلى أباطيح مكة ثم جيء إلى رسول الله ﷺ برجل فقال : إن هذا سرق خميصتي فقال رسول الله ﷺ اقطعوا يده قال : عفوت عنه يا رسول الله فقال رسول الله ﷺ فهلا قبل أن تأتيني به . حدثنا يوسف بن عبد الله ، حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا مطرف بن قيس ، حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا مالك ، حدثنا ابن شهاب عن صفوان بن عبد الله بن صفوان بن أمية أن صفوان بن أمية , قيل له : إنه من لم يهاجر هلك , فقدم صفوان بن أمية المدينة فنام في المسجد , وتوسد رداءه , فجاء سارق فأخذ رداءه , فأخذ صفوان السارق , فجاء به إلى رسول الله ﷺ فأمر به رسول الله ﷺ أن تقطع يده , فقال صفوان : إني لم أرده بهذا , هو عليه صدقة فقال رسول الله ﷺ فهلا قبل أن تأتيني به .

قال أبو محمد رحمه الله : وجاء فيه أيضا عن بعض السلف كما رويناه بالسند المذكور إلى مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن الزبير بن العوام لقي رجلا قد أخذ سارقا وهو يريد أن يذهب به إلى السلطان فشفع له الزبير ليرسله , فقال : لا , حتى أبلغ به إلى السلطان , فقال له الزبير : إذا بلغت به إلى السلطان فلعن الله الشافع والمشفع

قال أبو محمد رحمه الله : فنظرنا في الآثار عن النبي ﷺ فوجدناها لا يصح منها شيء أصلا : أما الأول فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عمرو , وهي صحيفة.

وأما حديث صفوان فلا يصح فيه شيء أصلا , لأنها كلها منقطعة , لأنها عن عطاء , وعكرمة , وعمرو بن دينار , وابن شهاب , وليس منهم أحد أدرك صفوان.

وأما عن عطاء عن طارق بن مرتفع وهو مجهول , أو عن أسباط عن سماك عن حميد بن أخت صفوان وهذا ضعيف عن ضعيف عن مجهول.

قال علي : فإذ ليس في هذا الباب أثر يعتمد عليه , فالمرجوع إليه هو طلب حكم هذه المسألة من غير هذه الآثار :

فنظرنا في ذلك فوجدنا قد صح بالبراهين التي قد أوردنا قبل : أن الحد لا يجب إلا بعد بلوغه إلى الإمام وصحته عنده. فإذ الأمر كذلك فالترك لطلب صاحبه قبل ذلك مباح , لأنه لم يجب عليه فيما فعل حد بعد ورفعه أيضا مباح , إذ لم يمنع من ذلك نص أو إجماع , فإذ كلا الأمرين مباح , فالأحب إلينا دون أن يفتى به أن يعفى عنه ما كان وهلة ومستورا , فإن أذى صاحبه وجاهر : فرفعه أحب إلينا وبالله تعالى التوفيق

محلى ابن حزم - المجلد السادس/كتاب الحدود
كتاب الحدود (مسألة 2167 - 2169) | كتاب الحدود (مسألة 2170 - 2171) | كتاب الحدود (مسألة 2172 - 2173) | كتاب الحدود (مسألة 2174 - 2175) | كتاب الحدود (مسألة 2176 - 2178) | كتاب الحدود (مسألة 2179 - 2180) | كتاب الحدود (مسألة 2181 - 2182) | كتاب الحدود (مسألة 2183 - 2186) | كتاب الحدود (مسألة 2187 - 2188) | كتاب الحدود (مسألة 2189 - 2192) | كتاب الحدود (مسألة 2193 - 2194) | كتاب الحدود (مسألة 2195 - 2196) | كتاب الحدود (مسألة 2197 - 2198) | كتاب الحدود (مسألة 2199) | كتاب الحدود (مسألة 2200 - 2202) | كتاب الحدود (مسألة 2203) | كتاب الحدود (تتمة 1 مسألة 2203) | كتاب الحدود (تتمة 2 مسألة 2203) | كتاب الحدود (تتمة 3 مسألة 2203) | كتاب الحدود (مسألة 2204 - 2207) | كتاب الحدود (مسألة 2208 - 2209) | كتاب الحدود (مسألة 2210 - 2212) | كتاب الحدود (مسألة 2213 - 2216) | كتاب الحدود (مسألة 2217 - 2220) | كتاب الحدود (مسألة 2221 - 2223) | كتاب الحدود (مسألة 2224 - 2228) | كتاب الحدود (مسألة 2229 - 2231) | كتاب الحدود (مسألة 2232 - 2235) | كتاب الحدود (مسألة 2236 - 2238) | كتاب الحدود (مسألة 2239 - 2243) | كتاب الحدود (مسألة 2244 - 2246) | كتاب الحدود (مسألة 2247 - 2255)