الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الرابع/الصفحة السادسة عشر


كتاب البيوع

1471 - مسألة : فإن كان في حائط أنواع من الثمار من الكمثرى ، والتفاح ، والخوخ ، وسائر الثمار ، فظهر صلاح شيء منها من صنف دون سائر أصنافه - : جاز بيع كل ما ظهر من أصناف ثمار ذلك الحائط ، وإن كان لم يطب بعد إذا بيع كل ذلك صفقة واحدة ، فإن أراد بيعه صفقتين لم يجز بيع ما لم يبد فيه شيء من الصلاح ، وإن كان قد بدا صلاح ذلك الصنف بعد حاشا ثمر النخل والعنب فقط : فإنه لا يجوز بيع شيء منه لا وحده ولا مع غيره إلا حتى يزهى ثمر النخل ، ويبدأ سواد العنب أو طيبه . برهان ذلك - : نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها ، ولا يخلو هذا الصلاح الذي به يحل بيع الثمار بعد تحريمه من أن يكون عليه السلام أراد به ابتداء ظهور الطيب في شيء منه ، أو تناهي الطيب في جميعه أوله عن آخره ، أو في أكثره ، أو في أقله ، أو في جزء مسمى منه : كنصف ، أو ثلث ، أو ربع ، أو عشر ، أو نحو ذلك لا بد ضرورة من أحد هذه الوجوه . فمن المحال الممتنع الذي لا يمكن أصلا أن يريد عليه السلام أكثره ، أو أقله ، أو جزءا مسمى منه ثم لا ينص على ذلك ولا يبينه ، وقد افترض الله عز وجل عليه البيان ، فلا سبيل إلى أن يكلفنا شرعا لا ندري ما هو ؛ لأنه كان يكون عليه السلام مخالفا لأمر ربه تعالى له بالبيان ، وهذا ما لا يقوله مسلم . وأيضا - فإن ذلك كان يكون تكليفا لنا ما لا نطيقه من معرفة ما لم نعرف به وقد أمننا الله تعالى من ذلك بقوله تعالى { : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } . فبطلت هذه الوجوه بيقين لا مرية فيه ، ولم يبق إلا وجهان فقط : إما ظهور الصلاح في شيء منه وإن قل ، وإما عموم الصلاح لجميعه - : فنظرنا في لفظه عليه السلام فوجدناه حتى يبدو صلاحه ، فصح أنه ظهور الصلاح : وبصلاح حبة واحدة يطلق عليه في اللغة أنه قد بدا صلاح هذا الثمر ، فهذا مقتضى لفظ رسول الله ﷺ . ولو أنه عليه السلام أراد صلاح جميعه لقال : حتى يصلح جميعه . وأيضا - فإن جميع الثمار يبدو صلاح بعضه ثم يتتابع صلاح شيء شيء منه ، فلا يصح آخره إلا ولو ترك أوله لفسد وضاع بلا شك ، وقد نهى رسول الله ﷺ عن إضاعة المال . وأيضا - فلا نعرف أحدا قال هذا قديما ولا حديثا ، ولا زال الناس يتبايعون الثمار كل عام عملا عاما فاشيا ظاهرا بعلم رسول الله ﷺ ثم كذلك كل عام في جميع أقطار أهل الإسلام ما قال قط أحد : إنه لا يحل بيع الثمر إلا حتى يتم صلاح جميعه حتى لا يبقى منه ولا حبة واحدة . قال أبو محمد : فإذ الأمر كما ذكرنا فبيع ثمار الحائط الجامع لأصناف الشجر صفقة واحدة بعد ظهور الطيب في شيء منه : جائز - وهو قول الليث بن سعد ؛ لأنه بيع ثمار قد بدا صلاحها ، ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن ذلك لا يجوز إلا في صنف واحد ، ولو كان ذلك هو اللازم لما أغفل عليه السلام بيانه . وأما إذا بيع الثمر صفقتين فلا يجوز بيع ما لم يبد فيه شيء من الصلاح بعد ، سواء كان من صنف قد بدا الصلاح في غيره أو من صنف آخر ؛ لأنه بيع ثمرة لم يبد صلاحها وهذا حرام ، وإنما رد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الضمير - وهو الهاء الذي في " صلاحه " - إلى الثمر المبيع المذكور في الخبر بلا شك - فصح ما قلناه يقينا . وأما النخل ، والعنب ، فقد خصهما نص آخر ، وهو نهيه عليه السلام عن بيع ثمر النخل حتى تزهى أو تحمر ، وعن بيع العنب حتى يسود أو يبدو صلاحه بدخوله في سائر الثمار - وإن كان مما لا يسود ، فلا يجوز بيع شيء من ثمار النخل ، والعنب ؛ إلا حتى يصير المبيع منهما في حال الإزهاء أو ظهور الطيب فيه نفسه بالسواد ، أو بغيره - وبالله تعالى التوفيق .

1472 - مسألة : ولا يحل بيع فراخ الحمام في البرج مدة مسماة كسنة ، أو ستة أشهر ، أو نحو ذلك ؛ لأنه بيع ما لم يخلق ، وبيع غرر لا يدرى كم يكون ، ولا أي صفة يكون فهو أكل مال بالباطل ، وإنما الواجب في الحلال في ذلك بيع ما ظهر منها بعد أن يقف البائع أو وكيله ، والمشتري أو وكيله عليها ، وإن لم يعرفا أو أحدهما عددها أو يرها أحد من ذكرنا فيقع البيع بينهما على صفة الذي رآها منهما . فإن تداعيا بعد ذلك في فراخ فقال المشتري : كانت موجودة حين البيع فدخلت فيه ، وقال الآخر : لم تكن موجودة حينئذ ، ولا بينة : حلفا معا ، وقضي بها بينهما ، لأنها في أيديهما معا ، هي بيد المشتري بحق الشراء للفراخ التي في البرج ، وهي بيد صاحب الأصل بحق ملكه للأصل من الأمهات والمكان - وبالله تعالى التوفيق ، إلا إن كان المشتري قبض كل الفراخ وعرف ذلك ثم ادعى أنه بقي له شيء هنالك فهو للبائع وحده مع يمينه ؛ لأنه مدعى عليه فيما بيده .

1473 - مسألة : وجائز بيع الصغار من جميع الحيوان حين تولد ، ويجبر كلاهما على تركها مع الأمهات إلى أن يعيش دونها عيشا لا ضرر فيه عليها ، وكذلك يجوز بيع البيض المحضونة ، ويجبر كلاهما على تركها إلى أن تخرج وتستغني عن الأمهات . برهان ذلك - : قول الله عز وجل : { وأحل الله البيع } . وأما ترك كل ذلك إلى أن يستغني عن الأمهات فلقول الله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } والنهي عن إضاعة المال والوعيد الشديد على من عذب الحيوان وأصبرها ، وإزالة الصغار عن الأمهات قبل استغنائها عنها عذاب لها وقتل إلا من ذبحها للأكل فقط على ما ذكرنا في " كتاب ما يحل أكله وما يحرم " وإزالة البيض بعد أن تغيرت بالحضن عن حالها إضاعة للمال .

1474 - مسألة : ولا يحل بيع شيء من ثمر النخل ، من : البلح ، والبسر ، والزهو ، والمكث ، والحلقان ، والمعو ، والمعد ، والثغد ، والرطب بعضه ببعض من صنفه ، أو من صنف آخر منه ولا بالثمر ، ولا متماثلا ولا متفاضلا ، ولا نقدا ولا نسيئة ، ولا في رءوس النخل ولا موضوعا في الأرض . ويجوز بيع الزهو ، والرطب بكل شيء يحل بيعه ، حاشا ما ذكرنا نقدا وبالدراهم والدنانير نقدا ونسيئة ، حاشا العرايا في الرطب وحده . ومعناها أن يأتي الرطب ويكون قوم يريدون ابتياع الرطب للأكل فأبيح لهم أن يبتاعوا رطبا في رءوس النخل بخرصها تمرا فيما دون خمسة أوسق ، يدفع التمر إلى صاحب الرطب ولا بد - ولا يحل بتأخير ، ولا في خمسة أوسق فصاعدا ، ولا بأقل من خرصها تمرا ولا بأكثر ، فإن وقع ما قلنا : أنه لا يجوز فسخ أبدا ، وضمن ضمان الغصب . برهان ذلك - ما روينا من طريق مسلم أنا ابن نمير : وزهير بن حرب ، قالا جميعا : أنا سفيان بن عيينة أنا الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه { نهى رسول الله ﷺ عن بيع التمر بالتمر } . ومن طريق مسلم أنا عبد الله بن مسلمة القعنبي أنا سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن بشير بن يسار عن بعض أصحاب رسول الله ﷺ من أهل دارهم منهم سهل بن أبي حثمة { أن رسول الله ﷺ نهى عن بيع التمر بالتمر وقال : ذلك الربا } . وصح أيضا من طريق رافع بن خديج ، وأبي هريرة { عن رسول الله ﷺ : النهي عن بيع التمر بالتمر } والثمر يقتضي الأصناف التي ذكرنا - . وصح النهي عن ذلك عن سعد بن أبي وقاص . ولم يجز سعيد بن المسيب قفيز رطب بقفيز من جاف - وهو قول مالك ، والشافعي ، والليث ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وأبي ثور ، وأبي سليمان - وهو الخارج من أقوال سفيان ، وأحمد ، وإسحاق . وأجاز أبو حنيفة بيع الرطب بالتمر كيلا بمثله نقدا ولم يجز متفاضلا ولا نسيئة - وقال : إنما يحرم بيع الثمر الذي في رءوس النخل خاصة بالتمر ، ولم يجز ذلك لا في العرايا ولا في غيرها . واحتج له مقلدوه بما صح من طريق ابن عمر { نهى رسول الله ﷺ عن المزابنة } ، والمزابنة أن يباع ما في رءوس النخل من ثمر بتمر مسمى بكيل ، إن زاد فلي وإن نقص فعلي " . ومثله مسندا أيضا من طريق أبي سعيد الخدري . ومن طريق عطاء عن جابر بن عبد الله أنه فسر لهم المزابنة : أنها بيع الرطب في النخل بالتمر كيلا . قال أبو محمد : لا حجة لهم في شيء من هذه الأخبار ؛ لأننا لم ننازعهم في تحريم الرطب في رءوس النخل بالتمر كيلا ، نعم ، وغير كيل ، ولا نازعناهم في أن هذا مزابنة فاحتجاجهم بها تمويه وإيهام ضعيف ، وليس في شيء من هذه الأخبار ولا غيرها : أنه لا يحرم من بيع الثمر بالتمر إلا هذه الصفة فقط ولا في شيء من هذا : أن ما عدا هذا فحلال - لكن كل ما في هذه الأخبار فهو بعض ما في حديث ابن عمر الذي صدرنا به وبعض ما في حديث سهل بن أبي حثمة ، ورافع ، وأبي هريرة . وتلك الأخبار جمعت ما في هذه وزادت عليها ، فلا يحل ترك ما فيها من زيادة الحكم من أجل أنها لم تذكر في هذه الأحاديث . كما أن قول الله تعالى { : منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم } ليس حجة في إباحة الظلم في غيرها - وهكذا جميع الشرائع أولها عن آخر ، ليست كل شريعة مذكورة في كل حديث . وأيضا - فإننا نقول لهم : من أين قلتم : إن المراد في تلك الأخبار التي فيها النهي عن بيع الثمر بالتمر إنما هو ما ذكرنا في هذه الأخبار الأخر من النهي عن بيع الثمر في رءوس النخل بالتمر ، وما برهانكم على ذلك ؟ وهل زدتمونا على الدعوى المجردة الكاذبة شيئا ؟ ومن أين وجب ترك عموم تلك الأخبار الثابتة من أجل أنه ذكر في هذه بعض ما في تلك ؟ فإنهم لا سبيل إلى دليل أصلا - لا قوي ولا ضعيف - فحصلوا على الدعوى فقط ، فإن ادعوا إجماعا على ما في هذه كذبوا . وقد روينا من طريق ابن أبي شيبة أنا ابن المبارك عن عثمان بن حكيم عن عطاء عن ابن عباس قال : الثمر بالتمر على رءوس النخل مكايلة إن كان بينهما دينار أو عشرة دراهم فلا بأس به ، وهذا خبر صحيح ، وعثمان بن حكيم ثقة وسائر من فيه أئمة أعلام . وقد فسر ابن عمر المزابنة كما روينا من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر { نهى رسول الله ﷺ فذكر المزابنة ، والمزابنة : بيع الثمر بالتمر كيلا ، وبيع الكرم بالزبيب كيلا } . وحدثنا حمام أنا عباس بن أصبغ أنا محمد بن عبد الملك بن أيمن أنا بكر - هو ابن حماد - أنا مسدد أنا يحيى - هو ابن سعيد القطان - عن عبيد الله بن عمر أخبرني نافع عن ابن عمر قال { نهى رسول الله ﷺ عن المزابنة ، والمزابنة : اشتراء الثمر بالتمر واشتراء العنب بالزبيب كيلا } . فمن جعل تفسير ابن عمر باطلا وتفسير جابر ، وأبي سعيد صحيحا . بل كلاهما حق وكل ذلك مزابنة منهي عنها ، وما عدا هذا فضلال وتحكم في دين الله تعالى بالباطل . والعجب كله من إباحة أبي حنيفة ومن قلده دينه ما قد نص رسول الله ﷺ على النهي عنه من بيع الرطب بالتمر ، وبيع التمر بالتمر ، وتحريمه ما لم يحرمه الله تعالى قط ولا رسوله ﷺ ولا جاء قط عنه نهي من بيع الجوز على رءوس أشجاره بالجوز المجموع ، وهذا عجب جدا وما رأينا قط سنة مضاعة إلا وإلى جنبها بدعة مذاعة ، ونعوذ بالله من الخذلان . واحتجوا أيضا - بأن قالوا : لا يخلو الرطب ، والتمر من أن يكونا جنسا واحدا أو جنسين ، فإن كانا جنسا واحدا فالتماثل في الجنس الواحد جائز ، لإباحة رسول الله ﷺ التمر بالتمر مثلا بمثل ، وإن كانا جنسين فذلك فيهما أجوز ، لقول رسول الله ﷺ : { إذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد } . قال أبو محمد : فنقول لهم : الذي أباح التمر بالتمر متماثلا يدا بيد ، وأمرنا إذا اختلفت الأصناف أن نبيع كيف شئنا إذا كان يدا بيد ، هو الذي نهانا عن بيع الرطب بالتمر جملة ، وعن بيع التمر بالتمر ، وأخبرنا : أنه الربا ، وليست طاعته في بعض ما أمر به واجبة وفي بعضه غير واجبة ، هذا كفر ممن قاله ، بل طاعته في كل ما أمر به واجبة . لكن يا هؤلاء أين كنتم عن هذا الاستدلال الفاسد الذي صححتموه وعارضتم به سنة الله تعالى ورسوله عليه السلام ؟ إذ حرمتم برأيكم الفاسد بيع الدقيق بالحنطة أو بالسويق جملة ، فلم تجيزوه لا متفاضلا ، ولا متماثلا ، ولا نقدا ، ولا نسيئة ، ولا كيلا ، ولا وزنا - وهلا قلتم لأنفسكم : لا يخلو الدقيق والحنطة ، والسويق ، من أن تكون جنسا واحدا أو جنسين أو ثلاثة أجناس ، فإن كانت جنسا واحدا فالتماثل في الجنس الواحد جائز ، لإباحة رسول الله ﷺ الحنطة بالحنطة مثلا بمثل ، وإن كانت جنسين أو ثلاثة فذلك فيها أجوز ، لقول رسول الله ﷺ : { إذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد } فهذا المكان أولى بالاعتراض ، وبالرد ، وبالإطراح ، لا قول رسول الله ﷺ وحكمه . فقال قائل منهم : التفاضل في الدقيق بالحنطة موجود في الوقت ، وأما في الرطب بالتمر ، فلا يوجد إلا بعد الوقت ؟ فقلنا : فكان ماذا لو كان ما قلتم حقا ؟ ومن أين وجب مراعاة التفاضل في الوقت أو بعده ؟ فكيف والذي قلتم باطل ؟ لأن المماثلة بالكيل موجودة في الرطب بالتمر ، كما هي موجودة في الدقيق بالسويق ، وفي الدقيق بالحنطة في الوقت ، فلا تفاضل فيهما أصلا ، وإنما كان التفاضل موجودا في الدقيق بالسويق فيما خلا وبطل الآن ، ولا يقطع أيضا بهذا ، فبطل فرقكم الفاسد . وأيضا - فإنما أباح رسول الله ﷺ التمر بالتمر مثلا بمثل ، وبالمشاهدة ندري أن الرطب ليس مثلا للتمر في صفاته . واحتجوا أيضا بأن قالوا : بيع التمر الحديث بالتمر القديم جائز ، وهو ينقص ، عنه فيما بعد ؟ فقلنا : نعم فكان ماذا ؟ ومتى جعلنا لكم علة المنع من بيع الرطب بالتمر ، إنما هي نقصانه إذا يبس ؟ حاشا لله أن يقول هذا ؛ لأن الأثر الذي من طريق سعد ، الذي فيه : أينقص الرطب إذا جف لا يصح ، لأنه من رواية زيد بن أبي عياش - وهو مجهول - ولو صح لأذعنا له ولقلنا به ، وهذا التعليل منكم باطل وتخرص في دين الله تعالى لم يأت به قرآن ، ولا سنة ، وإنما هو الطاعة لله تعالى ولرسوله عليه السلام فقط . { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } . ونقول لمن ادعى التعليل ، وأنه هو الحكمة ، وما عداه عبث : أخبرونا ما علة تحريم الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، والخامسة في النكاح ، وسائر الشرائع ؟ فلا سبيل لهم إلى وجود شيء أصلا ، فمن أين وجب أن تعلل بعض الشرائع بالدعاوى الكاذبة ، ولا تعلل سائرها ؟ وما نعلم لأبي حنيفة سلفا قبله في إباحة الرطب بالتمر ممن يحرم الربا في غير النسيئة - وقال مالك : بيع الرطب جائز ، وهذا خطأ لنهي رسول الله ﷺ عن بيع الثمر بالتمر . وقال الشافعي كقولنا - وبالله تعالى التوفيق . وأما العرايا - روينا من طريق نافع عن ابن عمر قال : كانت العرايا أن يعري الرجل في ماله النخلة والنخلتين ؟ قال علي : ليس في هذا بيان حكم العرايا - وروينا عن موسى بن عقبة أنه قال : العرايا نخلات معلومات يأتيها فيشتريها . وروينا عن زيد بن ثابت ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، ومحمد بن إسحاق أنها النخلة والنخلتان والنخلات تجعل للقول فيبيعون ثمرها بخرصها تمرا . وقال سفيان بن حسين ، وسفيان بن عيينة ، والأوزاعي ، وأحمد بن حنبل مثل هذا ، إلا أنهم خصوا بذلك المساكين يجعل لهم ثمر النخل فيصعب عليهم القيام عليها ، فأبيح لهم أن يبيعوها بما شاءوا من التمر . وروينا عن عبد ربه بن سعيد الأنصاري : أن العرية الرجل يعري النخلة ، أو يستثني من ماله النخلة أو النخلتين يأكلها فيبيعهما بمثل خرصهما تمرا . وقال أبو حنيفة : العرية أن يهب الرجل رجلا آخر ثمرة نخلة أو نخلتين ثم يبدو له فيعطيه مكان ثمر ما أعطاه تمرا يابسا فيخرج بذلك عن إخلاف الوعد . وقال مالك : العرية أن يهب الرجل لآخر ثمر نخلة أو نخلتين أو نخلات من ماله ويكون الواهب ساكنا بأهله في ذلك الحائط فيشق عليه دخول المعري في ذلك الحائط ، فله أن يبتاع منه ذلك الثمر بخرصه تمرا إلى الجداد ولا يجوز عنده إلا نسيئة ولا بد ، وأما يدا بيد فلا . وأما قول الشافعي فإنه قال : العرية أن يأتي أوان الرطب ، وهناك قوم فقراء لا مال لهم ، ويريدون ابتياع رطب يأكلونه مع الناس ، ولهم فضول تمر من أقواتهم ، فأبيح لهم أن يشتروا الرطب بخرصها من التمر فيما دون خمسة أوسق نقدا ولا بد . وأما قولنا الذي ذكرنا فهو قول يحيى بن سعيد الأنصاري ، وأبي سليمان . وروينا من طريق مسلم أنا محمد بن رمح بن المهاجر أنا الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال : العرية أن يشتري الرجل ثمر النخلات لطعام أهله رطبا بخرصها تمرا . قال أبو محمد : أما قول ابن عمر ، وموسى بن عقبة فلا بيان فيهما . وأما قول زيد بن ثابت ، وأحد قولي يحيى بن سعيد ، وابن إسحاق ، وسفيان بن حسين ، والأوزاعي ، وأحمد ، فإنه يحتج له بما روينا من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر عن زيد بن ثابت { أن رسول الله ﷺ رخص ، لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها من التمر } . قال علي : ليس لهم في هذا الحديث حجة أصلا ، وإنما فيه أن صاحب الرطب هو الذي يبيعه بخرصه تمرا - ونحن هكذا نقول ، وجائز عندنا أن نبيع الرطب كذلك الذي هو له والنخل معا ، وجائز أن نبيعه أيضا كذلك من مالك الرطب وحده بهبة أو بشراء أو بميراث أو بإجازة أو بإصداق فهذا الخبر موافق لقولنا ولله الحمد ، وليس فيه إلا صفة البائع فقط ، وليس فيه من هو المشتري . وأما من ذهب مذهب عبد ربه بن سعيد فإنه يحتج له بما رويناه من طريق مسلم - أنا أبو بكر بن أبي شيبة أنا أبو أسامة عن الوليد بن كثير حدثني بشير بن يسار مولى بني حارثة : أن رافع بن خديج ، وسهل بن أبي حثمة حدثاه { أن رسول الله ﷺ نهى عن المزابنة الثمر بالتمر إلا أصحاب العرايا فإنه أذن لهم } . قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه ؛ لأنه ليس فيه بيان قولهم لا بنص ولا بإشارة ولا بدليل ، وإنما فيه : أن أصحاب العرايا أذن لهم في التمر بالتمر فقط ، وهكذا نقول - فبطل أن يكون لشيء من هذين القولين في شيء من هذين الخبرين حجة . ثم نظرنا في قول الشافعي فوجدناه دعوى بلا برهان ، وإنما ذكر فيه حديثا لا يدري أحد منشأه ولا مبدأه ولا طريقه ، ذكره أيضا بغير إسناد - فبطل أن يكون فيه حجة ، وحصل قوله دعوى بلا برهان - نعني تخصيصه أن الذين أبيح لهم ابتياع الرطب بخرصه تمرا إنما هم من لا شيء لهم يبتاعون به الرطب ليأكلوه فقط . ثم نظرنا في قول مالك فوجدنا قوله : إن العرية هي ثمر نخل تجعل لآخرين - وقوله : إن الذين جعلوه يسكنون بأهليهم في الحائط الذي فيه تلك النخل - وقوله : إن أصحاب النخل ينادون بدخول الذين جعل لهم تلك النخل أقوالا ثلاثة ؟ لا دليل على شيء منها ، لا في قرآن ، ولا في سنة ، ولا في رواية سقيمة ، ولا في قول صاحب ، ولا تابع ، ولا قياس ، ولا لغة ، ولا رأي له وجه ، وما نعلمه عن أحد قبله . ثم الشنعة والأعجوبة العظيمة قوله : إن ذلك لا يجوز إلا نسيئة إلى الجداد ، ولا يجوز نقدا أصلا - وهذا هو الربا المحرم جهارا ، ثم إلى أجل مجهول - ولا نعلم هذا عن أحد قبله ، وهو حرام مكشوف لا يحل أصلا ، وإنما حل ههنا الرطب بالتمر بالنص الوارد فيه فقط ، ووجدنا النسيئة فيما فيه الربا حراما بكل وجه ، فلما حل بيع التمر بالتمر ههنا لم يجز إلا يدا بيد ولا بد ؛ لأنه لا بيع إلا إما نقدا وإما نسيئة ، فالنسيئة حرام : لأنه ربا في كل ما يقع فيه الربا بلا خلاف - ولأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى - يعني اشتراط تأخيره فهو باطل فلم يبق إلا النقد فلم يجز غيره - وبالله تعالى التوفيق . ثم نظرنا في قول أبي حنيفة فوجدناه أبعد الأقوال ؛ لأنه خالف جميع الآثار كلها جهارا ، وأتى بدعوى لا دليل عليها ، ولا نعلم أحدا قال بها قبله . والخبر في استثناء جواز بيع الرطب بالتمر لأهل العرايا خاصة منقول نقل التواتر : رواه رافع ، وسهل ، وجابر ، وأبو هريرة ، وزيد ، وابن عمر في آخرين سواهم كل من سمينا هو عنهم في غاية الصحة - فخالفوا ذلك بآرائهم الفاسدة . والبرهان لصحة قولنا - : هو ما رويناه من طرق جمة كلها ترجع إلى مالك : أن داود بن الحصين حدثه عن أبي أحمد عن أبي هريرة { أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رخص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق } يشك داود . قال أبو محمد : فاليقين واقع فيما دون خمسة أوسق بلا شك ، فهو مخصوص فيما حرم من بيع التمر بالتمر ، ولا يجوز أن يباح متيقن الحرام بشك ، ولو أن رسول الله ﷺ أباح ذلك في خمسة أوسق لحفظه الله تعالى حتى يبلغ إلينا مبينا ، وتقوم به الحجة ، فلم يفعل الله تعالى ذلك ، فأيقنا أنه لم يبحه نبيه عليه السلام قط في خمسة أوسق ، لكن فيما دونها بيقين - وبالله تعالى التوفيق . فلا يجوز لأحد أن يبلغ ذلك في عام واحد في صفقة واحدة ، ولا في صفقات خمسة أوسق أصلا ، لا البائع ولا المشتري ؛ لأنه يخالف أمر رسول الله ﷺ . ومن طريق مسلم بن الحجاج أنا يحيى بن يحيى - هو النيسابوري - أنا سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد الأنصاري أخبرني نافع أنه سمع عبد الله بن عمر يحدث أن زيد بن ثابت حدثه { أن رسول الله ﷺ رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها رطبا } . ومن طريق مسلم أنا عبد الله بن مسلمة القعنبي أنا سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن بشير بن يسار عن بعض أصحاب رسول الله ﷺ من أهل دارهم منهم سهل بن أبي حثمة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم { أنه نهى عن بيع التمر بالتمر وقال : ذلك الربا تلك المزابنة ، إلا أنه رخص في بيع العرية والنخلة والنخلتين يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها رطبا } . قال أبو محمد : تحديد النبي ﷺ في حديث أبي هريرة { ما دون خمسة أوسق } يقضي على هذه الأحاديث ؛ لأنه إن كان في النخلتين خمسة أوسق لم يجز ، وإن كان في النخلات أقل من خمسة أوسق جاز ذلك فيها ؛ لأن تحديد الخمسة الأوسق زيادة حكم ، وزيادة حد ، وزيادة بيان ، ولا يجوز تركها - وبالله تعالى التوفيق .

محلى ابن حزم - المجلد الرابع/كتاب البيوع
كتاب البيوع (مسأله 1411 - 1414) | كتاب البيوع (مسأله 1415 - 1416) | كتاب البيوع (مسأله 1417) | كتاب البيوع (تتمة مسأله 1417) | كتاب البيوع (مسأله 1418 - 1420) | كتاب البيوع (مسأله 1421) | كتاب البيوع (مسأله 1422) | كتاب البيوع (مسأله 1423 - 1426) | كتاب البيوع (مسأله 1427 - 1428) | كتاب البيوع (مسأله 1429 - 1446) | كتاب البيوع (مسأله 1447) | كتاب البيوع (مسأله 1448 - 1460) | كتاب البيوع (مسأله 1461 - 1464) | كتاب البيوع (مسأله 1465 - 1466) | كتاب البيوع (مسأله 1467 - 1470) | كتاب البيوع (مسأله 1471 - 1474) | كتاب البيوع (مسأله 1475 - 1479) | كتاب البيوع (مسأله 1480) | كتاب البيوع (تتمة مسأله 1480) | كتاب البيوع (مسأله 1481 - 1484) | كتاب البيوع (مسأله 1485 - 1491) | كتاب البيوع (مسأله 1492 - 1500) | كتاب البيوع (مسأله 1501 - 1507) | كتاب البيوع (مسأله 1508 - 1511) | كتاب البيوع (مسأله 1512 - 1516) | كتاب البيوع (مسأله 1517 - 1538) | كتاب البيوع (مسأله 1539 - 1551) | كتاب البيوع (مسأله 1552 - 1556) | كتاب البيوع (مسأله 1557 - 1559) | كتاب البيوع (مسأله 1560 - 1565) | كتاب البيوع (مسأله 1566 - 1567) | كتاب البيوع (مسأله 1568 - 1582) | كتاب البيوع (مسأله 1583 - 1594)