→ كتاب البيوع (مسأله 1480) | ابن حزم - المحلى كتاب البيوع (تتمة مسأله 1480) المؤلف: ابن حزم |
كتاب البيوع (مسأله 1481 - 1484) ← |
كتاب البيوع
وقالت طائفة : علة الربا هي الكيل والوزن في جنس واحد أو جنسين فقط ، فإذا كان الصنف مكيلا بيع بنوعه كيلا بمثله يدا بيد ، ولم يحل فيه التفاضل ولا النسيئة - وجاز بيعه بنوع آخر من المكيلات متفاضلا يدا بيد ، ولا يجوز فيه النسيئة - وإذا كان موزونا جاز بيعه بنوعه وزنا بوزن نقدا ، ولا يجوز فيه التفاضل ولا النسيئة ، وجاز بيعه بنوع آخر من الموزونات متفاضلا يدا بيد ، ولا يجوز فيه النسيئة إلا في الذهب ، والفضة ، خاصة فإنه يجوز أن يباع بهما سائر الموزونات نسيئة . وجائز بيع المكيل بالموزون متفاضلا ومتماثلا نقدا ونسيئة ، كاللحم بالبر ، أو كالعسل بالتمر ، أو الزبيب بالشعير ، وهكذا في كل شيء - وهو قول أبي حنيفة وأصحابه . وقد رغب بعض المتأخرين منهم عن هذه العلة بسبب انتقاضها عليهم في الذهب والفضة بسائر الموزونات ، فلجأ إلى أن قال : علة الربا هي وجود الكيل ، أو الوزن فيما يتعين ، فما زادونا بهذا إلا جنونا وكذبا بدعواهم أن الدنانير ، والدراهم : لا تتعين ، وهذه مكابرة العيان . وأيضا : فإن علة الذهب والفضة عندهم تتعين ، وهم يجيزون تسليمه فيما يوزن ، فلم ينتفعوا بهذه الزيادة السخيفة في إزالة تناقضهم . ثم أتوا بتخاليط تشبه ما يأتي به من بغى لفساد عقله ، قد تقصيناها في هذا المكان ، إلا أن منها مخالفتهم السنة المتفق عليها من كل من يرى الربا في غير النسيئة ، فأجازوا التمرة بالتمرتين يدا بيد ، ويلزمهم أن يجيزوا تسليم ثلاث حبات من قمح في حبتين من تمر ، وهذا خروج عن الإجماع المتيقن . قال أبو محمد : واحتجوا لقولهم هذا بما رويناه من طريق مسلم أنا ابن قعنب عن سليمان - يعني ابن بلال - عن عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع سعيد بن المسيب يحدث أن أبا هريرة ، وأبا سعيد حدثاه { أن رسول الله ﷺ بعث أخا بني عدي الأنصاري فاستعمله على خيبر فقدم بتمر جنيب ، فقال له رسول الله ﷺ : أكل تمر خيبر هكذا ؟ قال : لا ، والله يا رسول الله إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع فقال رسول الله ﷺ : لا تفعلوا ، ولكن مثلا بمثل ، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا ، وكذلك الميزان } فاحتجوا بهذه اللفظة ، وهي قول " وكذلك الميزان " . ومن طريق عبد الرزاق أنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي سعيد قال : { دخل رسول الله ﷺ على بعض أهله فوجد عندهم تمرا أجود من تمرهم فقال : من أين هذا ؟ فقالوا : أبدلنا صاعين بصاع فقال رسول الله ﷺ لا يصلح صاعين بصاع ولا درهمين بدرهم } . ومن طريق ابن أبي شيبة أنا ابن أبي زائدة عن محمد بن عمرو بن علقمة الليثي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد عن رسول الله ﷺ أنه قال : { لا يصلح درهم بدرهمين ولا صاع بصاعين } وهذان خبران صحيحان إلا أنه لا حجة لهم فيهما ، على ما نبين ، إن شاء الله تعالى . وبما رويناه من طريق وكيع أنا أبو جناب عن أبيه عن ابن عمر قال { قال رسول الله ﷺ - عند هذه السارية وهي يومئذ جذع نخلة - : لا تبيعوا الدينار بالدينارين ، ولا الدرهم بالدرهمين ، ولا الصاع بالصاعين ، إني أخاف عليكم الرماء - والرماء الربا - زاد بعضهم : فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله الرجل يبيع الفرس بالأفراس والنجيب بالإبل ، قال : لا بأس إذا كان يدا بيد } . وبما حدثناه أحمد بن محمد الطلمنكي أنا ابن مفرج أنا إبراهيم بن أحمد بن فراس أنا أحمد بن محمد بن سالم النيسابوري أنا إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه - أنا روح أنا { حيان بن عبيد الله - وكان رجل صدق - قال سألت أبا مجلز عن الصرف ؟ فقال : يدا بيد ، كان ابن عباس لا يرى به بأسا ما كان منه يدا بيد ، فأتاه أبو سعيد فقال له : ألا تتقي الله ، حتى متى يأكل الناس الربا ؟ أوما بلغك أن رسول الله ﷺ قال : التمر بالتمر ، والحنطة بالحنطة ، والشعير بالشعير ، والذهب بالذهب ، والفضة بالفضة يدا بيد ، عينا بعين ، مثلا بمثل ، فما زاد فهو ربا ؟ ثم قال : وكذلك ما يكال ويوزن أيضا } ؟ فقال ابن عباس لأبي سعيد : جزاك الله الجنة ، ذكرتني أمرا قد كنت أنسيته ، فأنا أستغفر الله وأتوب إليه - فكان ينهى عنه بعد ذلك - . وهذا كل ما احتجوا به ، ولا حجة لهم في شيء منه . أما حديث ابن أبي زائدة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي سعيد فإنه رواه عن محمد بن عمرو من هو أحفظ من ابن أبي زائدة وأوثق ، فزاد فيه بيانا - : كما حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي أنا ابن مفرج أنا إبراهيم بن أحمد بن فراس أنا أحمد بن محمد بن سالم النيسابوري أنا إسحاق بن راهويه أنا الفضيل بن موسى ، والنضر بن شميل ، قالا جميعا : أنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري قال { كان رسول الله ﷺ يرزقنا تمرا من تمر الجمع ، فنستبدل تمرا أطيب منه ونزيد في السعر ، فقال رسول الله ﷺ : لا يصلح هذا لا يصلح صاعين بصاع ، ولا درهمان بدرهم ، ولا الدينار بدينارين ، ولا الدرهم بالدرهم لا فضل بينهما إلا ربا } . قال أبو محمد : فقوله عليه السلام : { لا يصلح ، هذا لا يصلح صاعين بصاع } إشارة إلى التمر المذكور في الخبر ، لا يمكن غير ذلك أصلا ، بدأ عليه السلام فقال : " لا يصلح " مشيرا إلى فعلهم ، ثم ابتدأ الكلام فقال : " هذا لا يصلح صاعين بصاع " ف " هذا ، ابتداء ، و " لا يصلح صاعين بصاع " جملة في موضع خبر الابتداء وانتصب " صاعين بصاع " على التمييز ، ولا يجوز غير ذلك أصلا ؛ لأنه لو قال عليه السلام : لا يصلح هذا ، ثم ابتدأ الكلام بقوله : لا يصلح صاعين بصاع ، دون أن يكون في يصلح الثانية ضمير راجع إلى مذكور ، أو مشار إليه لكان لحنا لا يجوز ألبتة . ومن الباطل المقطوع به أن يكون عليه السلام يلحن ، ولا يحل إحالة لفظ الخبر ما دام يوجد له وجه صحيح - فبطل تعلقهم بهذا الخبر . ولله تعالى الحمد . وأما حديث سعيد بن المسيب عن أبي سعيد ، وأبي هريرة ، الذي فيه { وكذلك الميزان } فإنهم جسروا ههنا على الكذب البحت على رسول الله ﷺ إذ قطعوا بأنه عليه السلام أراد أن يقول : لا يحل التفاضل في كل جنس من الموزونات بجنسه ، ولا النسيئة ، فاقتصر من هذا كله على أن قال " وكذلك الميزان " . قال أبو محمد : إنما بعث رسول الله ﷺ بالبيان ، وأما بالإشكال في الدين ، والتلبس في الشريعة : فمعاذ الله من هذا ، وليس في التلبيس ، والإشكال : أكثر من أن يريد رسول الله ﷺ أن يحرم كل جنس مما يكال بشيء من جنسه متفاضلا أو نسيئة ، وكل جنس مما يوزن بشيء من جنسه متفاضلا أو نسيئة ، فيقتصر من بيان ذلك علينا ، وتفصيله لنا ، على أن يقول في التمر الذي اشتري بتمر أكثر منه : لا تفعلوا ، ولكن مثلا بمثل ، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا ، وكذلك الميزان . وما خلق الله قط أحدا يفهم تلك الصنفين من هذا الكلام ، ولا ركب الله تعالى قط هذا الكلام على تلك الخرافتين . ولو أن إنسانا من الناس أراد تلك الشريعتين اللتين احتجوا لهما بهذا الكلام ، فعبر عنهما بهذا الكلام ، لسخر منه ، ولما عده من يسمعه إلا ألكن اللسان ، أو ماجنا من المجان ، أو سخيفا من النوكى . أفلا يستحيون من هذه الفضائح الموبقة عند الله تعالى ، المخزية في العاجل ، ولكنا نقول قولا نتقرب به إلى الله تعالى ، ويشهد لصحته كل ذي فهم من مخالف ومؤالف - وهو أن قول رسول الله ﷺ : { وكذلك الميزان } قول مجمل ، مثل قول الله تعالى : { أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } نؤمن بكل ذلك ، ونطلب بيانه من نصوص أخر ، ولا نقدم بالظن الكاذب ، والدعوى الآفكة على أن نقول : أراد الله تعالى كذا وكذا ، وأراد رسوله عليه السلام معنى كذا - : لا يقتضيه ذلك اللفظ بموضوعه في اللغة ، فطلبنا ذلك - : فوجدنا حديث عبادة بن الصامت ، وأبي بكرة ، وأبي هريرة ، قد بين فيها مراده عليه السلام بقوله ههنا : " وكذلك الميزان " وهو تفسيره عليه السلام هنالك : أنه لا يحل الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن ، ولا الفضة بالفضة إلا وزنا بوزن - فقطعنا : أن هذا هو مراد رسول الله ﷺ بقوله : " وكذلك الميزان " . وشهدنا بشهادة الله تعالى : أنه عليه السلام لو أراد غير هذا لبينه ووضحه حتى يفهمه أهل الإسلام ولم يكلنا إلى ظن أبي حنيفة ورأيه ، الذي لا رأي أسقط منه ، ولا إلى كهانة أصحابه الغثة التي حلوانهم عليها الخزية فقط ، قال تعالى : { لتبين للناس ما نزل إليهم } ، { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } فسقط تمويههم بهذا الخبر - ولله تعالى الحمد . والعجب كل العجب من قولهم في البين الواضح من نهي رسول الله ﷺ عن الرطب بالتمر : أنه إنما أراد التي في رءوس النخل - وليس هذا في شيء من الأخبار ؛ لأن ذلك خبر وهذا آخر . ويأتون إلى مجمل لا يفهم أحد منه إلا ما فسره عليه السلام في مكان آخر ، فيزيدون فيه ويفسرونه بالباطل ، وبما لا يقتضيه لفظه عليه السلام أصلا . وأما حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة : لا يصلح صاعين بصاع ، فإنهم قالوا : هذا عموم لكل مكيل . قال أبو محمد : وهذا خبر اختصره معمر عن يحيى بن أبي كثير ، أو وهم فيه بيقين لا إشكال فيه ، فرواه ابن أبي زائدة عن محمد بن عمرو ، أو وهم فيه على ما ذكرنا قبل ؛ لأن هذا خبر رواه عن يحيى بن أبي كثير بإسناده : الأوزاعي ، وهشام الدستوائي ، وشيبان بن فروخ - وليس هشام ، والأوزاعي ، دون معمر ، إن لم يكن هشام أحفظ منه . فرويناه من طريق مسلم حدثني إسحاق بن منصور أنا عبيد الله بن موسى عن شيبان - ومن طريق أحمد بن شعيب أنا هشام بن أبي عمار عن يحيى بن حمزة أنا الأوزاعي - وحدثنا حمام أنا عباس بن أصبغ أنا محمد بن عبد الملك بن أيمن أنا بكر بن حماد أنا مسدد أنا بشر بن المفضل أنا هشام - هو الدستوائي - كلهم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي سعيد الخدري " أن رسول الله ﷺ قال : { لا صاعي تمر بصاع ، ولا صاعي حنطة بصاع ، ولا درهمين بدرهم } . قال الأوزاعي في روايته عن يحيى بن أبي كثير : حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن حدثني أبو سعيد الخدري - وهذا هو خبر محمد بن عمرو نفسه . قال أبو محمد : فأسقط معمر ذكر التمر ، والحنطة . ومن البيان الواضح على خطأ معمر الذي لا شك فيه : إيراده اللحن عن رسول الله ﷺ في هذا الخبر بقوله : لا يصلح صاعين بصاع - ووالله ما قاله رسول الله ﷺ قط ، إلا أن يشير إلى شيء ، فيكون ضميره في " لا يصلح " لا سيما والأوزاعي يذكر سماع يحيى بن أبي كثير من أبي سلمة ، وسماع أبي سلمة من أبي سعيد ، لم يذكر ذلك معمر - وهذا لا يكدح عندنا شيئا ، إلا إذا كان خبرا واحدا اختلف فيه الرواة ، فإن رواية الذي ذكر السماع أولى ، لا سيما ممن ذكر بتدليس . ثم لو صح لهم لفظ ابن أبي زائدة ، ومعمر ، بلا زيادة من غيرهما ، ولا بيان من سواهما ، لما كان لهم فيه حجة لوجهين - : أحدهما - أنه ليس فيه ذكر جنس واحد ، ولا جنسين أصلا ، وهم يجيزون صاعي حنطة بصاع تمر ، وبكل ما ليسا من جنس واحد - وهذا خلاف عموم الخبر . فإن قالوا : فسر هذا أخبار أخر ؟ قلنا : وكذلك فسرت أخبار أخر ما أجمله معمر . والوجه الثاني - أن يقول هذا في القرض لا في البيع ، نعم ، لا يجوز في القرض صاعان بصاع في شيء من الأشياء كلها ، وأما البيع فلا ، لأن الله تعالى يقول : { وأحل الله البيع } . فإن ادعوا إجماعا كذبوا ؛ لأنهم يجيزون صاعي شعير بصاع بر ، والناس لا يجيزونه كلهم ، بل يختلفون في إجازته . وصاعي حمص بصاع لبياء ، ولا إجماع ههنا ، فمالك لا يجيزه . فإن قالوا : قد قال رسول الله ﷺ : { فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم } ؟ قلنا : صح أنه عليه السلام قال : { فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد } فإنما قال رسول الله ﷺ في الأصناف التي سمى في الحديث الذي ذكر هذا اللفظ في آخره - ولا يحل أن ينسب إليه عليه السلام قول بظن كاذب . ويكفي من هذا أنهم مجمعون معنا على لفظة " لا صاعين بصاع " ليست على عمومها ، فقالوا هم : في كل مكيل من جنس واحد ، وقلنا نحن : هو في الأصناف المنصوص عليها ، فدعوى كدعوى . وبرهاننا نحن - : صحة النص على قولنا ، وبقي قولهم بلا برهان فبطل تعلقهم بهذا الخبر - ولله تعالى الحمد . وأما حديث ابن عمر فساقط ؛ لأنه عن أبي جناب - وهو يحيى بن أبي حية الكلبي - ترك الرواية عنه يحيى القطان ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وضعف ، وذكر بتدليس ، ثم هو عن أبيه وهو مجهول جملة - فبطل التعلق به - ثم لو صح لكان القول فيه كالقول في غيره مما ذكرنا آنفا مما خالفوا فيه عمومه . وأما حديث أبي سعيد الخدري الذي أوردنا من طريق حيان بن عبيد الله عن أبي مجلز ، فلا حجة فيه ؛ لأنه منقطع كما أوردنا ، لم يسمعه ، لا من أبي سعيد ، ولا من ابن عباس ، وذكر فيه : أن ابن عباس تاب ورجع عن القول بذلك - وهذا الباطل وقول من بلغه خبر لم يشهده ولا أخذه عن ثقة . وقد روى رجوع ابن عباس : أبو الجوزاء - رواه عنه سليمان بن علي الربعي - وهو مجهول لا يدرى من هو - وروى عنه أبو الصهباء أنه كرهه . وروى عنه طاوس ما يدل على التوقف . وروى الثقة المختص به خلاف هذا - : كما حدثنا حمام أنا عباس بن أصبغ أنا محمد بن عبد الملك بن أيمن أنا عبد الله بن أحمد بن حنبل أنا أبي هاشم أنا أبو بشر - هو جعفر بن أبي وحشية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : ما كان الربا قط في هاء وهات . وحلف سعيد بن جبير : بالله ما رجع عنه حتى مات . ثم هو أيضا من رواية حيان بن عبيد الله - وهو مجهول - ثم لو انسند حديث أبي مجلز المذكور لما كانت لهم فيه حجة ؛ لأن اللفظ الذي تعلقوا به من " وكذلك ما يكال ويوزن " ليس من كلام رسول الله ﷺ وإنما هو من كلام أبي سعيد لو صح . وهو أيضا عنه منقطع ؛ لأن هذا خبر رواه : نافع ، وأبو صالح السمان ، وأبو المتوكل الناجي ، وسعيد بن المسيب ، وعقبة بن عبد الغافر ، وأبو نضرة ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وسعيد الجريري ، وعطاء بن أبي رباح ، كلهم عن أبي سعيد الخدري ، وكلهم ذكروا أنهم سمعوه منه ، وكلهم متصل الأسانيد بالثقات المعروفين إليهم ، ليس منهم أحد ذكر هذا اللفظ فيه ، وهو بين في الحديث المذكور نفسه ؛ لأنه لما تم كلام رسول الله ﷺ قال أبو مجلز : ثم قال فابتدأ الكلام المذكور من ذكر " وكذلك كل ما يكال ويوزن " مفصولا عن كلام رسول الله ﷺ وما يبعد أن يكون من كلام أبي مجلز - وهو الأظهر - فبطل من كل جهة ، ولا يحل أن ينسب إلى رسول الله ﷺ كلام بالظن الكاذب . قال أبو محمد ثم العجب كله من احتجاجهم فيما ليس فيه منه نص ولا دليل ولا أثر ، وخلافهم ليقين ما فيه منسوبا مبينا أنه قول رسول الله ﷺ . وقد صح من غير هذا الخبر أنه من كلام رسول الله ﷺ { التمر بالتمر ، والحنطة بالحنطة ، والشعير بالشعير ، والذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، يدا بيد ، عينا بعين } . فقالوا هم جهارا : نعم ، ويجوز غير عين بغير عين ، ويجوز عين بغير عين ، نعم ، يجوز تمرة بتمرتين وبأكثر ، فهل بعد هذه الفضائح فضائح ؟ أو يبقى مع هذا دين أو حياء من عار أو خوف نار - نعوذ بالله من الضلال والدمار . قال أبو محمد : ومما يبين غاية البيان : أن هذا اللفظ - نعني وكذلك ما يكال ويوزن - ليس من كلام النبي ﷺ قطعا ببرهان واضح - وهو أيضا مبطل لعلتهم بالوزن ، والكيل ، من طريق ضرورة الحس ، وبديهة العقل ، وصادق النظر ، فإن من الباطل البحت أن يكون عليه السلام يجعل علة الحرام في الربا : الوزن ، والكيل ، والتفاضل فيه ، وباعثه عز وجل يعلم ، وهو عليه السلام يدري ، وكل ذي عقل يعرف : أن حكم المبيعات يختلف في البلاد أشد اختلاف ، فما يوزن في بلدة يكال في أخرى : كالعسل ، والزيت والدقيق ، والسمن ، يباع الزيت والعسل ببغداد والكوفة وزنا ، ولا يباع شيء منها بالأندلس إلا كيلا . ويباع السمن والدقيق في بعض البلاد كيلا ، ولا يباع عندنا إلا وزنا ، والتين يباع برية كيلا ، ولا يباع بإشبيلية وقرطبة إلا وزنا ، وكذلك سائر الأشياء . ولا سبل إلى أن يعرف كيف كان يباع ذلك على عهد رسول الله ﷺ أصلا ، فحصل الربا لا يدرى ما هو حتى يجتنب ؟ ولا ما ليس هو فيستعمل وصار الحرام والحلال في دين الله تعالى أمشاجا مختلطين لا يعرف هذا من هذا أبدا . وحصلت الأنواع المبيعة كلها التي يدخلون فيها الربا لا يدرون كيف يدخل الربا فيها ؟ ولا كيف يسلم منه ؟ نبرأ إلى الله تعالى من دين هذه صفته ، هيهات أين هذا القول الكاذب ؟ من قول الله تعالى الصادق { : اليوم أكملت لكم دينكم } ومن قول رسول الله ﷺ { اللهم هل بلغت ؟ قالوا : اللهم نعم ، قال : اللهم اشهد } . فإن رجعوا إلى أن يجعلوا لأهل كل بلد عادته حصل الدين لعبا إذا شاء أهل بلد أن يستحلوا الحرام ردوا كل ما كانوا يبيعونه بكيل إلى الوزن ، وما كانوا يبيعونه بوزن إلى كيل فحل لهم باختيارهم ما كان حراما أمس من التفاضل بين الكيلين ، أو بين الوزنين ما شاء الله كان ، وهذا بعينه أيضا يدخل على المالكيين ، والشافعيين ؛ لأنهم إذا أدخلوا الربا في المأكول كله ، أو في المدخر المقتات : سألناهم عن الأصناف المبيعة من ذلك ، وليست صنفا ، ولا صنفين ، بل هي عشرات كثيرة : بأي شيء يوجبون فيها التماثل ، أبالكيل أم بالوزن ؟ فأيا ما قالوا صاروا متحكمين بالباطل ، ولم يكونوا أولى من آخر يقول بالوزن فيما قالوا هم فيه بالكيل ، أو بالكيل فيما قالوا هم فيه بالوزن ، فأين المخلص ؟ أم كيف يبيع الناس ما أحل لهم من البيع ؟ أم كيف يجتنبون ما حرم عليهم من الربا ؟ وهذا من الخطأ الذي لا يحل على من يسره الله تعالى لنصيحة نفسه . وذكروا في ذلك عمن تقدم ما روينا من طريق ابن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه سمعت عمرو بن شعيب قال : كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري : أن لا يباع الصاع بالصاعين إذا كان مثله وإن كان يدا بيد ، فإن اختلف فلا بأس ، وإذا اختلف في الدين فلا يصلح - وكل شيء يوزن مثل ذلك كهيئة المكيال .
ومن طريق يحيى بن سعيد القطان أنا صدقة بن المثنى أنا جدي - هو رباح بن الحارث أن عمار بن ياسر قال في المسجد الأكبر : العبد خير من العبدين والأمة خير من الأمتين ، والبعير خير من البعيرين ، والثوب خير من الثوبين ، فما كان يدا بيد فلا بأس به ، إنما الربا في النساء إلا ما كيل أو وزن . قال أبو محمد : وزاد بعضهم في هذا الخبر : فلا يباع صنف منه بالصنف الآخر إلا مثلا بمثل - ومن طريق ابن أبي شيبة أنا عبد الأعلى عن معمر عن الزهري عن سالم أن ابن عمر كان لا يرى بأسا فيما يكال يدا بيد واحدا باثنين إذا اختلفت ألوانه . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن حماد بن أبي سليمان عن النخعي وعن رجل عن الحسن ، قالا جميعا : سلف ما يكال فيما يوزن ولا يكال ، وسلف ما يوزن ولا يكال فيما يكال ولا يوزن . ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن موسى بن أبي عائشة عن إبراهيم النخعي قال : ما كان من بيع يكال مثلا بمثل ، فإذا اختلفت فزد وازدد يدا بيد ، وإن كان شيئا واحدا يوزن فمثلا بمثل ، فإذا اختلف فزد وازدد يدا بيد . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال : كل شيء يوزن فهو يجري مجرى الذهب والفضة ، وكل شيء يكال فهو يجري مجرى البر والشعير . فأما الرواية عن معمر فمنقطعة ، وعن الحسن كذلك . وأما قول عمار : فغير موافق لقولهم ، لكنهم موهوا به ؛ لأنه لا يخلو قوله : إلا ما كيل أو وزن من أن يكون استثناه من النساء الذي هو ربا ، أو يكون استثناه مما قال : إنه لا بأس به ما كان يدا بيد ، ولا سبيل إلى وجه ثالث ، فإن كان استثناه من النساء الذي هو ربا ، فهو ضد مذهبهم عينا ، وموجب أنه لا ربا إلا فيما يكال أو يوزن في النسيئة ، فإن كان استثناه مما لا بأس به يدا بيد ، فهو أيضا ضد مذهبهم وموجب : أنه لا يجوز ما كيل بما وزن يدا بيد . وأما الزيادة التي زادوها فلا يباع صنف منه بالصنف الآخر إلا مثلا بمثل فهو ضد مذهبهم عيانا بكل حال . وأما قول ابن عمر فصحيح عنه ، وقد صح عنه خلافه كما ذكرنا في ذكرنا قول الشافعي ، فليس أحد قوليه بأولى من الآخر ، مع أنه ليس فيه كراهية التفاضل فيما يكال ، ولا يوافقه سائر أقوالهم ، وما وجدنا قولهم يصح عن أحد قبلهم إلا عن النخعي ، والزهري فقط - فبطل كل ما موهوا به من الآثار . فإن قالوا : لم ينص عليه السلام إلا على مكيل ، وموزون ؟ قلنا : ما الفرق بين هذا وبين من قال : لم ينص عليه السلام إلا على مأكول أو ثمن - أو من قال : لم ينص عليه السلام إلا على مقتات مدخر ، ومعدني ؟ وما يصلح به الطعام . أو من قال : لم ينص عليه السلام إلا على ما يزكى وعلى مالح الطعم فقط - أو من قال : لم ينص عليه السلام إلا على نبات ، ومعدني ، وجامد ؟ فأدخل الربا في كل ما ينبت كالصبر وغير ذلك ، وأسقطه عن اللبن وما يتصرف منه ، وعن العسل ، واللحم ، والسمك ، فليس بعض هذه الدعاوى أولى من بعض . وكل هذا إذا تعدى به ما ورد فيه النص فهو تعد لحدود الله تعالى ، وما عجز رسول الله ﷺ قط عن أن يبين لنا مراده ، وحاش له أن يكلنا في أصعب الأشياء من الربا المتوعد فيه بنار جهنم في الآخرة والحرب به في الدنيا إلى هذه الكهانات الكاذبة ، والظنون الآفكة ، ظلمات بعضها فوق بعض - ونحمد الله على السلامة . وعهدنا بهم يقولون : نحن على يقين من وجوب قطع اليد في عشرة دراهم ؛ وغير موقنين بوجوب قطعها في أقل ، ونحن موقنون بتحريم عصير العنب إذا أسكر ولم نوقن بتحريم ما عداه - ونحن موقنون بالقصر في ثلاث ولا نوقن به في أقل ، فلا نقول بشيء من ذلك حيث لا نوقنه . فهلا قالوا ههنا : نحن موقنون بالربا في الأصناف المنصوص عليها ، ولسنا على يقين منه في غيرها ، فلا نقول به حيث لا يقين معنا فيه ؟ ولو فعلوا هذا ههنا وتركوا هنالك لوفقوا لأنهم كانوا يتبعون السنن - وبالله تعالى التوفيق - ثم لم يلبثوا أن نقضوا علتهم أقبح نقض ، فأجازوا تسليف الذهب ، والفضة فيما يكال ، وما يوزن . وأجازوا بيع آنية نحاس بآنية نحاس أو وزن منها ، ولم يجيزوا ذلك في آنية الذهب ، والفضة ، وكل ذلك سواء عندهم في دخول الربا فيه . ثم أجازوا بيع قمح بعينه بقمح بغير عينه ، أو تمر بعينه بتمر بغير عينه أو شعير بعينه بشعير بغير عينه ، فيقبض الذي بغير عينه ثم يفترقان قبل قبض الذي بعينه - وحرموا ذلك في ذهب بعينه بذهب بغير عينه ، وفي فضة بعينها بفضة بغير عينها ، ولا فرق بين شيء من ذلك ، لا في نص ، ولا في معقول ، فأباحوا الربا جهارا - ونعوذ بالله من الخذلان - فبطلت علة هؤلاء ، وبطل قولهم يقينا .