→ كتاب البيوع (مسأله 1421) | ابن حزم - المحلى كتاب البيوع (مسأله 1422) المؤلف: ابن حزم |
كتاب البيوع (مسأله 1423 - 1426) ← |
كتاب البيوع
1422 - مسألة : وكل بيع صح وتم فهلك المبيع إثر تمام البيع فمصيبته من المبتاع ولا رجوع له على البائع . وكذلك كل ما عرض فيه من بيع أو نقص سواء في كل ذلك كان المبيع غائبا أو حاضرا ، أو كان عبدا أو أمة فجن أو برص أو جذم إثر تمام البيع فما بعد ذلك ، أو كان ثمرا قد حل بيعه ، فأجيح كله أو أكثره أو أقله ، فكل ذلك من المبتاع ولا رجوع له على البائع بشيء - وهو قول أبي سليمان ، والشافعي ، وأصحابهما . وقال أبو حنيفة : على البائع تسليم ما باع ، فإن هلك قبل أن يسلمه فمصيبته من البائع - وقال مالك بقولنا ، إلا في الرقيق والثمار خاصة ، فإنه قال : ما أصاب الرقيق في ثلاثة أيام بعد بيع الرأس من إباق ، أو عيب ، أو موت ، أو غير ذلك ، فمن مصيبة البائع ، فإذا انقضت برئ البائع ، إلا من الجنون ، والجذام ، والبرص : فإن هذه الأدواء الثلاثة إن أصاب شيء منها الرأس المبيع قبل انقضاء عام من حين ابتياعه كان له الرد بذلك . قال : ولا يقضي بذلك إلا في البلاد التي جرت عادة أهلها بالحكم بذلك فيها - وأما البلاد التي لم تجر عادة أهلها بالحكم بذلك فيها : فلا حكم عليهم بذلك . قال : ومن باع بالبراءة بطل عنه حكم العهدة ، وأسقطها جملة فيما باعه السلطان لغريم ، أو من مال يتيم - وأجاز النقد في عهدة السنة ، ولم يجزه في عهدة الثلاث . وأما الثمار فمن باع ثمرة كانت بعد أن يحل بيعها والمقاثي ، فإذا أجيح من ذلك الثلث فصاعدا رجع بذلك على البائع ، فإن أجيح ما دون الثلث - بما قل أو كثر - فهو من مصيبة المشتري ولا رجوع له على البائع . قال : فإن كان بقلا فأصابته جائحة - قلت أو كثرت - فإنه يرجع بذلك على البائع - واختلف قوله في الموز ، فمرة قال : هو بمنزلة الثمار في مراعاة الثلث ، ومرة قال : هو بمنزلة البقل في الرجوع بقليل الجائحة وكثيرها . ومرة قال : لا يرجع بجائحة أصابته كله أو أكثره أو أقله . قال أبو محمد : أما إيجاب التسليم فما نعلم فيه للحنفيين حجة أصلا ، لا من قرآن ، ولا من سنة ، ولا رواية ضعيفة ، ولا قول صاحب ، ولا قياس ، ولا رأي سديد ، وإنما على البائع أن لا يحول بين المشتري وبين قبض ما باع منه فقط ، فإن فعل صار عاصيا وضمن ضمان الغصب فقط ، ولا يحل أن يلزم أحد حكما لم يأت به قرآن ، ولا سنة ، قال تعالى : { شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } فسقط هذا القول . وأما قول مالك في الرقيق : فإن مقلديه يحتجون له بما رويناه من طريق أبي داود نا مسلم بن إبراهيم نا أبان - هو ابن يزيد العطار - عن قتادة عن الحسن البصري عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله ﷺ قال : { عهدة الرقيق ثلاثة أيام } . ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا عبدة ، ومحمد بن بشر عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله ﷺ { عهدة الرقيق ثلاث } . وقالوا : إنما قضى بعهدة الثلاث لأجل حمى الربع ؛ لأنها لا تظهر في أقل من ثلاثة أيام . وذكروا ما رويناه من طريق مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه سمع أبان بن عثمان بن عفان ، وهشام بن إسماعيل بن هشام يذكران في خطبتهما عهدة الرقيق في الأيام الثلاثة من حين يشتري العبد أو الوليدة وعهدة السنة ، ويأمران بذلك . ومن طريق ابن وهب عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال : قضى عمر بن عبد العزيز في عبد اشتري فمات في الثلاثة الأيام فجعله عمر من الذي باعه . قال ابن وهب : وحدثني يونس عن ابن شهاب ، قال : القضاة منذ أدركنا يقضون في الجنون والجذام ، والبرص : سنة . قال ابن شهاب : وسمعت سعيد بن المسيب يقول : العدة من كل داء عضال نحو الجنون ، والجذام ، والبرص : سنة . قال ابن وهب : وأخبرني ابن سمعان ، قال : سمعت رجالا من علمائنا منهم يحيى بن سعيد الأنصاري يقولون : لم تزل الولاة بالمدينة في الزمان الأول يقضون في الرقيق بعهدة السنة من الجنون والجذام ، والبرص إن ظهر بالمملوك شيء في ذلك قبل أن يحول الحول عليه فهو رد إلى البائع ، ويقضون في عهدة الرقيق بثلاث ليال فإن حدث في الرأس في تلك الثلاث حدث - من موت أو سقم - فهو من الأول ، وإنما كانت عهدة الثلاث من الربع ، ولا يستبين الربع إلا في ثلاث ليال . هذا كل ما شغبوا به ، وما نعلم لهم في ذلك شيئا غير ما أوردنا ، وكله لا حجة لهم في شيء منه - : أما الحديثان فساقطان ؛ لأن الحسن لم يسمع من عقبة بن عامر شيئا قط ، ولا سمع من سمرة إلا حديث العقبة فصارا منقطعين ، ولا حجة في منقطع . وقد رويناهما بغير اللفظ ، لكن كما روينا من طريق ابن وهب أخبرني مسلمة بن علي عمن حدثه عن عقبة بن عامر الجهني قال : قال رسول الله ﷺ : { عهدة الرقيق أربعة أيام وثلاثة } . ومن طريق قاسم بن أصبغ نا محمد بن الجهم نا عبد الوهاب - هو ابن عطاء الخفاف - نا هشام عن قتادة عن الحسن عن عقبة بن عامر قال : عهدة الرقيق أربع ليال . ومن طريق حماد بن سلمة عن زياد الأعلم عن الحسن أن رسول الله ﷺ قال : { لا عهدة إلا بعد أربعة أيام } . قال أبو محمد : وهذا مما نقضوا فيه أصولهم فإن الحنفيين يقولون : المنقطع ، والمتصل : سواء ، وقد تركوا ههنا هذه الأخبار ، وما عابوها إلا بالانقطاع فقط . والمالكيون تركوا ههنا الأخذ بالزيادة ، فهلا جعلوا العهدة أربع ليال بالآثار التي أوردنا ؟ فظهر تناقضهم وأنهم لا يثبتون على أصل . قال علي : وأما نحن فنقول : إن الله تعالى افترض على رسوله ﷺ أن يبين لنا ما نزل إلينا وما ألزمنا إياه ، ولم يجعل علينا في الدين من حرج ، وقول القائل " عهدة الرقيق ثلاث " كلام لا يفهم ، ولا تدري " العهدة " ما هي في لغة العرب ، وما فهم قط أحد من قول قائل " عهدة الرقيق ثلاثة أيام " أن معناه ما أصاب الرقيق المبيع في ثلاثة أيام ، فمن مصيبة البائع ، ولا يعقل أحد هذا الحكم من هذا اللفظ - فصح يقينا أن رسول الله ﷺ لم يقله قط ، ولو قاله لبين علينا ما أراد به . ولا يفرح الحنفيون بهذا الاعتراض فإنه إنما يسوغ ويصح على أصولنا لا على أصولهم ؛ لأن الحنفيين إذ رزقهم الله تعالى عقولا كهنوا بها ما معنى الكذب المضاف إلى رسول الله ﷺ أنه نهى عن " البتيراء " حتى فهموا أن البتيراء : هي أن يوتر المرء بركعة واحدة لا بثلاث ، على أن هذا لا يفهمه إنسي ولا جني من لفظة " البتيراء " ولم يبالوا بالتزيد من الكذب على رسول الله ﷺ في الإخبار عنه بما لم يخبر به عن نفسه ، فما المانع لهم من أن يكهنوا أيضا ههنا معنى العهدة ؟ فما بين الأمرين فرق . وأما نحن فلا نأخذ ببيان شيء من الدين إلا من بيان النبي ﷺ فقط ، فهو الذي تقوم به حجة الواقف غدا بين يدي الله تعالى لا بما سواه . وأما المالكيون فهم أصحاب قياس بزعمهم ، وقد جاء الحكم من رسول الله ﷺ بالشفعة في البيع ، فقاسوا عليه الشفعة في الصداق بآرائهم . وجاء النص بتحديد المنع من القطع في سرقة أقل من ربع دينار فقاسوا عليه الصداق ولم يقيسوا عليه الغصب وهو أشبه بالسرقة من النكاح عند كل ذي مسكة عقل . وقد جاء النص بالربا في الأصناف الستة فقاسوا عليها : الكمون ، واللوز ، فهلا قاسوا ههنا على خبر " العهدة " في الرقيق سائر الحيوان ؟ ولكن لا النصوص يلتزمون ولا القياس يحسنون ؟ ومن طرائفهم ههنا : أنهم قاسوا من أصدق امرأته عبدا أو ثمرة بعد أن بدا صلاحها فمات العبد أو أبق أو أصابه عيب قبل انقضاء ثلاثة أيام ، وأجيحت الثمرة بأكثر من الثلث ؟ فللمرأة القيام بالجائحة ، ولا قيام لها في العبد بعهدة الثلاث - فكان " هذا طريفا جدا . وكلا الأمرين تعلقوا فيه بخبر وعمل ولا فرق ؟ وأما احتجاجهم بأن " عهدة الثلاث " إنما جعلت من أجل حمى الربع ، فلا يخلو من أن تكون هذه العلة مخرجة من عند أنفسهم ، أو مضافة إلى رسول الله ﷺ لا بد من أحدهما ، فإن أضافوها إلى رسول الله ﷺ كان ذلك كذبا بحتا موجبا للنار ، وإن كانوا أخرجوها من عند أنفسهم ؟ قلنا لهم : فلم تعديتم بالحكم بذلك إلى الإباق ، والموت ، وسائر العيوب التي يقرون بأنها حادثة بلا شك ، كذهاب العين من رمية ، ونحو ذلك ؟ فهذا عجب جدا ؟ وليس هذا موضع قياس لافتراق العلة . وأيضا : فإن كنتم فعلتم ذلك لهذه العلة فنراكم قد اطرحتم الخبر الوارد في ذلك واقتصرتم على علة في غاية الفساد ؟ ؟ وأما الآثار التي شغبوا بها فلا متعلق لهم بشيء منها ؛ لأنه لا حجة في أحد دون رسول الله ﷺ وأيضا - فإن هشام بن إسماعيل ممن لا نعلمه تجب الحجة بروايته فكيف بخطبته ؟ وأما خطبة أبان بن عثمان بذلك - فعهدنا بهم قد خالفوا أبانا في قوله : إن ألبتة في الطلاق واحدة ، وفي إبطاله طلاق السكران ، وغير ذلك : فمرة يكون حكم أبان حجة ، ومرة لا يكون حجة - وهذا تخليط شديد وعمل لا يحل . وأما عمر بن عبد العزيز فالرواية عنه بذلك ساقطة ؛ لأنها من طريق ابن أبي الزناد ، وأول من ضعف روايته فمالك - وهو ضعيف جدا - وهم قد اطرحوا حكم عمر بن عبد العزيز الثابت عنه ، والسنة معه في أمره الناس علانية بالسجود في " إذا السماء انشقت " وغير ذلك من أحكامه كثير جدا ، فالآن صار حجة وهنالك ليس حجة ، ما أقبح هذا العمل في الديانة . وأما قول يحيى بن سعيد الأنصاري ، فمن رواية ابن سمعان ، وهو مذكور بالكذب لا تحل الرواية عنه . وأما قول الزهري ، وسعيد بن المسيب : فصحيح عنهما ، ولا حجة في الدين في قول أحد دون رسول الله ﷺ وقول سعيد مخالف لهم ؛ لأنه رأى عهدة السنة من كل داء عضال ، ولم يخص الجنون ، والجذام ، والبرص فقط ، وقد علم كل ذي حس أن الأكلة ، والحربة ، والأدرة : من الأدواء العضال ، فبطل كل ما موهوا به ، وما نعلم لهم في عهدة السنة من الأدواء المذكورة أثرا أصلا ، ولا قول صاحب ، ولا قياسا . وقال بعضهم : هذه الأدواء لا تظهر ببيان إلا بعد عام . قال أبو محمد : وهذه دعوى كاذبة ، وقول بلا برهان ، وما كان هكذا فحكمه الإطراح ، ولا يحل الأخذ به ، وما علم هذا قط ، لا في طب ، ولا في لغة عربية ، ولا في شريعة . قال علي : وذكروا أيضا : ما رويناه من طريق الحجاج بن المنهال نا همام عن قتادة أنه كان يقول : إن رأى عيبا في ثلاث ليال رد بغير بينة ، وإن رأى عيبا بعد ثلاث لم يرد إلا ببينة . ومن طريق حماد بن سلمة عن حميد عن عبد الملك بن يعلى فيمن ابتاع غلاما فوجده مجنونا ؟ قال : إن ظهر ذلك في السنة فإنه يستحلف البائع لقد باعه وما به جنون ، وإن كان بعد السنة فيمينه بالله على علمه . وذكر بعضهم أن عمر بن الخطاب ؛ وابن الزبير سئلا عن العهدة فقالا : لا نجد أمثل من حديث { حبان بن منقذ إذ كان يخدع في البيوع فجعل له النبي ﷺ الخيار ثلاثا إن شاء أخذ وإن شاء رد } . وخبر عن علي بن أبي طالب أجل الجارية بها الجذام ، والداء : سنة . قال علي : وكل هذا لا حجة لهم فيه - : أما خبر عمر ، وابن الزبير ، فلا بيان فيه بأنهما يقولان بقولهم أصلا ، بل فيه أنه خلاف قولهم " لأنهما بيناه على حديث حبان بن منقذ " . والمالكيون مخالفون لذلك الخبر ، فقول عمر ، وابن الزبير : حجة عليهم ، ولا وفاق فيه لقولهم أصلا لأنه إنما فيه الخيار بين الرد والأخذ فقط ، دون ذكر وجود عيب ، ولا فيه تخصيص للرقيق دون سائر ذلك ، فهو حجة عليهم لا لهم . ونحن نقول بهذا إذا قال المشتري : ما أمر منقذ أن يقوله . وأما خبر علي : فليس فيه أيضا شيء يدل على موافقة قولهم ، ولا ذكر رد أصلا ، وإنما يموهون بالخبر يكون فيه لفظ كبعض ألفاظ قولهم ، فيظن من لا يمعن النظر أن ذلك الخبر موافق لقولهم ، وليس هو كذلك ، بل هو مخالف لقولهم في الأكثر ، أو لا موافق ولا مخالف كذلك أيضا . قال أبو محمد : وقد روى ابن جريج أنه سأل الزهري عن عهدة الثلاث والسنة ؟ فقال : ما علمت فيه أمرا سالفا . قال ابن جريج : وسألت عطاء عن ذلك ؟ فقال : لم يكن فيما مضى عهدة في الأرض ، قلت : فما ثلاثة أيام ؟ قال : لا شيء . قال علي : قال الله تعالى : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى } فمن الباطل أن تكون جارية ملكها لزيد وفرجها له حلال ويكون ضمانها على خالد ، حاش لله من هذا . وقد صح عن ابن عمر : ما أدركت الصفقة حيا مجموعا فهو من المبتاع - ولا يعلم له مخالف من الصحابة رضي الله عنهم .
رويناه من طريق ابن وهب عن يونس بن يزيد عن الزهري عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه - وهذا يبطل عهدة الثلاث ، والسنة - وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد : ثم نقول لهم : أخبرونا عن الحكم بعهدة الثلاث ، والسنة : أسنة هو وحق أم ليس سنة ولا حقا ، ولا بد من أحدهما ؟ فإن قالوا : هو سنة وحق ؟ قلنا : فمن أين استحللتم أن لا تحكموا بها في البلاد التي اصطلح أهلها على ترك الحكم بها فيها ؟ ومتى رأيتم سنة يفسح للناس في تركها ومخالفتها ؟ حاش لله من هذا . وإن قالوا : ليست سنة ولا حقا ؟ قلنا : بأي وجه استحللتم أن تأخذوا بها أموال الناس المحرمة فتعطوها غيرهم بالكره منهم ؟ ولعل المحكوم عليه فقير هالك ، والمحكوم له غني أشر ، وقد قال رسول الله ﷺ : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } ففسختم البيوع الصحيحة بما ليس سنة ولا حقا ، إذ أبحتم ترك الحكم بالسنة والحق ، ولا مخلص لكم من أحدهما ، وهذا كما ترى . وأما قول مالك في الجوائح : فإنه لا يعرف عن أحد قبله مما ذكرنا عنه من التقسيم بين الثمار ، والمقاثي ، وبين البقول ، والموز ولا يعضد قوله في ذلك قرآن ، ولا سنة ، ولا رواية سقيمة أصلا ، ولا قول أحد ممن سلف ، ولا قياس ، ولا رأي له وجه . ولهم في تخصيص الثلث آثار ساقطة نذكرها أيضا إن شاء الله تعالى ونبين وهيها - وقولنا في هذا هو قول أبي حنيفة ، وسفيان الثوري ، وأبي سفيان - وأحد قولي الشافعي ، وقول جمهور السلف . كما روينا من طريق أبي عبيدة نا عبد الله بن صالح عن الليث بن سعد أخبرني أبو بكر بن سهل بن حنيف أن أهل بيته كانوا يلزمون المشتري الجائحة - قال الليث : وبلغني عن عثمان بن عفان أنه قضى بالجائحة على المشتري . قال أبو محمد : وذهب أحمد بن حنبل : وأبو عبيد ، والشافعي ، في أول قوله إلى حط الجائحة في الثمار عن المشتري - قلت أو كثرت - وهذا قول له متعلق بأثر صحيح ، نذكره إن شاء الله تعالى ونبين وجهه وحكمه بحول الله تعالى وقوته . روينا من طريق مسلم بن الحجاج نا محمد بن عباد نا أبو ضمرة عن ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : قال رسول الله ﷺ : { لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل أن تأخذ منه شيئا ، بم تأخذ مال أخيك بغير حق ؟ } . ومن طريق مسلم نا بشر بن الحكم نا سفيان - هو ابن عيينة - عن حميد الأعرج عن سليمان بن عتيق عن جابر بن عبد الله { أن النبي ﷺ أمر بوضع الجوائح } . قال علي : وهذان أثران صحيحان . وقالوا أيضا : على بائع الثمرة إسلامها إلى المشتري طيبة كلها فإذا لم يفعل ، سقط عن المشتري بمقدار ما لم يسلم إليه كما يلزم . ومن طريق ابن وهب عن أنس بن عياض أن أبا إسحاق مقدما مولى أم الحكم بنت عبد الحكم حدثه أن عمر بن عبد العزيز قضى بوضع الجوائح . وبه إلى ابن وهب عن عثمان بن الحكم عن ابن جريج عن عطاء قال : الجوائح كل ظاهر مفسد من مطر أو برد أو ريح أو حريق أو جراد . قال أبو محمد : إن لم يأت ما يبين أن هذين الخبرين المذكورين على غير ظاهرهما وإلا فلا يحل خلاف ما فيهما ، وعلى كل حال فلا حجة فيهما لقول مالك ، بل هما حجة عليه ؛ لأنه ليس فيهما تخصيص ثلث من غيره . فنظرنا هل جاء في هذا الحكم غير هذين الخبرين ؟ فوجدنا ما رويناه من طريق مسلم نا قتيبة بن سعيد نا ليث بن سعد عن بكير - هو ابن الأشج - عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري قال : { أصيب رجل في عهد رسول الله ﷺ في ثمار ابتاعها ، فكثر دينه ، فقال رسول الله ﷺ : تصدقوا عليه فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال رسول الله ﷺ لغرمائه : خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك } فأخرجه رسول الله ﷺ من ماله لغرمائه ، ولم يسقط عنه لأجل الجائحة شيئا ؟ فنظرنا في هذا الخبر مع خبري جابر المتقدمين . فوجدنا خبرين من طريق جابر ، وأنس ، قد وردا ببيان تتألف به هذه الأخبار كلها - بحمد الله تعالى . كما روينا من طريق مسلم حدثني أبو الطاهر أنا ابن وهب أخبرني مالك عن حميد الطويل عن أنس { أن رسول الله ﷺ نهى عن بيع الثمر حتى تزهي قالوا : وما تزهي ؟ قال : تحمر ، أرأيت إذا منع الله الثمرة بم تستحل مال أخيك ؟ } . ومن طريق أحمد بن شعيب أخبرنا قتيبة نا سفيان - هو ابن عيينة - عن حميد الأعرج عن سليمان بن عتيق عن جابر { أن النبي ﷺ نهى عن بيع الثمر السنين } . فصح بهذين الخبرين أن الجوائح التي أمر رسول الله ﷺ بوضعها هي التي تصيب ما بيع من الثمر سنين ، وقبل أن يزهي ، وأن الجائحة التي لم يسقطها وألزم المشتري مصيبتها ، وأخرجه عن جميع ماله بها - : هي التي تصيب الثمر المبيع بعد ظهور الطيب فيه وجواز بيعه - وبالله تعالى التوفيق . وأيضا : فإن رسول الله ﷺ قال : { لو بعت من أخيك تمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا } فلم يخص عليه السلام شجرا في ورقه من ثمر موضوع الأرض وهم يخصون ذلك بآرائهم ، فقد صح خلافهم لهذا الخبر وتخصيصهم له ، وبطل احتجاجهم به على عمومه والأخذ فيه . وأمر بوضع الجوائح ولم يذكر في ثمر ولا في غيره ، ولا في أي جائحة هو - فصح أنهم مخالفون له أيضا ، وبطل أن يحتجوا به على عمومه ، وصار قولهم ، وقولنا في هذين الخبرين سواء في تخصيصهم ، إلا أنهم خصوهما بلا دليل ؟ قال أبو محمد : والخسارة لانحطاط السعر جائحة بلا شك ، وهم لا يضعون عنه شيئا لذلك - وأما قولهم على البائع أن يسلمها طيبة إلى المشتري ؟ فباطل ما عليه ذلك ، إنما عليه أن يسلم إليه ما باع بيعا جائزا فقط ، إذ لم يوجب عليه غير ذلك نص ولا إجماع - وهذا مما خالف فيه المالكيون القياس ، والأصول ، إذا جعلوا مالا ربحه وملكه لزيد ، وخسارته على عمرو : الذي لا يملكه . قال علي : وأما الآثار الواهية التي احتج بها مقلدو مالك - : فروينا من طريق عبد الملك بن حبيب الأندلسي نا مطرف عن أبي طوالة عن أبيه " أن رسول الله ﷺ قال : { إذا أصيب ثلث الثمر فقد وجب على البائع الوضيعة } . قال عبد الملك : وحدثني أصبغ بن الفرج عن السبيعي عبد الجبار بن عمر عن ربيعة الرأي { أن رسول الله ﷺ أمر بوضع الجائحة إذا بلغت ثلث الثمر فصاعدا } . قال عبد الملك : وحدثني عبيد الله بن موسى عن خالد بن إياس عن يحيى بن سعيد عن أبي الزبير عن جابر قال قال رسول الله ﷺ : { خمس من الجوائح : الريح ، والبرد ، والحريق ، والجراد ، والسيل } . قال أبو محمد : هذا كله كذب : عبد الملك مذكور بالكذب . والأول مرسل مع ذلك . والسبيعي مجهول لا يدري أحد من هو ؟ وعبد الجبار بن عمر ضعيف وهو أيضا مرسل - فسقط كل ذلك ، وخالد بن إياس ساقط - ثم لو صح لما كان فيه أمر بإسقاط الجوائح أصلا ، لا بنص ، ولا بدليل ، إلا أن الحنفيين الذين يحتجون بروايات الكذابين ومرسلاتهم : كمبشر بن عبيد الحلبي ، وجابر الجعفي ؛ وغيرهما : فلا عذر لهم في أن لا يأخذوا بهذه المراسيل - وهذا مما تناقضوا فيه . وذكر المالكيون عمن دون رسول الله ﷺ ما رويناه من طريق عبد الملك بن حبيب نا ابن أبي أويس عن الحسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب : أنه كان يقضي بوضع الجائحة إذا بلغت ثلث الثمر فصاعدا . ومن طريق ابن حبيب أيضا حدثني الحذافي عن الواقدي عن موسى بن إبراهيم التيمي عن أبيه عن سليمان بن يسار قال : باع عبد الرحمن بن عوف من سعد بن أبي وقاص عينا له فأصابه الجراد فأذهبه أو أكثره ، فاختصما إلى عثمان فقضى على عبد الرحمن برد الثمن إلى سعد . قال الواقدي : وكان سهل بن أبي حثمة ، وعمر بن عبد العزيز ، والقاسم ، وسالم ، وعلي بن الحسين ، وسليمان بن يسار ، وعطاء بن أبي رباح - : يرون الجائحة موضوعة عن المشتري إذا بلغت الثلث فصاعدا . قال أبو محمد : هذا كله باطل ، لأنه كله من طريق عبد الملك بن حبيب ، ثم الحسين بن عبد الله بن ضميرة مطرح ، متفق على أن لا يحتج بروايته ، وأبوه مجهول ، والواقدي مذكور بالكذب . ثم لو صح حديث عثمان لكان فيه أن عبد الرحمن بن عوف لم ير رد الجائحة وإن أتت على الثمر كله أو أكثر - وإذا وقع الخلاف فلا حجة في قول بعضهم دون بعض ، والثابت في هذا عن ابن عمر رضي الله عنه - وهو عالم أهل المدينة في عصره - ما حدثناه عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب محمد نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا محمد بن المثنى نا محمد بن جعفر نا شعبة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال : قال رسول الله ﷺ : { لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه } ، فقيل لابن عمر : ما صلاحه ؟ قال : تذهب عاهته " . قال أبو محمد : تأملوا هذا فإن ابن عمر روى نهي النبي ﷺ عن بيع الثمر قبل ، بدو صلاحه - وفسر ابن عمر بأن بدو صلاح الثمر : هو ذهاب عاهته . فصح يقينا أن العاهة وهي الجائحة لا تكون عند ابن عمر إلا قبل بدو صلاح الثمر ، وأنه لا عاهة ، ولا جائحة بعد بدو صلاح الثمر ، وهذا هو نص قولنا - والحمد لله رب العالمين - ولا يصح غير هذا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم . ومن تناقض المالكيين في هذا أنهم يقولون فيمن باع ثمرا قد طاب أكله وحضر جداده فأجيح كله أو بعضه - : لم يسقط عنه لذلك شيء من الثمن - . وهذا خلاف كل ما ذكرنا آنفا من الموضوعات جملة . فإن احتجوا في ذلك بقول النبي ﷺ : { الثلث والثلث كثير } . قلنا : نعم هذا في الوصية ، ولكن من أين لكم أن الكثير من الجوائح يوضع دون القليل حتى تحدوا ذلك بالثلث ؟ وأنتم تقولون في غني له مائة ألف دينار ابتاع ثمرا بثلاثة دراهم فأجيح في ثلث الثمرة ثم باع الباقي بدينار - : أنه توضع عنه الجائحة . وتقولون في مسكين ابتاع ثمرة بدينار فذهب ربعها ثم رخص الثمر فباع الباقي بدرهم - : أنه لا يحط عنه شيء ، والكثير والقليل إنما هما بإضافة كما ترى لا على الإطلاق . ثم لم يلبثوا أن تناقضوا أسمج تناقض وأغثه وأبعده عن الصواب للمرأة ذات الزوج أن تحكم في الصدقة بالثلث من مالها فأقل بغير رضا زوجها ، ولا يجوز لها ذلك فيما كان أكثر من الثلث إلا بإذن زوجها ، فجعلوا الثلث ههنا قليلا كما هو دون الثلث وجعلوه في الجائحة كثيرا بخلاف ما دونه . ثم قالوا : إن اشترط المحبس مما حبس الثلث فما زاد بطل الحبس ، فإن اشترط أقل من الثلث جاز وصح الحبس - فجعلوا الثلث ههنا كثيرا بخلاف ما دونه . ثم قالوا : من باع سيفا محلى بفضة أو مصحفا كذلك يكون ما عليهما من الفضة ثلث قيمة الجميع فأقل فهذا قليل ، ويجوز بيعه بالفضة وإن كان ما عليهما من الفضة أكثر من الثلث لم يجز أن يباعا بفضة أصلا - فجعلوا الثلث ههنا قليلا في حكم ما دونه . وأباحوا أن يستثني المرء من ثمر شجره ومن زرع أرضه إذا باعها مكيلة تبلغ الثلث فأقل - ومنعوا من استثناء ما زاد على الثلث - فجعلوا الثلث ههنا قليلا في حكم ما دونه . ثم منعوا من باع شاة واستثنى من لحمها لنفسه أرطالا أن يستثني منها مقدار ثلثها فصاعدا ، وأباحوا له أن يستثني منها أرطالا أقل من الثلث - فجعلوا الثلث ههنا كثيرا بخلاف ما دونه . ثم أباحوا لمن اشترى دارا فيها شجر فيها ثمر لم يبد صلاحه أن يدخل الثمر في كراء الدار إن كان الثلث بالقيمة منه ومن كراء الدار - ومنعوا من ذلك إذا كان الثلث فأكثر - : فجعلوا الثلث ههنا قليلا في حكم ما دونه . ثم جعلوا العشر قليلا وما زاد عليه كثيرا فقالوا فيمن أمر آخر بأن يشتري له خادما بثلاثين دينارا فاشتراها له بثلاثة وثلاثين دينارا : أنها تلزم الآمر ؛ لأن هذا قليل ، قالوا : فإن اشتراها له بأكثر لم يلزم الآمر ؛ لأنه كثير - وهذا يشبه اللعب ، فيا للناس ؟ أبهذه الآراء تشرع الشرائع وتحرم وتحلل ، وتباع الأموال المحرمة وتعارض السنن ؟ حسبنا الله ونعم الوكيل . وروينا من طريق ابن وهب عن عثمان بن الحكم عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال : لا جائحة فيما أصيب دون ثلث رأس المال . ومن طريق عبد الرزاق حدثنا معمر أخبرني من سمع الزهري قال : قلت ما الجائحة ؟ قال : النصف . قال علي : فهذا الزهري لا يرى الجائحة إلا النصف . وهذا يحيى بن سعيد فقيه المدينة لا يرى الجائحة إلا في الثمن ، لا في عين الثمرة - وكل ذلك خلاف قول مالك - وبالله تعالى التوفيق .