→ كتاب البيوع (مسأله 1411 - 1414) | ابن حزم - المحلى كتاب البيوع (مسأله 1415 - 1416) المؤلف: ابن حزم |
كتاب البيوع (مسأله 1417) ← |
كتاب البيوع
1415 - مسألة : وفرض على كل متبايعين - لما قل أو كثر - أن يشهدا على تبايعهما رجلين ، أو رجلا وامرأتين من العدول ، فإن لم يجدا عدولا سقط فرض الإشهاد كما ذكرنا ، فإن لم يشهدا - وهما يقدران على الإشهاد - فقد عصيا الله عز وجل ، والبيع تام . فإن كان البيع بثمن - إلى أجل مسمى - ففرض عليهما مع الإشهاد المذكور أن يكتباه ، فإن لم يكتباه ، فقد عصيا الله عز وجل والبيع تام . فإن لم يقدرا على كاتب فقد سقط عنهما فرض الكتاب . برهان ذلك - : قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة } . قال أبو محمد : فهذه أوامر مغلظة مؤكدة لا تحتمل تأويلا أمر بالكتاب ، في المداينة إلى أجل مسمى ، وبالإشهاد في ذلك في التجارة المدارة ، كما أمر الشهداء أن لا يأبوا أمرا مستويا ، فمن أين صار عند هؤلاء القوم أحد الأوامر فرضا والآخر هملا ؟ وأخبر تعالى أن الكاتب إن ضار - ولا شك في أن امتناعه من الكتاب مضارة ، وأن امتناع الشاهد من الشهادة إذ دعي - فسوق ثم أكد تعالى أشد تأكيد ونهانا أن نسأم كتاب ما أمرنا بكتابه صغيرا كان أو كبيرا . وأخبر تعالى أن ذلك أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى من أن لا نرتاب ، وأسقط الجناح في ترك الكتاب خاصة دون الإشهاد في التجارة المدارة ، ولم يسقط الجناح في ترك الكتاب فيما كان دينا إلى أجل مسمى . وبهذا جاءت السنة - : كما روينا من طريق غندر عن شعبة عن فراس الخارفي عن الشعبي عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه قال : ثلاثة يدعون الله تعالى فلا يستجاب لهم - وذكر فيهم : ورجل كان له على رجل دين فلم يشهد عليه - وقد أسنده معاذ بن المثنى عن أبيه عن شعبة عن فراس عن الشعبي عن أبي بردة عن أبيه عن النبي ﷺ . ومن طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي نا علي بن عبد الله - هو ابن المديني - أخبرنا المؤمل بن إسماعيل نا سفيان الثوري عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد في قول الله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } قال مجاهد : كان ابن عمر إذا باع بنقد أشهد ، وإذا باع بنسيئة كتب وأشهد . ومن طريق إسماعيل نا علي بن عبد الله نا حسان بن إبراهيم الكرماني نا إبراهيم - هو ابن ميمون الصائغ - عن عطاء بن أبي رباح قال : تشهد على كل شيء تشتريه وتبيعه ولو كان بدرهم أو بنصف درهم أو بربع درهم أو أقل فإن الله تعالى يقول : { وأشهدوا إذا تبايعتم } . نا أبو سعيد الفتى نا محمد بن علي الإدفوي نا أحمد بن محمد بن إسماعيل بن النحاس النحوي نا جعفر بن مجاشع نا إبراهيم بن إسحاق نا شجاع نا هشيم عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي قال " أشهد إذا بعت وإذا اشتريت - ولو على دستجة بقل - قال ابن النحاس : وقال محمد بن جرير الطبري : لا يحل لمسلم إذا باع واشترى إلا أن يشهد ، وإلا كان مخالفا لكتاب الله عز وجل - وهكذا إن كان إلى أجل فعليه أن يكتب ويشهد إذا وجد كاتبا - وهو قول جابر بن زيد ، وغيره . ومن طريق إسماعيل بن إسحاق نا يحيى بن خلف نا أبو عاصم - هو الضحاك بن خلف - عن عيسى نا ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله تعالى : { ولا يأب كاتب } قال : وأوجب على الكاتب أن يكتب - وكل هذا قول أبي سليمان ، وأصحابنا . وذهب الحنفيون ، والمالكيون ، والشافعيون إلى أنه ليس الإشهاد المذكور ، ولا الكتاب المذكور ، المأمور به : واجبا - ولا يلزم الكاتب أن يكتب - : روينا عن أبي سعيد الخدري أنه قرأ هذه الآية فلما بلغ إلى قول الله تعالى : { فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته } قال : نسخت هذه الآية ما قبلها ؟ قال أبو محمد : الظاهر من قول أبي سعيد رضي الله عنه أنها [ إنما ] نسخت ، الأمر بالرهن ؛ لأنه هو الذي قبلها متصلا بها ، ولا يجوز أن يظن بأبي سعيد أنه يقول : إنها نسخت كل ما كتب قبلها من القرآن ، ولا كل ما نزل قبلها من القرآن ، فإذ لا شك من هذا : فلا يجوز أن يدخل في قول أبي سعيد أنها نسخت الأمر بالإشهاد والكتاب بالدعوى البعيدة الفاسدة بلا برهان ، إلا أنه قد روي هذا عن الحسن ، والحكم . وروي عن الشعبي أن الأمر بكل ذلك : ندب - وهو قول أبي قلابة ، وصفوان بن محرز ، وابن سيرين . قال أبو محمد : دعوى النسخ جملة لا يجوز إلا ببرهان متيقن ، لأن كلام الله تعالى إنما ورد ليؤتمر له ويطاع بالعمل به ، لا لتركه ، والنسخ يوجب الترك ، فلا يجوز لأحد أن يقول في شيء أمره الله تعالى به : هذا لا تلزمني طاعته إلا بنص آخر عن الله عز وجل ، أو عن رسوله عليه السلام بأنه قد نسخ ، وإلا فالقول بذلك لا يجوز . وكذلك دعوى الندب باطل أيضا إلا ببرهان آخر من النص كذلك ؛ لأن معنى الندب إن شئت فافعل وإن شئت فلا تفعل ، ولا يفهم في اللغة العربية في لفظة افعل لا تفعل إن شئت إلا ببرهان يوجب ذلك ، فبطلت الدعوتان معا بيقين لا إشكال فيه . وليت شعري ما الفرق بين قول الله تعالى : { فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع } وبين قوله تعالى : { ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله } وقد قال المالكيون في ذلك : هو فرض ، وقالوا ههنا : هو ندب تحكما بلا برهان . وكذلك قوله تعالى : { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } وقد قال الشافعيون : إنه فرض ، وقالوا ههنا : هو ندب تحكما بلا دليل . وكذلك قوله تعالى : { مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا } فقال الحنفيون : هذا فرض ولا يقام بمكة حد ، وقالوا ههنا : هو ندب تحكما بلا حجة . وأي فرق بين أمره تعالى بالإشهاد ، والكتاب ، وبين أمره تعالى بما أمر في كفارة الأيمان ، وكفارة الظهار ، وحكم الإيلاء ، وحكم اللعان ، وسائر أوامر القرآن ؟ ونعوذ بالله من أن نجعل { القرآن عضين } فنوجب بعضا ونلغي بعضا . فإن ذكروا قول الله تعالى : { فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته } ؟ قلنا : هذا مردود على ما يتصل به من الرهن ، ولا يجوز أن يحمل على إسقاط وجوب الأمر بالإشهاد ، والكتاب ، بالدعوى بلا برهان . وكذلك من قال : هو فرض على الكفاية ؛ لأن كل ذلك دعوى عارية من البرهان ، وما كان بهذه الصفة فهو باطل مطرح قال تعالى : { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } . ومن أطرف شيء مبادرتهم إذا ادعوا في شيء من أوامر القرآن أنه ندب ؟ فقلنا لهم : ما برهانكم على هذه الدعوى ؟ قالوا : قول الله تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا } . { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } . فقلنا لهم : إن هذا لعجب ليت شعري في أي دين وجدتم أم في أي عقل : أنه إذا صح في أمر من أوامر الله تعالى أنه منسوخ ، أو أنه ندب وجب أن تحمل سائر أوامره تعالى على أنها منسوخة ، وعلى أنها ندب ؟ فما سمع بأعجب من هذا الاحتجاج الفاسد إذ قصدوا به هدم القرآن بلا برهان . ولا فرق بين فعلهم هذا ههنا وبين من قصد إلى أي آية شاء من القرآن فقال : هي منسوخة ؟ فإذا قيل له : ما برهانك على ذلك ؟ قال : نسخ الله تعالى الاستقبال إلى بيت المقدس ، ونسخه لإعداد المتوفى عنها سنة . قال أبو محمد : ونحن لا ننكر وجود النسخ في بعض الأوامر ، أو كونه على الندب ، أو على الخصوص : إذا جاء نص آخر ببيان ذلك وأما بالدعوى فلا . فإذا صح في أمر من القرآن أو السنة أنه منسوخ ، أو مندوب ، أو مخصوص ، بنص آخر ؟ قلنا بذلك ولم نتعده بهذا الحكم إلى ما لم يأت فيه دليل يصرفه عن موضوعه ومقتضاه ؟ قال علي : واحتجوا بالخبر المأثور من طريق الزهري عن عمارة بن خزيمة بن ثابت : أن عمه أخبره { أن رسول الله ﷺ ابتاع فرسا من أعرابي فاستتبعه النبي ﷺ ليعطيه الثمن ، فأسرع النبي وأبطأ الأعرابي فطفق رجال يساومون الأعرابي بالفرس ، وزيد على السوم ، فنادى الأعرابي النبي ﷺ إن كنت مبتاعا هذا الفرس فابتعه وإلا بعته ؟ فقال له النبي ﷺ أو ليس قد ابتعته منك ؟ قال الأعرابي : والله ما بعتكه هلم شهيدا يشهد أني بايعتك ؟ فقال خزيمة : أنا أشهد أنك بايعته ، فأقبل النبي ﷺ يقول : بم تشهد ؟ قال : بتصديقك ، فجعل النبي ﷺ شهادة خزيمة شهادة رجلين } . ومن طريق حماد بن سلمة عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة بن ثابت نحوه وزاد فيه : { فردها رسول الله ﷺ وقال : اللهم إن كان كذب فلا تبارك له فيها فأصبحت شاصية برجلها } فقالوا : فهذا رسول الله ﷺ قد ابتاع ولم يشهد . قال أبو محمد : هذا لا حجة لهم فيه لوجوه - : أولها : أنه خبر لا يصح لأنه راجع إلى عمارة بن خزيمة - وهو مجهول . والثاني : أنه لو صح لما كانت لهم فيه حجة ؛ لأنه ليس فيه : أن الأمر تأخر مقدار مدة يمكن فيها الإشهاد ، فلم يشهد عليه السلام ، وإنما فيه : أن رسول الله ﷺ ابتاع منه الفرس ثم استتبعه ليوفيه الثمن فأسرع عليه السلام وأبطأ الأعرابي - والبيع لا يتم إلا بالتفرق بالأبدان - ففارقه النبي ﷺ ليتم البيع ، وإلا فلم يكن تم بعد ، وإنما يجب الإشهاد بعد تمام البيع وصحته ، لا قبل أن يتم . والثالث : أنه حتى لو صح لهم الخبر - وهو لا يصح - ثم صح فيه : أنه عليه السلام ترك الإشهاد وهو قادر عليه بعد تمام البيع ، وهذا لا يوجد أبدا ، فليس فيه : أنه كان بعد نزول الآية - ونحن نقر بأن الإشهاد إنما وجب بنزول الآية لا قبل نزولها - ولا يجوز ترك يقين حكم الله عز وجل بظن كاذب لا يحل القطع به - فبطل تعلقهم بهذا الخبر جملة . قال أبو محمد : وعهدنا بهم يقولون بخلاف هذا الخبر ، لأن جميعهم يقول : لا يحكم الحاكم لنفسه . وفي المسند من طريقي هذا الخبر أنه حكم عليه السلام لنفسه ، فمن عجائب الدنيا تركهم الحكم بخبر فيما ورد فيه واحتجاجهم به في ما ليس منه فيه أثر ، ولا نص ، ولا دليل . فإن قالوا : أخذنا بالمرسل في أنه عليه السلام ردها ؟ قلنا : وما الذي جعل المرسل من هذا الخبر أقوى من المسند ، ثم ليس في المرسل : أنه عليه السلام ردها لوجوب الحكم بردها ، بل قد يهبها عليه السلام له كما أخبر عن نفسه المقدسة أنه لا يسأله أحد ما لا تطيب به نفسه فيعطيه إياه إلا لم يبارك له فيه - فهذا حسن وإعطاء حلال ، والدعاء عليه بالعقوبة لكذبه ، ولا يجوز غير ذلك لو صح الخبر [ فكيف - وهو لا يصح ] أصلا لأنه لا يحل لمسلم أن يظن برسول الله ﷺ أنه أطلق يد الفاسق على حرام وهو يعلمه حراما إذ كان يكون معينا على الإثم والعدوان ، وعلى أخذ الحرام عمدا وظلما ، والله تعالى يقول : { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } ومن نسب هذا إلى رسول الله ﷺ فقد خرج عن الإسلام . وعهدنا بالحنفيين لا يستحيون من مخالفة الخبر الثابت في أن { رسول الله ﷺ حكم باليمين مع الشاهد } ؛ لأنه بزعمهم خلاف ما في القرآن ، وردوا الخبر الثابت في تغريب الزاني سنة ؛ لأنه زيادة على ما في القرآن ، وقالوا : لا نأخذ بخبر الواحد إذا كان زائدا على ما في القرآن ، وفعلوا هذا كلهم في جلد المحصن مع الرجم ، ثم لا يبالون ههنا بالأخذ بخبر ضعيف لا يصح ، مخالف - بزعمهم - لما في القرآن ، فكيف ولو صح لما كان فيه خلاف للقرآن على ما بيناه ؟ وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد : وقد زاد بعضهم في الهذر والتخليط فأتوا بأخبار كثيرة صحاح ، كموته عليه السلام - ودرعه مرهونة في ثلاثين صاعا من شعير - وكابتياعه البكر من عمر ، والجمل من جابر ، وابتياع بريرة ، وابتياع صفية بسبعة أرؤس ، والعبد بالعبدين ، والثوب بالثوبين إلى الميسرة . وكل خبر ذكر فيه أنه عليه السلام باع أو ابتاع ، قالوا : وليس فيها ذكر الإشهاد وكل ذلك لا متعلق لهم بشيء منه ؛ لأن جميعها ليس في شيء منها : أنه عليه السلام لم يشهد ، ولا أنه أشهد . ووجدنا أكثرها ليس فيها ذكر ثمن فيلزمهم على هذا أن يجيزوا البيع بغير ذكر ثمن ؛ لأنه مسكوت عنه كما سكت عن ذكر الإشهاد ، وليس ترك ذكر جميع الأحكام في كثير من الأخبار بمسقط لها ، كما أن قوله تعالى : { كلوا واشربوا } ليس فيه إباحة ما حرم من المآكل ، والمشارب ، بل النصوص كلها مضموم بعضها إلى بعض ، مأخوذ بما في كل واحد منها ، وإن لم تذكر في غير منها - وما عدا هذا ففساد في العقل ، وإفساد للدين ، ودعاوى في غاية البطلان . وأيضا : فإنهم مهما خالفونا في وجوب الإشهاد ، والكتاب ، فإنهم مجمعون معنا على أنهما فعل حسن مندوب إليه ، فإن كان السكوت عن ذكر الإشهاد في هذه الأخبار دليلا على سقوط وجوبه فهو دليل على سقوط اختياره ؛ لأنه عليه السلام لا يترك الأفضل في جميع أعماله للأدنى . ومن عجائبهم احتجاجهم بهذه الآية - يعني الحنفيين والمالكيين - في مخالفتهم السنة أن لا بيع بين المتبايعين إلا بعد التفرق فقالوا : قال الله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } ولم يذكر التفرق . ثم أبطلوا حكم هذه الآية بأخبار أخر ليس فيها ذكر الإشهاد ، وهذا باب يبطل به - لو صح - جميع الدين أوله عن آخره ؛ لأنهم لا يعدمون نصوصا أخر لم يذكر فيها ما في تلك الأحاديث فيبطلون لذلك أحكامها ، وهكذا أبدا كلما ورد نص لم يذكر فيه سائر الأحكام وجب بطلان ما لم يذكر فيه ، ثم يبطل حكم ذلك النص أيضا ؛ لأنه لم يذكر أيضا في نص آخر - وهذه طريق من سلكها فلم يزد على أن أثبت فساد دينه وقلة حيائه وضعف عقله ونعوذ بالله من الخذلان - فإن قالوا : هذا مما تعظم به البلوى فلو كان واجبا ما خفي على كثير من العلماء ؟ قلنا : هبكم موهتم بهذا في أخبار الآحاد أترون هذا يسوغ لكم في القرآن الذي لم يبق من لم يعلمه ؟ وهلا قلتم هذا لأنفسكم في قول من قال منكم : لا يتم البيع إلا بالتسليم للمبيع وهذا أمر تعظم به البلوى ولا يعرفه أكثر الناس - وفي قول من قال منكم : لا يتم البيع إلا بالتفرق ، وهذا أمر تعظم به البلوى ولا يعرفه كثير من الناس ، وفي قول من قال منكم بعهدة الرقيق في السنة والثلاث ، وبالجوائح في الثمار ، وهي أمور تكثر بها البلوى ولا يعرفها غير القائلين بذلك منكم فظهر التحكم بالباطل في أقوالهم واستدلالهم - وبالله تعالى التوفيق . وإنما قلنا : إنه إن ترك الإشهاد ، والكتاب فقد عصى الله تعالى والبيع تام فالمعصية لخلافه أمر الله تعالى بذلك ، وأما جواز البيع فلأن الإشهاد والكتاب عملان غير البيع وإنما أمر الله تعالى بهما بعد تمام البيع وصحته فإذا تم البيع لم تبطله معصية حدثت بعده ولكل عمل حكمه { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره }
1416 - مسألة : ولا يجوز البيع إلا بلفظ البيع ، أو بلفظ الشراء ، أو بلفظ التجارة ، أو بلفظ يعبر به في سائر اللغات عن البيع ، فإن كان الثمن ذهبا أو فضة غير مقبوضين لكن حالين ، أو إلى أجل مسمى : جاز أيضا بلفظ الدين أو المداينة ، ولا يجوز شيء من ذلك بلفظ الهبة ، ولا بلفظ الصدقة ، ولا بشيء غير ما ذكرنا أصلا . برهان ذلك - : قول الله تعالى : { وأحل الله البيع وحرم الربا } . وقوله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } . وقوله تعالى : { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } . فصح أن ما حرم الله تعالى فهو حرام ، وما أحل فهو حلال ، فمتى أخذ مال بغير الاسم الذي أباح الله تعالى به أخذه كان باطلا بنص القرآن . وصفة البيع والربا واحدة والعمل فيهما واحد ، وإنما فرق بينهما الاسم فقط ، وإنما هما معاوضة مال بمال : أحدهما حلال طيب ، والآخر حرام خبيث ، كبيرة من الكبائر ، قال تعالى { وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا } . وقال تعالى : { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } . فصح أن الأسماء كلها توقيف من الله تعالى ، لا سيما أسماء أحكام الشريعة التي لا يجوز فيها الإحداث ، ولا تعلم إلا بالنصوص ، ولا خلاف بين الحاضرين منا ومن خصومنا في أن امرءا لو قال للآخر : أقرضني هذا الدينار وأقضيك دينارا إلى شهر كذا ، ولم يحد وقتا فإنه حسن ، وأجر ، وبر . وعندنا إن قضاه دينارين أو نصف دينار فقط ورضي كلاهما فحسن . ولو قال له : بعني هذا الدينار بدينار إلى شهر ، ولم يسم أجلا ، فإنه ربا ، وإثم ، وحرام ، وكبيرة من الكبائر - والعمل واحد ، وإنما فرق بينهما الاسم فقط . وكذلك لو قال رجل لامرأة : أبيحي لي جماعك متى شئت ؟ ففعلت ، ورضي وليها ، لكان ذلك زنا - إن وقع - يبيح الدم في بعض المواضع . ولو قال لها : أنكحيني نفسك ؟ ففعلت ، ورضي وليها لكان حلالا ، وحسنا ، وبرا ، وهكذا - عندنا - في كل شيء . وأما لفظ الشرى ، فلما روينا من طريق البخاري نا علي بن عياش نا أبو غسان محمد بن مطرف حدثني ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله [ رضي الله عنهما ] " أن رسول الله ﷺ قال : { رحم الله امرءا سمحا إذا باع ، وإذا اشترى ، وإذا اقتضى } .