الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الرابع/الصفحة الثالثة


كتاب البيوع

1417 - مسألة : وكل متبايعين صرفا أو غيره فلا يصح البيع بينهما أبدا وإن تقابضا السلعة والثمن ، ما لم يتفرقا بأبدانهما من المكان الذي تعاقدا فيه البيع ، ولكل واحد منهما إبطال ذلك العقد أحب الآخر أم كره - ولو بقيا كذلك دهرهما - إلا أن يقول أحدهما للآخر - لا تبال أيهما كان القائل بعد تمام التعاقد - : اختر أن تمضي البيع ، أو أن تبطله ؟ فإن قال : قد أمضيته فقد تم البيع بينهما - تفرقا أو لم يتفرقا - وليس لهما ولا لأحدهما فسخه إلا بعيب ، ومتى ما لم يتفرقا بأبدانهما ولا خير أحدهما الآخر ، فالمبيع باق على ملك البائع كما كان ، والثمن باق على ملك المشتري كما كان ، ينفذ في كل واحد منهما حكم الذي هو على ملكه لا حكم الآخر . برهان ذلك - : قول النبي ﷺ الذي رويناه من طريق البخاري نا أبو النعمان - هو محمد بن الفضل عارم - نا حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله ﷺ : { البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه : اختر وربما قال : أو يكون بيع خيار } . ومن طريق أحمد بن شعيب نا محمد بن علي بن حرب نا محرز بن الوضاح عن إسماعيل - هو ابن جعفر - عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله ﷺ : { المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن يكون البيع كان عن خيار ، فإن كان البيع عن خيار فقد وجب البيع } . قال أبو محمد : هذا يبين أن الخيار المذكور إنما هو قول أحدهما للآخر : اختر ، لا عقد البيع على خيار مدة مسماة ، لأنه قال عليه السلام : إن كان البيع عن خيار ، فقد وجب البيع - وهذا خلاف حكم البيع المعقود على خيار مدة عند القائلين به . ومن طريق يحيى بن سعيد القطان نا عبيد بن عمر أخبرني نافع عن ابن عمر عن رسول الله ﷺ قال : { كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا أو يكون خيارا } . وهكذا رواه هشيم عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ أنه لا بيع بينهما . وهكذا رويناه عن إسماعيل بن جعفر ، وسفيان الثوري ، وشعبة ، كلهم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن رسول الله ﷺ : { لا بيع بينهما حتى يتفرقا } . ومن طريق مسلم نا قتيبة بن سعيد عن الليث بن سعد حدثه عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله ﷺ قال : { إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر ، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع ، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع } . قال أبو محمد : هذا الحديث يرفع كل إشكال ، ويبين كل إجمال ، ويبطل التأويلات المكذوبة التي شغب بها المخالفون . ومن طريق محمد بن عبد الملك بن أيمن نا محمد بن إسماعيل الترمذي نا الحميدي نا سفيان بن عيينة نا ابن جريج قال : أملى علي نافع في ألواحي قال : سمعت عبد الله بن عمر يقول : قال رسول الله ﷺ : { إذا تبايع المتبايعان البيع فكل واحد منهما بالخيار من بيعه ما لم يتفرقا أو يكن بيعهما عن خيار } . قال نافع : فكان ابن عمر إذا ابتاع البيع فأراد أن يجب له : - مشى قليلا ثم رجع . ومن طريق مسلم نا محمد بن المثنى ، وعمرو بن علي قال ابن المثنى : نا يحيى بن سعيد القطان ، وقال عمرو بن علي : نا عبد الرحمن بن مهدي ، ثم اتفق يحيى ، وعبد الرحمن ، كلاهما عن شعبة عن قتادة عن أبي الخليل - هو صالح بن أبي مريم - عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب عن حكيم بن حزام عن النبي ﷺ : قال { البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كذبا ، وكتما محق بركة بيعهما } . ورويناه أيضا من طريق همام بن يحيى - وسعيد بن أبي عروبة عن قتادة بإسناده . ومن طريق أبي التياح عن عبد الله بن الحارث بإسناده . وهذه أسانيد متواترة متظاهرة منتشرة توجب العلم الضروري . ومن طريق أبي داود السجستاني نا مسدد نا حماد بن زيد عن جميل بن مرة عن أبي الوضيء قال : غزونا غزوة لنا فنزلنا منزلا فباع صاحب لنا فرسا لغلام ، ثم أقاما بقية يومهما وليلتهما ، فلما أصبحا من الغد حضر الرحيل قام إلى فرسه ليسرجه فندم فأتى الرجل ليأخذه بالبيع فأبى أن يدفعه إليه ، فقال له : بيني وبينك أبو برزة صاحب رسول الله ﷺ قال : فأتيا أبا برزة في ناحية العسكر فقالا له : هذه القصة فقال : أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله ﷺ قال رسول الله ﷺ : { البيعان بالخيار ما لم يتفرقا } . قال هشام بن حسان : قال جميل بن مرة : قال أبو برزة : ما أراكما افترقتما . قال أبو محمد : /126 L476 أبو الوضيء - هو عباد بن نسيب /126 تابعي ثقة - سمع علي بن أبي طالب ، وأبا هريرة ، وأبا برزة ، فهؤلاء عن رسول الله ﷺ ثلاثة من الصحابة ، وعنهم الأئمة من التابعين ومن بعدهم . نا محمد بن سعيد بن عمر بن نبات قال : نا عبد الله بن محمد بن قاسم القلعي نا محمد بن أحمد الصواف ببغداد نا بشر بن موسى بن صالح بن شيخ بن عمير الأسدي نا عبد الله بن الزبير الحميدي نا سفيان - هو ابن عيينة - نا بشر بن عاصم الثقفي قال : سمعت سعيد بن المسيب يحدث عن أبي بن كعب قال : إن عمر بن الخطاب ، والعباس بن عبد المطلب تحاكما إليه في دار للعباس إلى جانب المسجد أراد عمر أخذها ليزيدها في المسجد فأبى العباس ، فقال لهما أبي : لما أمر سليمان ببناء بيت المقدس كانت أرضه لرجل فاشتراها منه سليمان فلما اشتراها قال له الرجل : الذي أخذت مني خير أم الذي أعطيتني ؟ قال سليمان : بل الذي أخذت منك ، قال : فإني لا أجيز البيع ، فرده ، فزاده ، ثم سأله فأخبره ، فأبى أن يجيزه ، فلم يزل يزيده ويشتري منه ، فيسأله فيخيره ، فلا يجيز البيع ، حتى اشتراها منه بحكمه على أن لا يسأله ، فاحتكم شيئا كثيرا ، فتعاظمه سليمان ، فأوحى الله إليه : إن كنت إنما تعطيه من عندك فلا تعطه ، وإن كنت إنما تعطيه من رزقنا فأعطه حتى يرضى بها ، فقضى بها للعباس . وروينا من طريق البخاري قال الليث هو ابن سعد - : حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال : بعت من أمير المؤمنين عثمان مالا بالوادي بمال له بخيبر ، فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خشية أن يرادني البيع وكانت السنة أن المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا . ومن طريق الليث أيضا : عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر قال : قال عبد الله بن عمر : كنا إذا تبايعنا كان كل واحد منا بالخيار ما لم يتفرق المتبايعان فتبايعت أنا وعثمان بن عفان فبعته مالا لي بالوادي بمال له بخيبر ، فلما بايعته طفقت أنكص على عقبي القهقرى خشية أن يرادني عثمان البيع قبل أن أفارقه . فهذا ابن عمر يخبر بأن هذا مذهب الصحابة وعملهم ، ومذهب عثمان بن عفان ؛ لأنه خشي أن يراده البيع قبل التفرق بالأبدان ، فلو لم يكن ذلك مذهب عثمان ما خاف ابن عمر ذلك منه ويخبر بأن ذلك هو السنة . وروينا ذلك أيضا : عن أبي هريرة ، وأبي زرعة بن عمرو بن جرير ، وطاوس - كما روينا عن عبد الرزاق نا سفيان الثوري عن أبي عتاب عن أبي زرعة ، أن رجلا ساومه بفرس له فلما بايعه خيره ثلاثا ، ثم قال : اختر ؟ فخير كل واحد منهما صاحبه ثلاثا ، ثم قال أبو زرعة : سمعت أبا هريرة ، يقول : هذا البيع عن تراض - : فهذا عمر ، والعباس ، يسمعان أبيا يقضي بتصويب رد البيع بعد عقده فلا ينكران ذلك - فصح أنهم كلهم قائلون بذلك ومعهم عثمان ، وأبو هريرة وأبو برزة ، وابن عمر ، والصحابة جملة رضي الله عنهم . ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن سليمان الأحول سمعت : طاوسا يحلف بالله : ما التخيير إلا بعد البيع . ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم أنا محمد بن علي السلمي سمعت أبا الضحى يحدث أنه شهد شريحا اختصم إليه رجلان اشترى أحدهما دارا من الآخر بأربعة آلاف ، فأوجبها له ، ثم بدا له في بيعها قبل أن يفارق صاحبه فقال : لا حاجة لي فيها ، فقال البائع : قد بعتك وأوجبت لك ، فاختصمنا إلى شريح ، فقال شريح : هو بالخيار ما لم يتفرقا قال محمد بن علي : وشهدت الشعبي يقضي بهذا . ومن طريق ابن أبي شيبة نا جرير عن مغيرة عن الشعبي أن رجلا اشترى برذونا فأراد أن يرده قبل أن يتفرقا ، فقضى الشعبي : أنه قد وجب عليه ، فشهد عنده أبو الضحى : أن شريحا أتي في مثل ذلك فرده على البائع فرجع الشعبي إلى قول شريح . وروينا أيضا : من طريق معمر عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين أنه شهد شريحا يقضي بين المختصمين اشترى أحدهما من الآخر بيعا فقال : إني لم أرضه ، وقال الآخر : بل قد رضيته فقال شريح : بينتكما أنكما تصادرتما عن رضا بعد البيع أو خيار أو يمينه بالله ما تصادرتما عن رضا بعد البيع ولا خيار - : وهو قول هشام بن يوسف ، وابنه عبد الرحمن . وقال البخاري : هو قول عطاء بن أبي رباح ، وابن أبي مليكة . وهو قول الحسن ، وسعيد بن المسيب ، والزهري ، وابن أبي ذئب ، وسفيان الثوري ، وسفيان بن عيينة ، والأوزاعي ، والليث ، وعبيد الله بن الحسن القاضي ، والشافعي ، وأبي ثور ، وجميع أصحابه ، وإسحاق بن راهويه ، وأحمد بن حنبل ، وأبي عبيد وأبي سليمان ، ومحمد بن نصر المروزي ، ومحمد بن جرير الطبري ، وأهل الحديث ، وأهل المدينة . كما روينا من طريق ابن أيمن نا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : قال لي أبي : بلغني عن ابن أبي ذئب أنه بلغه قول مالك بن أنس : ليس البيعان بالخيار ؟ فقال ابن أبي ذئب : هذا حديث موطوء بالمدينة - يعني مشهورا - . قال أبو محمد : إلا أن الأوزاعي قال : كل بيع فالمتبايعان فيه بالخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما ، إلا بيوعا ثلاثة : المغنم ، والشركاء في الميراث يتقاومونه ، والشركاء في التجارة يتقاومونها . قال الأوزاعي : وحد التفرق أن يغيب كل واحد منهما عن صاحبه حتى لا يراه - وقال أحمد : كما قلنا ، إلا أنه لا يعرف التخيير ، ولا يعرف إلا التفرق بالأبدان فقط . وهذا الشعبي قد فسخ قضاءه بعد ذلك ورجع إلى الحق ، فشذ عن هذا كله أبو حنيفة ، ومالك ، ومن قلدهما ، وقالا : البيع يتم بالكلام وإن لم يتفرقا بأبدانهما ، ولا خير أحدهما الآخر ، وخالفوا السنن الثابتة ، والصحابة ، ولا يعرف لمن ذكرنا منهم مخالف أصلا ، وما نعلم لهم من التابعين سلفا إلا إبراهيم وحده - : كما روينا من طريق سعيد بن منصور نا هشيم عن المغيرة عن إبراهيم قال : إذا وجبت الصفقة فلا خيار . ومن طريق ابن أبي شيبة نا وكيع نا سفيان عن مغيرة عن إبراهيم قال : البيع جائز وإن لم يتفرقا - ورواية مكذوبة موضوعة عن الحجاج بن أرطاة وكفى به سقوطا عن الحكم عن شريح قال : " إذا كلم الرجل بالبيع وجب عليه البيع ، والصحيح عن شريح هو موافقة الحق - : كما أوردنا قبل من رواية أبي الضحى ، وابن سيرين عنه . ولعمري ؛ إن قول إبراهيم ليخرج على أنه عنى كل صفقة غير البيع ، لكن الإجارة ، والنكاح ، والهبات ، فهذا ممكن ؛ لأنه لم يذكر البيع أصلا فحصلوا بلا سلف . وقوله : البيع جائز وإن لم يتفرقا : صحيح - وما قلنا : إنه غير جائز ، ولا قال هو : إنه لازم ، وإنما قال : إنه جائز . قال أبو محمد : وموهوا بتمويهات في غاية الفساد - : منها : أنهم قالوا : معنى التفرق أي بالكلام ؟ فقلنا : لو كان كما يقولون لكان موافقا لقولنا ومخالفا لقولكم ؛ لأن قول [ أحد ] المتبايعين آخذه بعشرة ، فيقول الآخر : لا ، ولكن بعشرين لا شك عند كل ذي حس سليم أنهما متفرقان بالكلام ، فإذا قال أحدهما بخمسة عشر ، وقال الآخر : نعم قد بعتكه بخمسة عشر ، فالآن اتفقا ولم يتفرقا فالآن وجب الخيار لهما إذ لم يتفرقا بنص الحديث ؟ فاذهبوا كيف شئتم من عارض الحق بلح وافتضح . وأيضا : فنقول لهم : قولكم : التفرق بالكلام كذب ، دعوى بلا برهان ، لا يحل القول بهما في الدين . وأيضا : فرواية الليث . عن نافع عن ابن عمر التي أوردنا رافعة لكل شغب ، ومبينة أنه التفرق عن المكان بالأبدان ولا بد . وقال بعضهم : معنى المتبايعين ههنا : إنما هما المتساومان ، كما سمي الذبيح ولم يذبح - وقال : كما قال تعالى : { فبلغن أجلهن } : إنما أراد تقاربن بلوغ أجلهن . وقال آخرون منهم : إنما أراد بقوله عليه السلام { ما لم يتفرقا } إنما هو ما بين قول أحدهما : قد بعتك سلعتي هذه بدينار ؟ فهو بالخيار ما لم يقل له الآخر : قد قبلت ذلك ، وبين قوله لصاحبه : قد ابتعت سلعتك هذه بدينار فهو بالخيار ما لم يقل له الآخر : قد بعتكها بما قلت . وقال آخرون : إنما هو ما بين قول القائل : بعني سلعتك بدينار ؟ فهو بالخيار ما لم يقل له الآخر : قد فعلت ، وبين قول القائل : اشتر مني سلعتي هذه بدينار ، فله الخيار ما لم يقل له الآخر : قد فعلت ؟ فجواب هذه الأقوال كلها واضح مختصر ، وهو أن يقال : كذب قائل هذا وأفك وأثم ؛ لأنه حرف كلام رسول الله ﷺ عن مواضعه بلا برهان أصلا ، لكن مطارفة ومجاهرة بالدعوى الباطل ، فمن أين لكم هذه الأقوال ؟ ومن أخبركم بأن هذا هو مراده عليه السلام ؟ وأما قولكم : كما سمي الذبيح ولم يذبح ؟ فما سماه الله تعالى قط ذبيحا ، ولا صح ذلك أيضا قط عن رسول الله ﷺ وإذا كان هكذا فإنما هو قول مطلق عامي لا حجة فيه ، وإنما أطلق ذلك من أطلق مسامحة ، أو لأنه حمل الخليل عليه السلام السكين على حلقه ، وهذا فعل يسمى من فاعله ذبحا ، وما نبالي عن هذه التسمية ؛ لأنها لم يأت بها قط قرآن ، ولا سنة ، فلا يقوم بها حجة في شيء أصلا . وأما قوله تعالى : { فبلغن أجلهن } فصدق الله تعالى وكذب من قال : إنه تعالى أراد المقاربة ، حاش لله من هذا - ولو كان ما ظنوه لكان الإمساك والرجعة لا يجوز إلا في قرب بلوغ الأجل ، لا قبل ذلك ، وهذا باطل بلا خلاف - وتأويل الآية موافق لظاهرها بلا كذب ولا تزيد ، وإنما أراد تعالى - بلا شك - بلوغ المطلقات أجل العدة بكونهن فيها من دخولهن إياها إلى إثر الطلاق إلى خروجهن عنها ، وهذه المدة كلها للزوج فيها الرجعة والإمساك بلا خلاف ، أو التمادي على حكم الطلاق . وحتى لو صح لهم ما أطلقوا فيه الباطل لكان لا متعلق لهم به ؛ لأنه ليس إذا وجد كلام قد صرف عن ظاهره بدليل وجب أن يصرف كل كلام عن ظاهره بلا دليل ، وفي هذا إفساد التفاهم ، والمعقول ، والشريعة كلها ، فكيف ورواية عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي عليه السلام قال : { كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا } فاضح لهذا الكذب كله ، ومبطل لتخصيص بعض من يقع عليه اسم بيع من سائر من يقع عليه هذا الاسم . وقالوا : هذا التفريق المذكور في الحديث : هو مثل التفريق المذكور في قوله تعالى : { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته } . فقلنا : نعم ، بلا شك ، وذلك التفرق المذكور في الآية تفرق بالقول يقتضي التفرق بالأبدان ولا بد ، والتفرق المذكور في الحديث كذلك أيضا تفرق بالقول يقتضي التفرق بالأبدان ولا بد ، وأنتم تقولون : إن التفرق المراعى فيما يحرم به الصرف أو يصح إنما هو تفرق الأبدان ، فهلا قلتم على هذا ههنا : إن التفرق المذكور في هذا الخبر هو أيضا تفرق الأبدان ، لولا التحكم البارد حيث تهوون . وموهوا بقول الله تعالى : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } . فأباح تعالى الأكل بعد التراضي ، قالوا : وهذا دليل على صحة الملك بالعقد . قال أبو محمد : الذي أتانا بهذه الآية هو الذي من عنده ندري : ما هي التجارة المباحة لنا مما حرم علينا ، وما هو التراضي الناقل للملك من التراضي الذي لا ينقل الملك ؟ ولولاه لم نعرف شيئا من ذلك . وهو الذي أخبرنا : أن العقد ليس بيعا ، ولا هو تجارة ، ولا هو تراضيا ولا ينقل ملكا إلا حتى يستضيف إليه التفرق عن موضعهما ، أو التخيير ، فهذا هو البيع ، والتجارة ، والتراضي ، لا ما ظنه أهل الجهل بآرائهم بلا برهان ، لكن بالدعوى الفاسدة . واحتجوا بقول الله تعالى : { أوفوا بالعقود } وهذا حق إلا أن الذي أمرنا بهذا على لسان نبيه هو تعالى الآمر لرسوله عليه السلام أن يخبرنا أنه لا يصح هذا التعاقد ولا يتم ، ولا يكون عقدا إلا بالتفرق عن موضعهما أو بأن يخير أحدهما الآخر بعد التعاقد ، وإلا فلا يلزم الوفاء بذلك العقد ، وهم مجمعون معنا على أنه لا يلزم أحدا الوفاء بكل عقد عقده ، بل أكثر العقود حرام الوفاء بها ، كمن عقد على نفسه أن يزني ، أو أن يشرب الخمر . نعم ، وأكثر العقود لا يلزم الوفاء به عندهم وعندنا ، كمن عقد أن يشتري ، أو أن يبيع ، أو أن يغني ، أو أن يزفن أو أن ينشد شعرا . فصح يقينا أنه لا يلزم الوفاء بعقد أصلا ، إلا عقدا أتى النص بالوفاء به باسمه وعينه ، وهم يقولون - يعني الحنفيين - أن من بايع آخر شيئا غائبا وتعاقدا إسقاط خيار الرؤية أنه عقد لا يلزم . والمالكيون يقولون : من ابتاع ثمرة واشترط أن لا يقوم بجائحة ، وعقد ذلك على نفسه ، فإنه عقد لا يلزمه ، فأين احتجاجهم بقول الله تعالى { أوفوا بالعقود } . فإن قالوا : هذه عقود قامت الأدلة على أنه لا يلزم الوفاء بها ؟ قلنا : وعقد البيع عقد قد قام البرهان حقا على أنه لا يلزم الوفاء به إلا بعد التفرق بالأبدان ، أو بعد التخيير ، بخلاف الأدلة الفاسدة التي خصصتم بها ما خصصتم من العقود المذكورة . وموهوا أيضا بقول الله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } وإن الحياء لقليل في وجه من احتج بهذه الآية في هذا المكان لوجوه - : أولها - أنهم أول مخالف لهذه الآية فيما وردت فيه من وجوب الإشهاد فكيف يستحلون الاحتجاج بأنهم قد عصوا الله تعالى فيها وخالفوها ، ولم يروها حجة في وجوب الإشهاد في البيع ؟ والثاني - أنه ليس في الآية نص ولا دليل على بطلان التفرق المذكور في الخبر ولا ذكر منه أصلا . والثالث : أن نص الآية إنما هو إيجاب الإشهاد إذا تبايعنا ، والذي جاءنا بهذه الآية - ولولاه لم ندر ما المبيع المباح من المحرم ألبتة - هو الذي أخبرنا أنه لا بيع أصلا إلا بعد التفرق عن موضعهما أو التخيير . فصح يقينا أن قول الله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } إنما هو أمر بالإشهاد بعد التفرق ، أو التخيير الذي لا بيع بينهما أصلا إلا بعد أحدهما وإن رغمت أنوف المخالفين ؟ ثم موهوا بإيراد أخبار ثابتة وغير ثابتة ، مثل قوله عليه السلام : { إذا ابتعت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه } والقول فيه كالقول في الآية سواء سواء ؛ لأنه لا بيع بينهما إلا بعد التفرق أو التخيير ، وإلا فلم يبتع المبتاع أصلا ولا باع البائع ألبتة .

ومثل من باع عبدا وله مال فماله للبائع . ومثل من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع . ومثل النهي عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان . وإذا اختلف المتبايعان فالقول ما قال البائع . وأخبار كثيرة جاء فيها ذكر البيع ، والقول فيها كلها - كما قلنا آنفا : أن كل هذه الأحكام إنما وردت في البيع والذي أمر بما صح منها هو الذي أخبر وحكم وقال : إنه لا بيع بين المتبايعين ما كانا معا ولم يتفرقا ، أو خير أحدهما الآخر ، فتبا لمن عصاه . والعجب أن أكثر هذه الأخبار هم مخالفون لما في نصوصها ، فلم يقنعوا بذلك حتى أضافوا إلى ذلك غرور من أحسن الظن في أن أوهموهم ما ليس فيها منه شيء أصلا . ولا فرق بينهم في احتجاجهم بكل ما ذكرنا في إبطال السنة الثابتة من أن لا بيع بين المتبايعين إلا بعد التفرق بالأبدان أو التخيير ، وبين من احتج بها في إباحة كل بيع لم يذكر فيها من الربا ، والغرر ، والحصاة ، والملامسة ، والمنابذة ، وغير ذلك ، بل هو كله عمل واحد ، نعوذ بالله منه . ومن عجائبهم احتجاجهم في هذا بالخبر الثابت من أنه { لا يجزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه } . قال أبو محمد : ولولا أن القوم مستكثرون من الباطل ، والخديعة في الإسلام لمن اغتر بهم لم يخف عليهم هذا التطويل بلا معنى . ونعم ، الخبر صحيح وما اشترى قط أباه من لم يفارق بائعه ببدنه ولا خيره بعد العقد ولا ملكه قط ، بل هو في ملك بائعه كما كان حتى يخيره المبتاع أو يفارقه ببدنه ، فحينئذ يعتق عليه ، وإلا فلا بنص حكم الله تعالى على لسان رسول الله ﷺ . وذكروا أيضا { : المسلمون عند شروطهم } وهذا خبر مكذوب ؛ لأنه إنما رواه كثير بن زيد - وهو ساقط - ومن هو دونه ، أو مرسل عن عطاء . ثم لو صح لكان حجة لنا عليهم ؛ لأن شروط المسلمين ليست كل شرط بلا خلاف ، بل إنما هي الشروط المأمور بها ، أو المباحة بأسمائها في القرآن وصحيح السنن . ولو كان ما أوهموا به لكان شرط الزنى ، والقيادة ، وشرب الخمر ، والربا : شروطا لوازم ، وحاش لله من هذا الضلال . وقد صح عن رسول الله : { كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل كتاب الله أحق وشرط الله أوثق } فشرط الله تعالى هو التفرق بالأبدان بعد العقد للبيع أو التخيير ، وإلا فلا شرط هنالك يلزم أصلا - وأعجب شيء احتجاج بعضهم بأن من باع بيعا على أنه ثابت بلا خيار أن الخيار ساقط . قال أبو محمد : ليت شعري من وافقهم على هذا الجنون ؟ لا ، ولا كرامة بل لو أن متبايعين عقدا بيعهما على إسقاط الخيار الواجب لهما قبل التفرق بأبدانهما ، وقبل التخيير لكان شرطا ملعونا ، وعقدا فاسدا ، وحكم ضلال لأنهما اشترطا إبطال ما أثبته الله تعالى ورسوله ﷺ . وموهوا أيضا بأن قالوا : لما كان عقد النكاح ، وعقد الطلاق ، وعقد الإجارة ، والخلع ، والعتق ، والكتابة تصح ، ولا يراعى فيها التفرق بالأبدان وجب مثل ذلك في البيع . قال أبو محمد : وهذا قياس والقياس كله باطل ، ثم لو صح القياس لكان هذا منه عين الباطل ، لإجماعهم معنا على أن كل حكم من هذه التي ذكروا له أحكام وأعمال مخالفة لسائرها ، لا يجوز أن يجمع بينهما فيه ، فالبيع ينتقل فيه ملك رقبة المبيع وثمنه ، وليس ذلك في شيء من الأحكام التي ذكروا ، والنكاح فيه إباحة فرج كان محرما بغير ملك رقبته ولا يجوز فيه اشتراط خيار أصلا ولا تأجيل . وهم يجيزون الخيار المشترط في البيع والتأجيل ، ولا يرون قياس أحدهما على الآخر في ذلك جائزا ، والطلاق تحريم فرج محلل إما في وقته وإما إلى مدة بغير نقل ملك ، ولا يجوز فيه اشتراط بعد إيقاعه أصلا ، بخلاف البيع - والإجارة إباحة منافع بعوض لا تملك به الرقبة ، بخلاف البيع ، ويجوز في الحر بخلاف البيع ، وهي إلى أجل ولا بد ، إما معلوم وإما مجهول إن كان في عمل محدود ، بخلاف البيع . والخلع طلاق بمال لا يجوز فيه عندهم خيار مشترط ، بخلاف البيع ، والعتق كذلك ، والكتابة - فظهر سخف قياسهم هذا وأنه هوس وتخليط . وكم قصة لهم في التخيير في الطلاق أوجبوا فيه الخيار ما داما في مجلسهما وقطعوه بالتفرق بأبدانهما حيث لم يوجبه قط رب العالمين ، ولا رسوله عليه السلام ، ولا قول صاحب ، ولا معقول ، ولا قياس شبه به ، لكن بالآراء الفاسدة ؟ ثم أبطلوه حيث أوجبه الله تعالى على لسان رسول الله ﷺ فنحمد الله تعالى على السلامة مما ابتلاهم به .

محلى ابن حزم - المجلد الرابع/كتاب البيوع
كتاب البيوع (مسأله 1411 - 1414) | كتاب البيوع (مسأله 1415 - 1416) | كتاب البيوع (مسأله 1417) | كتاب البيوع (تتمة مسأله 1417) | كتاب البيوع (مسأله 1418 - 1420) | كتاب البيوع (مسأله 1421) | كتاب البيوع (مسأله 1422) | كتاب البيوع (مسأله 1423 - 1426) | كتاب البيوع (مسأله 1427 - 1428) | كتاب البيوع (مسأله 1429 - 1446) | كتاب البيوع (مسأله 1447) | كتاب البيوع (مسأله 1448 - 1460) | كتاب البيوع (مسأله 1461 - 1464) | كتاب البيوع (مسأله 1465 - 1466) | كتاب البيوع (مسأله 1467 - 1470) | كتاب البيوع (مسأله 1471 - 1474) | كتاب البيوع (مسأله 1475 - 1479) | كتاب البيوع (مسأله 1480) | كتاب البيوع (تتمة مسأله 1480) | كتاب البيوع (مسأله 1481 - 1484) | كتاب البيوع (مسأله 1485 - 1491) | كتاب البيوع (مسأله 1492 - 1500) | كتاب البيوع (مسأله 1501 - 1507) | كتاب البيوع (مسأله 1508 - 1511) | كتاب البيوع (مسأله 1512 - 1516) | كتاب البيوع (مسأله 1517 - 1538) | كتاب البيوع (مسأله 1539 - 1551) | كتاب البيوع (مسأله 1552 - 1556) | كتاب البيوع (مسأله 1557 - 1559) | كتاب البيوع (مسأله 1560 - 1565) | كتاب البيوع (مسأله 1566 - 1567) | كتاب البيوع (مسأله 1568 - 1582) | كتاب البيوع (مسأله 1583 - 1594)