→ كتاب البيوع (مسأله 1517 - 1538) | ابن حزم - المحلى كتاب البيوع (مسأله 1539 - 1551) المؤلف: ابن حزم |
كتاب البيوع (مسأله 1552 - 1556) ← |
كتاب البيوع
1539 - مسألة: ولا يحل البيع مذ تزول الشمس من يوم الجمعة إلى مقدار تمام الخطبتين والصلاة، لا لمؤمن، ولا لكافر، ولا لأمرأة، ولا لمريض، وأما من شهد الجمعة فإلى أن تتم صلاتهم للجمعة، وكل بيع وقع في الوقت المذكور فهو مفسوخ وهذا قول مالك وأجاز البيع في الوقت المذكور: الشافعي، وأبو حنيفة.
وأما النكاح، والسلم والإجارة، وسائر العقود فجائزة كلها في ذلك الوقت لكل أحد
وهو قول الشافعي، وأبي حنيفة ولم يجزها مالك.
برهان صحة قولنا: قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} فهما أمران مفترضان: السعي إلى ذكر الله تعالى، وترك البيع، فإذا سقط أحدهما بنص ورد فيه كالمريض، والخائف والمرأة، والمعذور، لم يسقط الآخر، إذ لم يوجب سقوطه قرآن، ولا سنة وجب إلزام الكفار كذلك؛ لقول الله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله}. ولقوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}
وأما إدخال مالك النكاح، والإجارة في ذلك، فخطأ ظاهر؛ لأن الله تعالى إنما نهى عن البيع، ولو أراد النهي عن النكاح، والإجارة لما عجز عن ذلك، ولا كتمنا ما ألزمنا وما كان ربك نسيا وتعدي حدود الله تعالى لا يحل. ولو كان القياس حقا لكان هذا منه باطلا؛ لأن القياس عند القائلين به إنما هو أن يقاس الشيء على نظيره، وليس البيع نظير النكاح؛ لأنه يجوز بلا ذكر مهر. ولا يجوز البيع بغير ذكر ثمن، والمتناكحان لا يملك أحدهما الآخر، ولا في النكاح نقل ملك، والبيع نقل ملك.
وأما الإجارة فإنما هي معاوضة في منافع لم يخلقها الله تعالى بعد، ولا يجوز بيع ما لم يخلق بعد، ويجوز أن يؤاجر الحر نفسه، ولا يحل له أن يبيع نفسه، فلا شبه بين الإجارة والنكاح وبين البيع. فإن علل النهي عن البيع بما يشاغل عن السعي: صار إلى قول أبي حنيفة، والشافعي، ولزمه أن يجيز من البيع ما لا تشاغل منه عن السعي، ولا قياس عند القائلين به إلا على علة، فإن لم يعلل بطل القياس وما نعلم له سلفا في هذا القول.
وأما إجازة أبي حنيفة، والشافعي: البيع في الوقت المذكور فخلاف لأمر الله تعالى، ولا نعلم لهم حجة أصلا أكثر من أن قالوا: إنما نهى عن التشاغل عن السعي إلى الصلاة فقط، ولو أن امرأ باع في الصلاة لصح البيع.
قال أبو محمد: وهذان فاسدان من القول جدا: أما قولهم: إنما أراد الله بذلك التشاغل عن السعي فقط، فعظيم من القول جدا، ليت شعري من أخبرهم بذلك وهم يسمعون الله تعالى يقول: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}. ولو أن الله تعالى أراد ما قالوا لما نهانا عن البيع مطلقا، ولا عجز عن بيان مراده من ذلك، وما ههنا ضرورة توجب فهم هذا، ولا نص، فهو باطل محض، ودعوى كاذبة بلا برهان.
وأما قولهم: لو باع في الصلاة لجاز البيع: فتمويه بارد؛ لأن المصلي بأول أخذه في الكلام في المساومة بطلت صلاته فصار غير مصل فظهر فساد احتجاجهم جملة.
فإن قالوا: هذا ندب. قلنا: ما دليلكم على ذلك، وكيف يقول الله تعالى: افعل، فيقولون: معناه لا تفعل إن شئت أم كيف يقول الله تعالى: لا تفعل، فيقولون: معناه: افعل إن شئت وهذا إبطال الحقائق، ونفس المعصية، وتحريف للكلم عن مواضعه. فإن قالوا: قد وجدنا أوامر ونواهي معناها: الندب. قلنا: نعم بنص آخر بين ذلك، وكذلك وجدنا آيات منسوخات بنص آخر ولم يجب بذلك حمل آية على أنها منسوخة، ولا على أنها ندب، ومن فعل ذلك فقد أبطل ما شاء بلا دليل: روينا من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي نا محمد بن أبي بكر هو المقدمي، حدثنا سليمان بن داود، حدثنا سليمان بن معاذ، حدثنا سماك عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لا يصلح البيع يوم الجمعة حين ينادى للصلاة، فإذا قضيت فاشتر وبع، ولا نعلم له مخالفا من الصحابة. وعن حماد بن زيد عن الوليد بن أبي هشام عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد عن أبيه أنه فسخ بيعا وقع بين نساء وبين عطار بعد النداء للجمعة.
1540 - مسألة: ومن لم يبق عليه من وقت الصلاة إلا مقدار الدخول في الصلاة بالتكبير، وهو لم يصل بعد، وهو ذاكر للصلاة، عارف بما بقي عليه من الوقت، فكل شيء فعله حينئذ من بيع أو غيره: باطل مفسوخ أبدا؛ لقول رسول الله ﷺ: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد وهو في ذلك الوقت محرم عليه البيع وغيره، مأمور بالدخول في الصلاة، فلو لم يكن عارفا بذلك: جاز كل ما عمل فيه؛ لأن وقت الصلاة للناسي ممتد أبدا.
وأما من سها فسلم قبل تمام صلاته فما أنفذ من بيع أو غيره: فمردود كله؛ لأنه قد عرف النهي عن ذلك ما دام في صلاته، وهو في صلاته، لكن عفي له عن النسيان، فهو إنما ظن أنه باع ولم يبع؛ لأنه غير البيع الذي أحله الله تعالى له، فإذا هو غير جائز وبالله تعالى التوفيق.
1541 - مسألة: ولا يحل أن يجبر أحد على أن يبيع مع شريكه لا ما ينقسم، ولا ما لا ينقسم، ولا على أن يقاومه فيبيع أحدهما من الآخر، لكن ما شاء من الشريكين أو الشركاء أن يبيع حصته: فله ذلك، ومن أبى لم يجبر، فإن أجبره على ذلك حاكم أو غيره: فسخ حكمه أبدا، وحكم فيه بحكم الغصب.
برهان ذلك: قول الله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}. ومن أجبر على بيع حقه فلم يرض فلا يجوز عليه؛ لأنه خلاف أمر الله تعالى، فهو أكل مال بالباطل إلا حيث أمر الله تعالى بالبيع، وإن لم يرض كالشفعة، وعلى الغائب، وعلى الصغير، وعلى الظالم.
واحتج القائلون بإجبار الشريك على البيع مع شريكه بخبر روي فيه لا ضرر، ولا ضرار وهذا خبر لم يصح قط، إنما جاء مرسلا، أو من طريق فيها إسحاق بن يحيى وهو مجهول ثم لو صح لكان حجة عليهم؛ لأن أعظم الضرار والضرر: هو الذي فعلوه من إجبارهم إنسانا على بيع ماله بغير رضاه، وبغير أن يوجب الله تعالى عليه ذلك، وما أباح الله تعالى قط أن يراعى رضا أحد الشريكين بإسخاط شريكه في ماله نفسه، وهذا هو الجور والظلم الصراح. ولا فرق بين أن يجاب أحد الشريكين إلى قوله: لا بد أن يبيع شريكي معي لأستجزل الثمن في حصتي، وبين أن يجاب الآخر إلى قوله: لا بد أن يمنع شريكي مع بيع حصته؛ لأن في ذلك ضررا علي في حصتي، وكلا الأمرين عدوان وظلم، لكن الحق أن كليهما ممكن من حصته، من شاء باع حصته ومن شاء أمسك حصته. وقد موهوا في ذلك بما روينا من طريق وكيع، حدثنا أبو بشر، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: أن نخلة كانت لأنسان في حائط آخر، فسأله أن يشتريها منه، فأبى، فقال رسول الله ﷺ: لا ضرر في الإسلام وهذا مرسل. ثم لو صح لكان حجة عليهم، لأننا نقول لهم نعم، وهذا منع من أن يجبر الآخر على الشراء من شريكه، وهو لا يريد ذلك، أو على البيع منه أو من غيره، وهو لا يريد ذلك: فهذان ضرر ظاهر. وذكروا أيضا: ما رويناه من طريق أبي داود، حدثنا سليمان بن داود العتكي، حدثنا حماد، حدثنا واصل مولى أبي عيينة قال: سمعت محمد بن علي يحدث عن سمرة بن جندب: أنه كانت له عضد من نخل في حائط رجل من الأنصار قال: ومع الرجل أهله فكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذى به، فطلب إليه أن يبيعه أو يناقله فأبى فذكر ذلك للنبي ﷺ فطلب إليه النبي ﷺ أن يبيعه، فأبى، فطلب إليه يناقله، فأبى قال: فهبه له ولك كذا وكذا أمرا رغبه فيه، فأبى، فقال: أنت مضار، فقال رسول الله ﷺ للأنصاري: اذهب فاقلع نخله.
قال أبو محمد: هذا منقطع؛ لأن محمد بن علي لا سماع له من سمرة، ثم لو صح لكانوا مخالفين له في موضعين: أحدهما أنهم لا يجبرون غير الشريك على البيع من جاره، ولا على البيع معه، وفي هذا الحديث خلاف ذلك.
والثاني قلع نخله وهم لا يقولون بهذا وبالله تعالى التوفيق.
1542 - مسألة: ولا يجوز بيع ما غنمه المسلمون من دار الحرب لأهل الذمة لا من رقيق، ولا من غيره
وهو قول عمر بن الخطاب على ما ذكرنا في " كتاب الجهاد ".
ومن طريق سعيد بن منصور، حدثنا جرير عن المغيرة بن مقسم عن أم موسى قالت: أتى علي بن أبي طالب بآنية مخوصة بالذهب من آنية العجم فأراد أن يكسرها ويقسمها بين المسلمين فقال ناس من الدهاقين: إن كسرت هذه كسرت ثمنها، ونحن نغلي لك بها
فقال علي: لم أكن لأرد لكم ملكا نزعه الله منكم، فكسرها وقسمها بين الناس.
قال أبو محمد: هذا من الصغار، وكل صغار فواجب حمله عليهم.
وأما الرقيق: ففيه وجه آخر، وهو أن الدعاء إلى الإسلام واجب بكل حال، ومن الأسباب المعينة على الإسلام كون الكافر والكافرة في ملك المسلم، ومن الأسباب المبعدة عن الإسلام كونهما عند كافر يقوي بصائرهما في الكفر وبالله تعالى التوفيق.
1543- مسألة: ولا يحل بيع شيء ممن يوقن أنه يعصي الله به أو فيه، وهو مفسوخ أبدا. كبيع كل شيء ينبذ أو يعصر ممن يوقن بها أنه يعمله خمرا. وكبيع الدراهم الرديئة ممن يوقن أنه يدلس بها. وكبيع الغلمان ممن يوقن أنه يفسق بهم أو يخصيهم، وكبيع المملوك ممن يوقن أنه يسيء ملكته. أو كبيع السلاح أو الخيل: ممن يوقن أنه يعدو بها على المسلمين. أو كبيع الحرير ممن يوقن أنه يلبسه، وهكذا في كل شيء؛ لقول الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} والبيوع التي ذكرنا تعاون ظاهر على الإثم والعدوان بلا تطويل، وفسخها تعاون على البر والتقوى. فإن لم يوقن بشيء من ذلك فالبيع صحيح؛ لأنه لم يعن على إثم، فإن عصى المشتري الله تعالى بعد ذلك فعليه:
روينا من طريق وكيع، حدثنا سفيان الثوري، عن ابن جرير عن عطاء قال: لا تبعه ممن يجعله خمرا.
1544 - مسألة: ومن باع شيئا جزافا كيله أو وزنه أو زرعه أو عدده، ولم يعرف المشتري بذلك فهو جائز لا كراهية فيه؛ لأنه لم يأت عن هذا البيع نهي في نص أصلا، ولا فيه غش، ولا خديعة ومنع منه: طاووس، ومالك وأجازه: أبو حنيفة، والشافعي، وأبو سليمان.
قال علي: ولا فرق بين أن يعلم كيله أو وزنه، أو زرعه أو عدده، ولا يعلمه المشتري، وبين أن يعلم من نسج الثوب، ولمن كان، ومتى نسج، وأين أصيب هذا البر، وهذا التمر، ولا يعلم المشتري شيئا من ذلك، والمفرق بينهما مخطئ وقائل بلا دليل. واحتجوا في ذلك بما رويناه من طريق عبد الرزاق، قال: قال ابن المبارك عن الأوزاعي: إن رسول الله ﷺ قال: لا يحل لرجل أن يبيع طعاما جزافا قد علم كيله حتى يعلم صاحبه وهذا منقطع فاحش الأنقطاع. ثم لو صح لكان حجة على المالكيين؛ لأنهم لا يخصون بهذا الحكم الطعام دون غيره، وليس في هذا المرسل إلا الطعام فقط. فإن قالوا: قسنا على الطعام غير الطعام. قلنا: فهلا قستم على الطعام غير الطعام في المنع من بيعه حتى يقبض. فإن قالوا: لم يأت النص إلا في الطعام. قلنا: وليس في هذا الخبر إلا الطعام، فأما اتبعوا النصين معا دون القياس، وأما قيسوا عليهما جميعا، وما عدا هذا فباطل متيقن، فكيف والنص قد جاء بالنهي عن البيع في كل ما ابتيع قبل أن يقبض فخالفوه وبالله تعالى التوفيق.
1545 - مسألة: وبيع الحيتان - الكبار أو الصغار - أو الأترج - الكبار أو الصغار - أو الدلاع، أو الثياب، أو الخشب، أو الحيوان، أو غير ذلك جزافا: حلال لا كراهية فيه، ومنع مالك من ذلك في الكبار من الحيتان، والخشب، وأجازه في الصغار - وهذا باطل لوجوه -:
أولها: أنه خلاف القرآن في قول الله - تعالى -: { وأحل الله البيع} . وقال - تعالى -: { وقد فصل لكم ما حرم عليكم} فهذا بيع حلال ولم يأت تفصيل بتحريمه . والثاني: أنه فاسد، إذ لم يجد الكبير الذي منع به من بيع الجزاف من الصغير الذي أباحه به - وهذا رديء جدا؛ لأنه حرم وحلل، ثم لم يبين ما الحرام فيجتنبه من يبيعه، وما الحلال فيأتيه . والثالث: أنه لا كبير إلا بإضافته إلى ما هو أصغر منه، ولا صغير إلا بإضافته إلى ما هو أكبر منه، فالشابل صغير جدا بالإضافة إلى الشولي وكبير جدا بالإضافة إلى السردين، والمداري كبار جدا بالإضافة إلى السهام وصغار جدا بالإضافة إلى الصواري، وهكذا في كل شيء . والرابع: أنه لم يزل عمل المسلمين في عهد رسول الله ﷺ وبعده في شرق الأرض وغربها: بيع الضياع، وفيها النخل الكثير، والشجر، وغير ذلك، بغير عدد، لكن جزافا - وهو أحد من يجيز ذلك هنالك، ويمنعه ههنا - وما نعلم له متعلقا أصلا، ولا أحدا قاله قبله .
1546 - مسألة: وبيع ألبان النساء جائز، وكذلك الشعور، وبيع العذرة والزبل للتزبيل، وبيع البول للصباغ: جائز وقد منع قوم من بيع كل هذا.
قال أبو محمد: لا خلاف في أن للمرأة أن تحلب لبنها في إناء وتعطيه لمن يسقيه صبيا، وهذا تمليك منها له، وكل ما صح ملكه وانتقال الإملاك فيه: حل بيعه؛ لقول الله تعالى: {وأحل الله البيع} إلا ما جاء فيه نص بخلاف هذا.
وأما الشعور، والعذرة، والبول: فكل ذلك يطرح، ولا يمنع منه أحد: هذا عمل جميع أهل الأرض، فإذا تملك لأحد جاز بيعه كما ذكرنا.
روينا من طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبد الملك العرزمي عن عطاء بن أبي رباح: لا بأس بأن يستمتع بشعور الناس، كان الناس يفعلونه.
1547 - مسألة: وبيع النحل، ودود الحرير، والضب، والضبع: جائز حسن: أما الضب والضبع: فحلال أكلهما كما ذكرنا قبل وصيد من الصيود، وما جاز تملكه جاز بيعه كما قدمنا.
وأما النحل، ودود الحرير: فلهما منفعة ظاهرة، وهما مملوكان: فبيعهما جائز. ومنع أبو حنيفة من كل ذلك وما نعلم له حجة أصلا، ولا أحدا سبقه إلى المنع من بيع النحل، ودود القز
وأما ما عسلت النحل في غير خلايا مالكها: فهو لمن سبق إليه؛ لأنه ليس بعضها، ولا متولدا منها كالبيض، والولد، واللبن، والصوف، لكنه كسب لها، كصيد الجارح، وهما غير النحل والجارح: فهو لمن سبق إليه
وأما ما وضعت في خلايا صاحبها: فله؛ لأنه لذلك وضع الخلايا، فما صار فيها فهو له.
وكذلك من وضع حبالة للصيد، أو قلة للماء، أو حظيرا للسمك: فكل ما وقع في ذلك فهو له؛ لأنه قد تملكه بوضع ما ذكرنا له، وبالله تعالى التوفيق.
1548 - مسألة: وابتياع الحرير جائز، وقال بالمنع منه بعض السلف: كما روينا من طريق محمد بن المثنى أنا حفص بن غياث عن ليث عن طاووس: أنه كره التجارة في الشابري الرقيق، والحرير ولبسه. جاء في ذلك: ما روينا من طريق ابن وهب أنا معاوية بن صالح عن عبد الوهاب بن بخت عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: إن الله تبارك وتعالى حرم الخمر وثمنها، وحرم الميتة وثمنها وحرم الحرير وثمنه. وهذا فيه معاوية بن صالح وهو ضعيف ولو صح لقلنا به وقد صح عن النبي ﷺ، أنه قال في حلة الحرير التي كساها عمر لم أكسكها لتلبسها، ولكن لتبيعها أو كلاما هذا معناه.
1549 - مسألة: وابتياع ولد الزنى، والزانية حلال: روينا من طريق محمد بن المثنى، حدثنا معتمر بن سليمان عن ليث عن مجاهد قال: ولد الزنى لا تبعه، ولا تشتره، ولا تأكل ثمنه.
قال علي: لا حجة في أحد دون رسول الله ﷺ: وأحل الله البيع وقد أمر عليه الصلاة والسلام ببيع الأمة المحدودة في الزنى ثلاث مرات إذا زنت الرابعة.
1550 - مسألة: وبيع جلود الميتات كلها حلال إذا دبغت، وكذلك جلد الخنزير، وأما شعره وعظمه فلا. ولا يحل عظام الميتة أصلا ومنع مالك من بيع جلودها وإن دبغت وأباحه الشافعي، وأبو حنيفة. وأباح مالك بيع صوف الميتة ومنع منه الشافعي.
برهان صحة قولنا: قول رسول الله ﷺ: هلا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به قالوا: يا رسول الله إنها ميتة، قال إنها حرم أكلها وقد ذكرناه بإسناده في " كتاب الطهارة " من ديواننا هذا فأغنى عن إعادته. فأمر عليه السلام بأن ينتفع بجلود الميتة بعد الدباغ، وأخبر أن أكلها حرام، والبيع منفعة بلا شك، فهو داخل في التحليل، وخارج عن التحريم إذ لم يفصل تحريمه، قال تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم} أما الخنزير: فحرام كله، حاشا طهارة جلده بالدباغ فقط.
ومن عجائب احتجاج المالكيين ههنا قولهم: إن الجلد يموت، وكذلك الريش تسقيه الميتة،
وأما الصوف والشعر فلا يموت فلو عكس قولهم، فقيل لهم: بل الجلود لا تموت وكذلك الريش،
وأما الصوف والشعر فتسقيه الميتة بأي شيء كانوا ينفصلون، وهل هي إلا دعوى كدعوى
روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن حماد بن أبي سليمان لا بأس بريش الميتة، وأباح الأنتفاع بعظم الفيل وبيعه: طاووس، وابن سيرين، وعروة بن الزبير ومنع منه الشافعي، وغيره وبالله تعالى التوفيق.
1551 - مسألة: وبيع المكاتب قبل أن يؤدي شيئا من كتابته جائز، وتبطل الكتابة بذلك، فإن أدى منها شيئا حرم بيع ما قابل منه ما أدى، وجاز بيع ما قابل منه ما لم يؤد، وبطلت الكتابة فيما بيع منه، وبقي ما قابل منه ما أدى حرا مثل أن يكون أدى عشر كتابته، فإن عشره حر ويجوز بيع تسعة أعشاره، وهكذا في كل جزء كثر أو قل وهذا مكان اختلف الناس فيه، فقالت طائفة: المكاتب عبد ما بقي عليه ولو درهم من كتابته أو أقل، وبيعه جائز ما دام عبدا وتنتقض الكتابة بذلك، والمكاتب عندهم معتق بصفة وهذا قول أبي سليمان وأصحابنا.
وقالت طائفة: المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم أو أقل، إلا أنه لا يحل بيعه إلا أن يعجز وهو قول أبي حنيفة، ومالك، والشافعي
وهذا قول ظاهر التناقض؛ لأنه كان عبدا فبيعه جائز ما لم يأت بنص بالمنع من بيعه، ولا نص في ذلك. وذهب قوم إلى أنه إن أدى ربع كتابته فهو حر وهو غريم يتبع بما بقي عليه منها:
روينا من طريق سعيد بن منصور، حدثنا هشيم، حدثنا المغيرة، قال: سمعت إبراهيم، والشعبي يقولان: كان ابن مسعود يقول في المكاتب إذا أدى ربع قيمته فهو غريم لا يسترق. وكان زيد بن ثابت يقول: هو عبد ما بقي عليه درهم. وقال علي بن أبي طالب: المكاتب يعتق منه بقدر ما أدى، ويرق منه بقدر ما بقي، ويرث بقدر ذلك، ويحجب بقدر ذلك.
ومن طريق سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن عمه القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن جابر بن سمرة قال: قال عمر بن الخطاب: تكاتبون مكاتبين فأيهم ما أدى الشطر فلا رق عليه.
وروي، عن ابن مسعود أيضا: إذ أدى الثلث فهو غريم.
ومن طريق وكيع، حدثنا سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم كان يقال: إذا أدى المكاتب الربع فهو غريم.
ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج عن عطاء إذا بقي على المكاتب ربع كتابته وأدى سائرها فهو غريم، ولا يعود عبدا.
ومن طريق عبد الرزاق عن عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير قال: قال ابن عباس: إذا بقي على المكاتب خمس أواق: أو خمس ذود، أو خمسة أوسق: فهو غريم
وروي عنه أيضا إذا أخذ الصك فهو غريم. وبكل هذه الأقوال قالت طائفة من العلماء.
قال علي: الحجة عند التنازع هو ما أمر الله تعالى بالرجوع إليه إن كنا مؤمنين من كتابه وسنة رسوله ﷺ .
روينا من طريق البخاري، حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، هو ابن سعد، عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أخبرته أن بريرة جاءت تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت منها شيئا، فقالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون ولاؤك لي فعلت فذكرت ذلك بريرة لأهلها فأبوا وقالوا: إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل، ويكون لنا ولاؤك فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فقال رسول الله ﷺ ابتاعي وأعتقي فإنما الولاء لمن أعتق.
ومن طريق البخاري، حدثنا خلاد بن يحيى، حدثنا عبد الواحد بن أيمن المكي عن أبيه قال: دخلت على عائشة فقالت: دخلت علي بريرة وهي مكاتبة فقالت: يا أم المؤمنين اشتريني فإن أهلي يبيعوني فأعتقيني فقالت: نعم، فقالت: إن أهلي لا يبيعوني حتى يشترطوا ولائي فقالت: لا حاجة لي فيك، فسمع ذلك النبي ﷺ أو بلغه فقال: ما شأن بريرة اشتريها فأعتقيها وليشترطوا ما شاءوا قالت فاشتريتها فأعتقتها وذكرت باقي الخبر. فأمر بيع بريرة وهي مكاتبة على تسع أواقي في تسع سنين، كل سنة أوقية، أشهر من الشمس، وأنها لم تكن أدت بعد من كتابتها شيئا، وأنها بيعت كذلك، وأن أهلها عرضوها للبيع وهي مكاتبة بعلم النبي ﷺ لا ينكر ذلك عليهم، بل أمر بشرائها وعتقها والولاء لمن أعتقها، وهذا ما لا مخلص منه، فبلحوا عندها: فقالت طائفة: إنها كانت عجزت وهذا كذب بحت مجرد، ما روى قط أحد أنها كانت عجزت، ولا جاء ذلك عنها في الخبر، وأين العجز منها وهي في استقبال تسعة أعوام، وعائشة بعد عند رسول الله ﷺ جائزة الأمر تبتاع وتعتق، ولم تقم عند رسول الله ﷺ إلا تسعة أعوام فقط.
واحتج بعضهم بقول الله تعالى: {أوفوا بالعقود} .
فقلنا: نعم وهو مأمور بالوفاء بالعقد وليس له نقضه لكن إذا خرج عن ملكه بطل عقده عن غيره لقول الله تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها}. والعجب أن المحتجين بهذا يرون الرجوع في العتق في الوصية، ولا يحتجون على أنفسهم ب أوفوا بالعقود وليس إجماعا فإن سفيان الثوري لا يرى الرجوع في العتق والوصية، وكلهم يجيز بيع العبد يقول له سيده: إن جاء أبي فأنت حر، ويبطلون بيعه بهذا العقد، ولا يجيزون له في العقد بغير إخراجه عن ملكه فظهر عظيم تناقضهم، وفساد قولهم. فإن ذكر ذاكر الآثار التي جاءت المكاتب عبد ما بقي عليه درهم فإنها كلها ساقطة: أحدها من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهي صحيفة، وكم خالفوا هذه الطريق إذا خالفت مذهبهم. والآخر من طريق عطاء بن السائب، عن ابن عمرو بن العاص، ولا سماع له منه والحديث منقطع. ثم لو صح لما كان فيهما إلا تحديد: أنه عبد ما بقي عليه عشر مكاتبته أو عشر عشرها. وخبر موضوع من طريق ابن عمر مكذوب فسقطت كلها. وأما إذا أدى شيئا من كتابته، فلما رويناه من طريق أحمد بن شعيب أنا أحمد بن عيسى الدمشقي، حدثنا يزيد بن هارون أنا حماد بن سلمة عن قتادة، وأيوب السختياني، قال قتادة: عن خلاس عن علي بن أبي طالب، وقال أيوب عن عكرمة، عن ابن عباس، ثم اتفق علي، وابن عباس، كلاهما عن النبي ﷺ، أنه قال: المكاتب يعتق منه بقدر ما أدى ويقام عليه الحد بقدر ما عتق منه ويورث بقدر ما عتق منه.
قال علي: وهذا إسناد في غاية الصحة، وما نعلم أحدا عابه إلا بأنه قد أرسله بعض الناس فكان هذا عجبا لأن المعترضين بهذا يقولون: إن المرسل أقوى من المسند، أو مثله، فالآن صار إرسال من أرسل يبطل، ويبطل به الإسناد ممن أسنده، وما يسلك في دينه هذه الطريق إلا من لا دين له، ولا حياء ونعوذ بالله من الخذلان.