الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الثاني/الصفحة السادسة والستون


كتاب الحج

836 - مسألة : من كان له أهل حاضرو المسجد الحرام وأهل غير حاضرين فلا هدي عليه ولا صوم ؛ لأن أهله حاضرو المسجد الحرام فمن حج بأهله فتمتع ، فإن أقام أكثر من أربعة أيام بأهله بمكة فأهله حاضرو المسجد الحرام ، وإن لم يقم بها إلا أربعة أيام فأقل فليس أهله حاضري المسجد الحرام فعليه الهدي أو الصوم . وقد حج مع رسول الله ﷺ أهله وجماعة من أصحابه رضي الله عنهم بأهلهم فوجب على من تمتع منهم الهدي أو الصوم ، فصح أن من هذه صفته فليس أهله حاضري المسجد الحرام ، وإنما أقام [ رسول الله ] عليه السلام بمكة أربعا في حجة الوداع ، ثم رجعنا عن هذا القول إلى أنه إن أقام بأهله بمكة عشرين يوما فأقل فليس ممن أهله حاضرو المسجد الحرام فإن بقي أكثر من عشرين يوما مذ يدخل مكة إلى أن يهل بالحج فهو ممن أهله حاضروا المسجد الحرام ؛ لأن رسول الله ﷺ أقام بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة . وإن كان مكي لا أهل له أصلا ، أو له أهل في غير الحرم فتمتع فعليه الهدي أو الصوم ، لأنه ليس ممن أهله حاضروا المسجد الحرام . والأهل : هم العيال خاصة هاهنا ؛ لأن كل من حج مع رسول الله ﷺ من قريش فإن أهلهم كانوا بمكة - يعني أقاربهم - فلم يسقط هذا عنهم حكم الهدي أو الصوم الذي على المتمتع - وبالله - تعالى - التوفيق . وأما قولنا : إن الهدي الواجب على المتمتع رأس من الغنم أو من الإبل أو من البقر ، أو شرك في بقرة أو ناقة بين عشرة فأقل سواء كانوا متمتعين أو بعضهم ، أو كان فيهم من يريد نصيبه لحما للأكل أو البيع أو لنذر أو لتطوع فلقول الله - تعالى - : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } واسم الهدي يقع على الشاة ، والبقرة ، والبدنة . وروينا عن ابن مسعود أنه كان يجيز في ذلك الشاة . وعن ابن عباس مثل ذلك . واختلف فيه عن أم المؤمنين عائشة فروي عنها مثل قول ابن عباس - وروي عنها أيضا ، وعن ابن عمر أنه لا يجزئ في ذلك شاة وأنه إنما في ذلك الناقة أو البقرة . كما روينا عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق هو السبيعي - عن وبرة بن عبد الرحمن قال : قال لي ابن عمر : صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعت إلى أهلك أحب إلي من شاة . ومن طريق حماد بن زيد عن غيلان بن جرير قال : سمعت ابن عمر يسأل عن هدي المتعة - وهم يذكرون الشاة - فقال ابن عمر : شاة شاة ، ورفع بها صوته ؛ لا ؛ بل بقرة ، أو ناقة - وعن عروة بن الزبير مثل قول ابن عمر . وروينا عن طاوس الترتيب - روينا من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي نا علي بن عبد الله هو ابن المديني - نا هشام بن يوسف أنا ابن جريج قال : سمعت ابن طاوس يزعم عن أبيه أنه كان يقول : بقدر يسار الرجل إن استيسر جزور فجزور ، وإن استيسر بقرة فبقرة ، وإن لم يستيسر إلا شاة فشاة . قال : وكان أبي يفرق بين ما استيسر وتيسر . قال : فإن استيسر على قدر يساره ، وتيسر ما شاء . قال أبو محمد : وروينا من طريق البخاري نا إسحاق بن منصور أنا النضر بن شميل أنا شعبة نا أبو جمرة هو نصر بن عمران الضبعي - قال : سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن المتعة ؟ فأمرني بها وسألته عن الهدي ؟ فقال : فيها جزور ، أو بقرة ، أو شاة ، أو شرك في دم ؛ وهكذا رويناه في تفسير هدي المتعة أيضا من طريق الحجاج بن المنهال عن حماد بن سلمة عن أبي جمرة عن ابن عباس ، وبهذا نأخذ . فأما إجازة الشاة في ذلك فهو قول أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي : وأما الشرك في الدم فبه يقول أبو حنيفة ، والشافعي ، والأوزاعي ، وسفيان الثوري ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأبو سليمان ؛ إلا أن أبا حنيفة قال : لا يجوز الشرك في الدم إلا بأن يكونوا كلهم يريدونه للهدي ، وإن اختلفت أسبابهم . وقال صاحبه زفر بن الهذيل : لا يجوز إلا بأن تكون أسبابهم واحدة ، مثل أن يكونوا كلهم متمتعين ، أو كلهم مفتدين ، ونحو هذا . وقال الشافعي ، وأبو سليمان : كما قلنا ، إلا أنهم [ كلهم ] قالوا : لا يجوز أن يشرك فيه أكثر من سبعة . فأما قول مالك : فإنهم احتجوا برواية رويناها من طريق أبي العالية ، وسعيد بن جبير ، وابن سيرين ، كلهم عن ابن عمر . قال أبو العالية : سمعت ابن عمر يقول : يقولون : البدنة عن سبعة . والبقرة عن سبعة ، ما أعلم النفس تجزئ إلا عن النفس . وقال سعيد بن جبير عنه أنه قال : ما كنت أشعر أن النفس تجزئ إلا عن النفس وقال ابن سيرين عنه أنه قال : لا أعلم وما يراق عن أكثر من إنسان واحد . وهو رأي ابن سيرين ؛ وكره ذلك الحكم ، وحماد بن أبي سليمان ، ما نعلم لهم شبهة غير هذا - وهذا لا حجة فيه ، لأن ابن عمر قد رجع عن هذا إلى إجازة الاشتراك ، وإنما أخبر هاهنا بأنه لم يعلم بذلك ولا شعر به ، وليس من لم يعلم حجة على من علم حدثنا يوسف بن عبد الله النمري نا عبد الله بن محمد بن يوسف الأزدي القاضي نا إسحاق بن أحمد نا أحمد بن عمرو بن موسى العقيلي نا محمد بن عيسى الهاشمي نا عمرو بن علي نا وكيع بن الجراح نا عريف بن درهم عن جبلة بن سحيم عن ابن عمر قال : الجزور ، والبقرة ، عن سبعة . قال أبو محمد : إجازته عن ذلك دليل بين على أنه علم بالسنة في ذلك بعد أن لم يكن علمها ، وقد جاء هذا نصا عنه كما روينا من طريق ابن أبي شيبة نا ابن نمير نا مجالد عن { الشعبي قال : قلت لابن عمر : البقرة ، والبعير تجزئ عن سبعة ؟ فقال : وكيف ؟ ألها سبعة أنفس ؟ فقلت له : إن أصحاب محمد ﷺ الذين بالكوفة أفتوني ؛ فقال القوم : نعم قد قاله رسول الله ﷺ وأبو بكر وعمر فقال ابن عمر : ما شعرت } ، فبطل تعلقهم بابن عمر ، ولم يمنع من ذلك حماد ، والحكم ، لكن كرهاه فقط ، فصح أنهما مجيزان لذلك ، وإنما هو ابن سيرين رأي لا عن أثر - فبطل أن يكون لهذا القول متعلق أصلا . وقد ذكرنا عن ابن عمر آنفا أنه رأى الصوم في التمتع ولم يجز الشاة في ذلك - وروينا من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن زيد بن جبير قال : سمعت ابن عمر سأل عمن يهدي جملا ؟ فقال : ما رأيت أحدا فعل ذلك . قال علي : من الباطل الفاحش أن يكون ابن عمر ، أو غيره حجة في مكان غير حجة في [ مكان ] آخر - وروينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قال : كان أصحاب محمد ﷺ يقولون : البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة . وعن قتادة عن أنس كان أصحاب محمد ﷺ يشركون السبعة في البدنة من الإبل . وعن سفيان الثوري عن مسلم القري عن حبة العرني عن علي بن أبي طالب قال : البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة . وعن سفيان الثوري عن زهير بن أبي ثابت عن سليمان بن زافر العبسي قال : أنا وأمي أخذنا مع حذيفة بن اليمان من بقرة عن سبعة في الأضحى . وعن سفيان الثوري عن أبي حصين عن خالد بن سعد عن أبي مسعود البدري قال : تنحر البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة . ومن طريق ابن أبي شيبة نا ابن علية عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سليمان بن يسار عن عائشة أم المؤمنين قالت : البقرة ، والجزور عن سبعة . وبه إلى ابن أبي شيبة عن ابن فضيل عن مسلم عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود قال : البقرة ، والجزور عن سبعة . وعن يحيى بن سعيد القطان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس قال : الجزور ، والبقرة عن سبعة . وصح القول بذلك أيضا عن عطاء ، وطاوس ، وسليمان التيمي ، وأبي عثمان النهدي ، والحسن البصري ، وقتادة ، وسالم بن عبد الله بن عمر ، وعمرو بن دينار ، وغيرهم . والحجة لهذا القول ما رويناه من طريق مالك عن أبي الزبير المكي عن جابر بن عبد الله أنه قال : { نحرنا مع رسول الله ﷺ يوم الحديبية البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة } . ومن طريق يحيى بن سعيد القطان نا جعفر بن محمد نا أبي هو محمد بن علي بن الحسين - نا { جابر بن عبد الله فذكر حجة النبي ﷺ وفيها فنحر عليه السلام ثلاثا وستين ، فأعطى عليا فنحر ما غبر ، وأشركه في هديه } ومن طريق أحمد بن شعيب أنا أبو داود هو الطيالسي - نا عفان بن مسلم نا حماد بن سلمة عن قيس بن سعد عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله { أن رسول الله ﷺ نحر البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة } قال أبو محمد : فصح هذا عن النبي ﷺ وهو إجماع من الصحابة كما أوردنا - وأما قول من لم يجز ذلك إلا عن سبعة فإنه تعلق بما ذكرنا عن رسول الله ﷺ وعن الصحابة رضي الله عنهم . فأما الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم فقد اختلفوا - : روينا من طريق أحمد بن شعيب أنا إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه - أنا الفضل بن موسى نا الحسين بن واقد عن علياء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس قال : { كنا مع رسول الله ﷺ فحضر النحر فنحرنا البعير عن عشرة } . ومن طريق الحذافي عن عبد الرزاق نا معمر نا قتادة قال : قال سعيد بن المسيب : البدنة عن عشرة - : فهذا اختلاف من الصحابة والتابعين ، على أننا إذا تأملنا فعل الصحابة رضي الله عنهم وقولهم في ذلك فإنما هو أن البقرة عن سبعة ، والبدنة عن سبعة ، وهذا قول صحيح ، وليس فيه منع من جوازهما عن أكثر من سبعة . وكذلك الأثر عن رسول الله ﷺ أيضا إنما فيه { أنه عليه السلام : نحر البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة } ، وهذا حق ودين ، وليس فيه منع من نحرهما عن أكثر من سبعة ، أو عن أقل من سبعة " . وكذلك ما رويناه من طريق أبي داود نا موسى بن إسماعيل نا حماد بن سلمة عن قيس بن سعد عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله ﷺ قال : { البقرة عن سبعة ، والجزور عن سبعة } . فنعم ، قال : الحق وقوله الحق ، وليس في هذا منع من جوازهما عن أكثر من سبعة إن جاء برهان بذلك ، وإلا فلا تجوز الزيادة على ذلك بالدعوى . فنظرنا في ذلك فوجدنا ما رويناه من طريق أبي داود السجستاني نا عمرو بن عثمان ، ومحمد بن مهران الرازي قالا [ جميعا ] : ثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة { أن رسول الله ﷺ ذبح عمن اعتمر من أزواجه بقرة بينهن } . ومن طريق البخاري نا عثمان هو ابن أبي شيبة - نا جرير هو ابن عبد الحميد - عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي عن الأسود عن { عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : خرجنا مع رسول الله ﷺ ولا نرى إلا أنه الحج فلما قدمنا تطوفنا بالبيت فأمر النبي ﷺ من لم يكن ساق الهدي أن يحل فحل من لم يكن ساق الهدي ونساؤه لم يسقن فأحللن } . قال أبو محمد : كن رضوان الله عليهن تسعا خرجت منهن عائشة لأنها لم تحل لكنها أردفت حجا على عمرتها كما جاء في أثر آخر فبقي ثمان لم يسقن الهدي فأحللن كما تسمع ونحر عليه السلام عنهن كلهن بقرة واحدة فهذا عن أكثر من سبعة . فإن قيل : قد روي أنه عليه السلام أهدى عن نسائه البقر ؟ قلنا : هذا لفظ رويناه من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين فذكرت حديثا ، وفيه : { فأتينا بلحم ، فقلت : ما هذا ؟ قالوا : أهدى رسول الله ﷺ عن نسائه البقر } . وقد روينا هذا الخبر نفسه عمن هو أحفظ وأضبط من ابن الماجشون عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين فبين ما أجمله ابن الماجشون .

ورويناه من طريق البخاري عن مسدد عن سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين فذكرت الحديث " وفيه { قالت : فلما كنا بمنى أتيت بلحم بقر ، فقلت : ما هذا ؟ قالوا : ضحى رسول الله ﷺ عن أزواجه بالبقر } . فبين سفيان في هذا الخبر - وهو الذي رواه عبد العزيز بن الماجشون نفسه - أن تلك البقر كانت أضاحي ، والأضاحي غير الهدي الواجب في التمتع بالعمرة إلى الحج بلا شك . ومن طريق مسلم بن الحجاج حدثني محمد بن حاتم نا محمد بن بكر أنا ابن جريج أنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يحدث عن حجة النبي ﷺ { فأمرنا رسول الله ﷺ إذا أحللنا أن نهدي ونجمع النفر منا في الفدية وذلك حين أمرهم أن يحلوا في هديهم من حجهم } . قال أبو محمد : هذا سند لا نظير له ، وبيان لا إشكال فيه ، والبقر يقع على العشرة وأقل وأكثر ؛ فنظرنا في الآية فوجدنا الله - تعالى - أيضا يقول : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } و " من " للتبعيض فجاز الاشتراك في الهدي بظاهر الآية . فإن قيل : فمن أين اقتصرتم على العشرة فقط ؟ قلنا : لوجهين : أحدهما : أنه لم يقل أحد بأنه يجوز أن يشترك في هدي فرض أكثر من عشرة ؟ والثاني : ما رويناه عن طريق البخاري نا مسدد نا أبو الأحوص نا سعيد بن مسروق عن عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج عن أبيه عن جده رافع بن خديج فذكر حديث حنين " وفيه : { أنه عليه السلام قسم بينهم وعدل بعيرا بعشر شياه } . قال علي : قد صح إجماع المخالفين لنا مع ظاهر الآية بأن شاة تجزئ في الهدي الواجب في التمتع ، والإحصار ، والتطوع ، وقد عدل رسول الله ﷺ عشر شياه ببعير . فصح أن الشاة بإزاء عشر البعير جملة ؛ وأن البقرة كالبعير في جواز الاشتراك فيها في الهدي الواجب فيما ذكرنا . فصح أن البعير والبقرة يجزئان عما يجزئ عنه عشر شياه ، وعشر شياه تجزئ عن عشرة ، فالبعير ، والبقرة يجزئ كل واحد منهما عن عشرة ، وهو قول ابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وإسحاق بن راهويه . وبه نقول لما ذكرنا - وبالله - تعالى - التوفيق . وأما من منع من اختلاف أغراض المشتركين في الهدي فإنهم احتجوا بأن قالوا : إذا كان فيهم من يريد نصيبه للبيع ، أو للأكل لا للهدي فلم تحصل البدنة ، ولا البقرة مذكاة للهدي المقصود به إلى الله - عز وجل - . وحجة زفر : أنه لم يحصل الهدي المذكور إذا اشترك فيه المحصر ، والمتمتع ، والمتطوع ، والقارن ، فلم يحصل مذكى لما قصده به كل واحد منهم ، والذكاة لا تتبعض . قال أبو محمد : وهذا لا يحل الاحتجاج به ؛ لأنه قد صح عن رسول الله ﷺ كما أوردنا أنه أمر أن يجتمع النفر منهم في الهدي وأنه قال عليه السلام : { البقرة عن سبعة ، والجزور عن سبعة } فعم عليه السلام ولم يخص من اتفقت أغراضهم ممن اختلفت ؛ وإنما أمرنا في الهدي بالتذكية وبالنية عما يقصده المرء ، وقد قال عليه السلام : { ولكل امرئ ما نوى } فحصلت البدنة ، والبقرة مذكاة إذ ذكيت كما أمر الله - تعالى - بأمر مالكها وسمى الله - تعالى - عليها ؛ ثم لكل واحد منهم في حصته منها نية ، قال - عز وجل - : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } فأحكام جملتها أنها مذكاة ؛ وحكم كل جزء منها ما نواه فيه مالكه ، ولا فرق حينئذ بين أجزاء سبعة من البقرة ، أو البعير وبين سبع شياه ولا يختلفون في أنهم ، وإن كانت أغراضهم متفقة وكان سببهم كلهم واحدا ، فإن لكل واحد حكمه وأنه قد يمكن أن يقبل الله - تعالى - من بعضهم ، ولا يقبل من بعضهم ؛ ولا يقدح ذلك في حصة المتقبل منه - وبالله - تعالى - التوفيق . وأما قولنا : لا يجزئه أن يهديه إلا بعد أن يحرم بالحج ، وأن له أن يذبحه أو ينحره متى شاء بعد ذلك ولا يجزئه أن يهديه ، وينحره إلا بمنى أو بمكة ؛ فلأن الله - تعالى - قال : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } فإنما أوجبه - تعالى - على من تمتع بالعمرة إلى الحج ، لا على من لم يتمتع بالعمرة إلى الحج [ بلا شك ] فهو ما لم يحرم بالحج فلم يتمتع بعد بالعمرة إلى الحج ، وإذ لم يتمتع بعد بالعمرة إلى الحج فالهدي غير واجب عليه ، ولا يجزئ غير واجب عن واجب إلا بنص وارد في ذلك ؛ ولا خلاف بين أحد في أنه إن بدا له فلم يحج من عامه ذلك فإنه لا هدي عليه ؛ فصح أنه ليس [ عليه ] هدي بعد ، وإذا لم يكن عليه فلا يجزئه ما ليس عليه عما يكون عليه بعد ذلك ؛ وهو قول الشافعي ، وأبي سليمان . وأما ذبحه ونحره بعد ذلك فلأن هذا الهدي قد بين الله - تعالى - لنا أول وقت وجوبه ، ولم يحد آخر وقت وجوبه بحد ، وما كان هكذا فهو دين باق أبدا حتى يؤدى ؛ والأمر به ثابت حتى يؤدى ؛ ومن خصه بوقت محدود فقد قال على الله - تعالى - ما لم يقله - عز وجل - وهذا عظيم جدا وقال أبو حنيفة ، ومالك : لا يجزئ هديه قبل يوم النحر ، وهذا قول لا دليل على صحته بل هو دعوى بلا برهان ، وما كان هكذا فهو ساقط ؛ والعجب من تجويز أبي حنيفة تقديم الزكاة وإجازة أصحابه لمن نذر صيام يوم الخميس فصام يوم الأربعاء قبله أجزأه ثم لا يجيزون هدي المتعة قبل يوم النحر وأما قولنا : إنه لا يجزئ إلا بمكة أو منى فإن قوما قالوا : يجزئ في كل بلد ؛ لأن الله - تعالى - لم يحد موضع أدائه فهو جائز في كل موضع ، ولو أراد الله - تعالى - قصره على مكان دون مكان لبينه كما بين ذلك في جزاء الصيد بقوله - تعالى - : { هديا بالغ الكعبة } ولم يقل في هدي المتعة ، ولا في هدي المحصر { وما كان ربك نسيا } . فإن قيل : نقيس الهدي على الهدي في ذلك ؟ قلنا : القياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ؛ لأنه إن صححتم قياسكم هدي المتعة على هدي جزاء الصيد لزمكم أن تقيسوه عليه في تعويض الإطعام من الهدي والصيام في هدي المتعة وأنتم لا تقولون هذا ؛ فظهر فساد قياسكم وتناقضه قال أبو محمد : لكن الحجة في ذلك أن الله - تعالى - قال : { ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق } . وقال - تعالى - : { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير } . فجاء النص بأن شعائر الله - تعالى - { محلها إلى البيت العتيق } وأن البدن من شعائر الله - تعالى - فصح يقينا أن { محلها إلى البيت العتيق } ولا خلاف بين أحد في أن حكم الهدي كله كحكم البدن - : روينا من طريق أبي داود نا أحمد بن حنبل نا يحيى بن سعيد القطان نا جعفر بن محمد بن علي عن أبيه أن جابر بن عبد الله حدثه أن رسول الله ﷺ قال : { قد نحرت هنا ، ومنى كلها منحر } . نا أحمد بن عمر بن أنس نا عبيد الله بن الحسين بن عقال نا إبراهيم بن محمد الدينوري نا محمد بن أحمد بن الجهم نا معاذ بن المثنى نا مسدد نا حفص بن غياث عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر { أن رسول الله ﷺ قال عند المنحر : هذا المنحر ، وفجاج مكة كلها منحر } { وقال عليه السلام في منى : هذا المنحر ، وفجاج منى كلها منحر } فصح أنه حيثما نحرت البدن ، والإهداء من فجاج مكة ومنى - وهو الحرم كله - فقد أصاب الناحر ، وأنه لا يجوز نحر البدن والهدي في غير الحرم إلا ما خصه النص من هدي المحصر ، وهدي التطوع إذا عطب قبل بلوغه مكة . وروينا عن طاوس ، وعطاء قالا : كل ما كان من هدي فهو بمكة ، والصيام والإطعام حيث شئت - وعن مجاهد : انحر حيث شئت . وأما قولنا : ومن كان أهله ساكنين في الحرم ؟ فلا يلزمه في تمتعه هدي ولا صوم ، وهو محسن في تمتعه - وقال قوم : هو مسيء في تمتعه - : قال أبو محمد : قال الله - تعالى - : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } . قال علي : فقال المخالفون : لو أن الله - تعالى - أراد ما قلتم لقال ذلك على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ؛ فصح أن المتعة إنما هي لغير أهل مكة . قال أبو محمد : ليس كما قالوا ؛ لأن الهدي أو الصوم الذي أوجبه الله - تعالى - في التمتع إنما هو نسك زائد وفضيلة وليس جبرا لنقص كما ظن من لا يحقق ؛ فهو لهم لا عليهم . برهان صحة ذلك - : قول رسول الله ﷺ : { لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ، ولجعلتها عمرة ، ولأحللت } أو كما قال عليه السلام ؛ فأخبر عليه السلام بفضل المتعة ، وأنها أفضل أعمال الحج ، وأسقط الله - عز وجل - الهدي عن أهل مكة والصوم فيها لما هو أعلم به ، وظاهره الرفق بهم ، لأنه لا شك في أن الله - تعالى - لو كلفهم ذلك لكان حرجا عليهم لسهولة العمرة عليهم ولإمكانها لهم كل يوم بخلاف أهل الآفاق . وقال الله - تعالى - : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } . ويبطل قول المخالف : أن الآية لو كانت كما ظن لحرمت العمرة في أشهر الحج على أهل مكة والحرم ؛ وهذا خلاف ما جاءت به السنة من الحض على العمرة ، وأنها كفارة لما بينهما ، فدخل في ذلك أهل مكة وغيرهم . روينا عن سعيد بن منصور نا هشيم نا الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال : ليس على أهل مكة هدي في المتعة . ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم ، ووكيع ، قال هشيم : نا المغيرة بن مقسم ، ويونس بن عبيد ، قال المغيرة : عن النخعي ، وقال يونس : عن الحسن ، وقال وكيع : عن الحسن بن حي عن ليث عن عطاء ، وطاوس ، ومجاهد ؛ ثم اتفق عطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، والحسن ، والنخعي ، قالوا كلهم : ليس على المكي هدي في المتعة ومن طريق الحذافي عن عبد الرزاق عن ابن جريج ، ومعمر قال ابن جريج : عن عطاء ، وقال معمر ، عن الزهري ؛ ثم اتفق الزهري ، وعطاء قالا جميعا في المكي يمر بالميقات فيعتمر منه : إنه ليس بمتمتع - وبهذا نقول . وروينا من طريق ابن أبي شيبة نا وكيع عن سفيان عن ابن طاوس عن أبيه قال : إذا خرج المكي إلى الميقات فتمتع منه فعليه الهدي . قال أبو محمد : لا شيء عليه ؛ لأن أهله حاضرو المسجد الحرام - وزعم المالكيون : أن الهدي إنما جعل على المتمتع لإسقاطه سفر الحج إلى مكة . قال علي : وهذا باطل بحت ، والعجب من تسهيلهم على أنفسهم مثل هذا القول الفاسد الذي يفتضحون به من قرب ، ويقال لهم : هذه العلة نفسها موجودة فيمن اعتمر في آخر يوم من رمضان ، ثم أقام بمكة حتى حج فقد أسقط أحد السفرين ، وأنتم لا ترون عليه هديا ولا صوما ، ثم تقولون فيمن اعتمر في أشهر الحج ثم خرج إلى ما وراء أبعد المواقيت فأهل بالحج منه ، وهو من أهل مصر ، أو الشام ، أو العراق : أنه لا هدي عليه ولا صوم ، ولم يسقط أحد السفرين ، ويقولون فيمن كان من أهل هذه البلاد فخرج لحاجته لا يريد حجا ، وكانت حاجته بعسفان ، أوببطن ؛ فلما صار بها بدا له في الحج والعمرة فحج بعد أن اعتمر في غير أشهر الحج : فلا هدي عليه ، وهو قد أسقط السفرين إلى الحج ، وإلى العمرة أيضا ؛ ولعمري ما ينبغي لمن له دين ، أو عقل أن يطلق عن الله - تعالى - ما لا علم له به ، وبالله - تعالى - نتأيد .