الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الثاني/الصفحة الرابعة والسبعون


كتاب الحج

876 - مسألة : ومن تصيد صيدا فقتله وهو محرم بعمرة أو بقران أو بحجة تمتع ما بين أول إحرامه إلى دخول وقت رمي جمرة العقبة ، أو قتله محرم ، أو محل في الحرم - : فإن فعل ذلك عامدا لقتله غير ذاكر لإحرامه أو ؛ لأنه في الحرم ، أو غير عامد لقتله - سواء كان ذاكرا لإحرامه أو لم يكن - : فلا شيء عليه ، لا كفارة ولا إثم ؛ وذلك الصيد جيفة لا يحل أكله ، فإن قتله عامدا لقتله ذاكرا لإحرامه ، أو ؛ لأنه في الحرم فهو عاص لله تعالى ، وحجه باطل وعمرته كذلك - وعليه ما نذكر بعد هذا إن شاء الله عز وجل . قال الله تعالى : { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه } . فصح يقينا لا إشكال فيه أن هذا الحكم كله إنما هو على العامد لقتله ، الذاكر لإحرامه ، أو ؛ لأنه في الحرم ، لأن إذاقة الله تعالى وبال الأمر وعظيم وعيده بالانتقام منه لا يختلف اثنان من أهل الإسلام في أنه ليس على المخطئ ألبتة ، ولا على غير العامد للمعصية القاصد إليها ؛ فبطل يقينا أن يكون في القرآن ، ولا في السنة إيجاب حكم في هذا المكان على غير العامد الذاكر القاصد إلى المعصية . قال الله تعالى : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } وقال رسول الله ﷺ : { رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } . واختلف الناس في هذا - : فروينا من طريق وكيع عن المسعودي هو عتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود - عن عبد الملك بن عمير عن قبيصة بن جابر الأسدي : أنه سمع عمر بن الخطاب ، ومعه عبد الرحمن بن عوف ، وعمر : يسأل رجلا قتل ظبيا وهو محرم ؟ فقال له عمر : عمدا قتلته أم خطأ ؟ فقال له الرجل : لقد تعمدت رميه وما أردت قتله ، فقال له عمر : ما أراك إلا أشركت بين العمد والخطأ ؛ أعمد إلى شاة فاذبحها فتصدق بلحمها وأسق إهابها . قال أبو محمد : فلو كان العمد والخطأ في ذلك سواء عند عمر ، وعبد الرحمن لما سأله عمر أعمدا قتلته أم خطأ ؟ ولم ينكر ذلك عبد الرحمن ؛ لأنه كان يكون فضولا من السؤال لا معنى له ؟ ومن طريق ابن أبي شيبة عن إسماعيل ابن علية عن الحسين المعلم عن قتادة عن أبي مدينة عن ابن عباس أنه قال في المحرم يقتل الصيد : ليس عليه في الخطأ شيء - أبو مدينة هو عبد الله بن حصن السدوسي تابعي - ، سمع أبا موسى ، وابن عباس ، وابن الزبير رضي الله عنهم . ومن طريق شعبة عن أبي بشر جعفر بن أبي وحشية عن سعيد بن جبير : أنه سئل عن المحرم يقتل الصيد خطأ ؟ قال : ليس عليه شيء ؟ قال : فقلت له : عمن ؟ قال : السنة . قال أبو محمد : عهدنا بالمالكيين يجعلون قول سعيد بن المسيب إذ سأله ربيعة عن قوله في المرأة يقطع لها ثلاث أصابع لها ثلاثون من الإبل فإن قطعت لها أربع أصابع فليس لها إلا عشرون من الإبل ؟ فقال له سعيد : السنة يا ابن أخي ؛ فجعلوه حجة لا يجوز خلافها . وقد خالف سعيد في ذلك عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب وغيرهما ؛ ثم لم يجعلوا هاهنا حجة قول سعيد بن جبير : إن السنة هي أن ليس على المحرم يقتل الصيد خطأ ، ومعه القرآن ، والصحابة - وهذا عجب جدا . ومن طريق حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن طاوس قال : لا يحكم إلا على من قتله متعمدا كما قال الله عز وجل . وعن القاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله ، وعطاء ، ومجاهد فيمن أصاب الجنادب خطأ ؟ قالوا : لا يحكم عليه فإن أصابها متعمدا حكم عليه وهو قول أبي سليمان وأصحابنا . وصح عن مجاهد قول آخر وهو أنه إنما يحكم على من قتل الصيد وهو محرم خطأ ، وأما من قتله عامدا ذاكرا لإحرامه فلا يحكم عليه . وقال أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي : العمد والخطأ سواء يحكم عليه في كل ذلك - وقد روي هذا القول أيضا عن عمر ، وعبد الرحمن ، وسعد ، والنخعي ، والشعبي . قال أبو محمد : المرجوع إليه عند التنازع هو ما افترضه الله عز وجل علينا من الرجوع إلى الله تعالى ورسوله ﷺ . وشغب أهل هذه المقالة بأن قالوا : قد أوجب الله تعالى الكفارة على قاتل المؤمن خطأ فقسنا عليه قاتل الصيد خطأ ؟ قال علي : هذا قياس والقياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ؛ ولكانوا أيضا قد فارقوا حكم القياس في قولهم هذا ؛ أما كونه خطأ ؛ فلأن من أصلهم الذي لا يختلفون فيه أن ما خرج عن حكم أصله مخصوصا أنه لا يقاس عليه ، والأصل أن لا شيء على الناسي والمخطئ فخرج عندهم إيجاب الكفارة والدية على قاتل المؤمن خطأ عن أصله ، فوجب أن لا يقاس عليه . وأيضا فإنهم متفقون على أن لا يقيسوا حكم الواطئ في نهار رمضان ناسيا على الواطئ فيه عمدا في إيجاب الكفارة عليهما ، وقتل الصيد أشبه بالوطء منه بقتل المؤمن ؛ لأن قتل المؤمن لم يحل قط ثم حرم ، بل لم يزل حراما مذ آمن ، أو مذ ولد إن كان ولد على الإسلام . وأما الوطء وقتل الصيد فكانا حلالين ، ثم حرما بالصوم وبالإحرام فجمعتهما هذه العلة فأخطئوا في قياس قاتل الصيد خطأ على ما لا يشبهه . وأما مخالفتهم للقياس هنا فإن الحنفيين من أصلهم أن الكفارات لا يجوز أن توجب بالقياس ثم أوجبوها هاهنا بالقياس ؛ وأيضا فإن الحنفيين ، والمالكيين قاسوا الخطأ في قتل الصيد على الخطأ في قتل المؤمن فأوجبوا الجزاء في كليهما ولم يقيسوا قتل المؤمن عمدا على قتل الصيد عمدا فأوجبوا الكفارة في قتل الصيد عمدا ولم يوجبوها في قتل المؤمن عمدا وهذا تناقض وباطل . وأيضا فلم يقيسوا ناسي التسمية في التذكية على المتعمد لتركها فيها مع مجيء القرآن بالتسوية بين الأمرين هنالك ؛ وتفريق الحكم هاهنا . والشافعيون فرقوا بين الناسي فيما تبطل به الصلاة وبين العامد ، وكذلك في الصوم وساووا هاهنا بين الناسي والعامد ، وهذا اضطراب شديد . وقالوا : ليس تخصيص الله تعالى المتعمد بإيجاب الكفارة عليه بموجب أن المخطئ بخلافه وذكروا ما نحتج به نحن ومن وافقنا منهم من النصوص في إبطال القول بدليل الخطاب - : قال أبو محمد : وهذا جهل شديد من هذا القائل ، لأننا إذا أبطلنا القول بدليل الخطاب لم نوجب القول بالقياس بل أبطلناهما جميعا ، والقياس : هو أن يحكم للمسكوت عنه بحكم المنصوص عليه ، ودليل الخطاب : هو أن يحكم للمسكوت عنه بخلاف المنصوص عليه . وأما هم فتلونوا هاهنا ما شاءوا ، فمرة يحكمون للمسكوت عنه بحكم المنصوص عليه قياسا ، ومرة يحكمون عليه بخلاف حكمه أخذا بدليل الخطاب - وكل واحد من هذين الحكمين مضاد للآخر . وأما نحن فلا نتعدى القرآن ولا السنة ونوقف أمر المسكوت عنه فلا نحكم له بحكم المنصوص ولا بحكم آخر ، بخلاف حكم المنصوص ؛ لكن نطلب حكمه في نص آخر فلا بد من وجوده ولم نقل قط هاهنا : إنه لما نص الله تعالى على إيجاب الجزاء والكفارة على قاتل الصيد عمدا وجب أن يكون المخطئ بخلافه ، ومعاذ الله أن نقول هذا ، لكن قلنا : ليس في هذه الآية إلا المتعمد وحده وليس فيها ذكر للمخطئ لا بإيجاب جزاء عليه ولا بإسقاطه عنه فوجب طلب حكمه في نص آخر ، إذ ليس حكم كل شيء موجودا في آية واحدة ، وهذا هو الذي لا يعقل أحد سواه ؛ فإذا وجدنا حكمه حكمنا به ، إما موافقا لهذا الحكم الآخر ، وإما مخالفا له ، ففعلنا - : فوجدنا الله تعالى قد أسقط الجناح عن المخطئ . ووجدنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد قال : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } وأنه قد عفا عن الخطأ والنسيان ، وذم تعالى من شرع في الدين ما لم يأذن به . فوجب بهذه النصوص أن لا يلزم قاتل الصيد خطأ أو ناسيا لإحرامه شرع صوم ، ولا غرامة هدي ، أو إطعام أصلا ؛ فظهر فساد احتجاجهم - ولله تعالى الحمد . واحتجوا أيضا : بأن قالوا : لما كان متلف أموال الناس يلزمه ضمانها بالخطأ والعمد وكان الصيد ملكا لله تعالى وجب ضمانه بالعمد والخطأ . قال أبو محمد : وهذا قياس والقياس كله باطل ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ، ولكانوا أيضا قد أخطئوا فيه . أما كونه خطأ فإن الله تعالى فرق بين حكم ما أصيب من أموال الناس وبين حكم ما أصيب من الصيد في الإحرام فجعل في أموال الناس المثل ، أو القيمة عند عدم المثل ، وجعل في الصيد جزاء من النعم لا من مثله من الصيد المباح في الإحلال ، أو إطعاما ، أو صياما ، وليس شيء من هذا في أموال الناس ؛ فسووا بين حكمين قد فرق الله تعالى بينهما - وهذه جرأة شديدة وخطأ لائح ؛ وأما خطؤهم فيه فإن الحنفيين مجمعون على أن الكفارات لا يجوز أن تؤخذ قياسا ، وأوجبوا هاهنا قياسا ، والقوم ليسوا في شيء ، وإنما هم في شبه اللعب ونعوذ بالله من الخذلان . وأما المالكيون فإنهم قاسوا متلف الصيد خطأ على متلف أموال الناس عمدا ، وإنما يجب عندهم في أموال الناس القيمة فقط ، ويجب عندهم في الصيد المثل من النعم ، أو الإطعام ، أو الصيام ، فقد تركوا قياسهم الفاسد . فإن قالوا : اتبعنا القرآن ؟ قلنا : فالتزموا اتباعه في العامد خاصة وإسقاط الجناح عن المخطئ ، وأوجبوا في الصيد : القيمة كما فعل أبو حنيفة وطرد قياسه الفاسد . وأيضا : فإن الحنفيين لا يرون ضمان ما ولدت الماشية المغصوبة إلا أن تستهلك الأولاد ، ويرى على من أخذ صيدا وهو محرم فولد عنده ، ثم مات الولد من غير فعله : أن يضمن الأم والأولاد ، فأين قياسه الصيد على أموال الناس ؟ وأما الشافعيون فإن الله تعالى قد حرم الخنزير ، وكل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير كما حرم الصيد في الإحرام ، وكل ذلك ملك لله تعالى ، ثم لا يوجبون على من قتل شيئا من ذلك جزاء ، فنقضوا قياسهم . فإن قالوا : لم يحرم قتل شيء من هذه ؟ قلنا : ولا أوجب الله تعالى الجزاء إلا على المتعمد فإما التزموا النصوص كما وردت ولا تتعدوا حدود الله ، وإما اطردوا قياسكم فأوجبوا الجزاء في الخنزير ؛ وفي السباع ، وفي ذوات المخالب ، كما فعل أبو حنيفة - فظهر أيضا فساد أقوالهم جملة - وبالله تعالى التوفيق . وقال بعضهم : إنما نص على المتعمد ليعلم أن حكم المخطئ مثله - : قال أبو محمد : وهذه من أسخف كلام في الأرض ، ويلزمه أن يقول : إن الله تعالى إنما نص على أن جزاء قاتل المؤمن عامدا في جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه ، ليعلم أن حكم قاتله مخطئ مثله ، وإلا فقد ظهر كذب هذا القائل على الله عز وجل ، وافتراؤه على خالقه لإخباره عنه بالكذب والباطل . فإن قال : قد فرق الله تعالى بين قاتل العمد وقاتل الخطأ . قلنا : وقد فرق الله عز وجل بين كل مخطئ وكل عامد بقوله عز وجل : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } . قال علي : ما نعلم لهم تمويها غير هذا وهو كله ظاهر الفساد - وبالله تعالى التوفيق . وأما قولنا : إن ذلك الصيد حرام أكله ؛ فلأن الله تعالى سماه قتلا ونهى عنه ولم يبح لنا عز وجل أكل شيء من الحيوان إلا بالذكاة التي أمر بها عز وجل ، ولا شك عند كل ذي حسن سليم أن الذي أمر الله تعالى به من الذكاة هو غير ما نهى عنه من القتل ؛ فإذ هو غيره فالقتل المنهي عنه ليس ذكاة ؛ وإذ ليس هو ذكاة فلا يحل أكل الحيوان به - وبالله تعالى التوفيق . فإن قيل : فهلا خصصتم العامد بذلك ؟ قلنا : نص الآية مانع من ذلك ؛ لأن الله تعالى قال : { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } فعم تعالى ولم يخص ، وسمى إتلاف الصيد في حال الحرم قتلا وحرمه . ثم قال : { ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم } فأوجب حكم الجزاء على العامد خاصة بخلاف النهي العام في أول الآية . وأما بطلان إحرامه بذلك - : فلأنه بلا خلاف معصية ، والمعاصي كلها فسوق ؛ والإحرام يبطل بالفسوق كما ذكرنا قبل . ومن شنع الأقوال وفاسدها إبطال المالكيين الحج بالدفع من عرفة قبل غروب الشمس ولم يمنع الله تعالى قط من ذلك ولا رسوله عليه السلام ، ثم لم يبطلوه بالفسوق الكبير الذي توعد الله تعالى أشد الوعيد فيه وهو قتل الصيد عمدا . وأبطلوا هم ، والحنفيون الإحرام بالوطء ناسيا ولم يبطله الله تعالى بذلك ولا رسوله ﷺ ولم يبطلوه بقتل الصيد المحرم . وأبطلوا هم ، والشافعيون الحج بالإكراه على الوطء ولم يبطله الله تعالى قط به ولا رسوله عليه السلام ، ولم يبطلوه بقتل الصيد عمدا - وبالله تعالى التوفيق .

877 - مسألة : فلو أن كتابيا قتل صيدا في الحرم لم يحل أكله لقول الله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } فوجب أن يحكم عليهم بحكم الله تعالى على المسلمين - وبالله تعالى التوفيق .