الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الثاني/الصفحة الثانية والستون


كتاب الحج

وأما قولنا : من دفع من عرفة قبل غروب الشمس فحجه تام ولا شيء عليه ، ووجوب فرض الوقوف بعرفة كما ذكرنا - : فلما حدثناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا إسحاق بن إبراهيم أنا وكيع نا سفيان هو الثوري - عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال { شهدت رسول الله ﷺ بعرفة - وسئل عن الحج - ؟ فقال : الحج عرفة فمن أدرك ليلة عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع فقد أدرك } . وبه إلى أحمد بن شعيب أنا إسماعيل بن مسعود الجحدري نا خالد هو ابن الحارث - عن شعبة عن عبد الله بن أبي السفر قال : سمعت الشعبي يقول : حدثني { عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام الطائي قال : أتيت رسول الله ﷺ بجمع فقلت له : هل لي من حج ؟ فقال : من صلى هذه الصلاة معنا ووقف هذا الموقف حتى يفيض ، وأفاض قبل ذلك من عرفات ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه } . وقال أبو حنيفة ، والشافعي : إن أفاض منها نهارا فحجه تام وعليه دم . وقال مالك : إن لم يقف بها ليلا فلا حج له ، واحتج له من قلده بأن رسول الله ﷺ وقف بها في أول الليل ؟ فقلنا : ووقف نهارا ، فأبطلوا حج من لم يقف بها نهارا . فقالوا : قد قال عليه السلام ، { من أدرك ليلة عرفة قبل طلوع الفجر فقد أدرك } ؟ فقلنا : وقد قال عليه السلام : { وأفاض قبل ذلك من عرفات ليلا أو نهارا فقد أدرك } فبلحوا . فأتوا بنادرة ، وهي أنهم قالوا : معنى قوله " ليلا أو نهارا " إنما هو ليلا ونهارا كما قال - تعالى - : { ولا تطع منهم آثما أو كفورا } ؟ فقلنا : هذا الكذب على الله - تعالى - وعلى رسوله ﷺ صراحا ؛ ولو كان كما تأولتموه لما كان عليه السلام منهيا عن أن يطيع منهم آثما إلا حتى يكون كفورا ؛ وهذا لا يقوله مسلم ، بل هو عليه السلام منهي عن أن يطيع منهم الآثم ، والكفور ، وإن لم يكن الآثم كفورا . ثم لو صح لكم في الخبر تأويلكم الفاسد لكان لا يصح لأحد حج حتى يقف بها نهارا وليلا معا ، وهذا خلاف قولكم مع أن النبي ﷺ لم يقف بها إلا نهارا ودفع منها إثر تمام غروب القرص في أول الليل ، والدفع لا يسمى وقوفا ، بل هو زوال عنها . وذكروا خبرا فاسدا رويناه من طريق إبراهيم بن حماد عن أبي عون محمد بن عمرو بن عون عن داود بن جبير عن أبي هاشم رحمة بن مصعب الفراء الواسطي عن ابن أبي ليلى عن عطاء عن نافع عن ابن عمر قال رسول الله ﷺ { من وقف بعرفات بليل فقد أدرك الحج ومن فاته عرفات بليل فقد فاته الحج } . قال أبو محمد : هذا عورة لأن أبا عون بن عمرو ، ورحمة بن مصعب ، وداود بن جبير مجهولون لا يدرى من هم وابن أبي ليلى سيئ الحفظ ؛ وعلى هذا الخبر يبطل حج النبي ﷺ لأنه لم يقف بعرفة بليل إنما دفع منها في أول أوقات الليل . ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم أنا ابن أبي ليلى نا عطاء يرفع الحديث قال { من أدرك عرفة بليل فقد أدرك الحج ومن فاته عرفات بليل فقد فاته الحج } وهذا مرسل ، ومع ذلك فليس فيه بيان جلي بأنه عن رسول الله ﷺ وابن أبي ليلى سيئ الحفظ ، وهذا مما ترك فيه الحنفيون المرسل . وخبر من طريق عبد الملك بن حبيب الأندلسي ، نا ابن أبي نافع عن المنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه أن رسول الله ﷺ قال : { لا تدفعوا من عرفة ومزدلفة حتى يدفع الإمام } . وهذا لا شيء ؛ لوجوه - : أحدها : أنه مرسل ؛ والثاني : أن فيه ثلاثة ضعفاء في نسق وثالثها : أنه ليس فيه إيجاب الوقوف بعرفة ليلا أصلا ؛ والرابع : أنه مخالف لقولهم ؛ لأنهم لا يبطلون حج من دفع قبل الإمام من عرفة ، ولا من مزدلفة . ومنها : خبر من طريق عبد الملك بن حبيب عن أبي معاوية المدني عن يزيد بن عياض هو ابن جعدبة - عن عمرو بن شعيب أن رسول الله ﷺ قال : { من أجاز بطن عرنة قبل أن تغيب الشمس فلا حج له } ؟ وهذه بلية ، لأن عبد الملك ساقط وأبا معاوية مجهول ؛ ويزيد كذاب ثم هو مرسل ؛ ثم إنه مخالف لقولهم ؛ لأن بطن عرنة من الحرم - وهو غير عرفة - فليس فيه وجوب الوقوف ليلا بعرفة أصلا . وخبر رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن رجل عن سعيد بن جبير قال : قال رسول الله ﷺ : { إنا لا ندفع حتى تغرب الشمس - يعني من عرفات - وإن أهل الجاهلية كانوا لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس ، وإنا ندفع قبل ذلك ، هدينا مخالف لهديهم } ؟ قال أبو محمد : وهذا لا شيء ؛ لأنه مرسل ، ثم هو عن رجل لم يسم ، ثم هم مخالفون له ؛ لأنهم لا يبطلون حج من دفع من جمع بعد طلوع الشمس أو من لم يقف بها أصلا . قال أبو محمد : وما ندري من أين وقع إيجاب الوقوف بعرفة ليلا ، وإبطال الحج بتركه ؟ وهم لا يبطلون الحج بمخالفة عمل النبي ﷺ كله في عرفة ، وفي الدفع منها ، وفي مزدلفة - : فإن ذكروا ما رويناه من طريق سعيد بن منصور نا هشيم أنا ابن أبي ليلى عن نافع عن ابن عمر قال : من أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحج ، ومن لم يدرك عرفات بليل فقد فاته الحج ؟ قلنا : قد صح عن ابن عمر أنه لا يكون هديا إلا ما قلد وأشعر فخالفتموه ، وصح عن عمر : من قدم ثقله من منى بطل حجه فخالفتموه ؛ فمن أين صار ابن عمر هاهنا حجة ، ولم يصر حجة هو ولا أبوه فيما ذكرنا عنهما مما استسهلتم خلافهما فيه ؛ وما نعلم لمالك في هذا القول حجة أصلا ؟ وأما إيجاب الدم في ذلك فخطأ ؛ لأنه لا يخلو أن يكون من دفع من عرفة قبل غروب الشمس فعل ما أبيح له أو ما لم يبح له ؛ فإن كان فعل ما أبيح له فلا شيء عليه ؛ وإن كان فعل ما لم يبح له فحجه باطل ولا مزيد . قال أبو محمد : روينا من طريق عطاء عن ابن عباس أنه قال : ملاك الحج الذي يصير إليه ليلة عرفة من أدركها قبل الفجر ليلا أو نهارا فقد أدرك الحج .

وأما استحبابنا للمتمتع أن يهل بالحج يوم التروية في أخذه في النهوض إلى منى فلما ذكرنا من فعل أصحاب النبي ﷺ بحضرته ؛ واختار مالك أن يهل المتمتع ، وأهل مكة إذا أهل هلال ذي الحجة ، واحتجوا برواية عن عمر أنه قال : يا أهل مكة يقدم الناس شعثا وأنتم مدهنون فإذا رأيتم الهلال فأهلوا ؛ فإن هذه رواية لا نعلمها تتصل إلى عمر ؛ إنما نذكرها من طريق القاسم بن محمد وإبراهيم النخعي عن عمر ؛ وكلاهما لم يولد إلا بعد موت عمر بأعوام ؛ ثم لو صح عنه لكان الثابت المتصل من فعل الصحابة بحضرة النبي ﷺ أولى من رأي رآه عمر ؟ وقد روينا عن سعيد بن منصور نا هشيم نا ابن أبي ليلى عن عطاء بن أبي رباح قال : رأيت ابن عمر في المسجد الحرام وقد أهل بالحج إذ رأى هلال ذي الحجة عاما ثم عاما آخر ؛ فلما كان في العام الثالث قيل له : قد رئي هلال ذي الحجة ؟ فقال : ما أنا إلا كرجل من أصحابي ، وما أراني أفعل إلا كما فعلوا ، فأمسك إلى يوم التروية ، ثم أحرم من البطحاء حين استوت به راحلته بالحج . ومن طريق سعيد بن منصور عن عتاب بن أبي بشر عن خصيف عن مجاهد عن ابن عمر : أنه أحرم عاما من المسجد حين أهل هلال ذي الحجة ثم عاما آخر كذلك ، فلما كان العام الثالث لم يحرم حتى كان يوم التروية قال مجاهد : فسألته عن ذلك ؟ فقال : إني كنت امرأ من أهل المدينة فأحببت أن أهل بإهلالهم ثم ذهبت أنظر فإذا أنا أدخل على أهلي وأنا محرم وأخرج وأنا محرم ، فإذا ذلك لا يصلح ؛ لأن المحرم إذا أحرم خرج لوجهه . قال مجاهد : فقلت لابن عمر : فأي ذلك ترى ؟ قال : يوم التروية . فهذا ابن عمر قد أخبر أن فعل الصحابة أن يهل المتمتع وأهل مكة يوم التروية ، ورغب عن رأي أبيه لو ثبت أيضا عنه . فإن قالوا : إنما اخترنا له ذلك ليكون أشعث ؟ قلنا : ما علمنا الله - تعالى - ولا رسوله ﷺ اختيار الشعث للمحرم ؟ فإن اخترتموه فأمروهم بالإهلال من أول شوال فهو أتم للشعث ؟

وأما قولنا : أن يؤذن المؤذن إذا أتم الإمام الخطبة بعرفة ، ثم يقيم لصلاة الظهر ، ثم يقيم للعصر ولا يؤذن لها ؛ فلما ذكرناه في الخبر عن رسول الله ﷺ آنفا وهو قول أبي سليمان ، وأحد قولي مالك ؛ وقال مالك مرة أخرى : إن شاء أذن ، والإمام في الخطبة ، وإن شاء إذا أتم . وقال أبو حنيفة ، وأبو ثور : يؤذن إذا قعد الإمام على المنبر قبل أن يأخذ في الخطبة - وقال أبو يوسف : يؤذن قبل خروج الإمام ؛ ثم رجع فقال : يؤذن بعد صدر من الخطبة ، وذكر ذلك عن مؤذن من أهل مكة . وقال الشافعي : يأخذ في الأذان إذا أتم الإمام الخطبة الأولى . قال أبو محمد : وهذه أقوال لا حجة لصحة شيء منها ؟ فإن قالوا : قسنا ذلك على الجمعة ؟ قلنا : القياس باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ؛ لأنه ليس قياس الأذان بعرفة على الأذان بالجمعة بأولى من القياس للجمعة على ما روي في عرفة لا سيما وأنتم تقولون : لا جمعة بعرفة ؟ فإن قيل : فأنتم تقولون : إن الجمعة بعرفة كما هي في غيرها من البلاد ؟ قلنا : نعم ، وليس ذلك بمبيح مخالفة ما صح عن النبي ﷺ في صفة الأذان فيها بخلافه في سائر البلاد كما كان بعرفة حكم الصلاة في الجمع بين الظهر ، والعصر ، بخلاف ذلك في سائر البلاد ، ولو قلنا : إن هذه الأقوال خلاف لإجماع الصحابة رضي الله عنهم كلهم في القول بذلك لصدقنا .