→ كتاب الحج (مسألة 862 - 872) | ابن حزم - المحلى كتاب الحج (مسألة 873 - 875) المؤلف: ابن حزم |
كتاب الحج (مسألة 876 - 877) ← |
كتاب الحج
873 - مسألة : وأما الإحصار فإن كل من عرض له ما يمنعه من إتمام حجه أو عمرته ، قارنا كان ، أو متمتعا ، من عدو ، أو مرض ، أو كسر ، أو خطأ طريق ، أو خطأ في رؤية الهلال ، أو سجن ، أو أي شيء كان : فهو محصر . فإن كان اشترط عند إحرامه كما قدمنا أن محله حيث حبسه الله عز وجل فليحل من إحرامه ولا شيء عليه ، سواء شرع في عمل الحج ، أو العمرة ، أو لم يشرع بعد ، قريبا كان أو بعيدا ، مضى له أكثر فرضهما أو أقله ، كل ذلك سواء ولا هدي في ذلك ولا غيره ، ولا قضاء عليه في شيء من ذلك إلا أن يكون لم يحج قط ولا اعتمر ، فعليه أن يحج ويعتمر ولا بد . فإن كان لم يشترط كما ذكرنا فإنه يحل أيضا كما ذكرنا سواء سواء ولا فرق ، وعليه هدي ولا بد ، كما قلنا في هدي المتعة سواء سواء إلا أنه لا يعوض من هذا الهدي صوم ولا غيره ، فمن لم يجده فهو عليه دين حتى يجده ، ولا قضاء عليه إلا إن كان لم يحج قط ولا اعتمر ، فعليه أن يحج ويعتمر . واختلف الصحابة ومن بعدهم في الإحصار - : فروينا من طريق وكيع : نا سفيان الثوري عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر ، قال : لا إحصار إلا من عدو . ومن طريق مسلم نا إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه - أنا عيسى بن يونس نا زكريا هو ابن أبي زائدة - عن أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب ، قال : { لما أحصر النبي ﷺ عند البيت صالحه أهل مكة على أن يدخلها فيبقى بها ثلاثا ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح السيف وقرابه ، ولا يخرج بأحد معه من أهلها ، ولا يمنع أحدا يمكث بها ممن كان معه } فسمى البراء منع العدو : إحصارا . وروينا عن إبراهيم النخعي : الإحصار من الخوف والمرض ، والكسر ؛ ومن طريق ابن جريج عن عطاء قال : الإحصار من كل شيء يحبسه . وأما الحصر - : فروينا عن مجاهد عن ابن مسعود أنه قال : الحصر ، والمرض ، والكسر ، وشبهه . ومن طريق ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال : لا حصر إلا من حبسه عدو . وعن طاوس قال : لا حصر الآن ، قد ذهب الحصر . وعن علقمة : الحصر الخوف والمرض . وعن هشام بن عروة عن أبيه قال : الحصر ما حبسه من حابس من وجع ، أو خوف ، أو ابتغاء ضالة . وعن معمر عن الزهري قال : الحصر ما منعه من وجع ، أو عدو حتى يفوته الحج . وفرق قوم بين الإحصار ، والحصر - : فروينا عن الكسائي قال : ما كان من المرض فإنه يقال فيه : أحصر ، فهو محصر ، وما كان من حبس قيل : حصر . وقال أبو عبيد : قال أبو عبيدة : ما كان من مرض ، أو ذهاب نفقة ، قيل فيه : أحصر ، فهو محصر ؛ وما كان من حبس قيل : حصر - وبه يقول أبو عبيد . قال أبو محمد : هذا لا معنى له ، قول الله تعالى هو الحجة في اللغة والشريعة قال تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } وإنما نزلت هذه الآية في أمر الحديبية إذ منع الكفار رسول الله ﷺ من إتمام عمرته ، وسمى الله تعالى منع العدو إحصارا . وكذلك قال البراء بن عازب ، وابن عمر ، وإبراهيم النخعي - وهم في اللغة فوق أبي عبيدة ، وأبي عبيد ، والكسائي . وقال تعالى : { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا } . فهذا هو منع العدو بلا شك ؛ لأن المهاجرين إنما منعهم من الضرب في الأرض الكفار بلا شك ؛ وبين ذلك تعالى بقوله { في سبيل الله } . فصح أن الإحصار ، والحصر بمعنى واحد ، وأنهما اسمان يقعان على كل مانع من عدو ، أو مرض ، أو غير ذلك ، أي شيء كان ثم اختلفوا في حكم المحصر الممنوع من إتمام حجه ، أو عمرته . فروينا عن ابن مسعود : أنه أفتى في محرم بحج مرض فلم يقدر على النهوض : أنه يبعث بهدي ، فإذا بلغ محله حل ؛ فإن اعتمر من وجهه ذلك إذا برأ ، ثم حج من قابل فليس عليه هدي ، فإن لم يزر البيت حتى يحج ويجعلهما سفرا واحدا فعليه هدي آخر : سفران وهدي أو هديان وسفر - وهذا عنه منقطع لا يصح . وصح عنه : أنه أفتى في محرم بعمرة لدغ فلم يقدر على النفوذ : أنه يبعث بهدي ويواعد أصحابه ، فإذا بلغ الهدي أحل . وصح عنه أيضا : أنه أفتى في مريض محرم لا يقدر على النفوذ : بأن ينحر عنه بدنة ؛ ثم ليهل عاما قابلا بمثل إهلاله الذي أهل به . وصح عن ابن عباس ، وابن عمر في محرم بعمرة مرض بوقعة من راحلته ، قالا جميعا : ليس لها وقت كوقت الحج ، يكون على إحرامه حتى يصل إلى البيت - وعن ابن الزبير مثل هذا أيضا . وروينا عن ابن عباس فيمن أحصر : يبعث بهديه فإذا نحر فقد حل من كل شيء . وروينا من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه قيل له : لا يضرك أن لا تحج العام فإنا نخشى أن يكون بين الناس قتال يحال بينك وبين البيت وذلك حين نزل الحجاج بابن الزبير فقال ابن عمر : إن حيل بيني وبينه فعلت كما فعل رسول الله ﷺ وأنا معه حين حالت كفار قريش بينه وبين البيت : أشهدكم أني قد أوجبت عمرة ؛ ثم قال : ما أمرهما إلا واحد إن حيل بيني وبين العمرة حيل بيني وبين الحج : أشهدكم أني قد أوجبت حجة مع عمرتي . قال أبو محمد : ولم يختلف اثنان في أن رسول الله ﷺ إذ حال كفار قريش بينه وبين العمرة - وكان مهلا بعمرة هو وأصحابه رضي الله عنهم - نحر وحل وانصرف من الحديبية . ومن طريق مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن يعقوب بن خالد بن المسيب المخزومي عن أبي أسماء مولى عبد الله بن جعفر ، " أنه أخبره أنه كان مع عبد الله بن جعفر فخرج معه من المدينة فمروا على الحسين بن علي وهو مريض بالسقيا فأقام عليه عبد الله بن جعفر حتى إذا خاف الفوات خرج وبعث إلى علي بن أبي طالب وأسماء بنت عميس وهما بالمدينة فقدما عليه ، وأن حسينا أشار إلى رأسه فأمر علي برأسه فحلق ، ثم نسك عنه بالسقيا فنحر عنه بعيرا " . ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاري عن يعقوب بن خالد عن أبي أسماء مولى عبد الله بن جعفر قال : إن الحسين بن علي خرج معتمرا مع عثمان بن عفان فلما كان بالعرج مرض ، فلما أتى السقيا برسم فكان أول إفاقته أن أشار إلى رأسه فحلق على رأسه ونحر عنه بها جزورا . قال أبو محمد : إنما أتينا بهذا الخبر لما فيه من أنه كان معتمرا فهذا علي ، والحسين ، وأسماء رأوا أن يحل من عمرته ويهدي في موضعه الذي كان فيه ، وهو قولنا . وعن علقمة في المحصر قال : يبعث بهديه فإذا ذبح حل . وروينا عن علقمة أيضا : لا يحله إلا الطواف بالبيت . وروينا عنه أيضا إن حل قبل نحر هديه فعليه دم . وروينا عن إبراهيم ، وعطاء ، والحسن ، والشعبي : لا يحله إلا الطواف بالبيت . وروينا عنهم أيضا : حاشا الشعبي : إن حل دون البيت فعليه هدي آخر سوى الذي لزمه أن يبعث به ، ولا يحل إلا في اليوم الذي واعدهم لبلوغه مكة ونحره . وروينا عن إبراهيم أيضا في القارن يحصر قال : عليه هديان . وروينا عنه أيضا : وعن سعيد بن جبير في القارن يحصر قالا جميعا : عليه عمرتان وحجة - وعن عطاء ، وطاوس ليس على القارن إلا هدي واحد . وعن الشعبي أيضا : إن أحل المحصر قبل نحر هديه فعليه فدية الأذى - إطعام ستة مساكين ، أو صيام ثلاثة أيام ، أو شاة . وعن مجاهد في القارن يحصر ؟ قال : يبعث بهدي يحل به ، ثم يهل من قابل بما كان أهل به . وعن حماد بن أبي سليمان في القارن يحصر : أنه يبعث بالهدي فإذا بلغ محله حل وعليه عمرة وحجة - قال الحكم بن عتيبة : عليه حجة وثلاث عمر . وعن عروة بن الزبير في المحصر إذا رجع لا يحل منه إلا رأسه - وعن الزهري من أحصر بالحرب نحر حيث حبس وحل من النساء ومن كل شيء . وعن القاسم بن محمد ، وسالم ، وابن سيرين : يبعث هديه فإذا نحر فقد حل من كل شيء - وعن مجاهد أيضا إذا حل المحصر قبل نحر هديه فعليه هدي آخر . وقال أبو حنيفة فيمن أهل بالحج فأحصر : عليه أن يبعث بثمن هدي فيشترى له بمكة فيذبح عنه يوم النحر ، ويحل ، وعليه عمرة وحجة ، فإن لم يجد هديا أقام محرما حتى يجد هديا وله أن يواعدهم بنحره قبل يوم النحر قال : والمعتمر ينحر هديه متى شاء ، والإحصار عنده بالعدو ، والمرض ، وبكل مانع سواهما سواء سواء ، فإن تمادى مرضه إلى يوم النحر فكما قلنا - وإن هو أفاق قبل وقت الحج لم يجزه ذلك وهو محرم بالحج كما كان ؛ فإن كان معتمرا فأفاق فإن قدر على إدراك الهدي الذي بعث مضى وقضى عمرته ، فإن لم يقدر على ذلك حل إذا نحر عنه الهدي . وقال مالك : إن أحصر بعدو فإنه ينحر هديه حيث حبس ويحل ولا قضاء عليه ، إلا أن يكون لم يحج قط حجة الإسلام فعليه أن يحج ، فإن لم يهد فلا شيء عليه ، لا يلزمه الهدي إلا أن يكون حاضرا معه قد ساقه مع نفسه ، فإن أحصر بغير عدو لكن بحبس ، أو مرض ، أو غير ذلك ، فإنه لا يحل إلا بالطواف بالبيت ، ولو بقي كذلك إلى عام آخر . وقال الشافعي : إذا أحصر بعدو ، أو بسجن فإنه يهدي ويحل حيث كان من حل ، أو حرم ولا قضاء عليه إلا إن كان لم يحج قط ولا اعتمر فعليه أن يحج ويعتمر ؛ فإن لم يقدر على هدي ففيها قولان - أحدهما : لا يحل إلا حتى يهدي ؛ والآخر يحل ، والهدي دين عليه - وقد قيل : عليه إطعام ، أو صيام - إن لم يقدر على الهدي - فإن أحصر بغير عدو أو حبس لم يحله إلا الطواف بالبيت ، فإن لم يفق حتى فاته الحج طاف ، وسعى ، وحل ، وعليه الهدي . قال أبو محمد : أما التفريق بين المحصر بعدو ، وبغير عدو ففاسد على ما قدمنا قبل وأما إسقاط الهدي عن المحصر بعدو ، أو غيره فخلاف للقرآن ؛ لأن الله تعالى يقول : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } وأما إيجاب القضاء فخطأ ؛ لأنه لم يأت بذلك نص . فإن قيل : إن رسول الله ﷺ قد اعتمر بعد عام الحديبية ؟ قلنا : نعم ، ونحن لم نمنع من القضاء عاما آخر لمن أحب ، وإنما نمنع من إيجابه فرضا ؛ لأن الله تعالى لم يأمر بذلك ، ولا رسوله ﷺ . وقد صح أن الله تعالى لم يوجب على المسلم إلا حجة واحدة وعمرة في الدهر ، فلا يجوز إيجاب أخرى ، إلا بقرآن ، أو سنة صحيحة توجب ذلك فيوقف عند ذلك . وأما القول ببقاء المحصر بمرض على إحرامه حتى يطوف بالبيت ، فقول لا برهان على صحته ، ولا أوجبه قرآن ، ولا سنة ، ولا إجماع بل هو خلاف القرآن كما أوردنا - والصحابة قد اختلفوا في ذلك في العمرة خاصة ولم يرو عن أحد منهم أنه أفتى بذلك في الحج أصلا . فإن قيل : فإن الله تعالى يقول : { ثم محلها إلى البيت العتيق } ؟ قلنا نعم ، ولم يقل تعالى : إن المحصر لا يحل إلا بالطواف . والذي قال { ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق } هو الذي قال { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } . وهو الذي أمر رسوله ﷺ أن يحل ويرجع قبل أن يطوف بالبيت في عمرته التي صد فيها عن البيت ، ولا يحل ضرب أوامره بعضها ببعض ؟ وأما القول : ببعثه هديا يحل به ، فقول لا يؤيده قرآن ، ولا سنة ، ولا إجماع ، والصحابة قد اختلفوا في ذلك كما أوردنا . فإن قيل : فإن الله تعالى يقول : { ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله } . قلنا : نعم ، وليس هذا في المحصر وحده ، بل هو حكم كل من ساق هديا في حج أو عمرة على عموم الآية - : فالحاج ، والقارن إذا كان يوم النحر فقد بلغ الهدي محله من الزمان والمكان بمكة أو بمنى ، فله أن يحلق رأسه . والمعتمر إذا أتم طوافه وسعيه فقد بلغ هديه محله من الزمان والمكان بمكة فله أن يحلق رأسه . والمحصر إذا صد فقد بلغ هديه محله فله أن يحلق رأسه إن كان مع هؤلاء هدي ، ولم يقل الله عز وجل قط : إن المحصر لا يحل حتى يبلغ هديه مكة ، بل هو الكذب على الله تعالى ممن نسبه إليه عز وجل ؛ فظهر خطأ هذه الأقاويل . وأما قول أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، في الإحصار ، فلا يحفظ قول منها - بتمامه وتقسيمه - عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم أصلا . قال أبو محمد : فوجب الرجوع عند التنازع إلى ما افترض الله تعالى الرجوع إليه إذ يقول عز وجل : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } . فوجدنا حكم الإحصار يرجع - : إلى قول الله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } فكان في هذه الآية عموم إيجاب الهدي على كل من أحصر بأي وجه أحصر . وإلى { فعل رسول الله ﷺ إذ صده المشركون عن البيت فنحر وحلق هو وأصحابه وحلوا بالحديبية } . وإلى { أمره عليه السلام من حج أن يقول : اللهم إن محلي حيث حبستني } وقد ذكرناه قبل . وإلى ما حدثناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا حميد بن مسعدة البصري نا سفيان هو ابن حبيب عن الحجاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال " سمعت رسول الله ﷺ يقول : { من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى } فسألت ابن عباس ، وأبا هريرة ؟ فقالا : صدق " . فهذه النصوص تنتظم كل ما قلنا - والحمد لله رب العالمين . فإن قيل : ففي هذا الخبر أن عليه حجة أخرى ، وليس فيه ذكر هدي ؟ قلنا : إن القرآن جاء بإيجاب الهدي ، فهو زائد على ما في هذا الخبر ، وليس في هذا الخبر ذكر لإسقاط الهدي ولا لإيجابه ، فوجب إضافة ما زاده القرآن إليه ، وقد قدمنا أن النبي ﷺ أخبر بأن اللازم للناس حجة واحدة فكان هذا الخبر محمولا على من لم يحج قط ، وبهذا تتألف الأخبار . فإن قيل : إن ابن عباس قد روي عنه خلاف ما روي من هذا ؟ قلنا : الحجة إنما هي فيما روى لا في رأيه وقد ينسى ، أو يتأول ؛ وأيضا فإن التوهين بما روى لما روي عنه مما يخالف ما روى - أولى من توهين ما روى بما روي عنه من خلافه لما روى ، لأن الطاعة علينا إنما هي لما روى لا لما رأى برأيه . وأيضا فلو صح عن ابن عباس خلاف ما روي لكان الحجاج ، وأبو هريرة ، قد روياه ولم يخالفاه . وقال أبو حنيفة : لا ينحر هدي الإحصار إلا في الحرم ، واحتج بأن ناجية بن كعب نهض بالهدي يوم الحديبية في شعاب وأودية حتى نحره في الحرم . قال أبو محمد : لو صح هذا لما كانت فيه حجة ؛ لأنه لم يأمر بذلك عليه السلام ولا أوجبه ، وإنما كان يكون عملا عمله ، وإنما الطاعة لأمره عليه السلام . وروينا خبرا فيه : أنه عليه السلام أمر أصحابه بالبدن للهدي - وهذا لا يصح ، لأن راويه أبو حاضر الأزدي وهو مجهول ، وبالله تعالى التوفيق .
874 - مسألة : ومن احتاج إلى حلق رأسه - وهو محرم لمرض ، أو صداع ، أو لقمل ، أو لجرح به ، أو نحو ذلك مما يؤذيه - فليحلقه ، وعليه أحد ثلاثة أشياء هو مخير في أيها شاء لا بد له من أحدها . إما أن يصوم ثلاثة أيام ، وإما أن يطعم ستة مساكين متغايرين لكل مسكين منهم نصف صاع تمر ولا بد ، وإما أن يهدي شاة يتصدق بها على المساكين ، أو يصوم ، أو يطعم ، أو ينسك الشاة في المكان الذي حلق فيه أو في غيره . فإن حلق رأسه لغير ضرورة ، أو حلق بعض رأسه دون بعض عامدا عالما أن ذلك لا يجوز بطل حجه ، فلو قطع من شعر رأسه ما لا يسمى به حالقا بعض رأسه فلا شيء عليه ، لا إثم ولا كفارة بأي وجه قطعه ، أو نزعه . برهان ذلك - : قول الله عز وجل { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } فكان في هذه الآية التخيير في أي هذه الثلاثة الأعمال أحب ، وليس فيها بيان كم يصوم ؟ ولا بكم يتصدق ؟ ولا بماذا ينسك ؟ وفي الآية أيضا حذف بينه الإجماع ، والسنة وهو : فحلق رأسه . وروينا من طريق حماد بن سلمة عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة في هذا الخبر { أن رسول الله ﷺ قال له : إن شئت فانسك نسيكة ، وإن شئت فصم ثلاثة أيام ، وإن شئت فأطعم ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين } . وروينا من طريق مسلم حدثني يحيى بن يحيى نا خالد بن عبد الله الطحان عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة { أن رسول الله ﷺ مر به زمن الحديبية فقال له : آذاك هوام رأسك ؟ قال : نعم ، فقال له النبي ﷺ احلق ، ثم اذبح شاة نسكا ، أو صم ثلاثة أيام ، أو اطعم ثلاثة آصع من تمر : على ستة مساكين } . قال أبو محمد : هذا أكمل الأحاديث وأبينها ، وقد جاء هذا الخبر من طرق - : في بعضها { أو نسك ما تيسر } . وبعضها رويناه من طريق محمد بن جعفر عن شعبة عن عبد الرحمن بن الأصبهاني عن عبد الله بن معقل : أن كعب بن عجرة أخبره بهذا الخبر ، وفيه { أن رسول الله ﷺ قال له حينئذ : أو أطعم ستة مساكين نصف صاع طعاما لكل مسكين } . وروي أيضا من طريق بشر بن عمر الزهراني عن شعبة عن عبد الرحمن بن الأصبهاني عن عبد الله بن معقل عن كعب بن عجرة ، فذكر فيه نصف صاع حنطة لكل مسكين . وخبر من طريق أبي داود - : نا محمد بن منصور نا يعقوب بن إبراهيم بن سعد نا أبي عن محمد بن إسحاق [ قال ] حدثني أبان هو ابن صالح - عن الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة عن النبي ﷺ فذكر فيه { أو إطعام ستة مساكين فرقا من زبيب } . وخبر من طريق ابن أبي شيبة - : نا عبد الله بن نمير زكريا بن أبي زائدة عن عبد الرحمن بن الأصبهاني عن عبد الله بن معقل أخبرني كعب بن عجرة عن رسول الله ﷺ فذكر الحديث ؛ وفيه { أنه عليه السلام قال له : هل عندك نسك ؟ قال : ما أقدر عليه ، فأمره أن يصوم ثلاثة أيام ، أو يطعم ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع } . ومن طريق سعيد بن منصور نا أبو عوانة عن عبد الرحمن بن الأصبهاني عن عبد الله بن معقل { أن كعب بن عجرة أخبره أن رسول الله ﷺ قال له في هذا الخبر : هل تجد من نسيكة ؟ قال : لا ، قال : وهي شاة ؟ قال : فصم ثلاثة أيام ، أو أطعم ثلاثة آصع بين ستة مساكين } . ومن طريق أبي داود نا محمد بن المثنى نا عبد الوهاب هو ابن عبد المجيد الثقفي - أنا داود بن أبي هند عن الشعبي { عن كعب بن عجرة ، أن رسول الله ﷺ قال له في هذا الحديث نفسه أمعك دم ؟ قال : لا فذكر الحديث وفيه أنه عليه السلام قال له : فصم ثلاثة أيام ، أو تصدق بثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين } لم يسمعه الشعبي من كعب على ما ذكرنا قبل . ونذكر الآن إن شاء الله تعالى كما روينا من طريق محمد بن الجهم نا جعفر الصائغ نا محمد بن الصباح نا إسماعيل بن زكريا عن أشعث عن الشعبي عن عبد الله بن معقل عن كعب بن عجرة قال : { إن رسول الله ﷺ قال له في هذا الخبر : أمعك هدي ؟ قلت : ما أجده ، قال : إنه ما استيسر ؟ قلت : ما أجده ؟ قال : فصم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين صاعا من تمر } . قال أبو محمد : فهذه الأحاديث المضطربة كلها إنما هي في رواية عبد الله بن معقل عن كعب بن عجرة ، والذي ذكرناه أولا من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة هو الصحيح المتفق عليه - : أما هذا الخبر الذي فيه لكل مسكين صاع تمر فهو عن أشعث الكوفي عن الشعبي وهو ضعيف ألبتة ؛ وفي هذا الخبر الذي قبله من طريق داود عن الشعبي عن كعب : إيجاب الترتيب ، وأن لا يجزي الصيام ، ولا الصدقة إلا عند عدم النسك ، وذلك الخبر قد بينا أن الشعبي لم يسمعه من كعب ، فحصل منقطعا : فسقطا معا . وأما رواية ابن أبي زائدة ، وأبي عوانة عن الأصبهاني عن عبد الله بن معقل ففيها أيضا : إيجاب الترتيب ، وقد خالفهما شعبة عن ابن الأصبهاني عن عبد الله بن معقل فذكره بالتخيير بين النسك أو الصوم ، أو الصدقة ، ثم وجدنا شعبة قد اختلف عليه أيضا في هذا الخبر - : فروى عنه محمد بن جعفر : نصف صاع طعاما لكل مسكين . وروى عنه بشر بن عمر : نصف صاع حنطة لكل مسكين . وروى عنه أبو داود الطيالسي : ثلاثة آصع بين ستة مساكين ، ولم يذكر لماذا . قال أبو محمد : وهذا كله خبر واحد في قصة واحدة بلا خلاف من أحد ، وبنصوص هذه الأخبار كلها أيضا ، فصح أن جميعها وهم إلا واحدا فقط - : فوجدنا أصحاب شعبة قد اختلفوا عليه ، فوجب ترك ما اضطربوا فيه ، إذ ليس بعضه أولى من بعض ، ووجب الرجوع إلى رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى الذي لم يضطرب الثقات من رواته فيه ، ولو كان ما ذكر في هذه الأخبار عن قضايا شتى لوجب الأخذ بجميعها وضم بعضها إلى بعض ، وأما في قضية واحدة فلا يمكن ذلك أصلا . ثم وجدنا أبان بن صالح قد ذكر في روايته { فرقا من زبيب } وأبان لا يعدل في الحفظ بداود بن أبي هند عن الشعبي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، ولا بأبي قلابة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، ولا بد من أخذ إحدى هاتين الروايتين ، إذ لا يمكن جمعهما ؛ لأنها كلها في قضية واحدة ، في مقام واحد ، في رجل واحد ، في وقت واحد ، فوجب أخذ ما رواه أبو قلابة ، والشعبي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة ، لثقتهما ولأنها مبينة لسائر الأحاديث - وبالله تعالى التوفيق . وأما من حلق رأسه لغير ضرورة عالما عامدا بأن ذلك لا يجوز ، أو حلق بعض رأسه وخلى البعض عالما بأن ذلك لا يجوز : فقد عصى الله تعالى ، وكل معصية فسوق ، وقد بينا أن الفسوق يبطل الإحرام - وبالله تعالى التوفيق - ولا شيء في ذلك ؛ لأن الله تعالى لم يوجب الكفارة إلا على من حلق رأسه لمرض ، أو أذى به فقط { وما كان ربك نسيا } . ولا يجوز أن يوجب فدية ، أو غرامة ، أو صيام ، لم يوجبه الله تعالى ولا رسوله ﷺ فهو شرع في الدين لم يأذن به الله تعالى ، ولا يجوز قياس العاصي على المطيع لو كان القياس حقا فكيف وهو كله باطل ؟ وأما من قطع من شعر رأسه ما لا يسمى بذلك حالقا بعض رأسه فإنه لم يعص ولا أتى منكرا ؛ لأن الله تعالى لم ينه المحرم إلا عن حلق رأسه ونهى جملة على لسان رسوله ﷺ عن حلق بعض الرأس دون بعض وهو القزع . روينا من طريق أبي داود نا أحمد بن حنبل نا عبد الرزاق نا معمر عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر قال : { رأى النبي ﷺ صبيا قد حلق بعض شعره وترك بعضه فنهاهم عن ذلك ، وقال : احلقوا كله ، أو اتركوا كله } . قال أبو محمد : وجاءت أخبار لا تصح ، منها - : من طريق الليث عن نافع عن رجل أنصاري { أن رسول الله ﷺ أمر كعب بن عجرة أن يحلق ويهدي بقرة } وهذا مرسل عن مجهول . ومن طريق عبد الرزاق عن عبد الله بن عمر عن نافع عن سليمان بن محمد بن كعب بن عجرة : أن كعبا ذبح بقرة بالحديبية - عبد الله بن عمر ضعيف جدا . ومن طريق إسماعيل بن أمية عن محمد بن يحيى بن حبان : أن رجلا أصابه مثل الذي أصاب كعب بن عجرة فسأل عمر ابنا لكعب بن عجرة عما كان أبوه ذبح بالحديبية في فدية رأسه ؟ فقال : بقرة - محمد بن يحيى لم يدرك عمر . ومن طريق نافع ، وغيره ، عن سليمان بن يسار قال : سأل عمر ابنا لكعب بن عجرة بماذا افتدى أبوه ؟ فقال ببقرة - سليمان لم يدرك عمر . ومن طريق أبي معشر المدني عن نافع عن ابن عمر قال : افتدى كعب بن عجرة من أذى كان برأسه فحلقه ببقرة قلدها وأشعرها - أبو معشر ضعيف . قال أبو محمد : واختلف السلف فروينا عن ابن عباس ، وعلقمة ، ومجاهد ، وإبراهيم النخعي ، وقتادة ، وطاوس ، وعطاء ، كلهم قال في فدية الأذى : صيام ثلاثة أيام ، أو نسك شاة ، أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع . وصح عن الحسن البصري ، ونافع مولى ابن عمر ، وعكرمة في فدية الأذى : نسك شاة ، أو صيام عشرة أيام ، أو إطعام عشرة مساكين . روينا ذلك - : من طريق سعيد بن منصور عن هشيم : أنا منصور بن المعتمر عن الحسن فذكره . ومن طريق بشر بن عمر عن شعبة عن قتادة عن الحسن ، وعكرمة فذكره . ومن طريق حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن نافع ، وعكرمة فذكره . قال أبو محمد : وأما المتأخرون فإن أبا حنيفة قال : إن حلق من رأسه أقل من الربع لضرورة فعليه صدقة ما تيسر ، فإن حلق ربع رأسه فهو مخير بين نسك ما شاء ، ويجزئه شاة ، أو صيام ثلاثة أيام ، أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع حنطة ، أو دقيق حنطة ، أو صاعا من تمر ، أو من شعير ، أو من زبيب . قال أبو يوسف : ويجزئ أن يغديهم ويعشيهم . قال محمد بن الحسن : لا يجزئه إلا أن يعطيهم إياه . وقال أبو يوسف في قول له آخر : إن حلق نصف رأسه فأقل صدقة ، وإن حلق أكثر من النصف فالفدية كما ذكرنا . وروي عن محمد بن الحسن في قول له آخر إن حلق عشر رأسه فصدقة - فإن حلق أكثر من العشر فالفدية المذكورة . قالوا كلهم : فإن حلق رأسه لغير ضرورة فعليه دم لا يجزئه بدله صيام ، ولا إطعام - وقال الطحاوي : ليس في حلق بعض الرأس شيء . قال أبو محمد : وهذه وساوس واستهزاء وشبيه بالهزل ، نعوذ بالله من البلاء ، ولا يحفظ هذا السخام عن أحد من خلق الله تعالى قبلهم . وقال مالك : إن حلق ، أو نتف شعرات ناسيا ، أو جاهلا أو عامدا فيطعم شيئا من طعام - فإن حلق ، أو نتف ما يكون فيه إماطة أذى فعليه الفدية المذكورة في حديث كعب بن عجرة . قال علي : وهذا أيضا قول لا دليل على صحته ولا يعرف عن أحد قبلهم . وقال الشافعي ، والأوزاعي في نتف شعرة أو حلقها عامدا وناسيا : مد ، وفي الشعرتين كذلك مدان ، وفي الثلاث شعرات فصاعدا كذلك دم . قال الشافعي : إن أحب فشاة ، وإن شاء أطعم ستة مساكين لكل مسكين مدان مدان مما يأكل ، وإن شاء صام ثلاثة أيام . قال أبو محمد : روينا عن عطاء : ليس في الشعرتين ولا في الشعرة شيء ، وفي ثلاث شعرات دم - وكان الليث بن سعد نحا إلى هذا - وروينا عن ابن أبي شيبة عن حفص بن غياث عن هشام بن حسان عن الحسن ، وعطاء قالا جميعا في ثلاث شعرات للمحرم : دم ، الناسي والعامد سواء . ومن طريق سعيد بن منصور عن المعتمر بن سليمان عن أبي إسماعيل المكي : قال : سألت عطاء عن محرم حلق شعرتين لدواء ؟ قال : عليه دم . قال أبو محمد : روينا عن أبي بكر بن أبي شيبة : نا أبو أسامة هو حماد بن أسامة - عن جرير بن حازم عن الزبير بن الخريت عن عكرمة قال : كان ابن عباس لا يرى بأسا للمحرم أن يحلق عن الشجة - : قال علي : فأباح ذلك لم ير فيه شيئا ولا يعرف في ذلك مخالف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم . قال أبو محمد : وأما موضع النسك والإطعام والصيام فقد ذكرنا في باب المحصر نسك علي بن أبي طالب عن الحسين رضي الله تعالى عنهما في حلق رأسه لمرض كان به بالسقيا ولا نعلم لهما من الصحابة رضي الله تعالى عنهم مخالفا ونسك حلق الرأس لا يسمى هديا ؛ فإذا لم يكن فهو جائز في كل موضع ، إذ لم يوجب كون النسك بمكة قرآن ، ولا سنة ، ولا إجماع . وروينا عن طاوس قال : ما كان من دم أو طعام فبمكة ، وأما الصوم فحيث شاء - وقال عطاء وإبراهيم النخعي ما كان من دم فبمكة وما كان من طعام أو صيام فحيث شاء . وقال الحسن : كل دم واجب فليس لك أن تذبحه إلا بمكة . روينا عن سعيد بن منصور نا جرير عن منصور عن مجاهد قال : اجعل الفدية حيث شئت - : قال أبو محمد : لا يجوز أن يخص بالنسك مكانا دون مكان إلا بقرآن ، أو سنة ثابتة .
875 - مسألة : فإن حلق رأسه بنورة فهو حالق في اللغة ففيه ما في الحالق من كل ما ذكرنا بأي شيء - حلقه ؟ فإن نتفه فلا شيء في ذلك ؛ لأنه لم يحلقه ؛ والنتف غير الحلق : { وما كان ربك نسيا } وإنما جاء النهي والفدية في الحلق لا في النتف .