الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الثاني/الصفحة التاسعة والسبعون


كتاب الحج

891 - مسألة : وجائز للمحرم دخول الحمام ، والتدلك ، وغسل رأسه بالطين ، والخطمي ، والاكتحال ، والتسويك ، والنظر في المرآة ، وشم الريحان ، وغسل ثيابه ، وقص أظفاره وشاربه ، ونتف إبطه ، والتنور ، ولا حرج في شيء من ذلك ، ولا شيء عليه فيه ؛ لأنه لم يأت في منعه من كل ما ذكرنا قرآن ، ولا سنة ، ومدعي الإجماع في شيء من ذلك : كاذب على جميع الأمة ، قائل ما لا علم به - ومن أوجب في ذلك غرامة فقد أوجب شرعا في الدين لم يأذن به الله تعالى ؟ وقد اختلف السلف في هذا - : روينا من طريق أيوب السختياني عن عكرمة أن ابن عباس دخل حمام الجحفة وهو محرم وقال : إن الله تعالى لا يصنع بوسخ المحرم شيئا . وأنه قال : المحرم يدخل الحمام ، وينزع ضرسه ، إن انكسر ظفره طرحه ، أميطوا عنكم الأذى إن الله لا يصنع بأذاكم شيئا . وأنه كان لا يرى بشم الريحان للمحرم بأسا ، وأن يقطع ظفره إذا انكسر ، ويقلع ضرسه إذا آذاه . ومن طريق معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر قال : رأى عمر بن الخطاب بعض بنيه - أحسبه قال عاصم بن عمر - وعبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ، وهو جالس على ضفة البحر ، وهما يتماقلان وهم محرمون : يغيب هذا رأس هذا ويغيب هذا رأس هذا : فلم يعب عليهما . وعن عكرمة عن ابن عباس قال : كنت أطاول عمر بن الخطاب النفس ونحن محرمان في الحياض . ومن طريق حماد بن زيد نا أيوب هو السختياني - عن عكرمة عن ابن عباس قال : لقد رأيتني أماقل عمر بن الخطاب بالجحفة ونحن محرمان - المماقلة : التغطيس في الماء . ومن طريق حماد بن سلمة عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس : أنه كان هو وابن عمر بإخاذ بالجحفة يترامسان وهما محرمان - : قال أبو محمد : الإخاذ الغدير - والترامس التغاطس . ورأى مالك على من غيب رأسه في الماء : الفدية ، وخالف كل من ذكرنا ؛ واختلف عن ابن عباس ، والمسور بن مخرمة في غسل المحرم رأسه فاحتكما إلى أبي أيوب الأنصاري ، ووجها إليه عبد الله بن حنين فوجده يغسل رأسه وهو محرم ، وأخبره : أنه { رأى رسول الله ﷺ يغسل رأسه وهو محرم } وقد ذكرنا { أمر رسول الله ﷺ عائشة أم المؤمنين بأن تنقض رأسها وتمتشط وهي محرمة } . ومن طريق وكيع نا العمري عن نافع عن ابن عمر قال : لا بأس أن يغسل المحرم ثيابه . ومن طريق وكيع نا سفيان الثوري عن منصور عن سالم عن أبي الجعد قال : سئل ابن عمر عن ذلك ؟ - يعني عن غسل المحرم ثيابه - فقال : لا بأس به إن الله لا يصنع بدرنك شيئا ؟ ومن طريق عمرو بن دينار عن عكرمة قال : لا بأس أن تمشط المرأة الحرام المرأة الحرام وتقتل قمل غيرها . وعن عطاء ، وإبراهيم النخعي قالا : لا بأس بدخول المحرم الحمام - وهو قول أبي حنيفة ، وسفيان الثوري ، والشافعي ، وأبي سليمان . فإن ذكروا قول الله تعالى : { ثم ليقضوا تفثهم } ؟ قلنا : روينا عن ابن عمر قال : التفث ما عليهم من الحج ، وقد أخبر رسول الله ﷺ { من الفطرة : قص الأظفار ، ونتف الإبط ، وحلق العانة وقص الشارب } ، والفطرة سنة لا يجوز تعديها ، ولم يخص عليه السلام محرما من غيره : { وما كان ربك نسيا } . والعجب كله ممن يجعل فيمن فعل ما أمر به من ذلك ، أو أبيح له ولم ينه عنه : كفارة أو غرامة ، ثم لا يجعل على المحرم في فسوقه ومعاصيه ، وارتكابه الكبائر شيئا ، لا فدية ، ولا غرامة ، بل يرى حجه ذلك تاما مبرورا ؟ وحسبنا الله ونعم الوكيل . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر : أنه كان ينظر في المرآة وهو محرم . ومن طريق عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن عكرمة عن ابن عباس قال : لا بأس أن ينظر المحرم في المرآة - ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة رضي الله عنهم . وهو قول الحسن ، وابن سيرين ، وعطاء ، وطاوس ، وعكرمة . وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي سليمان - وقال مالك : يكره ذلك - وقد رويت كراهة ذلك عن ابن عباس ؛ والإباحة عنه أصح . وقال أبو حنيفة : إن قلم المحرم أظفار أربع أصابع ، أربع أصابع من كل يد من يديه ، ومن كل رجل من رجليه : فعليه إطعام ما شاء ، فإن قلم أظفار كف واحدة فقط ، أو رجل واحدة فقط : فعليه دم . وقال محمد بن الحسن : إن قلم خمسة أظفار من يد واحدة ، أو من رجل واحدة ، أو من يدين ، أو من رجلين ، أو من يديه ، ورجليه معا : فعليه دم ، فإن قلم أربعة أظفار كذلك : فعليه إطعام . وقال أبو يوسف : كقول أبي حنيفة ، إلا أنه قال : يطعم عن كل ظفر نصف صاع . وقال زفر ، والحسن بن زياد : إن قلم ثلاثة أظفار من يد واحدة ، أو من رجل واحدة ؛ أو من يدين ورجل ، أو من رجلين ويد : فعليه دم - فإن قلم أقل فعليه أن يطعم عن كل أصبع نصف صاع . وقال الطحاوي : لا شيء عليه حتى يقلم جميع أظفار يديه ورجليه : فتجب عليه الفدية . وقال مالك : من قلم من أظفاره ما يميط به عن نفسه أذى فالفدية المذكورة في حلق الرأس عليه . وقال الشافعي : من قلم ظفرا واحدا فليطعم مدا ، فإن قلم ظفرين فمدين ، فإن قلم ثلاثة أظفار فعليه دم ؟ فاعجبوا لهذه الأقوال الشنيعة التي لا حظ لها في شيء من وجوه الصواب ولا نعلم أحدا قالها قبلهم - وقد ذكرنا عن ابن عباس آنفا : لا بأس على المحرم إذا انكسر ظفره أن يطرحه عنه وأن يميط عن نفسه الأذى . وهو قول عكرمة ، وإبراهيم النخعي ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وسعيد بن المسيب ، وحماد بن أبي سليمان ، ليس منهم أحد جعل في ذلك شيئا . وعن عطاء : إن قص أظفاره لأذى به فلا شيء عليه ، فإن قصها لغير أذى فعليه دم - وعنه ، وعن الحسن : إن قلم ظفره المنكسر فلا شيء عليه ، فإن قلمه من غير أن ينكسر : فعليه دم . وعن الشعبي : إن نزع المحرم ضرسه : فعليه دم . قال أبو محمد : ولا مخالف لابن عباس في هذا يعرف من الصحابة رضي الله عنهم ، ويلزم من رأى في إماطة الأذى الدم أن يقول بقول الشعبي في إيجاب إماطة الأذى بقلع الضرس ، ونعم ، وفي البول ، وفي الغائط لأن كل ذلك إماطة أذى . وعن ابن عباس : يغسل المحرم ثيابه . ومن طرق وكيع عن سفيان عن منصور عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أنه قال في غسل المحرم ثيابه : إن الله لا يصنع بدرنك شيئا . - وبه إلى سفيان عن أبي الزبير عن جابر قال : لا بأس بغسل المحرم ثيابه ، ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف . وبه يقول أبو حنيفة ، والشافعي ، وأبو سليمان .

892 - مسألة : وكل ما صاده المحل في الحل فأدخله الحرم ، أو وهبه لمحرم ، أو اشتراه محرم : فحلال للمحرم ، ولمن في الحرم ملكه ، وذبحه ، وأكله - وكذلك من أحرم وفي يده صيد قد ملكه قبل ذلك ، أو في منزله قريبا ، أو بعيدا ، أو في قفص معه فهو حلال له - كما كان - أكله ، وذبحه وملكه ، وبيعه ، وإنما يحرم عليه ابتداء التصيد للصيد وتملكه وذبحه حينئذ فقط ، فلو ذبحه لكان ميتة ، ولو انتزعه حلال من يده لكان للذي انتزعه ، ولا يملكه المحرم وإن أحل ، إلا بأن يحدث له تملكا بعد إحلاله . برهان ذلك - : أن الله تعالى قال : { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } . وقال : { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } . فقالت طائفة : هاتان الآيتان على عمومهما ، والشيء المتصيد هو المحرم ملكه وذبحه وأكله كيف كان ؟ فحرموا على المحرم أكل كل شيء من لحم الصيد جملة وإن صاده لنفسه حلال وإن ذبحه الحلال . وحرموا عليه ذبح شيء منه ، وإن كان قد ملكه قبل إحرامه ، وأوجبوا على من أحرم وفي داره صيد أو في يده ، أو معه في قفص أن يطلقه ، وأسقطوا عنه ملكه ألبتة ، ولم يبيحوا لأحد من سكان مكة والمدينة أكل شيء من لحم الصيد ، أو تملكه ، أو ذبحه . وقالت طائفة : قول الله تعالى : { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } إنما أراد الله تعالى الفعل الذي هو التصيد لا الشيء المتصيد - وهو مصدر صاد يصيد صيدا - فإنما حرم عليه صيده لما يتصيد فقط . وقالوا : قوله تعالى : { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } هو التصيد أيضا نفسه المحرم في الآية الأخرى . واستدلت هذه الطائفة على ما قالته بقول الله تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا } قالوا : فالذي أباحه الله تعالى لنا بالإحلال هو بلا شك المحرم علينا بالإحرام لا غيره . وقالوا : لا يطلق في اللغة اسم الصيد إلا على ما كان في البرية وحشيا غير متملك فإذا تملك لم يقع عليه اسم صيد بعد . قال أبو محمد : فهذان القولان هما اللذان لا يجوز أن يفهم من الآية غيرهما وكل ما عداهما فقول فاسد متناقض لا يدل على صحته دليل أصلا فوجب أن ننظر في أي القولين يقوم على صحته البرهان - : فوجدنا أهل المقالة الأولى يحتجون بحديث ابن عباس عن الصعب بن جثامة الليثي { أنه أهدى لرسول الله ﷺ رجل حمار وحش فرده عليه ، وقال : إنا حرم لا نأكل الصيد } . وروي هذا الحديث أيضا بلفظ : { أنه أهدى لرسول الله ﷺ حمار وحش فرده عليه وقال : لولا أنا محرمون لقبلناه منك } . روينا اللفظ الأول : من طريق حماد بن زيد عن صالح بن كيسان عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس : عن الصعب بن جثامة . واللفظ الثاني : من طريق الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : أهدى الصعب بن جثامة . ومن طريق مسلم حدثني زهير بن حرب نا يحيى هو ابن سعيد القطان - عن ابن جريج أخبرني الحسن بن مسلم عن طاوس عن ابن عباس أن زيد بن أرقم أخبره { أن رسول الله ﷺ أهدي له عضو من لحم صيد فرده وقال : إنا لا نأكله إنا حرم } . وهذان خبران رويناهما من طرق كلها صحاح - وهذا قول روي عن علي ومعاذ ، وابن عمر - وبه يقول أبو بكر بن داود - : روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع قال : أهدي إلى ابن عمر ظبي مذبوحة بمكة فلم يقبلها ، وكان ابن عمر يكره للمحرم أن يأكل من لحم الصيد على كل حال - : فنظرنا فيما احتجت به الطائفة الأخرى - : فوجدناهم يحتجون بما رويناه من طريق مسلم نا ابن أبي عمر نا سفيان هو ابن عيينة - نا صالح بن كيسان قال : سمعت أبا محمد مولى أبي قتادة يقول : سمعت أبا قتادة يقول : { خرجنا مع رسول الله ﷺ حتى إذا كنا بالقاحة فمنا المحرم ومنا غير المحرم إذ بصرت بأصحابي يتراءون شيئا فنظرت فإذا حمار وحش فأسرجت فرسي وأخذت رمحي ثم ركبت فسقط مني سوطي فقلت لأصحابي : ناولوني سوطي وكانوا محرمين فقالوا : لا والله لا نعينك عليه بشيء فنزلت فتناولته ؛ ثم ركبت فأدركت الحمار من خلفه وهو وراء أكمة فطعنته برمح فعقرته فأتيت به أصحابي فقال بعضهم : كلوه ، وقال بعضهم : لا تأكلوه ، وكان النبي عليه السلام أمامنا فحركت فرسي فأدركته فقال : هو حلال فكلوه } . أبو محمد مولى أبي قتادة ثقة اسمه نافع روى عنه أبو النضر وغيره . ومن طريق مسلم نا أحمد بن عبدة الضبي نا فضيل بن سليمان النميري نا أبو حازم عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه { أنهم خرجوا مع رسول الله ﷺ وهم محرمون وأبو قتادة محل } فذكر الحديث وفيه " أن رسول الله ﷺ قال : { هل معكم منه شيء ؟ قالوا : معنا رجله فأخذها رسول الله عليه السلام فأكلها } . ومن طريق مسلم حدثني زهير بن حرب نا يحيى هو ابن سعيد القطان - عن ابن جريج أخبرني محمد بن المنكدر عن معاذ بن عبد الرحمن بن عثمان التيمي عن أبيه قال : { كنا مع طلحة بن عبيد الله ، ونحن حرم فأهدي لنا طير وطلحة راقد ، فمنا من تورع ، ومنا من أكل فلما استيقظ طلحة وفق من أكله ، وقال : أكلناه مع رسول الله ﷺ } . ومن طريق الليث بن سعد عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن عيسى بن طلحة بن عبيد الله عن عمير بن سلمة الضمري قال : { بينما نحن نسير مع رسول الله ﷺ بالروحاء وهم حرم إذا حمار معقور فقال رسول الله ﷺ دعوه فيوشك صاحبه أن يأتي فجاء رجل من بهز هو الذي عقر الحمار فقال : يا رسول الله شأنكم بهذا الحمار ، فأمر عليه السلام أبا بكر فقسمه بين الناس } . وهو قول عمر بن الخطاب ، وطلحة كما ذكرنا ، وأبي هريرة - : كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر أنه سمع أبا هريرة يحدث أباه عبد الله بن عمر قال : سألني قوم محرمون عن محلين أهدوا لهم صيدا ؟ قال : فأمرتهم بأكله ، ثم لقيت عمر فأخبرته ، فقال عمر : لو أفتيتهم بغير هذا لأوجعتك . ومن طريق يحيى بن سعيد القطان عن ابن جريج حدثني يوسف بن ماهك أنه سمع عبد الله بن أبي عمار قال : أقبلنا مع معاذ بن جبل محرمين بعمرة من بيت المقدس وأميرنا معاذ بن جبل فأتى رجل بحمار وحش قد عقره فابتاعه كعب بن مسلم فجاء معاذ والقدور تغلي به ، فقال معاذ : لا يطيعني أحد إلا أكفأ قدره فأكفأ القوم قدورهم فلما وافوا عمر قص عليه كعب قصة الحمار ، قال عمر : ما بأس ذلك ؟ ومن نهى عن ذلك ؟ لعلك أفتيت بذلك يا معاذ ؟ قال : نعم - فلامه عمر . وهو أيضا قول ابن عمر ، وابن مسعود ، وأبي ذر ، ومجاهد ، والليث ، وأبي حنيفة ، وغيرهم . قال أبو محمد : فكانت هذه الأخبار والتي قبلها صحاحا كلها ، فالواجب في ذلك الأخذ بجميعها واستعمالها كما هي دون أن يزاد في شيء منها ما ليس فيه ، فيقع فاعل ذلك في الكذب ، فنظرنا في هذه الأخبار فوجدنا فيها إباحة أكل ما صاده الحلال للمحرم . ثم نظرنا في التي قبلها فوجدناها ليس فيها نهي المحرم عن أكل ما صاده المحل أصلا وإنما فيها قوله عليه السلام : { إنا لا نأكله إنا حرم ، ولولا أننا محرمون لقبلناه } فإنما فيه رد الصيد على مهديه ، لأنهم حرم وترك أكله لأنهم حرم ؛ وهذا فعل منه عليه السلام وليس أمرا ، وإنما الواجب أمره وإنما في فعله الائتساء به فقط . وهذا مثل قوله عليه السلام : { أما أنا فلا آكل متكئا } . وتركه أكل الضب - فلم يحرم بذلك الأكل متكئا لكن هو الأفضل . ولم يحرم أيضا أكل المحرم الصيد يصيده المحل بقوله عليه السلام { إنا لا نأكله إنا حرم } لكن كان ترك أكله أفضل . وهكذا روي عن عائشة ولا حرج في أكله أصلا ولا كراهة لأنه عليه السلام قد أباحه وأكله أيضا ، فمرة أكله ، ومرة لم يأكله ، ومرة قبله ، ومرة لم يقبله - فكل ذلك حسن مباح . وهكذا القول في الحديث الذي فيه { أهدي لرسول الله ﷺ بيض نعام وتتمير وحش فقال : أطعمه أهلك فإنا حرم } لو صح فكيف ولا يصح ؟ فإذ لا شك في هذا فقد صح أن قول الله تعالى : { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } إنما أراد به التصيد في البر فقط . وصح أن قوله تعالى : { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } نهي عن قتله في حال كون المرء حرما ، والذكاة ليست قتلا بلا خلاف في الشريعة ، والقتل ليس ذكاة ، فصح أنه لم ينه عن تذكيته ، وإذا ثبت هذا فلم يأت النص بنهي عن تملك الصيد بغير التصيد فهو حلال . وبرهان قاطع - : وهو أن النبي عليه السلام سكن المدينة إلى أن مات ، وهي حرم كمكة سواء سواء وأصحابه بعده ، ولم يزل عليه السلام يهدى له الصيد ولأصحابه ويدخل به المدينة حيا فيبتاع ويذبح ويؤكل ويتملك ، ومذكى فيباع ويؤكل ، هذا أمر لا يقدر على إنكاره أحد جيلا بعد جيل ، وكذلك بمكة وهي حرم - : حدثنا يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري نا عبد الوارث بن سفيان نا قاسم بن أصبغ نا أحمد بن زهير بن حرب هو ابن أبي خيثمة - نا عبيد الله بن عمر نا حماد بن زيد قال : سمعت داود بن أبي هند يحدث هشام بن عروة أن عطاء يكره ما أدخل من الصيد من الحل أن يذبح في الحرام ، فقال هشام : وما علم عطاء ، ومن يأخذ عن ابن رباح كان أمير المؤمنين بمكة - يعني عمه ابن الزبير - تسع سنين يراها في الأقفاص وأصحاب رسول الله عليه السلام يقدمون بها القماري واليعاقيب لا ينهون عن ذلك . قال أبو محمد : ما لم يمنع منه الحرم لم يمنع منه الإحرام إذ لم يفرق بين ذلك النص أصلا فارتفع الإشكال - وبالله تعالى التوفيق - إلا أن أبا حنيفة قال : من أحرم وفي منزله صيد أو معه في قفص لم يلزمه إرساله فإن كان في يده لزمه إرساله فإن وجده بعد إحلاله في يد إنسان قد أخذه كان له ارتجاعه وانتزاعه من الذي هو بيده ، وهذا تخليط ناهيك به ، ولئن كان يسقط ملكه عنه بإحرامه فما له أن يأخذه ممن ملكه ولا سبيل إلى عودة ملكه عليه بعد سقوطه إلا ببرهان ، وإن كان ملكه لم يسقط عنه بإحرامه فلا يلزمه إرساله . وقال أيضا : إن صاد محل صيدا فأدخله حرم مكة حيا فعليه أن يرسله فإن باعه فسخ بيعه ، فإن باعه ممن يذبحه أو ذبحه فعليه الجزاء - وهذا تخليط وتناقض لما ذكرنا قبل . وروينا عن مجاهد لا بأس أن يدخل الصيد في الحرم حيا - ثم يذبح . وعن عطاء ، وعمرو بن دينار ، وسعيد بن جبير أيضا مثل هذا . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن صالح بن كيسان قال : رأيت الصيد يباع بمكة حيا في إمارة ابن الزبير . قال أبو محمد : ولا فرق بين من كان في الحرم ، وبين المحرم في الحل والحرم ، لأن كليهما يقع عليه اسم حرم - وبالله تعالى التوفيق - فإذ قد صح هذا فالواجب فيمن قتل صيدا متملكا وهو محرم أو في الحرم أن يؤدي لصاحبه صيدا مثله يبتاعه له أو قيمته إن لم يوجد مثله ، ولا جزاء فيه ولا يؤكل الذي قتل لأنه ميتة ، إذ قتله بغير إذن صاحبه . قال أبو محمد : وها هنا قولان آخران ، أحدهما : قوم قالوا : لحم الصيد حلال للمحرم ما لم يصده هو أو يصد له ، واحتجوا بما رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن { عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال : خرجت مع رسول الله ﷺ زمن الحديبية فأحرم أصحابي ولم أحرم فرأيت حمار وحش فحملت عليه فاصطدته فذكرت شأنه للنبي عليه السلام وذكرت أني لم أكن أحرمت فأمر أصحابه فأكلوا ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته له } . وبما رويناه من طريق عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن حنطب عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله عليه السلام : { صيد البر لكم حلال وأنتم حرم إلا ما اصطدتم وصيد لكم } . فروينا هذا عن عثمان وأنه أتي بصيد وهو وأصحابه محرمون فأمرهم بأكله ولم يأكله هو فقال له عمرو بن العاص : يا عجبا لك تأمرنا أن نأكل مما لست آكلا ؟ فقال عثمان : إني أظن إنما صيد من أجلي ، فأكلوا ولم يأكل - وهو قول مالك . قال أبو محمد : أما خبر جابر فساقط ، لأنه عن عمرو بن أبي عمرو وهو ضعيف . وأما خبر أبي قتادة فإن معمرا رواه كما ذكرنا . ورواه عن يحيى بن أبي كثير معاوية بن سلام ، وهشام الدستوائي كلاهما يقول فيه : عن يحيى حدثني عبد الله بن أبي قتادة ، ولا يذكران ما ذكر معمر ، ولم يذكر فيه معمر سماع يحيى له من عبد الله بن أبي قتادة . ورواه أيضا : شعبة عن عثمان بن عبد الله بن موهب عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبي قتادة على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى فلم يذكر فيه ما ذكر معمر . ورواه أيضا : أبو محمد مولى أبي قتادة عن أبي قتادة - فلم يذكر فيه ما ذكر معمر ، ورواه أبو حازم عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبي قتادة فذكر : أن رسول الله عليه السلام أكل منه . فلا يخلو العمل في هذا من ثلاثة أوجه - : إما أن تغلب رواية الجماعة على رواية معمر لا سيما وفيهم من يذكر سماع يحيى من ابن أبي قتادة ولم يذكر معمرا . وتسقط رواية يحيى بن أبي كثير جملة لأنه اضطرب عليه ويؤخذ برواية أبي حازم ، وأبي محمد ، وابن موهب ، الذين لم يضطرب عليهم لأنه لا يشك ذو حس أن إحدى الروايتين وهم . إذ لا يجوز أن تصح الرواية في أنه عليه السلام أكل منه ، وتصح الرواية في أنه عليه السلام لم يأكل منه ، وهي قصة واحدة في وقت واحد ، في مكان واحد في صيد واحد ، ويؤخذ بالزائد وهو الحق الذي لا يجوز تعديه ؟ فنظرنا في ذلك - : فوجدنا من روى عن عبد الله بن أبي قتادة : { أن رسول الله ﷺ أكل منه } قد أثبت خبرا وزاد علما على ما روي عنه أنه عليه السلام لم يأكل منه ، فوجب الأخذ بالزائد ولا بد وترك رواية من لم يثبت ما أثبته غيره - وبالله تعالى التوفيق . وأما فعل عثمان فإننا روينا من طريق سعيد بن منصور أنا ابن وهب أنا عمرو بن الحارث أن أبا النضر مولى عمر بن عبيد الله حدثه أن بسر بن سعيد أخبره أن عثمان بن عفان كان يصاد له الوحش على المنازل ثم يذبح فيأكله وهو محرم سنتين من خلافته ، ثم إن الزبير كلمه ، فقال : ما أدري ما هذا يصاد لنا ومن أجلنا ؟ لو تركناه ؟ فتركه . فصح أنه رأي من عثمان ، والزبير ، واستحسان ، لا منع ، ولا عن أثر عندهما ، ومثل هذا لا تقوم به حجة ، ولا يشك أحد في أن أبا قتادة لم يصد الحمار إلا لنفسه وأصحابه وهم محرمون فلم يمنعهم رسول الله ﷺ من أكله فسقط هذا القول . وقول آخر : وهو أنه حلال للمحرم ما صاده الحلال ما لم يشر له إليه أو يأمره بصيده واحتج هؤلاء بما رويناه من طريق شعبة أنا عثمان بن عبد الله بن موهب قال : سمعت { عبد الله بن أبي قتادة يحدث عن أبيه : أنهم كانوا في مسير لهم بعضهم محرم وبعضهم ليس بمحرم فرأيت حمار وحش فركبت فرسي وأخذت رمحي فاستعنتهم فأبوا أن يعينوني فاختلست سوطا من بعضهم وشددت على الحمار فأصبته فأكلوا منه فأشفقوا منه ، فسئل عن ذلك رسول الله عليه السلام ؟ فقال : هل أشرتم أو أعنتم ؟ قالوا : لا ، قال : فكلوه } . ومن طريق أبي عوانة عن عبد الله بن عثمان بن موهب عن ابن أبي قتادة عن أبيه بمثله إلا أنه قال : هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء ؟ قالوا : لا . قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه لأننا لا ندري ماذا كان يقول رسول الله ﷺ لو قال له : نعم ؟ إلا أن اليقين عندنا أن كل ما لم يقله عليه السلام ولا حكم به فإنه غير لازم ولا تؤخذ الديانة بالتكهن ، ونحن على يقين من أنه لو لزم بإشارتهم إليه ، أو أمرهم إياه ، أو عونهم له حكم تحريم لبينه عليه السلام ، فإذ لم يفعل فلا حكم لذلك . وقد روينا عن عطاء في محرم كان بمكة فاشترى حجلة فأمر محلا بذبحها أنه لا شيء عليه - وبالله تعالى التوفيق .

893 - مسألة : فلو أمر محرم حلالا بالتصيد فإن كان ممن يطيعه ويأتمر له فالمحرم هو القاتل للصيد فهو حرام ، وإن كان ممن لا يأتمر له ولا يطيعه فليس المحرم هاهنا قاتلا ، بل أمر بمباح حلال للمأمور . ولو اشترك حلال ومحرم في قتل صيد كان ميتة لا يحل أكله ؛ لأنه لم تصح فيه الذكاة خالصة ، وعلى المحرم جزاؤه كله لأنه قاتل ولا جزاء على المحل - وبالله تعالى التوفيق .

894 - مسألة : ومباح للمحرم أن يقبل امرأته ويباشرها ما لم يولج ، لأن الله تعالى لم ينه إلا عن الرفث ، والرفث : الجماع ، فقط . ولا عجب أعجب ممن ينهى عن ذلك ولم ينه الله تعالى ولا رسوله عليه السلام قط عن ذلك ، ويبطل الحج بالإمناء في مباشرتها التي لم ينهه قط قرآن ولا سنة عنها ، ثم لا يبطل حجه بالفسوق الذي صح نهي الله تعالى في القرآن عنه في الحج من ترك الصلاة ، وقتل النفس التي حرم الله تعالى بغير الحق وسائر الفسوق ، إن هذا لعجب ؟ روينا من طريق الحذافي عن عبد الرزاق نا محمد بن راشد عن شيخ يقال له : أبو هرم قال : سمعت أبا هريرة يقول : يحل للمحرم من امرأته كل شيء إلا هذا وأشار بإصبعه السبابة بين أصبعين من أصابع يده - يعني الجماع . وعن عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عثمان بن عبد الرحمن أنه قبل امرأته وهو محرم فسألت سعيد بن جبير ؟ فقال : ما نعلم فيها شيئا فليستغفر الله عز وجل . قال ابن جريج : وسمعت عطاء يقول : مثل قول سعيد بن جبير . ومن طريق ابن جريج أيضا عن عطاء لا يفسد الحج إلا التقاء الختانين فإذا التقى الختانان فسد الحج ووجب الغرم . ومن طريق ابن أبي شيبة نا ابن علية عن غيلان بن جرير قال : سألني وعلي بن عبد الله ، وحليم بن الدريم محرم ؟ فقال : وضعت يدي من امرأتي موضعا فلم أرفعها حتى أجنبت ؟ ؟ فقلنا كلنا : ما لنا بهذا علم ؟ فمضى إلى أبي الشعثاء جابر بن زيد فسأله ، ثم رجع إلينا يعرف البشر في وجهه ؟ فسألناه ماذا أفتاك ؟ فقال : إنه استكتمني - فهؤلاء كلهم لم يروا في ذلك شيئا ؟ فإن ذكروا الرواية عن عائشة : يحرم على المحرم من امرأته كل شيء إلا الكلام . وعن ابن عباس إنما الرفث ما تكلم به عند النساء - فهم أول مخالف لهذا لأنهم يبيحون له النظر ، ثم إنها وابن عباس لم يجعلا في ذلك شيئا . وقال أبو حنيفة : والشافعي : من جامع دون الفرج فأنزل فليس عليه إلا دم وتجزئه شاة وحجه تام . وروينا عن ابن عباس ولم يصح فيمن نظر فأمذى ، أو أمنى : عليه دم . وعن علي ولا يصح : من قبل فعليه دم . أما رواية ابن عباس فعن شريك عن إبراهيم بن مهاجر . وأما رواية علي فعن شريك عن جابر الجعفي - وكلهم لا شيء ؟ قال أبو محمد : إيجاب الدم في ذلك قول لم يوجبه قرآن ، ولا سنة ، ولا قياس ، ولا قول مجمع عليه - وبالله تعالى التوفيق .