→ كتاب الحج (مسألة 837 - 850) | ابن حزم - المحلى كتاب الحج (مسألة 851 - 861) المؤلف: ابن حزم |
كتاب الحج (مسألة 862 - 872) ← |
كتاب الحج
851 - مسألة : فإن أمكنه تجديد الإحرام فليفعل ويحج أو يعتمر وقد أدى فرضه لأن إحرامه الأول قد بطل وأفسده ، والتمادي عليه لا يجوز لقول الله - تعالى - : { إن الله لا يصلح عمل المفسدين } . وقال الأوزاعي : في سباب المحرم دم ؛ وهم يجعلون الدم فيما لا يكره فيه من المبيت في غير منى وغير ذلك ولا يجعلونه في السباب للمحرم في الحج .
852 - مسألة : ومن وقف بعرفة على بعير مغصوب ، أو جلال بطل حجه إذا كان عالما بذلك ، وأما من حج بمال حرام فأنفقه في الحج - ولم يتول هو حمله بنفسه - فحجه تام . أما المغصوب ، فلأنه مخالف لما أمره الله - تعالى - به ولم يحج كما أمر - وأما وقوفه على بعير جلال فلما صح عن النبي ﷺ مما حدثناه عبد الله بن ربيع نا عمر بن عبد الملك نا محمد بن بكر نا أبو داود نا أحمد بن أبي سريج الرازي أخبرني عبد الله بن الجهم نا عمرو هو ابن أبي قيس - عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر قال : { نهى رسول الله ﷺ عن الجلالة في الإبل أن يركب عليها } . وبه إلى أبي داود نا مسدد نا عبد الوارث هو التنوري - عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر قال : { نهى رسول الله ﷺ عن ركوب الجلالة } . قال أبو محمد : والجلالة هي التي علفها الجلة وهي العذرة ؛ فمن وقف بعرفة على بعير جلال فلم يقف كما أمر ؛ لأنه عاص في وقوفه [ عليه ] والوقوف بعرفة طاعة وفرض ، ومن المحال أن تنوب المعصية عن الطاعة وقال عليه السلام : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } فمن وقف بها حاملا لمال حرام ، فلم يقف كما أمر بل وقف عاصيا ، فإن لم يعلم بذلك فقد قال - تعالى - : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ، ولكن ما تعمدت قلوبكم } ومن لم يتعمد للحرام عالما به فليس عاصيا ، وإذا لم يكن عاصيا فهو محسن قال - تعالى - : { ما على المحسنين من سبيل } فقد وقف كما أمر ، وعفا الله - تعالى - له عما لم يعلمه . وأما نفقة المال الحرام في الحج وطريقه - : فهو إن كان عاصيا بذلك فلم يباشر المعصية في حال إحرامه ولا في شيء من أعمال حجه فلم يخلط في عمله الواجب عملا محرما وبالله - تعالى - التوفيق . وكذلك لو ركب الجلال في شيء من إحرامه أو عمل حجه لقول الله - تعالى - : { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } والمعصية : فسوق ؛ وقد وافقونا على بطلان صلاة من صلى الفرض راكبا لغير ضرورة ولا فرق بين الأمرين ؛ لأن كليهما عمل محرم .
853 - مسألة : وعرفة كلها موقف إلا بطن عرنة ، ومزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر ؛ لأن عرفة من الحل ، وبطن عرنة من الحرم فهو غير عرفة ؛ وأما مزدلفة فهي المشعر الحرام وهي من الحرم ؛ وبطن محسر من الحل فهو غير مزدلفة . نا أحمد بن عمر بن أنس نا عبد الله بن حسين بن عقال نا إبراهيم بن محمد الدينوري نا محمد بن أحمد بن الجهم نا جعفر الصائغ نا أبو نصر النمار هو عبد الملك بن عبد العزيز - عن سليمان بن موسى عن عبد الرحمن بن أبي حسين عن جبير بن مطعم قال رسول الله ﷺ : { كل عرفات موقف وارفعوا عن بطن عرنة ، والمزدلفة كلها موقف وارفعوا عن بطن محسر } .
854 - مسألة : ورمي الجمار بحصى قد رمي به قبل ذلك جائز ، وكذلك رميها راكبا حسن ؛ أما رميها بحصى قد رمي به فلأنه لم ينه عن ذلك قرآن ، ولا سنة ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه - : فإن قيل : قد روي عن ابن عباس أن حصى الجمار ما تقبل منه رفع ، وما لم يتقبل منه ترك ولولا ذلك لكان هضابا تسد الطريق ؟ قلنا : نعم فكان ماذا ؟ وإن لم يتقبل - رمي هذه الحصى من عمرو فيستقبل من زيد ، وقد يتصدق المرء بصدقة فلا يقبلها الله - تعالى - منه ؛ ثم يملك تلك العين آخر فيتصدق بها فتقبل منه . وأما رميها راكبا - : نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه - نا وكيع نا أيمن بن نابل عن قدامة بن عبد الله قال : { رأيت رسول الله ﷺ يرمي جمرة العقبة يوم النحر على ناقة له صهباء ، لا ضرب ، ولا طرد ، ولا إليك إليك } . وقال أبو يوسف قبل موته بأقل من ساعة : رمي الجمرتين الآخرتين راكبا أفضل ورمي جمرة العقبة راجلا أفضل ؛ وهذا تقسيم فاسد بلا برهان بل رميها راكبا أفضل اقتداء برسول الله ﷺ .
855 - مسألة : ويبطل الحج تعمد الوطء في الحلال من الزوجة والأمة ذاكرا لحجه أو عمرته فإن وطئها ناسيا ؛ لأنه في عمل حج أو عمرة فلا شيء عليه ، وكذلك يبطل بتعمده أيضا حج الموطوءة وعمرتها قال - تعالى - : { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } والرفث الجماع ؛ فمن جامع فلم يحج ، ولا اعتمر كما أمر ، وقال رسول الله ﷺ : { دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة } . وأما الناسي ، والمكره فلا شيء عليه لقول رسول الله ﷺ : { رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } . ولقول الله - تعالى - : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } وهو قول أصحابنا .
856 - مسألة : وإن وطئ وعليه بقية من طواف الإفاضة أو شيء من رمي الجمرة فقد بطل حجه كما قلنا ، قال تعالى : { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } . فصح أن من رفث ولم يكمل حجه فلم يحج كما أمر ، وهو قول ابن عمر وقول أصحابنا . وقال ابن عباس : لا يبطل الحج بالوطء بعد عرفة ؛ وهو قول أبي حنيفة وقال مالك : إن وطئ يوم النحر قبل رمي الجمرة بطل حجه ، وإن وطئ يوم النحر بعد رمي الجمرة لم يبطل حجه ، وإن وطئ بعد يوم النحر قبل رمي الجمرة لم يبطل حجه . فأما قول مالك فتقسيم لا دليل على صحته أصلا . واحتج أبو حنيفة بقول رسول الله ﷺ : { الحج عرفة } . قال علي : ولا حجة لهم في هذا لأن الذي قال هذا هو الذي أخبرنا عن الله تعالى بأنه قال : { وليطوفوا بالبيت العتيق } وبأنه قال : { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام } . وهو الذي أمر برمي الجمرة فلا يجوز الأخذ ببعض قوله دون بعض . وقد قال تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } فكان الطواف بالبيت هو الحج كعرفة ولا فرق . وقوله عليه السلام : { الحج عرفة } لا يمنع من أن يكون الحج غير عرفة أيضا ؛ وقد وافقنا المخالف على أن امرأ لو قصد عرفة فوقف بها فلم يحرم ولا لبى ، ولا طاف ، ولا سعى فلا حج له ؛ فبطل تعلقهم بقوله عليه السلام : { الحج عرفة } .
857 - مسألة : فمن وطئ عامدا كما قلنا فبطل حجه فليس عليه أن يتمادى على عمل فاسد باطل لا يجزئ عنه لكن يحرم من موضعه ، فإن أدرك تمام الحج فلا شيء عليه غير ذلك وإن كان لا يدرك تمام الحج فقد عصى ، وأمره إلى الله تعالى ، ولا هدي في ذلك ، ولا شيء ؛ إلا أن يكون لم يحج قط ، فعليه الحج والعمرة . وقد اختلف السلف في هذا - : فروينا عن عمر رضي الله عنه أن يتماديا في حجهما ، ثم يحجان من قابل ويتفرقان من الموضع الذي جامع فيه وعليه هدي وعليها ، وهذا مرسل عن عمر ؛ لأنه عن مجاهد عن عمر ولم يدرك مجاهد عمر . وروينا عن علي على كل واحد منهما بدنة ويتفرقان إذا حجا من قابل وهذا مرسل عن علي ، لأنه عن الحكم عن علي ، والحكم لم يدرك عليا . وروينا عن ابن عباس أقوالا منها : أن يتماديا على حجهما ذلك وعليهما هدي وحج قابل ويتفرقان من الموضع الذي جامعها فيه . وعن عبد الله بن عمرو ، وعبد الله بن عمر مثله قالوا : فإن لم يجد هديا صام صيام المتمتع ، وقول آخر مثل هذا سواء سواء إلا أنه لم يعوض من الدم صياما . وعن ابن عمرو ، وابن عمر مثله ، ولم يذكروا تفريقا . وروي عن ابن عباس أيضا أنه عليه بدنة ، ويتفرقان من قابل قبل الموضع الذي جامعها فيه - وعن ابن عباس على كل واحد منهما هدي . وعن جبير بن مطعم أنه قال للمجامع : أف لا أفتيك بشيء ؟ وأما من جامع بعد عرفة - : فعن ابن عمر من وطئ قبل أن يطوف بالبيت فعليه الحج والهدي - وروي عنه أيضا : عليه الحج من قابل وبدنة . وعن ابن عباس على كل واحد منهما جزور . ومن طريق ابن أبي شيبة عن ابن علية عن أيوب السختياني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : من واقع امرأته قبل أن يطوف بالبيت فعليه دم . وعن ابن عباس أيضا عليه وعليها بدنة . وروينا عن عائشة أم المؤمنين لا هدي إلا على المحصر . وقال أبو حنيفة : إن وطئ قبل عرفة تماديا على حجهما ذلك وعليهما حج ؛ قابل وهدي ويجزئ في ذلك شاة ولا يتفرقان ، فإن وطئ بعد عرفة فحجه تام وعليه بدنة . قال أبو محمد : فكان من العجب أنه إذا بطل حجه أجزأه هدي شاة وإذا تم حجه لم يجزه إلا بدنة ، وهذا تقسيم ما روي عن أحد ؛ فإن تعلق بابن عباس فقد اختلف عن ابن عباس كما ذكرنا وعن غيره من الصحابة رضي الله عنهم ، وليس قول بعضهم أولى من بعض ، وهذا جبير بن مطعم لم يوجب في ذلك هديا أصلا ولا أمر بالتمادي على الحج . قال علي : قال الله تعالى : { إن الله لا يصلح عمل المفسدين } فمن الخطأ تماديه على عمل لا يصلحه الله عز وجل ؛ لأنه مفسد بلا خلاف منا ومنهم ، فالله تعالى لا يصلح عمله بنص القرآن . وقد صح عن رسول الله ﷺ أن الحج إنما يجب مرة ؛ ومن ألزمه التمادي على ذلك الحج الفاسد ، ثم ألزمه حجا آخر فقد ألزمه حجتين ، وهذا خلاف أمر رسول الله ﷺ . والعجب أنهم يدعون أنهم أصحاب قياس بزعمهم ، وهم لا يختلفون في أن من أبطل صلاته أنه لا يتمادى عليها فلم ألزموه التمادي على الحج ؟ وقد خالف أبو حنيفة ابن عباس ، وعمر ، وعليا فيما روي عنهم من التفرق فلا نكرة فيمن خالف ابن عباس في قول قد صح عنه خلافه ، وإنما هم ستة من الصحابة رضي الله عنهم مختلفون كما ذكرنا ، فالواجب الرجوع إلى القرآن ، والسنة ، وقد صح عن النبي ﷺ : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } فلا يجوز أن يوجب هدي بغير قرآن ، ولا عهد من رسول الله ﷺ . وروينا من طريق مجاهد ، وطاوس فيمن وطئ امرأته وهو محرم : أن حجه يصير عمرة وعليه حج قابل وبدنة - فلم يريا عليه التمادي في عمل الحج . وروينا عن قتادة : أنهما يرجعان إلى حدهما - يعني الميقات - ويهلان بعمرة ، ويتفرقان ، ويهديان هديا هديا . وعن الحسن فيمن وطئ قبل طواف الإفاضة ؟ قال : عليه حج قابل ولم يذكر هديا أصلا . وقال مالك : إن وطئ قبل رمي الجمرة يوم النحر فعليه هدي وحج قابل ويتفرقان من حيث جامعها ؛ فإن وطئ بعد رمي الجمرة فحجه تام وعليه عمرة وهدي بدنة ، فإن لم يجد فبقرة ، فإن لم يجد فشاة ، فإن لم يجد صام صيام المتمتع ، فكان إيجاب العمرة ، هاهنا عجبا لا يدرى معناه ؟ وكذلك تقسيمه الهدي وتقسيمه وقت الوطء ولا يعرف هذا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم . وقال الشافعي : إن وطئ ما بين أن يحرم إلى أن يرمي جمرة العقبة فسد حجه وعليه بدنة ، فإن لم يجد بدنة فبقرة ، فإن لم يجد بقرة فسبع من الغنم ، فإن لم يجد قومت البدنة بمكة دراهم ، ثم قومت الدراهم طعاما فأطعم كل مسكين مدا ، فإن لم يجد صام عن كل مد يوما ، فإن وطئ بعد رمي جمرة العقبة فحجه تام وعليه بدنة - فكان هذا أيضا قولا لا يؤيده قرآن ، ولا سنة ، ولا قول صاحب ، ولا قياس ، ولا يوجد هذا عن أحد من الصحابة أصلا - وبالله تعالى التوفيق .
858 - مسألة : ومن أخطأ في رؤية الهلال لذي الحجة فوقف بعرفة اليوم العاشر وهو يظنه التاسع ، ووقف بمزدلفة الليلة الحادية عشرة وهو يظنها العاشرة - : فحجه تام ولا شيء عليه ، لأن رسول الله ﷺ لم يقل : إن الوقوف بعرفة لا يكون إلا في اليوم التاسع من ذي الحجة أو الليلة العاشرة منها ؛ وإنما أوجب عليه السلام الوقوف بها ليلا أو نهارا . فصح أن كل من وقف بها أجزأه ما لم يقف في وقت لا يختلف اثنان في أنه لا يجزيه فيه . وقد تيقن الإجماع من الصغير ، والكبير ، والخالف ، والسالف : أن من وقف بها قبل الزوال من اليوم التاسع من ذي الحجة أو بعد طلوع الفجر من الليلة الحادية عشرة من ذي الحجة فلا حج له ، وكذلك إن وقف بها بعد طلوع الفجر من الليلة العاشرة وهو يدري أنها العاشرة ، وهذا قول جمهور الناس .
859 - مسألة : فإن صح عنده بعلم أو بخبر صادق : أن هذا هو اليوم التاسع إلا أن الناس لم يروه رؤية توجب أنها اليوم الثامن ففرض عليه الوقوف في اليوم الذي صح عنده أنه اليوم التاسع ، وإلا فحجه باطل لما ذكرنا . روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عمر بن محمد قال : شهد نفر أنهم رأوا هلال ذي الحجة فذهب بهم سالم إلى ابن هشام وهو أمير الحج فلم يقبلهم فوقف سالم بعرفة لوقت شهادتهم ، ثم دفع ، فلما كان في اليوم الثاني وقف مع الناس .
860 - مسألة : ومن أغمي عليه في إحرامه ، أو جن بعد أن أحرم في عقله فإحرامه صحيح ، وكذلك لو أغمي عليه ، أو جن بعد أن وقف بعرفة ولو طرفة عين أو بعد أن أدرك شيئا من الصلاة بمزدلفة مع الإمام فحجه تام ؛ لأن الإغماء والجنون لا يبطلان عملا تقدم أصلا ، ولا جاء بذلك نص أصلا ولا إجماع ، وليس قول رسول الله ﷺ : { رفع القلم عن ثلاث : فذكر النائم حتى ينتبه والمبتلى حتى يفيق والصبي حتى يبلغ } بموجب بطلان ما تقدم من عمله ، وإنما فيه : أنهم في هذه الحال غير مخاطبين فقط ، فإذا أفاقوا صاروا على حكمهم الذي كانوا عليه قبل - وبالله تعالى نتأيد .
861 - مسألة : ومن أغمي عليه ، أو جن ، أو نام قبل الزوال من يوم عرفة فلم يفق ، ولا استيقظ إلا بعد طلوع الفجر من ليلة يوم النحر ، فقد بطل حجه ، سواء وقف به بعرفة أو لم يقف به . وكذلك من أغمي عليه أو جن ، أو نام قبل أن يدرك شيئا من صلاة الصبح بمزدلفة مع الإمام فلم يفق ولا استيقظ إلا بعد سلام الإمام من صلاة الصبح ؛ فقد بطل حجه . فإن كانت امرأة فنامت ، أو جنت ، أو أغمي عليها قبل أن تقف بمزدلفة فلم تفق ، ولا انتبهت حتى طلعت الشمس من يوم النحر ، فقد بطل حجها ، وسواء وقف بها بمزدلفة ، أو لم يقف ، لأن الأعمال المذكورة فرض من فرائض الحج . وقال الله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء } وقال رسول الله ﷺ : { إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى } . فصح أنه لا يجزي عمل مأمور به إلا بنية القصد إليه مؤدى بإخلاص لله تعالى فيه كما أمر عز وجل ؛ وكل من ذكرنا فلم يعبد الله في الأعمال المذكورة مخلصا له الدين بها فلم يأت بها ، ولا حج لمن لم يأت بها ، ولا يجزي أن يقف به غيره هنالك لقول الله تعالى : { كل نفس بما كسبت رهينة } وقال تعالى : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى } . وكذلك لو أن امرأ مر بعرفة مجتازا ليلة النحر - نزل بها أو لم ينزل - وهو لا يدري أنها عرفة - فلا يجزئه ذلك ولا حج له حتى يقف بها قاصدا إلى الوقوف بها كما أمره الله تعالى . واختلف الناس في هذا ، فقال مالك : لا يجزئ أن يحرم أحد عن غيره فإذا أحرم بنية الحج أجزأ كل عمل في الحج بلا نية . وقال أبو حنيفة ، والشافعي : أعمال الحج كلها تجزي بلا نية ، ولو أن من لم يحج قط حج ولا ينوي إلا التطوع أجزأه عن حجة الفرض . قال أبو محمد : وهذه أقوال في غاية الفساد والتناقض ، وقد أجمعوا لو أن امرأ عليه صلاة الصبح فصلى ركعتين تطوعا ، أو عليه الظهر فصلى أربعا تطوعا أن ذلك لا يجزئه من الفرض ، وأن من عليه زكاة خمسة دراهم فتصدق بخمسة دراهم تطوعا أنها لا تجزئه من الفرض . وأجمعوا إلا زفر : أن من صام يوما من رمضان ينوي به التطوع فقط ، أو لا ينوي به شيئا فإنه لا يجزئه من صوم الفرض - فليت شعري أي فرق بين الصوم ، والصلاة ، والزكاة ، والحج لو نصحوا أنفسهم ؟ فإن قالوا : قد روي أن رسول الله ﷺ أخبر أن للصبي حجا ، وسمع إنسانا لم يكن حج يلبي عن شبرمة فقال [ له ] { اجعل حجك هذا عن نفسك ثم حج عن شبرمة } . قلنا : أما إخباره عليه السلام أن للصبي حجا فخبر صحيح ثابت ولا متعلق لكم به ؛ لأنه لم يجعل عليه السلام ذلك الحج جازيا من حج الفريضة ، فهو حجة لنا عليكم ، ونحن نقول : إن للصبي حجا كما قال عليه السلام وهو تطوع لا يجزئ عن الفرض ، ونحن نقول : إن للصبي صلاة وصوما وكل ذلك تطوع منه وله ، وقد كان الصبيان يشهدون الصلوات مع رسول الله ﷺ كما حج بهم معه ولا فرق . وأما خبر شبرمة فلا يصح ، ولو صح لما كان لهم فيه حجة ؛ لأنه ليس فيه أن حجه عن شبرمة يجزي عن الذي حج عنه ، بل هو حجة عليهم ؛ لأن فيه أن يجعل الحجة على نفسه ، وفي هذا إيجاب للنية بها عن نفسه فهو حجة عليهم - وبالله تعالى التوفيق . وروينا عن الحسن فيمن عليه شهران متتابعان من كفارة ظهار ، أو نذر ، وعليه حج نذره ولم يكن حج حجة الفريضة فصام شعبان ورمضان وحج فإن ذلك يجزئه عما كان عليه ، وعن فرض رمضان ، وتلك الحجة تجزئه عن نذره وفرض الإسلام ، وهذا خطأ لما ذكرنا قبل - وهو قول أصحابنا - وبالله تعالى التوفيق . فإن قال مالكي : الحج كصوم اليوم إذا دخل فيه بنية ، ثم عزبت نيته أجزأه ؟ قلنا : ليس كذلك ؛ لأن الحج أعمال كثيرة متغايرة يحول بينها ما ليس منها كالتلبية ، والوقوف بعرفة ، ومزدلفة ، ورمي الجمار ، وطواف الإفاضة والسعي بين الصفا والمروة ، فلا بد لكل عمل من نية له . وأما الإحرام فهو عمل متصل لا ينفصل فيجزئه نية الدخول فيه ما لم يتعمد إحالة نيته أو إبطال إحرامه - وبالله تعالى نتأيد .