الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الثاني/الصفحة الرابعة والستون


كتاب الحج

وأما وجوب رمي جمرة العقبة ، فلما رويناه من طريق أبي داود نا نصر بن علي الجهضمي نا يزيد بن زريع أنا خالد هو الحذاء - عن عكرمة عن ابن عباس { أن رجلا قال لرسول الله ﷺ : إني أمسيت ، ولم أرم قال : ارم ولا حرج } . ومن طريق البخاري عن عبد الله بن يوسف نا مالك عن ابن شهاب عن عيسى بن طلحة عن عبيد الله عن عبد الله بن عمرو بن العاص { أن رسول الله ﷺ وقف في حجة الوداع فجعلوا يسألونه ؟ فقال له رجل : لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي ؟ قال : ارم ولا حرج } فأمر عليه السلام برميها فوجب فرضا . فإن قيل : إن في هذا الخبر أنه عليه السلام قال : { اذبح ولا حرج } فأوجبوا الذبح فرضا ؟ قلنا : إن كان ذلك الذبح منذورا أو هديا واجبا ؟ فنعم هو فرض ، وإن كان تطوعا فيكفي من البرهان على أنه ليس ذبحه فرضا تيقن العلم بأنه تطوع لا فرض . روينا من طريق الحذافي عن عبد الرزاق عن معمر قال : قال الزهري فيمن لم يرم الجمرة : إن ذكر وهو بمنى رمى ، وإن فاته ذلك حتى نفر فإنه يحج من قابل ويحافظ على المناسك - وبه يقول داود ، وأصحابنا ، ولا يجزئ الرمي إلا بحصى كحصى الخذف لا أصغر ، ولا أكبر ؛ لما روينا من طريق مسلم - : نا محمد بن رمح عن الليث هو ابن سعد - عن أبي الزبير عن أبي معبد مولى ابن عباس عن الفضل بن عباس أن رسول الله ﷺ قال : { عليكم بحصى الخذف الذي ترمى به الجمرة } . ومن طريق أحمد بن شعيب أنا يعقوب بن إبراهيم هو الدورقي - نا إسماعيل بن إبراهيم هو ابن علية - نا عوف هو ابن أبي جميلة - نا زياد بن حصين عن أبي العالية قال : { قال ابن عباس : قال لي رسول الله ﷺ غداة العقبة وهو على راحلته هات القط لي ؟ فلقطت له حصيات ، هي حصى الخذف ، فلما وضعتهن في يده قال : بأمثال هؤلاء بأمثال هؤلاء وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين } . وقال مالك : أحب أكبر من حصى الخذف ؛ وهذا قول في غاية الفساد لتعريه من البرهان ومخالفة الأثر الثابت - : روينا من طريق ابن أبي شيبة نا أبو خالد الأحمر عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر عن عبد الله ، وابن الزبير ، قالا جميعا : مثل حصى الخذف ، ولا مخالف لهما لا من صاحب ، ولا من تابع ؛ وهذان الأثران يبطلان قول من قال : يجزئ الرمي بغير الحصى

وأما العدد فإن الناس اختلفوا - روينا من طريق ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : أن سعد بن أبي وقاص قال : جلسنا فقال بعضنا : رميت بست ، وقال بعضنا : رميت بسبع ؛ فلم يعب بعضنا على بعض . ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني محمد بن يوسف : أن عبد الله بن عمرو بن عثمان أخبره : أنه سمع أبا حبة الأنصاري يفتي بأنه لا بأس بما رمى به الإنسان من عدد الحصى فجاء عبد الله بن عمرو إلى ابن عمر فأخبره فقال : صدق أبو حبة . قال أبو محمد : أبو حبة بدري - وروينا عن طاوس من ترك حصاة فإنه يطعم تمرة أو لقيمة - وعن عطاء : من فاتته الجمار يوما تصدق بدرهم ، ومن فاتته حتى تنقضي أيام منى فعليه دم . قال علي : روينا من طريق عبد الرزاق نا معمر عن سليمان التيمي عن أبي مجلز قلت لابن عمر : نسيت أن أرمي بحصاة من حصى الجمرة فقال لي ابن عمر : اذهب إلى ذلك الشيخ فسله ثم ارجع فأخبرني بما يقول ، قال : فسألته ؟ فقال لي : لو نسيت شيئا من صلاتي لأعدت ، فقال ابن عمر : أصاب . قال أبو محمد : هذا الشيخ - هو محمد ابن الحنفية - هكذا رويناه من طريق المعتمر بن سليمان عن أبيه - وروينا عن ابن عمر قال : من نسي الجمرة رماها بالليل حين يذكر . وعن طاوس ، وعروة بن الزبير ، والنخعي ، والحسن قالوا كلهم : يرمي بالليل - هو قول سفيان ؛ ولم يوجبوا في ذلك شيئا . قال أبو محمد : إنما نهى النبي ﷺ عن رميها ما لم تطلع الشمس من يوم النحر ، وأباح رميها بعد ذلك ، وإن أمسى ؛ وهذا يقع على الليل والعشي معا كما ذكرنا قبل . قال أبو حنيفة : عليه في كل حصاة نسيها طعام مسكين نصف صاع حنطة إلا أن يبلغ ذلك دما . وقال مالك : عليه في الحصاة الواحدة فأكثر إن نسيها دم ؛ فإن ترك سبع حصيات فعليه بدنة ؛ فإن لم يجد فبقرة ؛ فإن لم يجد فشاة ؛ فإن لم يجد فصيام . وأما الشافعي فمرة قال : عليه في حصاة واحدة مد طعام ، وفي حصاتين مدان ، وفي ثلاث فصاعدا دم - وقد روي عنه في حصاة ثلث دم ، وفي الحصاتين ثلثا دم ، وفي الثلاث فصاعدا دم - وروي عنه للحصاة الواحدة فصاعدا دم . قال أبو محمد : وهذه الأقوال المذكورة كلها ليس شيء منها جاء به نص ، ولا رواية فاسدة ، ولا قول صاحب ، ولا تابع ، ولا قياس ، ولا قال بشيء منها أحد نعلمه قبل القائل بكل قول ذكرناه عمن ذكرناه عنه ؟ وأما الرمي قبل طلوع الشمس فلا يجزئ أحدا : لا امرأة ولا رجلا - : روينا من طريق أحمد بن شعيب أنا محمود بن غيلان المروزي نا بشر بن السري نا سفيان الثوري عن حبيب هو ابن أبي ثابت - عن عطاء عن ابن عباس { أن النبي ﷺ قدم أهله وأمرهم أن لا يرموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس } . وروينا عن طائفة من التابعين : إباحة - الرمي قبل طلوع الشمس . ولا حجة في أحد مع رسول الله ﷺ وقال سفيان : من رمى قبل طلوع الشمس أعاد الرمي بعد طلوعها - وهو قول أصحابنا .

وأما قولنا : لا يقطع التلبية إلا مع آخر حصاة من جمرة العقبة ؛ فإن مالكا قال : يقطع التلبية إذا نهض إلى عرفة ، وذكروا في ذلك رواية عن عائشة أم المؤمنين ، وابن عمر ، وعن علي ؛ واحتجوا بأن قالوا : التلبية استجابة فإذا وصل فلا معنى للتلبية . قال أبو محمد : أما الرواية عن علي فلا تصح ؛ لأنها منقطعة إليه ؛ والصحيح عنه خلاف ذلك ، وأما عن أم المؤمنين ، وابن عمر فقد خالفهما غيرهما من الصحابة رضي الله عنهم ، وإذا وقع التنازع فالمرجوع فيه إلى ما افترض الله - تعالى - الرجوع إليه من القرآن والسنة . وأما قولهم : إن التلبية استجابة فدعوى لا برهان على صحتها ؛ ولو كان ما قالوا : لوجبت التلبية عند سماع الأذان ، ووجوب النهوض إلى الجمعة وغيرها ؛ وما التلبية إلا شريعة أمر الله بها لا علة لها إلا ما قال تعالى : { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } . ثم لو كانت استجابة كما قالوا : لكان لم يصل بعد إلى ما دعي إليه لأنه قد بقيت عليه فروض من فروض الحج لا يكون واصلا إلى ما دعي إليه إلا بتمامها كعرفة ، وطواف الإفاضة - : روينا من طريق أبي داود نا أحمد بن حنبل نا وكيع عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس عن الفضل بن عباس { أن النبي ﷺ لبى حتى رمى جمرة العقبة } . وصح أيضا من طريق أسامة بن زيد عن النبي ﷺ . ومن طريق مسلم نا شريح بن يونس نا هشيم أنا حصين هو ابن عبد الرحمن - عن كثير بن مدرك الأشجعي عن عبد الرحمن بن يزيد { أن عبد الله بن مسعود لبى حين أفاض من جمع فقيل له : عن أي هذا ؟ فقال : أنسي الناس أم ضلوا ؟ سمعت الذي أنزلت عليه سورة البقرة يقول في هذا المكان : لبيك اللهم لبيك } . ومن طريق يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري عن إبراهيم بن عقبة عن كريب مولى ابن عباس أن ميمونة أم المؤمنين لبت حين رمت الجمرة . وبه إلى سفيان عن عامر بن شقيق سمعت أبا وائل يقول : قال ابن مسعود : لا يمسك الحاج عن التلبية حتى يرمي جمرة العقبة . ومن طريق حماد بن زيد نا أيوب السختياني أنه سمع عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد يقول : حدثني أبي أنه سمع عمر بن الخطاب يلبي بعرفة . ومن طريق حماد بن سلمة عن قيس بن سعد عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال : سمعت عمر يلبي غداة المزدلفة . وعن ابن أبي شيبة نا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق سمعت عكرمة يقول : { أهل رسول الله ﷺ حتى رمى الجمرة ، وأبو بكر ، وعمر } . وعن علي بن أبي طالب أنه لبى حتى رمى جمرة العقبة . وعن القاسم بن محمد عن أم المؤمنين عائشة كانت تلبي بعد عرفة - وعن سفيان بن عيينة سمع سعد بن إبراهيم يحدث الزهري عن عبد الرحمن بن الأسود أن أباه صعد إلى ابن الزبير المنبر يوم عرفة فقال له : ما يمنعك أن تهل ؟ فقد رأيت عمر في مكانك هذا يهل ؟ فأهل ابن الزبير . وعن ابن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد يقول : تلبي حتى ينقضي حرمك إذا رميت الجمرة - وعن سفيان الثوري عن عبد الله بن الحسن عن عكرمة قال : كنت مع الحسين بن علي فلبى حتى رمى جمرة العقبة . قال أبو محمد : وكان معاوية ينهى عن ذلك . ومن طريق مالك عن يحيى بن سعيد قال : غدا عمر بن عبد العزيز من منى إلى عرفة فسمع التكبير عاما فبعث الحرس يصيحون : أيها الناس إنها التلبية . ومن طريق سعيد بن منصور نا جرير عن المغيرة قال : ذكر عند إبراهيم النخعي إذا قدم الحاج أمسك عن التلبية ما دام يطوف بالبيت فقال إبراهيم : لا ، بل يلبي قبل الطواف ، وفي الطواف ، وبعد الطواف ، ولا يقطعها حتى يرمي الجمرة - وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي سليمان . قال أبو محمد : إلا أن أبا حنيفة ، والشافعي قالا : يقطع التلبية مع أول حصاة يرميها في الجمرة ؟ وليس كذلك بل مع آخر حصاة من الجمرة لأنه نص فعل رسول الله ﷺ كما { حكى ابن عباس ، وأسامة : أنه عليه السلام لبى حتى رمى جمرة العقبة } ولو كان ما قاله أبو حنيفة ، والشافعي ، لقالا : حتى بدأ رمي جمرة العقبة . روينا من طريق الحذافي عن عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن إبراهيم بن حنين عن ابن عباس قال : سمعت عمر بن الخطاب يهل وهو يرمي جمرة العقبة فقلت له : فيما الإهلال يا أمير المؤمنين ؟ فقال : وهل قضينا نسكنا بعد ؟ وهو المفهوم الظاهر من فعل كل من ذكرنا من الصحابة رضي الله عنهم . وقال قوم منهم مالك : إن الحاج يقطع التلبية إذا طاف بالبيت ، وبالصفا والمروة ، فإذا أتم ذلك عاودها . قال أبو محمد : وقال أبو حنيفة ، والشافعي : لا يقطعها - وهذا هو الحق ؛ لما ذكرنا من أن النبي ﷺ لبى حتى رمى جمرة العقبة - : روينا من طريق أبي داود نا عبد الله بن محمد النفيلي ، وعثمان بن أبي شيبة قالا : نا حاتم بن إسماعيل نا جعفر بن محمد عن أبيه أن جابر بن عبد الله أخبره فذكر { حديث حجة النبي ﷺ وقال : فأهل رسول الله ﷺ بالتوحيد : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ، فأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد عليهم رسول الله ﷺ شيئا منه ولزم رسول الله ﷺ تلبيته } فصح أنه عليه السلام لم يقطعها - : ومن طريق سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن أبي وائل عن مسروق أنه رأى عبد الله بن مسعود طاف بالبيت سبعا ثم خرج إلى الصفا قال : فقلت له : يا أبا عبد الرحمن إن ناسا ينهون عن الإهلال في هذا المكان ؟ فقال : لكني آمرك به ؛ وذكر باقي الخبر . فإن ذكروا : ما روينا من طريق ابن أبي شيبة نا صفوان بن عيسى عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب عن مجاهد عن عبد الله بن سخبرة عن { عبد الله بن مسعود قال : خرجت مع رسول الله ﷺ فما ترك التلبية حتى أتى جمرة العقبة إلا أن يخلطها بتكبير أو بتهليل - : ومن طريق } ابن أبي شيبة نا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق عن عكرمة قال : { سمعت الحسن بن علي يلبي حتى انتهى إلى الجمرة وقال لي : سمعت أبي علي بن أبي طالب يهل حتى انتهى إلى الجمرة ، وحدثني أن رسول الله ﷺ أهل حتى انتهى إليها } . قلنا : الحارث ضعيف ، وأبان بن صالح ليس بالقوي ؛ ثم لو صحا لكان خبر الفضل بن عباس ، وأسامة بن زيد : زائدين على هذين الخبرين زيادة لا يحل تركها رغبة عنها واختيارا لغيرها عليها ؛ وليس في هذين الخبرين نهي عما في خبر ابن عباس ، وأسامة . وقال قوم : يقطع المعتمر التلبية إذا دخل الحرم . وقالت طائفة : لا يقطعها إلا حتى يرى بيوت مكة . وقالت طائفة : حتى يدخل بيوت مكة . وقال أبو حنيفة : لا يقطعها حتى يستلم الحجر فإذا استلمه قطعها . وقال الليث : إذا بلغ الكعبة قطع التلبية . وقال الشافعي : لا يقطعها حتى يفتتح الطواف - وقال مالك : من أحرم من الميقات قطع التلبية إذا دخل أول الحرم فإن أحرم من الجعرانة ، أو من التنعيم قطعها إذا دخل بيوت مكة ، أو إذا دخل المسجد - : روينا عن وكيع عن عمر بن ذر عن مجاهد قال : قال ابن عباس : لا يقطع المعتمر التلبية حتى يستلم الركن ، وكان ابن عمر يقطعها إذا رأى بيوت مكة - قال وكيع : وحدثنا سفيان هو الثوري - عن عبد الله بن دينار قال : قال ابن عمر : يقطع التلبية إذا دخل الحرم . قال أبو محمد : والذي نقول به فهو قول ابن مسعود الذي ذكرنا آنفا أنه لا يقطعها حتى يتم جميع عمل العمرة ؛ فإن ذكروا : ما روينا عن سعيد بن منصور نا هشيم نا ابن أبي ليلى عن عطاء عن ابن عباس { أن رسول الله ﷺ لبى في عمرته حتى استلم الحجر } : ومن طريق حفص بن غياث عن الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : { اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ثلاث عمر ، كل ذلك لا يقطع التلبية حتى يستلم الحجر } ؟ فهذان أثران ضعيفان - في أحدهما : ابن أبي ليلى - وهو سيئ الحفظ - وفي الآخر : الحجاج ، وناهيك به ؛ وهو أيضا صحيفة . فإن قالوا : فهل عندكم اعتراض ؟ فيما رويتم من طريق أحمد بن شعيب عن يعقوب بن إبراهيم عن ابن علية عن أيوب عن نافع قال : { كان ابن عمر إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية ثم يبيت بذي طوى ، ثم يصلي به الصبح ، ويحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يفعل ذلك } ؟ قلنا : لا معترض فيه وهو صحيح ، إلا أنه لا حجة لكم فيه ؛ أول ذلك : أنه ليس في هذا الخبر ما تذكرون من أن ذلك كان في العمرة ؛ فهو مخالف لما اختاره أبو حنيفة ، والشافعي في الحج ، ولما اختاره أبو حنيفة في العمرة أيضا . ثم نقول لمن ذهب إلى قول مالك في هذا : إن هذا خبر لا حجة لكم فيه ؛ لأنه قد يمكن أن ابن عمر إنما أشار بقوله { إن رسول الله ﷺ كان يفعل ذلك } إلى المبيت بذي طوى وصلاة الصبح بها فقط ؛ وهكذا نقول . أو يكون أشار بذلك إلى قطع التلبية كما تقولون ؛ فإن كان هذا فخبر جابر بن عبد الله ، وأسامة ، وابن عباس { أن رسول الله ﷺ لزم التلبية ولم يقطعها حتى رمى جمرة العقبة } زائد على ما في خبر ابن عمر ، وزيادة العدل لا يجوز تركها ؛ لأنه ذكر علما كان عنده لم يكن عند ابن عمر الذي لم يذكره - وبالله تعالى التوفيق .

وأما اختيارنا الطيب بمنى قبل رمي الجمرة ؛ فلما قد ذكرنا قبل في اختيار التطيب للإحرام من النص - وممن قال بذلك من الصحابة ، وغيرهم - رضي الله عنهم ، فأغنى عن إعادته . وأما قولنا : أن يرمي الجمرة ، وبدخول وقتها يحل للمحرم بالحج أو القران كل ما كان عليه حراما من اللباس ، والطيب ، والتصيد في الحل ، وعقد النكاح لنفسه ، ولغيره حاشا الجماع فقط ، فإنه حرام عليه بعد حتى يطوف بالبيت - : فهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي سليمان ، وأصحابهم . وقال مالك ، وسفيان : إذا رمى الجمرة حل له كل شيء إلا النساء ، والتصيد ، والطيب - قال : فإن تطيب فلا شيء عليه لما جاء في ذلك ، وإن تصيد فعليه الجزاء . وذكروا في ذلك رواية عن عمر ، وابنه عبد الله : أنه حل له كل شيء إلا النساء والطيب - وعن سالم ، وعروة مثل هذا . قال أبو محمد : أما ابن عمر فقد روي عنه الرجوع ، وقد خالف في ذلك عمر : عائشة وغيرها ؛ كما روينا من طريق سعيد بن منصور نا سفيان عن عمرو بن دينار عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال : قال عمر : { إذا رميتم الجمرة بسبع حصيات ، وذبحتم ، وحلقتم ، فقد حل لكم كل شيء ، إلا الطيب ، والنساء ؛ فقالت عائشة : أنا طيبت رسول الله ﷺ فسنة رسول الله ﷺ أحق أن تتبع } . قال أبو محمد : هذا قول ابن عمر الذي لو اتبعوه لوفقوا - : ومن طريق وكيع عن سفيان عن سلمة بن كهيل عن الحسن العرني عن { ابن عباس قال : إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء ، فقال رجل : والطيب ؟ فقال ابن عباس : أما أنا فقد رأيت رسول الله ﷺ يضمخ رأسه بالمسك أطيب ذلك أم لا } ؟ - : ومن طريق وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : إذا رميت الجمرة فقد حل لك كل شيء إلا النساء . وعن سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر سمعت ابن الزبير يقول : إذا رميت الجمرة فقد حل لك كل شيء ما وراء النساء . وهو قول عطاء ، وطاوس ، وعلقمة ، وخارجة بن زيد بن ثابت . قال أبو محمد : قال الله تعالى : { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } . وقال تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا } . وجاء النص وإجماع المخالفين معناه على أن المحرم حرام عليه لباس القمص ، والعمائم ، والبرانس ، والخفين ، والسراويل ، وحلق الرأس ؛ ووافقونا مع مجيء النص على جواز لباس كل ذلك إذا رمى ونحر . وصح عن النبي ﷺ على ما نذكر بعد هذا - إن شاء الله تعالى - جواز تقديم الطواف ، والذبح ، والرمي ، والحلق ، بعضها على بعض . فصح أن الإحرام قد بطل بدخول وقت الرمي ، والحلق ، والنحر ، رمى أو لم يرم ، حلق أو لم يحلق ، نحر أو لم ينحر ، طاف أو لم يطف ؛ وإذا حل له الحلق الذي كان حراما في الإحرام ؛ فبلا شك أنه قد بطل الإحرام ، وبطل حكمه ؛ وإذا كان ذلك فقد حل ، فحل له الصيد الذي لم يحرم عليه إلا بالإحرام ، وحل له بالإحلال ، وكذلك الزواج والتزويج ؛ لأن النص إنما جاء بأن لا ينكح المحرم ، ولا ينكح ، ولا يخطب ، فصح أن هذا حرام على المحرم ، ومن حل له لباس القمص ، والبرانس ، وحلق الرأس لغير ضرورة فهو حلال لا محرم فالنكاح ، والإنكاح ، والخطبة حلال له ؛ إذ ليس محرما ، وأما الجماع فبخلاف هذا ؛ لأن الله تعالى قال : { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } فحرم الرفث ، وهو الجماع في الحج جملة لا على المحرم خاصة ، وما دام يبقى من فرائض الحج شيء فهو بعد في الحج وإن لم يكن محرما ، والوطء حرام عليه ما دام في الحج . قال أبو محمد : ومالك يرى في الطيب المحرم على المحرم الفدية ، كما يرى الجزاء على المحرم في الصيد - ثم رأى هاهنا الجزاء في الصيد ولم ير الفدية في التطيب ، وهذا عجب فإن احتجوا له بالأثر الوارد في طيب النبي ﷺ قبل أن يطوف بالبيت ؟ قلنا لهم : لا يخلو هذا الأثر من أن يكون صحيحا ففرض عليكم أن لا تخالفوه ، وأنتم قد خالفتموه ، أو يكون غير صحيح فلا تراعوه ، وأوجبوا الفدية على من تطيب كما أوجبتموها على من تصيد ، ولا فرق . ثم نقول لهم : أخبرونا عن إيجابكم الجزاء على من تصيد في الحل بعد رمي جمرة العقبة ، أحرم هو أم غير حرم ؟ ولا سبيل إلى ثالث . فإن قلتم : هو حرم ؟ قلنا لكم : فحرموا عليه اللباس الذي يحرم على المحرمين وحرموا عليه حلق رأسه . وإن قالوا : ليس حراما ؟ قلنا : فلا جزاء عليه في التصيد . فإن قالوا : قد جاء النص والإجماع بأمره بحلق رأسه ، وبلباس ما يحرم على المحرمين ؟ قلنا : فهذا برهان كاف في أنه ليس محرما ، وهذا ما لا مخلص [ لهم ] منه ؛ وأيضا فإنهم أوهموا أنهم تعلقوا بعمر ، وابن عمر ؛ وإنما عنهما المنع من التطيب لا من الصيد ، وهذا عجب جدا . وأيضا فالقوم أصحاب قياس ، وهم قد أباحوا لباس القمص ، والسراويل وغير ذلك بعد رمي جمرة العقبة ، وحلق الرأس ، ومنعوا من الصيد ، والطيب . فإن قالوا : قسناه على الجماع ؟ قلنا : هذا قياس فاسد ، لأن اللباس ، والحلق ، والطيب ، والصيد عندكم خبر واحد ، وحكم واحد في أنه لا يبطل به الحج في الإحرام ، وكان للجماع خبر آخر ، لأنه لا يبطل به الحج في الإحرام ؛ فلو كان القياس حقا لكان قياس الطيب ، والصيد ، على اللباس ، والحلق أولى من قياسه على الجماع - وبالله تعالى التوفيق . وأما قولنا - : إن نهض إلى مكة فطاف بالبيت سبعا - لا رمل فيها - وسعى بين الصفا والمروة ، إن كان متمتعا ، أو لم يسع إن كان قارنا ، وكان قد سعى بينهما في أول دخوله فقد تم حجه وقرانه ، وحل له النساء - فإجماع لا خلاف فيه مع النص في قوله تعالى : { وليطوفوا بالبيت العتيق } . وأما قولنا - : إنهم يرجعون إلى منى فيقيمون بها ثلاث ليال بأيامها - يرمون في كل يوم من الأيام الثلاثة الجمرات الثلاث بعد زوال الشمس بسبع حصيات سبع حصيات كل جمرة يبدأ بالقصوى ، ثم التي تليها ؛ ثم جمرة العقبة التي رمى يوم النحر ، وقد تم حجه وعمله كله - فإجماع لا خلاف فيه من أحد .