الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الثاني/الصفحة الثمانون


كتاب الحج

895 - مسألة : ومن تطيب ناسيا ، أو تداوى بطيب ، أو مسه طيب الكعبة ، أو مس طيبا لبيع ، أو شراء ، أو لبس ما يحرم على المحرم لباسه ناسيا ، أو لضرورة طال كل ذلك منه ، أو قصر فلا شيء عليه ، ولا يكدح ذلك في حجه ، وعليه أن يزيل عن نفسه كل ذلك ساعة يذكره أو ساعة يستغني عنه ، وكذلك من حلق رأسه ناسيا فلا شيء عليه ، وله أن يحتجم ويحلق مواضع المحاجم ، ولا شيء عليه ، وله أن يدهن بما شاء ، فلو تعمد لباس ما حرم عليه أو فعل ما حرم لغير ضرورة : بطل حجه وإحرامه . برهان ذلك - : قول الله تعالى : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } وقال رسول الله ﷺ : { عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } فالمستكره على كل ما ذكرنا والمرأة المكرهة على الجماع لا شيء عليها ، ولا على من أكره على ما ذكرنا ، وحجهم تام ، وإحرامهم تام . وقال أبو حنيفة : من غطى رأسه ، أو وجهه ، أو لبس ما نهي عامدا ، أو ناسيا ، أو مكرها يوما إلى الليل فعليه دم ، فإن فعل ذلك أقل من يوم فعليه صدقة ، فإن حلق قفاه للحجامة فعليه دم ، فإن حلق بعض عضو فعليه صدقة . وقال مالك : من فعل شيئا من ذلك فأماط به عن نفسه أذى فعليه الفدية التي على من حلق رأسه ، ولا يحتجم إلا من ضرورة ، فإن حلق مواضع المحاجم فعليه الفدية . وقال الشافعي : لا شيء في النسيان في كل ذلك إلا في حلق الرأس فقط ففيه الفدية - قال : ولا يحلق موضع المحاجم ، ولم يذكر في ذلك فدية . قال أبو محمد : أما أقوال أبي حنيفة فظاهرة الفساد والتناقض ولا نعلمها عن أحد قبله ، ولا دليل على صحة شيء منها لا من قرآن ، ولا من سنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قول صاحب ، ولا قياس ؛ لأن تفريقه بين ذلك يوما أو أقل من يوم : دعوى فاسدة . وقال بعضهم : هذا هو المعهود من لباس الناس . قال علي : كذب في ذلك بل قد قال الله تعالى : { وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء } فأخبر تعالى أن اللباس لا يقل في النهار بل قد يوضع للقائلة ، وأخبر أن اللباس يقل إلى بعد صلاة العشاء وقد يكون إلى نصف الليل . فإن ذكروا ما روي عن ابن عباس ، والنخعي ، أن من ترك من نسكه شيئا فليرق دما ؟ قلنا : أنتم أول من خالف ذلك لأنكم تجعلون في أكثر ذلك صدقة لا دما ؛ ولا عجب أعجب ممن يحتج بشيء يراه حقا ، ثم هو أول مخالف له . وأما قول مالك فإنه قياس والقياس كله باطل ، ولو كانت إماطته الأذى بغير حلق الرأس توجب الفدية لأوجب الفدية : البول ، والغائط ، والأكل ، والشرب ، والغسل للحر والتروح ، والتدفؤ للبرد ، وقلع الضرس للوجع ، فكل هذا إماطة أذى . فإن قالوا : قد أجمع الناس على إسقاطه الفدية في أكثر من ذلك ؟ قلنا : حسبنا وإياكم إقراركم بصحة الإجماع على إبطال علتكم ، وعلى أنه ليس كل إماطة أذى تجب فيه فدية ، وإلزام الصيام والصدقة والهدي شرع لا يجوز إلزامه أحد حيث لم يلزمه الله تعالى ولا رسوله عليه السلام . فإن ادعوا إجماعا كذبوا ؛ لأنهم لا يقدرون على أن يوردوا في ذلك قول عشرة من صاحب ، وتابع في ذلك مع اختلافهم في أقوالهم . وأما الشافعي فإنه احتج له مقلده بأن كل من ذكرنا يقدر الناس على إزالته عن نفسه إلا حلق الشعر فلا يقدر على إنباته ؟ فقلنا : فكان ماذا ؟ وأي شيء في هذا مما يوجب الفدية ؟ وهل زدتم إلا دعوى لا برهان لها ؟ وروينا من طريق نافع أن ابن عمر كان يأكل الخبيص الأصفر وهو محرم - يعني المزعفر . ومن طريق ابن أبي شيبة نا عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال : يكتحل المحرم بأي كحل شاء ما لم يكن فيه طيب . ومن طريق شعبة عن شميسة الأزدية أن عائشة أم المؤمنين قالت لها : اكتحلي بأي كحل شئت غير الإثمد أما إنه ليس بحرام ولكنه زينة ، ونحن نكرهه . ومن الخلاف في ذلك - : ما رويناه من طريق ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن مهدي نا يزيد بن إبراهيم عن قتادة : أن عبد الرحمن بن أبي بكر أمر امرأة محرمة اكتحلت بإثمد أن تهرق دما . ومن طريق سعيد بن منصور نا مروان هو ابن معاوية الفزاري - نا صالح بن حي قال : رأيت أنس بن مالك أصاب ثوبه خلوق الكعبة فلم يغسله - وكان محرما - وعن عطاء ، وسعيد بن جبير مثله سواء سواء . ومن طريق الحجاج بن أرطاة عن أبي الزبير عن جابر : إن شم المحرم ريحانا ، أو مس طيبا : أهرق دما . وقد روينا من طريق عائشة أم المؤمنين { أن رسول الله ﷺ احتجم وهو محرم } . ومن طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء ، وطاوس عن ابن عباس { أن النبي عليه السلام احتجم وهو محرم } . ومن طريق مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة نا المعلى بن منصور نا سليمان بن بلال عن علقمة بن أبي علقمة عن عبد الرحمن الأعرج عن ابن بحينة قال { احتجم رسول الله عليه السلام بطريق مكة وهو محرم وسط رأسه } . قال أبو محمد : لم يخبر عليه السلام أن في ذلك غرامة ولا فدية ولو وجبت لما أغفل ذلك ، { وكان عليه السلام كثير الشعر أفرع وإنما نهينا عن حلق الرأس في الإحرام } والقفا ليس رأسا ولا هو من الرأس . فإن ذكروا ما روينا عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه أمر محرما احتجم أن يفتدي بصيام ، أو صدقة ، أو نسك ؛ فإن اضطر إلى ذلك فلا شيء عليه ؛ فهذا عليهم ؛ لأنهم خالفوه في موضعين - : أحدهما : أنه أوجب الدم ولم يشترط إن حلق لها شعرا . والثاني : أنه لم يوجب شيئا على من اضطر إليها - وهم لا يقولون بهذا . وروينا عن مسروق أنه قال : يحتجم المحرم ، ولا يحتجم الصائم ، ولم يشترط ترك حلق القفا . وعن طاوس يحتجم المحرم إذا كان وجعا وما نعلم من أوجب في ذلك حكما من التابعين إلا الحسن فإنه قال : من احتجم وهو محرم أراق دما . وعن إبراهيم ، وعطاء : إن حلق مواضع المحاجم فعليه كفارة . وأما الادهان - : فروينا من طريق سعيد بن منصور نا أبو عوانة عن أشعث بن سليم وهو ابن أبي الشعثاء - عن مرة بن خالد قال : رآنا أبو ذر ونحن محرمون فقال : ادهنوا أيديكم . وصح عن ابن عمر أنه كره أن يعالج المحرم يديه بالدسم ، وأن يدهن بالسمن رأسه لصداع أصابه ولم يجعل في ذلك شيئا . وروينا عن عطاء : من تداوى بدواء فيه طيب فعليه الكفارة ولا بأس بالأدهان الفارسية . وعن إبراهيم : في الطيب الفدية . وعن مجاهد : إذا تداوى المحرم بالسمن ، أو الزيت ، أو البنفسج فعليه الكفارة . وعن الحجاج بن أرطاة : كان الحكم ، وأصحابنا يقولون في المحرم يداوي قروحا برأسه وجسده : إن عليه كفارتين . وأما اللباس ناسيا - : فعن عطاء في المحرم يغطي رأسه ناسيا لا شيء عليه فإن لبس قميصا ناسيا فلا شيء عليه وليستغفر الله تعالى ؛ فإن تعمد ذلك فالكفارة . وعن حماد بن أبي سليمان بمثله لا شيء في ذلك على الناسي . وعن مجاهد ، وسعيد بن جبير : أنهما أجازا للمحرم أكل الطعام ، وفيه الزعفران - وكرهه عطاء ، وأخبر أنه لا يأثر قوله عن أحد . وعن طاوس ، وعطاء : إباحة الخبيص المزعفر للمحرم . ومثله عن الحسن ، وإبراهيم النخعي ، وجابر بن زيد ، ومحمد بن علي . وعن إبراهيم ، وعطاء ، والحسن ، في لباس القميص ، والقلنسوة ، والخفين للمحرم أنه يهرق دما - : وهذه كلها أقوال مخالفة لأقوال أبي حنيفة ، ومالك . قال أبو محمد : وأما من تعمد ما حرم عليه فقد فسق ، والفسوق يبطل الحج كما قدمنا - وبالله تعالى التوفيق .

896 - مسألة : وللمحرم أن يشد المنطقة على إزاره إن شاء أو على جلده ويحتزم بما شاء ، ويحمل خرجه على رأسه ، ويعقد إزاره عليه ورداءه إن شاء ، ويحمل ما شاء من الحمولة على رأسه ، ويعصب على رأسه لصداع ، أو لجرح ، ويجبر كسر ذراعه ، أو ساقه ، ويعصب على جراحه ، وخراجه ، وقرحه ، ولا شيء عليه في كل شيء من ذلك ، ويحرم في أي لون شاء حاشا ما صبغ بورس ، أو زعفران لأنه لم ينهه عن شيء مما ذكرنا قرآن ، ولا سنة { وما كان ربك نسيا } إلا أننا روينا من طريق وكيع عن ابن أبي ذئب عن صالح عن أبي حسان { أن رسول الله ﷺ رأى محرما محتزما بحبل فقال : يا صاحب الحبل ألقه } . وبه إلى ابن أبي ذئب عن مسلم بن جندب : سمعت ابن عمر يقول : لا تعقد عليك شيئا وأنت محرم . ومن طريق ابن أبي شيبة نا حفص بن غياث عن يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر أنه كره الهميان للمحرم - فأما الأثر فمرسل لا حجة فيه . وقد روينا من طريق عبد الرزاق عن الأسلمي عمن سمع صالحا مولى التوأمة أنه سمع ابن عباس يقول : { رخص رسول الله عليه السلام في الهميان للمحرم } . قال أبو محمد : كلاهما وتمرة - وأما ابن عمر فقد روي عنه وعن غيره من الصحابة رضي الله عنهم خلاف هذا . وروينا من طريق ابن أبي شيبة نا ابن فضيل عن ليث عن عطاء ، وطاوس قالا جميعا : رأينا ابن عمر قد شد حقويه بعمامة وهو محرم . ومن طريق سعيد بن منصور عن هشيم : أنا يحيى بن سعيد الأنصاري عن القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين : أنها كانت ترخص في الهميان يشده المحرم على حقويه ، وفي المنطقة أيضا . ومن طريق وكيع عن سفيان عن حميد الأعرج عن عطاء عن ابن عباس قال في الهميان للمحرم : لا بأس به . ومن طريق شعبة عن منصور عن مجاهد قال : رأيت ابن الزبير جاء حاجا فرمل حتى رأيت منطقته قد انقطعت على بطنه . قال أبو محمد : لا شك أن ابن الزبير لم يكن مضطرا إلى إحراز نفقته ، وابن عمر لم يجعل في ذلك شيئا - ورأى مالك على من عصب رأسه فدية . ومن طريق ابن عمر : لا يعصب المحرم رأسه بسير ولا بخرقة . ومن طريق ابن أبي شيبة عن أبي داود الطيالسي عن أبي معشر عن عبد الرحمن بن يسار قال : رأيت ابن عباس قد شد شعره بسير وهو محرم وكلاهما لم يجعل فيه شيئا . ومن طريق سعيد بن منصور نا سفيان هو ابن عيينة - عن عمرو بن دينار قلت لجابر بن زيد أبي الشعثاء : ينحل إزاري يوم عرفة ؟ قال : اعقده . ومن طريق سعيد بن منصور نا خالد بن عبد الله عن العلاء بن المسيب عن الحكم بن عتيبة : أنه كان لا يرى بأسا أن يتوشح المحرم بثوبه ويعقده على قفاه . ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم عن يونس عن الحسن البصري أنه لم ير بأسا أن يعقد المحرم ثوبه على نفسه . وأباح لباس الهميان للمحرم : محمد بن كعب ، وعطاء ، وطاوس ، ومحمد بن علي ، وإبراهيم ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والقاسم بن محمد - وكرهه آخرون . وعن سعيد بن جبير أنه أباح للمحرم ينكسر ظفره : أن يجعل عليه مرارة ولم يأمر في ذلك بشيء . ومن طريق سعيد بن منصور نا أبو الأحوص نا منصور عن إبراهيم ومجاهد قالا جميعا : يجبر المحرم عظمه إذا انكسر ، قالا : وليس عليه في ذلك كفارة . ومن طريق سعيد بن منصور ثنا جرير بن عبد الحميد عن منصور عن مجاهد قال : إذا انكسرت يد المحرم ، أو شج عصب على الشج والكسر وعقد عليه ، ولم يجعل في ذلك شيئا . وعن محمد بن علي ، وسعيد بن المسيب : لا بأس أن يعقد المحرم - : قال محمد : على القرحة . وقال ابن المسيب : على الجرح . وأباح أبو حنيفة ، والشافعي ، وأبو سليمان للمحرم : الهميان والمنطقة ، وأن يحمل الخرج على رأسه ، ونحو ذلك ، ولم يروا فيه بأسا . وأباح مالك لباس المنطقة للمحرم إذا كانت فيها نفقته ، ومنعه لباسها إذا كانت فيها نفقة غيره . وجعل ابن القاسم صاحبه في ذلك الفدية . ومنع مالك من شد المنطقة على العضد للمحرم ، وأباح شدها على جلده ، ومنع من شدها فوق الإزار . وجعل ابن القاسم صاحبه في ذلك فدية - فأقوال متناقضة لا دليل على صحة شيء منها ، ولا نعلم أحدا قال بها قبلهما . ومنع مالك المحرم من حمل خرج لغيره على رأسه ، ورأى عليه في ذلك فدية ، وأباح له حمله على رأسه إذا كان له - وهذا فرق فاسد لا نعلمه أيضا عن أحد قبله . وقد روي عن عطاء إباحة حمل المحرم المكتل على رأسه . ومن طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن محمد بن علي بن الحسين قال : رأى عمر على عبد الله بن جعفر ثوبين مضرجين وهو محرم فقال : ما هذا ؟ فقال علي بن أبي طالب : ما أخال أحدا يعلمنا السنة ؟ فسكت عمر . وعن سالم بن عبد الله بن عمر أنه لبس ثوبا موردا وهو محرم . فإن قيل : قد روي عن عمر أنه أنكر على طلحة لباس ثوب مصبوغ للمحرم ؟ قلنا : أنتم أول من خالف عمر في ذلك فلم تنكروه ؟ ولا رأيتم فيه شيئا - وهذا مما تركوا فيه القياس فأباحوا المصبغات ولم يقيسوها على الورس والمعصفر ، كما قاسوا كل من أماط به أذى على حالق رأسه ، وكما قاسوا جارح الصيد على قاتله ؛ وكما أوجبوها على من لبس قميصا أو عمامة .

897 - مسألة : ولا يحل لأحد قطع شيء من شجر الحرم بمكة ، والمدينة ولا شوكة فما فوقها ، ولا من حشيشه حاشا الإذخر فإن جمعه مباح في الحرم - ومباح له أن يرعى إبله أو بعيره أو مواشيه في الحرم - فإن وجد غصنا قد قطعه غيره أو وقع ففارق جذمه فله أخذه حينئذ . فإن احتطب في حرم المدينة خاصة فإن سلبه حلال لمن وجده . روينا من طريق مسلم بن الحجاج نا إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه - أنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس قال : قال رسول الله ﷺ يوم فتح مكة : { إن هذا البلد حرمه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شجره ولا ينفر صيده ، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاها قال العباس : يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم فقال : إلا الإذخر } . ومن طريق مسلم نا قتيبة بن سعيد نا ليث هو ابن سعد - عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح العدوي " أنه سمع رسول الله عليه السلام يقول : { إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة فإن أحد ترخص بقتال رسول الله عليه السلام فيها فقولوا له : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم ؟ وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، وليبلغ الشاهد الغائب } . قال أبو محمد : هذا ما نهى الله تعالى عنه على لسان رسوله عليه السلام ولم ينه عن إرعاء المواشي : { وما كان ربك نسيا } . قال أبو حنيفة : بكراهية الرعي في حرم مكة - وهذا تعد لحدود الله تعالى - وأباح مالك أخذ السنى وسائر حشيش الحرم - وهذا أيضا خلاف أمر رسول الله عليه السلام ، ولا فرق بين السنى وبين سائر حشيش الحرم . وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، وسفيان : بإيجاب الجزاء على قاطع شجر الحرم - قال أبو حنيفة في الغصن فما فوقه إلى الدوحة : قيمة ذلك ، فإن بلغ هديا أهداه ، فإن لم يبلغ هديا فقيمته طعاما يتصدق به لكل مسكين نصف صاع حنطة ، أو صاع تمر ، أو شعير ، ولا يجزئ في ذلك صيام . وقال زفر : يتصدق بالقيمة ولا يجزئ في ذلك هدي ولا صيام . قال أبو محمد : روينا عن بعض السلف في الدوحة بدنة . وعن عطاء فيها بقرة ، وفي الوتد مد . وعن عبد الله بن عامر في الدوحة : بقرة . وعن ابن أبي نجيح في الدوحة ستة دنانير ، أو خمسة ، أو سبعة يتصدق بها بمكة - وما نعلم لأبي حنيفة وزفر في قولهما سلفا . وقال مالك ، وأبو سليمان : لا شيء في ذلك - وهو الحق لأنه لو كان في ذلك شيء لبينه رسول الله ﷺ ولا يجوز شرع هدي ، ولا إيجاب صيام ، ولا إلزام غرامة إطعام ، ولا صدقة ، إلا بقرآن ، أو سنة ؛ وهذا مما تركت فيه الطوائف المذكورة القياس . فإن أبا حنيفة ، والشافعي قاسا إيجاب الجزاء في شجر الحرم على إيجاب الجزاء في صيده ولم يقيسا إيجاب الجزاء في حرم المدينة على إيجابه في حرم مكة وكلاهما حرم محرم صيده . وقاس مالك إيجاب الفدية على اللابس والمتطيب على وجوبها على حالق رأسه ، ولم يقس إيجاب الجزاء في شجر حرم مكة ، وفي صيد حرم المدينة على وجوبه في صيد حرم مكة . وكل ذلك تناقض لا وجه له - وبالله تعالى التوفيق .

898 - مسألة : ولا يحل أن يسفك في حرم مكة دم بقصاص أصلا ، ولا أن يقام فيها حد ، ولا يسجن فيها أحد ، فمن وجب عليه شيء من ذلك أخرج عن الحرم وأقيم عليه الحد لما ذكرنا من نهي رسول الله عليه السلام أن يسفك بها دم ، ولقول الله تعالى : { مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا } وهذا عموم لا يجوز أن يخص منه شيء . وأما إخراج العاصي منه فلقول الله تعالى : { أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود } فتطهيره من العصاة واجب ، وليس هذا في حرم المدينة ، لأنه لم يأت بذلك نص ولا يسمى ذبح الحيوان المتملك ولا الحجامة ، ولا فتح العرق : سفك دم . روينا من طريق ابن عيينة أنا إبراهيم بن ميسرة - وكان ثقة مأمونا - قال : سمعت طاوسا يقول : سمعت ابن عباس يقول : من أصاب حدا ، ثم دخل الحرم لم يجالس ولم يبايع - وذكر كلاما - وفيه : فإذا خرج أقيم عليه الحد - وهو قول سعيد بن جبير ، والحكم بن عتيبة - وهو قول عمر بن الخطاب . ومن طريق ابن جريج قال أبو الزبير : قال ابن عمر : لو وجدت فيه قاتل عمر ما ندهته يعني حرم مكة . وقال ابن عباس : لو وجدت قاتل أبي في الحرم ما عرضت له . قال أبو محمد : فلم يخصوا من أصاب حدا في الحرم ممن أصابه خارج الحرم ؛ ثم لجأ إلى الحرم - وفرق عطاء ، ومجاهد بينهما . وروينا من طريق ابن الزبير أنه خرج قوما من الحرم إلى الحل فصلبهم . ومن طريق شعبة عن حماد بن أبي سليمان فيمن قتل ، ثم لجأ إلى الحرم ؟ قال : يخرج منه فيقتل . وقال أبو حنيفة : تقام الحدود في الحرم إلا القتل وحده فإنه لا يقام فيه حد قتل ولا قود حتى يخرج باختياره . وقال أبو يوسف : يخرج فيقام عليه حد القتل . قال علي : تقسيم أبي حنيفة فاسد وما نعلم لمن أباح القتل في الحرم حجة أصلا ، ولا سلفا ، إلا الحصين بن نمير ، ومن بعثه ، والحجاج ، ومن بعثه . قال أبو محمد : وأما من تعدي عليه في الحرم فليدفع عن نفسه قال تعالى : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم } وبالله تعالى التوفيق .

899 - مسألة : ولا يخرج شيء من تراب الحرم ولا حجارته إلى الحل روينا من طريق سعيد بن منصور نا هشيم أنا حجاج عن عطاء قال : يكره أن يخرج من تراب الحرم إلى الحل ، أو يدخل تراب الحل إلى الحرم - وهو قول ابن أبي ليلى وغيره . ولا بأس بإخراج ماء زمزم لأن حرمة الحرم إنما هي للأرض وترابها وحجارتها ، فلا يجوز له إزالة حرمتها ولم يأت في الماء تحريم .

900 - مسألة : وملك دور مكة وبيعها وإجارتها جائز . وقد روينا عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : لا يحل بيع دورها ولا إجارتها . ومنع عمر بن عبد العزيز من كرائها . وروينا عن عمر المنع من التبويب على دورها ؛ وروينا في ذلك خبرين مرسلين لا يصحان - وهو قول إسحاق بن راهويه . قال علي : قد ملك الصحابة بها دورهم بعلم رسول الله عليه السلام فلم يمنع من ذلك ، وكل من ملك ربعا فقد قال الله تعالى : { وأحل الله البيع وحرم الربا } وأمر بالمؤاجرة رسوله عليه السلام فكل ذلك مباح فيها .

901 - مسألة : وأما من احتطب في حرم المدينة فحلال سلبه كل ما معه في حاله تلك وتجريده إلا ما يستر عورته فقط ؛ فلما روينا من طريق مسلم نا إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه - عن أبي عامر العقدي نا عبد الله بن جعفر عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن عمه عامر بن سعد قال : إن سعدا أباه ركب إلى قصره بالعقيق فوجد عبدا يقطع شجرا أو يخبطه فسلبه فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فسألوه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم فقال : معاذ الله أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله عليه السلام وأبى أن يرد عليهم . وعن عمر بن الخطاب أنه قال لمولى لعثمان بن مظعون : إني استعملتك على ما هاهنا فمن رأيته يخبط شجرا أو يعضده : فخذ حبله وفأسه ؟ قلت : آخذ رداءه ؟ قال : لا - وعن ابن عمر نحو هذا . قال أبو محمد : ولا مخالف لهم من الصحابة يعرف وليس هذا في الحشيش لأن الأثر إنما جاء في الاحتطاب - وستر العورة فرض بكل حال .