→ كتاب الحج (مسألة 816 - 819) | ابن حزم - المحلى كتاب الحج (مسألة 820 - 822) المؤلف: ابن حزم |
كتاب الحج (مسألة 823 - 825) ← |
كتاب الحج
820 - مسألة : والحج لا يجوز إلا مرة في السنة ؛ وأما العمرة فنحب الإكثار منها لما ذكرنا من فضلها ؛ فأما الحج فلا خلاف فيه . وأما العمرة فإننا روينا من طريق مجاهد قال علي بن أبي طالب : في كل شهر عمرة . وعن القاسم بن محمد أنه كره عمرتين في شهر واحد . وعن عائشة أم المؤمنين أنها اعتمرت ثلاث مرات في عام واحد . وعن سعيد بن جبير ، والحسن البصري ، ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي : كراهة العمرة أكثر من مرة في السنة ؛ وهو قول مالك . وروينا عن طاوس : إذا مضت أيام التشريق فاعتمر متى شئت . وعن عكرمة : اعتمر متى أمكنك الموسى . وعن عطاء إجازة العمرة مرتين في الشهر . وعن ابن عمر : أنه اعتمر مرتين في عام واحد مرة في رجب ، ومرة في شوال . وعن أنس بن مالك : أنه أقام مدة بمكة فكلما جم رأسه خرج فاعتمر - وهو قول الشافعي ، وأبي حنيفة ، وأبي سليمان ، وبه نأخذ لأن { رسول الله ﷺ قد أعمر عائشة مرتين في الشهر الواحد } ولم يكره عليه السلام ذلك بل حض عليها وأخبر أنها تكفر ما بينها ، وبين العمرة الثانية ، فالإكثار منها أفضل - وبالله تعالى التوفيق . واحتج من كره ذلك : بأن رسول الله ﷺ لم يعتمر في عام إلا مرة واحدة ؟ قلنا : لا حجة في هذا ؛ لأنه إنما يكره ما حض على تركه وهو عليه السلام لم يحج مذ هاجر إلا حجة واحدة ولا اعتمر مذ هاجر إلا ثلاث عمر فيلزمكم أن تكرهوا الحج إلا مرة في العمر ، وأن تكرهوا العمرة إلا ثلاث مرات في الدهر ، وهذا خلاف قولكم ؛ وقد صح أنه كان عليه السلام يترك العمل هو يحب أن يعمل به مخافة أن يشق على أمته أو أن يفرض عليهم . والعجب أنهم يستحبون أن يصوم المرء أكثر من نصف الدهر ، وأن يقوم أكثر من ثلث الليل ؛ وقد صح أن رسول الله ﷺ لم يصم قط - شهرا كاملا ، ولا أكثر من نصف الدهر ، ولا قام بأكثر من ثلاث عشرة ركعة ، ولا أكثر من ثلث الليل ، فلم يروا فعله عليه السلام هاهنا حجة في كراهة ما زاد على صحة نهيه عن الزيادة في الصوم ومقدار ما يقام من الليل على أكثر من ذلك . وجعلوا فعله عليه السلام في أنه لم يعتمر في العام إلا مرة مع حضه على العمرة والإكثار منها حجة في كراهة الزيادة على عمرة من العام وهذا عجب جدا .
821 - مسألة : وأشهر الحج : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، وقال قوم : شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة . روينا قولنا عن ابن عباس وصح عن ابن عمر من طريق محمد بن إسحاق عن نافع عنه - وهو قول طاوس ، وعطاء . وروينا القول الآخر عن ابن عباس أيضا ، وعن ابن مسعود ، وإبراهيم النخعي ، وروينا عن الحسن : شوال ، وذو القعدة ، وصدر ذي الحجة . قال أبو محمد : قال تعالى : { الحج أشهر معلومات } ولا يطلق على شهرين ، وبعض آخر : أشهر ، وأيضا فإن رمي الجمار - وهو من أعمال الحج - يعمل اليوم الثالث عشر من ذي الحجة ، وطواف الإفاضة - وهو من فرائض الحج - يعمل في ذي الحجة كله بلا خلاف منهم ؛ فصح أنها ثلاثة أشهر - وبالله تعالى التوفيق
822 - مسألة : وللحج ، والعمرة مواضع تسمى : المواقيت ، واحدها : ميقات لا يحل لأحد أن يحرم بالحج ، ولا بالعمرة قبلها . وهي لمن جاء من جميع البلاد على طريق المدينة ، أو كان من أهل المدينة : ذو الحليفة - وهو من المدينة على أربعة أميال - وهو من مكة على مائتي ميل - غير ميلين . ولمن جاء من جميع البلاد ، أو من الشام ، أو من مصر على طريق مصر ، أو على طريق الشام : الجحفة - وهي فيما بين المغرب والشمال - من مكة ومنها إلى مكة اثنان وثمانون ميلا . ولمن جاء من طريق العراق منها ، ومن جميع البلاد : ذات عرق - وهو بين المشرق والشمال - من مكة ، ومنها إلى مكة اثنان وأربعون ميلا . ولمن جاء على طريق نجد من جميع البلاد كلها : قرن - وهو شرقي من مكة - ومنه إلى مكة اثنان وأربعون ميلا . ولمن جاء على طريق اليمن منها ، أو من جميع البلاد : يلملم - وهو جنوب من مكة - ومنه إلى مكة ثلاثون ميلا . فكل من خطر على أحد هذه المواضع وهو يريد الحج ، أو العمرة ، فلا يحل له أن يتجاوزه إلا محرما فإن لم يحرم منه : فلا إحرام له ، ولا حج له ، ولا عمرة له إلا أن يرجع إلى الميقات الذي مر عليه فينوي الإحرام منه ، فيصح حينئذ إحرامه ، وحجه ، وعمرته . فإن أحرم قبل شيء من هذه المواقيت وهو يمر عليها : فلا إحرام له ، ولا حج له ، ولا عمرة له إلا أن ينوي إذا صار في الميقات تجديد إحرام فذلك جائز ، وإحرامه حينئذ تام ، وحجه تام ، وعمرته تامة . ومن كان من أهل الشام ، أو مصر فما خلفهما فأخذ على طريق المدينة - وهو يريد حجا ، أو عمرة - فلا يحل له تأخير الإحرام من ذي الحليفة ليحرم من الجحفة ، فإن فعل فلا حج له ، ولا إحرام له ، ولا عمرة له إلا أن يرجع إلى ذي الحليفة ، فيجدد منها إحراما : فيصح حينئذ إحرامه ، وحجه ، وعمرته . فمن مر على أحد هذه المواقيت وهو لا يريد حجا ، ولا عمرة فليس عليه أن يحرم ، فإن تجاوزه بقليل ؛ أو بكثير ثم بدا له في الحج ؛ أو في العمرة فليحرم من حيث بدا له في الحج ، أو العمرة ، وليس عليه أن يرجع إلى الميقات ، ولا يجوز له الرجوع إليه ، وميقاته حينئذ الموضع الذي بدا له في الحج ، أو العمرة : فلا يحل له أن يتجاوزه إلا محرما - فإن فعل ذلك : فلا إحرام له ، ولا حج له ، ولا عمرة له إلا أن يرجع إلى ذلك الموضع فيجدد منه إحراما . فمن كان منزله بين الميقات ومكة فميقاته من منزله كما ذكرنا سواء سواء ، أو من الموضع الذي بدا له أن يحج منه أو يعتمر كما قدمنا . ومن كان من أهل مكة فأراد الحج فميقاته منازل مكة ، وإن أراد العمرة فليخرج إلى الحل فليحرم منه وأدنى ذلك : التنعيم . ومن كان طريقه لا تمر بشيء من هذه المواقيت فليحرم من حيث شاء برا أو بحرا ؛ فإن أخرجه قدر بعد إحرامه إلى شيء من هذه المواقيت ففرض عليه أن يجدد منها نية إحرام ولا بد . برهان ذلك - : ما حدثناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا عمر بن منصور نا هشام بن بهرام نا المعافري هو ابن عمران الموصلي - نا أفلح بن حميد عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق عن عائشة أم المؤمنين { أن رسول الله ﷺ وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام ، ومصر : الجحفة ؛ ولأهل العراق : ذات عرق ، ولأهل اليمن : يلملم } . قال أبو محمد : هشام بن بهرام ثقة ، والمعافي ثقة ، كان سفيان يسميه : الياقوتة الحمراء ؛ وباقيهم أشهر من ذلك - : نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا أبو بكر بن أبي شيبة نا يحيى بن آدم نا وهيب هو ابن خالد - نا عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس { أن رسول الله ﷺ وقت لأهل المدينة : ذا الحليفة ؛ ولأهل الشام : الجحفة ، ولأهل نجد : قرن المنازل ، ولأهل اليمن : يلملم . وقال : هن لهم ولكل آت أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة ، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة } . نا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد نا إبراهيم بن أحمد البلخي نا الفربري نا البخاري نا مسدد نا حماد هو ابن زيد - عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس قال : { وقت رسول الله ﷺ لأهل المدينة : ذا الحليفة ؛ ولأهل الشام : الجحفة ؛ ولأهل نجد : قرن المنازل ؛ ولأهل اليمن : يلملم ، فهن لأهلهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة فمن كان دونهن فمهله من أهله ، وكذاك حتى أهل مكة يهلون منها } . قال أبو محمد : فهذه الأخبار أتم من كل خبر روي في ذلك وأصح وهي منتظمة كل ما ذكرنا فصلا فصلا - : قال أبو محمد : وفي بعض ما ذكرنا خلاف - : فمنه أن قوما ادعوا أن ميقات أهل العراق : العقيق واحتجوا بخبر لا يصح لأن راويه يزيد بن زياد - وهو ضعيف - عن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس عن عباس . ومنه أن المالكيين قالوا : من مر على المدينة من أهل الشام خاصة فلهم أن يدعوا الإحرام إلى الجحفة ؛ لأنه ميقاتهم وليس ذلك لغيرهم ؛ ومنع من ذلك أبو حنيفة ، والشافعي ، وأبو سليمان ، وغيرهم ، وهو الحق ، لقول النبي ﷺ : { هن لأهلهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة } . فقد صار ذو الحليفة ميقاتا للشامي ، والمصري إذا أتى عليه وكان إن تجاوزه غير محرم عاصيا لرسول الله ﷺ وإنما الميقات لمن مر عليه بنص كلامه عليه السلام لا لمن لم يمر عليه فقط . ولو أن مدنيا يمر على الجحفة يريد الحج وعرضت له مع ذلك حاجة إلى المدينة لم يجز له أن يؤخر الإحرام إلى ذي الحليفة - : روينا من طريق سعيد بن منصور نا عبد العزيز هو ابن محمد الدراوردي - أخبرني هشام بن عروة عن أبيه ، وسعيد بن المسيب قالا جميعا : من مر من أهل الآفاق بالمدينة أهل من مهل النبي ﷺ من ذي الحليفة ؛ وروينا عن عطاء مثل قول مالك : وروينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابن جريج أخبرني نافع عن ابن عمر قال : أهل مصر ، ومن مر من أهل الجزيرة على المدينة في الميقات من أهل الشام . قال أبو محمد : قول ابن عمر هذا يوجب عليهم تأخير الإحرام إلى الجحفة ؛ ومنه من كانت طريقه على غير المواقيت فإن قوما قالوا : إذا حاذى الميقات لزمه أن يحرم - وهو قول عطاء - واحتجوا بما رويناه من طريق ابن عمر قال : إن أهل العراق شكوا إلى عمر في حجهم أن " قرن المنازل " جور عن طريقهم ؛ فقال لهم : انظروا حذوها من طريقكم ؟ فحد لهم " ذات عرق " . قال علي : وهذا لا حجة لهم فيه لأن الخبر المسند في توقيت النبي ﷺ ذات عرق لأهل العراق وقد ذكرناه آنفا فإنما حد لهم عمر ما حد لهم النبي ﷺ ثم لو لم يصح في ذلك خبر لما كان في قول أحد دون رسول الله ﷺ حجة ويكفي من ذلك قوله عليه السلام الذي ذكرنا آنفا " ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ " . وقد صح عن ابن عمر أنه لم يسمع توقيت النبي ﷺ يلملم ؛ فرواية من سمع ، وعلم : أتم من رواية من سمع بعضا ولم يسمع بعضا ؟ وبرهان آخر - : وهو أن جميع الأمة مجمعون إجماعا متيقنا على أن من كان طريقه لا يمر بشيء من المواقيت فإنه لا يلزمه الإحرام قبل محاذاة موضع الميقات . ثم اختلفوا إذا حاذى موضع الميقات ، فقالت طائفة : يلزمه أن يحرم ، وقال آخرون : لا يلزمه ؛ فلا يجوز أن يجب فرض بغير نص ولا إجماع . ومنه من تجاوز الميقات وهو يريد حجا أو عمرة فلم يحرم وأحرم بعده فإن أبا حنيفة قال : هو مسيء ويرجع إلى ميقاته فيلبي منه ولا دم عليه ولا شيء ؛ فإن رجع إلى الميقات ولم يلب منه فعليه دم شاة ، وكذلك عليه دم إن لم يرجع إلى الميقات ، وحجه وعمرته تامان في كل ذلك . قال أبو محمد : ما نعلم أحدا قبله قسم هذا التقسيم [ الطريف ] من إسقاطه الدم برجوعه إلى الميقات وتلبيته منه وإثباته الدم إن لم يرجع ، أو إن رجع إلى الميقات ولم يلب وهذا أمر لا يوجبه قرآن ، ولا سنة صحيحة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قول صاحب ، ولا تابع ، ولا قياس ، ولا نظر يعقل ؟ وقال مالك ؛ وسفيان ، والأوزاعي ، والحسن بن حي ، والليث ، وأبو يوسف : إن رجع إلى الميقات فأحرم منه ؛ فلا شيء عليه ، ولا دم ولا غيره لبى أو لم يلب ؛ وإن لم يرجع فعليه دم ، وحجه ، وعمرته : صحيحان . وقال زفر : عليه دم شاة رجع إلى الميقات أو لم يرجع . قال أبو محمد : روينا من طريق ابن أبي شيبة قال : نا وكيع وابن علية قال وكيع : عن سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت ؛ وقال ابن علية : عن أيوب السختياني عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد ثم اتفق حبيب ، وجابر كلاهما عن ابن عباس : أنه كان يرد إلى الميقات الذين يدخلون مكة بغير إحرام ، قال جابر : رأيته يفعل ذلك ، ومن طريق عبد الرزاق عن ابن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس قال : إذا زل الرجل عن الوقت - وهو غير محرم - فإنه يرجع إلى الميقات فإن خشي أن يفوته الحج تقدم وأهراق دما . وعن ليث عن عطاء عن ابن عباس إذا لم يهل من ميقاته أجزأه وأراق دما - ومن طريق ابن أبي شيبة نا وكيع عن إسماعيل عن وبرة : أن رجلا دخل مكة - وعليه ثياب وقد حضر الحج وخاف إن رجع فوته - فأمره ابن الزبير أن يهل من مكانه فإذا قضى الحج خرج إلى الوقت فأهل بعمرة .
وروينا من طريق سعيد بن منصور نا ابن عيينة عن أبان بن تغلب عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه أو عمه : أن ابن مسعود رآهم بذات الشقوق فقال : ما هؤلاء ؟ أتجار ؟ قالوا : لا ، قال : فما يحبسهم عما خرجوا له ؟ فمالوا إلى أدنى ماء فاغتسلوا وأحرموا . قال أبو محمد : ما نعلم عن الصحابة في هذا إلا ما أوردنا . وروي عن يحيى بن سعيد الأنصاري : أنه كان لا يرى بأسا بتجاوز الميقات لمن أراد الحج والعمرة . وعن الزهري نحو هذا لمن توقع شيئا - وعن وكيع عن سفيان عن حبيب عن إبراهيم النخعي فيمن دخل مكة لا حاجا ولا معتمرا وخشي فوات الحج إن خرج إلى الميقات ، قال : يهل من مكانه . قال حبيب : ولم يذكر دما . وعن الحسن ، وسعيد بن جبير : أنه يرجع إلى الميقات . وعن عطاء قال مرة : عليه دم ، ومرة قال : لا شيء عليه ، روينا ذلك من طريق سعيد بن منصور نا سفيان هو ابن عيينة - عن ابن أبي نجيح عن عطاء قال : ليس على من تجاوز الميقات غير محرم شيء . قال سفيان : لا يعجبنا . ومن طريق سعيد بن منصور نا عتاب بن بشير أنا خصيف عن سعيد بن جبير قال : من جاوز الوقت الذي وقت رسول الله ﷺ ولم يحرم منه فلن يغني عنه إن أحرم شيئا حتى يرجع إلى الوقت الذي وقت النبي ﷺ فيحرم منه إلا إنسان أهله من وراء الوقت فيحرم من أهله . قال أبو محمد : فأصح الروايات عن ابن عباس ، وهذه الرواية عن سعيد بن جبير موافقة لقولنا ؛ وأضعف الروايات عن ابن عباس موافقة لقول الحاضرين من مخالفينا وليس بعض أقوالهم رضي الله عنهم بأولى من بعض ، الواجب عند التنازع ما أوجبه الله تعالى إذ يقول : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } ففعلنا - ولله الحمد - فوجدنا الله تعالى قد وقت على لسان رسوله ﷺ مواقيت وحد حدودا فلا يحل تعديها { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } . وقال رسول الله ﷺ { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } وقال عليه السلام : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } فلم يجز أن يصحح عملا عمل على خلاف أمر رسول الله ﷺ ولا أن يشرع وجوب دم لم يوجبه الله تعالى ولا رسوله ﷺ { وما كان ربك نسيا } فيبيح من ماله المحرم ما لم يأت قرآن ولا سنة بإباحته ، وما نعلم لمن أوجب الدم وأجاز الإحرام حجة أصلا . فإن قالوا : إن أشياء جاء النص فيها بوجوب دم ؟ قلنا : نعم ، فلا يجوز تعديها وليس منكم أحد إلا وقد أوجب الدم حيث لم يوجبه صاحبه ؛ وهذا تحكم لا يجوز القول به - وبالله تعالى التوفيق . ومنه من أحرم قبل الوقت فإن قوما استحبوه ، وقوما كرهوه وألزموه إذا وقع . روينا من طريق عبد الرحمن بن أذينة بن مسلمة العبدي عن أبيه قال : قلت لعمر بن الخطاب : إني ركبت السفن ، والخيل ، والإبل فمن أين أحرم ، فقال : ائت عليا فاسأله ؟ فسأل عليا ؟ فقال له : من حيث أبدأت أن تنشئها من بلادك ، فرجع إلى عمر فأخبره ، فقال له عمر : هو كما قال لك علي . ومن طريق شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة أن رجلا سأل علي بن أبي طالب عن قول الله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } فقال : أن تحرم من دويرة أهلك . وبه إلى عبد الله بن سلمة عن عائشة مثله . ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي عن هشيم عن أبي بشر عن سلام بن عمرو عن عثمان بن عفان : العمرة تامة من أهلك . ومن طريق الحماني عن هشيم عن بعض أصحابه عن إبراهيم عن ابن مسعود من تمام الحج أن يحرم من دويرة أهله . ومن طريق ابن أبي شيبة عن وكيع عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه أنه رأى عثمان بن أبي العاص أحرم من المنجشانية بقرب البصرة . وعن الحسن : أن عمران بن الحصين أحرم من البصرة . وصح عن ابن عمر أنه أحرم من بيت المقدس . وعن رجل لم يسم أن أبا مسعود أحرم من السيلحين . وعن رجل : أن ابن عباس أحرم من الشام في برد شديد - ومن طريق سعيد بن منصور نا حماد بن زيد عن هشام بن حسان عن حفصة بنت سيرين عن محمد بن سيرين أنه خرج مع أنس إلى مكة ، فأحرم من العقيق . وعن معاذ : أنه أحرم من الشام - ورويناه من طريق الحذافي عن عبد الرزاق نا ابن جريج أنا يوسف بن ماهك : أنه سمع عبد الله بن أبي عمار أنه كان مع معاذ بن جبل ، وكعب الخير : فأحرما من بيت المقدس بعمرة وأحرم معهما - وبه إلى عبد الرزاق نا معمر عن الزهري عن سالم أن ابن عمر أحرم بعمرة من بيت المقدس . وعن إبراهيم : كانوا يستحبون أول ما يحج الرجل أو يعتمر أن يحرم من أرضه التي يخرج منها - وعن سعيد بن جبير أنه أحرم من الكوفة . وعن مسلم بن يسار أنه أحرم من ضرية . وعن الأسود ، وأصحاب ابن مسعود : أنهم أحرموا من الكوفة - وعن طاوس ، وعطاء نحو هذا . واحتج من رأى هذا بما روينا من طريق أبي داود نا أحمد بن صالح نا ابن أبي فديك عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يحنس عن يحيى بن أبي سفيان الأخنسي عن جدته حكيمة عن أم سلمة أم المؤمنين أنها سمعت النبي ﷺ : " يقول : { من أهل بحجة ، أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أو وجبت له الجنة } شك عبد الله أيهما قال ؟ ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن ابن إسحاق عن سليمان بن سحيم عن أم حكيم بنت أمية عن أم سلمة " أن رسول الله ﷺ قال { : من أهل بعمرة من بيت المقدس غفر له } . قال علي : أما هذان الأثران فلا يشتغل بهما من له أدنى علم بالحديث لأن يحيى بن أبي سفيان الأخنسي ، وجدته حكيمة ، وأم حكيم بنت أمية لا يدرى من هم من الناس ؟ ولا يجوز مخالفة ما صح بيقين بمثل هذه المجهولات التي لم تصح قط ، واحتج بعضهم بأن عليا ، وأبا موسى : أحرما من اليمن فلم ينكر النبي ﷺ ذلك عليهما . قال : وكذلك كعب بن عجرة . قال أبو محمد : ولا ندري أين وجد هذا عن كعب بن عجرة ؟ وأما علي ، وأبو موسى ، فإنهما قدما من اليمن مهلين كإهلال النبي ﷺ فعلمهما عليه السلام كيف يعملان ؟ وليس في هذا الخبر ألبتة ذكر للمكان الذي أحرما منه ، ولا فيه دليل ولا نص بأن ذلك كان بعد توقيته عليه السلام المواقيت ، فإذ ليس ذلك فيه فلا حجة لهم به أصلا ، ولا نخالفهم في أن قبل توقيته عليه السلام المواقيت كان الإحرام جائزا من كل مكان . وأما من قدمنا ذكره من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ( ) فأما خبر ابن أذينة فإننا رويناه من طريق وكيع قال : نا شعبة عن الحكم هو ابن عتيبة - عن يحيى بن الجزار عن ابن أذينة قال : أتيت عمر بن الخطاب بمكة فقلت له : إني ركبت الإبل ، والخيل حتى أتيتك فمن أين أعتمر ؟ قال : ائت علي بن أبي طالب فسله ، فأتيته فسألته ، فقال لي علي : من حيث أبدأت - يعني من ميقات أرضه - قال : فأتيت عمر فذكرت له ذلك ، فقال : ما أجد لك إلا ما قال ابن أبي طالب . قال أبو محمد : هكذا في الحديث نفسه يعني من ميقات أرضه ، فعاد حجة لنا عليهم لو صح من أصله - وروينا من طريق يحيى بن سعيد القطان : حدثني ابن أبي عروبة عن الحسن البصري قال : أحرم عمران بن الحصين من البصرة فعاب ذلك عليه عمر بن الخطاب وقال : أردت أن يقول الناس : أحرم رجل من أصحاب رسول الله ﷺ من مصر من الأمصار . قال علي : وعمر لا يعيب مستحبا فيه أجر وقربة إلى الله تعالى ؛ نعم ، ولا مباحا ؛ وإنما يعيب ما لا يجوز عنده ؛ هذا مما لا يجوز أن يظن به غير هذا أصلا . ورويناه من طريق سعيد بن منصور نا يزيد بن هارون عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن : أن عمران بن الحصين أحرم من البصرة ، فبلغ ذلك عمر فغضب وقال : يتسامع الناس : أن رجلا من أصحاب رسول الله ﷺ أحرم من مصره ؟ قال أبو محمد : عمر لا يمكن ألبتة أن يغضب من عمل مباح عنده - وروينا من طريق عبد الرزاق نا معمر عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين قال : أحرم عبد الله بن عامر من حيرب فقدم على عثمان بن عفان فلامه فقال له : غررت وهان عليك نسكك . قال أبو محمد : وعثمان لا يعيب عملا صالحا عنده ولا مباحا وإنما يعيب ما لا يجوز عنده لا سيما وقد بين أنه هوان بالنسك والهوان بالنسك لا يحل ، وقد أمر تعالى بتعظيم شعائر الحج . وروينا من طريق وكيع : نا عمارة بن زاذان قال : قلت لابن عمر : الرجل يحرم من سمرقند ، أو من الوقت الذي وقت له ، أو من البصرة ، أو من الكوفة ؟ فقال ابن عمر : قد شقينا إذا . قال أبو محمد : لا يحتمل قول ابن عمر إلا أنه لو كان الإحرام من غير الوقت مباحا لشقي المحرمون من الوقت . وروينا من طريق وكيع نا شعبة عن مسلم القري قال : سألت ابن عباس بمكة من أين أعتمر ؟ قال : من وجهك الذي جئت منه ، يعني ميقات أرضه . قال أبو محمد : هكذا في الحديث نصا - يعني ميقات أرضه . قال علي : فبطل تعلقهم بعمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن عباس ، وابن عمر ؛ وأما سائر الروايات التي ذكرنا عن الصحابة والتابعين فليس في شيء منها : أنهم مروا على الميقات ؛ وإذ ليس هذا فيها فكذلك نقول : إن من لم يمر على الميقات فليحرم من حيث شاء ، وبهذا تتفق الأخبار عنهم مع ما صح عن النبي ﷺ ولا يجوز أن يترك ما صح عن النبي ﷺ من طريق عائشة ، وابن عباس ، وابن عمر رضي الله عنهم لظنون كاذبة لا دليل على صحة تأويلهم فيها ، وهي خارجة أحسن خروج على موافقة رسول الله ﷺ التي لا يحل أن يظن بهم غيرها . قال أبو محمد : ومن أتى إلى ما روي عن ابن مسعود من قوله : إن القبلة تفطر الصائم ، فقال : لعله أراد إذا كان معها مني . وإلى خبر عائشة رضي الله عنها : أنها كانت لا تدخل عليها من أرضعه نساء إخوتها ، فقال : لا ندري لماذا ولعله لأمر ما ، وليس لأنها كانت لا ترى ذلك الرضاع محرما - : فليس له أن ينكر علينا حمل ما روي عنهم على حقيقته وظاهره ؛ بل الملامة كلها على من أقحم في هذه الآثار ما ليس فيها من أنهم جازوا على المواقيت ؛ بل قد كذب من قال هذا بلا شك - وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد : أما أبو حنيفة ، وسفيان ، والحسن بن حي فاستحبوا تعجيل الإحرام قبل الميقات ؛ وأما مالك فكرهه وألزمه إذا وقع . وأما الشافعي فكرهه ؛ وأما أبو سليمان فلم يجزه - وهو قول أصحابنا . فأما أبو حنيفة فإنه ترك القياس ؛ إذ أجاز الإحرام قبل الميقات ولم يجز صلاة من صلى وبينه وبين الإمام نهر ولا فرق بين الإحرام بالحج في غير موضع الإحرام وبين الإحرام بالصلاة في غير موضع الصلاة . وأما المالكيون فإن حملوا هذه الآثار على ما حملها عليه الحنفيون فقد أعظموا القول على أصولهم إذ كرهوا ما استحبه الصحابة ؛ وإن حملوها على ما حملناها نحن عليه فكيف يجيزون خلاف ما حده رسول الله ﷺ ؟ وهذا ما لا مخلص منه - وبالله تعالى التوفيق .