فجلس ليلةٍ معه سماره فغناه بعض من حضر من المغنين بأبيات جرير حيث يقول: إن الذين غدوا بلبك غادروا وشلاً بعينك لا يزال معينا قال: فطرب الرشيد لها طرباً شديداً وأعجب بالأبيات وقال لجلسائه: هل منكم أحد يحيز هذه الأبيات بمثلهن وله هذه البدرة وبين يديه بدرة من دنانير. فقالوا فلم يصنعوا شيئاً. فقال خادم على رأسه: أنا بها لك يا أمير المؤمنين. قال: شأنك. فاحتمل البدرة ثم أتى الناطفي فقال له: استأذن لي على عنان. فأذنت له. فدخل وأخبرها الخبر. فقالت: ويحك! وما الأبيات فأنشدها إياها. فقالت له: اكتب: هيجت بالقول الذي قد قلته داء بقلبي ما يزال كميناً قد أينعت ثمراته في حينها وسقين من ماء الهوى فروينا كذب الذين تقولوا يا سيدي إن القلوب إذا هوين هوينا فقالت له: دونك الأبيات فدفع إليها البدرة ورجع إلى هارون. فقال له: ويحك! من قالها! قال: عنان جارية الناطفي. فقال: خلعت الخلافة من عنقي إن باتت إلا عندي. قال: فبعث إلى مولاها فاشتراها منه بثلاثين ألفاً وباتت بقية تلك الليلة عنده. وقال الأصمعي: ما رأيت الرشيد متبذلا قط إلا مرةً كتبت إليه عنان جارية الناطفي رقعة فيها: كنت في ظل نعمة بهواكا آمناً منك لا أخاف جفاكا فسعى بيننا الوشاة فأقرر ت عيون الوشاة بي فهناكا ولعمري لغير ذا كان أولى بك في الحق يا جعلت فداكا قال: فأخذ الرقعة بيده وعنده أبو حفص الشطرنجي فقال: أيكم يشير إلى المعنى الذي في نفسي فيقول فيه شعراً وله عشرة آلاف درهم فظننت أنه وقع بقلبه أمر عنان فبدر أبو حفص فقال: مجلس ينسب السرور إليه لمحب ريحانه ذكراكا فقال: يا غلام بدرة. فقال جرير: فقال: يا غلام بدرة. قال الأصمعي: فقلت: لم ينلك الرجاء أن تحضريني وتجافت أمنيتي عن سواكا قال: أحسنت والله يا أصمعي لها ولك بهذا البيت عشرون ألفاً. وقال غير أني أشعركم حيث أقول: قد تمنيت أن يغشيني الله نعاساً لعل عيني تراكا قلنا له: صدقت والله يا أمير المؤمنين. وقال بكر بن حماد الباهلي: لما انتهى إلي خبر عنان وأنها ذكرت لهارون وقيل له إنها أشعر الناس خرجت متعرضاً لها فما راعني إلا الناطفي مولاها قد ضرب على عضدي فقال لي: هل لك فيما سنح من طعام وشراب ومجالسة عنان فقلت: ما بعد عنان مطلب. ومضينا حتى أتينا منزله فعقل دابته ثم دخل فقال: هذا بكر شاعر باهلة يريد مجالستك اليوم. فقالت: لا والله إني كسلانة. فحمل عليها بالسوط ثم قال لي: ادخل فدخلت ودمعها يتحدر كالجمان في خدها فطمعت بها فقلت: هذي عنان أسبلت دمعها كالدر إذ ينسل من خيطه ثم قلت لها: أجيزي. فقال: فقلت لها: إن لي حاجة. فقالت: هاتها فمن سببك أوذينا. قلت لها: بيت وجدته على ظهر كتابي لم أقرضه ولم أقدر على إجازته. قالت: قل. فأنشدتها. فما زال يشكو الحب حتى حسبته تنفس في أحشائه أو تكلما قال: فأطرقت ساعة ثم أنشدت: ويبكي فأبكي رحمة لبكائه إذا ما بكى دمعاً بكيت له دما قلت لها: فما عندك في إجازة هذا البيت: بديع حسن بديع صدٍ جعلت خدي له ملاذا فأطرقت ساعة ثم قالت: فعاتبوه فعنفوه فأوعدوه فكان ماذا وجلس أبو نواس إلى عنان فقالت: كيف علمك بالعروض وتقطيع الشعر يا حسن قال: جيد. قالت: قطع هذا البيت: أكلت الخردل الشامي في قصعة خباز فلما ذهب يقطعه ضحكت به وأضحكت. فأمسك عنها وأخذ في ضروب من الأحاديث ثم عاد سائلاً لها فقال: كيف علمك بالعروض قالت: حسن يا حسن. فقال: قطعي هذا حولوا عنا كنيستكم يا بني حمالة الحطب فلما ذهبت تقطعه ضحك أبو نواس. فقالت له: قبحك الله! ما برحت حتى أخذت بثأرك. حدث أبو عبد الله بن عبد البر المدني قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: كان للمأمون جماعة من المغنين وفيهم مغن يسمى سوسناً عليه وسم جمال. قال: فبينما هو عنده إذ تطلعت جارية من جواريه فنظرت إليه فعلقته. فكانت إذ حضر سوسن تسوى عودها وتغني: ما مررنا بالسوسن الغض إلا كان دمعي لمقلتي نديما حبذا أنت والمسمى به أن ت وإن كنت منه أذكى نسيما فإذا غاب سوسن أمسكت عن هذا الصوت وأخذت في غيره. فلم تزل تفعل ذلك حتى فطن المأمون. فدعا بها ودعا بالسيف والنطع ثم قال: اصدقيني أمرك قال: يا أمير المؤمنين ينفعني عندك الصدق قال لها: إن شاء الله. قالت: يا أمير المؤمنين اطلعت من وراء الستارة فرأيته فعلقته. فأمسك المأمون عن عقوبتها وأرسل إلى المغني فوهبها له وقال: لا تقربنا. قال أبو الحسن: كان الواثق إذا شرب وسكر رقد في موضعه الذي سكر فيه ومن سكر من ندمائه ترك ولم يخرج. فشرب يوماً فسكر ورقد وانقلب أصحابه إلا مغنياً أظهر التراقد وبقيت معه مغنية للواثق. فلما خلا المجلس وقع المغني في سحاءة ودفعها إليها: وكأن كفك في يدي وكأنما بتنا جميعاً في فراش واحد ثم انتبهت ومنكباك كلاهما في راحتي وتحت خدك ساعدي فأجابته: خيراً رأيت وكل ما أبصرته ستناله مني برغم الحاسد وتبيت بين خلاخلي ودمالجي وتحل بين مراشفي ومجاسدي فنكون أنعم عاشقين تعاطيا ملح الحديث بلا مخافة راصد فلما مدت يدها لترمي إليه بالسحاءة رفع الواثق رأسه فأخذ السحاءة من يدها وقال لهما: ما هذه فحلفا له أنه لم يجر بينهما قبل هذا كلامٌ ولا كتاب ولا رسول غير اللحظ إلا أن العشق قد خامرهما. فأعتقها وزوجها منه. فلما أشهد له وتم النكاح أقامها الواثق بمحضر المغني إلى بيت من بعض البيوت فوقع عليها ثم خرج إليه فقال له: أردت أن تكشخني فيها وهي خادمي فقد كشختك فيها وهي زوجتك. قال: ولما كلف يزيد بحبابة واشتغل بها وأضاع الرعية دخل عليه مسلمة أخوه قال: يا أمير المؤمنين تركت الظهور للعامة والشهود للجمعة وأضعت أمر المسلمين واحتجبت مع هذه الأمة. فارعوى قليلاً وظهر للناس. فأوحت حبابة إلى الأحوص أن يقول أبياتاً يهون فيها على يزيد ما ألا لا تلمه اليوم أن يتبلدا فقد منع المحزون أن يتجلدا إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا هل العيش إلا ما تلذ وتشتهي وإن لام فيه ذو الشنان وفندا فلما سمعها ضرب بخيزرانته الأرض وقال: صدقت! صدقت! على مسلمة لعنة الله. ثم عاد إلى سيرته الأولى. وحدث ابن الغاز قال: حدثنا أبو سعيد عبد الله بن شبيب قال: حدثنا الهيثم ابن أبي بكر قال: كان يزيد بن عبد الملك كلفا بحبابة كلفاً شديداً. فلما توفيت أكب عليها أياماً يترشفها ويتشممها حتى أنتنت فقام عنها وأمر بجهازها ثم خرج بين يدي نعشها حتى إذا بلغ القبر نزل فيه حتى إذا فرغ من دفنها وانصرف لصق إليه مسلمة أخوه يعزيه ويؤنسه. فلما أكثر عليه قال له: قاتل الله ابن أبي جمعة حيث يقول: فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد وكل خليل زارني فهو قائلٌ من أجلك هذا هامة اليوم أو غد قال: وطعن في جنازتها فدفناه إلى سبعة عشر يوماً. وذكر المعتصم جاريةً كانت غلبت عليه وهو بمصر ولم يكن خرج بها معه فدعا مغنيا له فقال له: ويحك! إني ذكرت جارية فأقلقني الشوق إليها فهات صوتاً يشبه ما ذكرت لك. فأطرق ملياً ثم غنى: وددت من الشوق المبرح أنني أعار جناحي طائر فأطير فما لنعيم لست فيه بشاشةٌ وما لسرور لست فيه سرور وإن امرأ في بلدة نصف قلبه ونصف بأخرى غيرها لصبور فقال: والله ما عدوت ما في نفسي وأمر له بجائزة ورحل من ساعته. فلما بلغ الفرما قال: غريب في قرى مصر يقاسي الهم والسدما لليلك كان بالميدا ن أقصر منه بالفرما وقال المأمون في قينة له: لها في لحظها لحظات حتف تميت بها وتحيي من تريد فإن غضبت رأيت الناس قتلى وإن ضحكت فأرواح تعود وتسبي العالمين بمقلتيها كأن العالمين لها عبيد وأنشد البحتري في قينة له: أمازحها فتغضب ثم ترضى وجل فعالها حسن جميل وقال ابن المعتز في قينة له: سقتني في ليل شبيه بشعرها شبيهة خديها بغير رقيب فأمسيت في ليلين للشعر والدجا وشمسين من كأس ووجه حبيب وقال هارون الرشيد في قينة له: تبدي صدودا وتخفي تحته مقةً فالنفس راضيةٌ والطرف غضبان يا من وضعت له خدي فذلله وليس فوقي سوى الرحمن سلطان وقال إبراهيم الشيباني: القينة لا تخلص محبة لأحد ولا تؤتى إلا من باب الطمع. وقال علي بن الجهم: قلت لقينة: هل تعلمين وراء الحب منزلةً تدني إليك فإن الحب أقصاني فقالت: تأتي من باب الذهب وأنشدت: اجعل شفيعك منقوشاً تقدمه فلم يزل مدنياً من ليس بالداني وكان أشعب يختلف إلى قينة بالمدينة فجلس عندها يوماً يطارحها الغناء فلما أراد الخروج قال لها: ناوليني خاتمك أذكرك به. قالت: إنه ذهب وأخاف أن تذهب ولكن خذ هذا العود فلعلك تعود. وناولته عوداً من الأرض. وكان أشعب يختلف إلى قينة بالمدينة يكلف بها وينقطع إليها إذا نظر إليها. فطلبت منه أن يسلفها دراهم. فانقطع عنها وتجنب دارها فعملت له دواء ولقيته به. فقال لها: ما هذا قالت: دواء عملته لك تشربه لهذا الفزع الذي بك. قال: اشربيه أنت للطمع فإن انقطع طعمك انقطع فزعي وأنشأ يقول: أنا والله أهواك ولكن ليس لي نفقة فإما كنت تهويني فقد حلت لي الصدقه وقعد أبو الحارث جميز إلى قينة بالمدينة صدر نهاره فجعلت تحدثه ولا تذكر الطعام. فلما طال ذلك به قال: ما لي لا أسمع للطعام ذكراً قالت: سبحان الله أما تستحي أما في وجهي ما يشغلك عن هذا فقال لها: جعلت فداك لو أن جميلاً وبثينة قعدا ساعة واحدة لا يأكلان لبصق كل واحد منهما في وجه صاحبه وافترقا. وقال الشيباني: كانت بالعراق قينة وكان أبو النواس يختلف إليها فتظهر له أنها لا تحب غيره وكان كلما جاءها وجد عندها فتىً يجلس عندها ويتحدث إليها فقال فيها: ومظهرةٍ لخلق الله ودا وتلقي بالتحية والسلام أتيت فؤادها أشكو إليه فلم أخلص إليه من الزحام أراك بقية من قوم موسى فهم لا يصبرون على الطعام وقال الشيباني: حضر أبو النواس مجلساً فيه قيان فقلن له: ليتنا بناتك. قال: نعم ونحن على المجوسية. وقال العتبي: حضرت قينة مجلساً فغنت فأجادت فقام إليها شيخ من القوم فجلس بن يديها وقال: كل مملوك لي حر وكل امرأة لي طالق لو كانت الدنيا كلها صرارا في كمي لقطعتها لك فأما إذ لم يكن فجعل الله كل حسنة لي لك وكل سيئة عليك علي. قالت: جزاك الله خيراً فوالله ما يقوم الوالد لولده بما قمت به لنا. فقام شيخ آخر وقعد بين يديها وقال لها: كل مملوك لي حر وكل امرأة لي طالق إن كان وهب لك شيئاً ولا حمل عنك ثقلاً لأنه ما له حسنةٌ يهبها لك ولا عليك سيئة يحملها عنك فلأي شيء تحمدينه حدث أحمد بن عمر المكي قال حدثني أبي قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم الموصلي يقول: كان بالمدينة رجل جعفري من ولد جعفر بن أبي طالب وكان يحب الغناء وكان بالمدينة قينة يقال لها بصبص وكان الجعفري يتعشقها فقال يوماً لإخوانه: قوموا معي إلى هذه الجارية حتى نكاشفها فقد والله أيتمت ولدي وأرملت نسائي وأخرجت ضيعتي. فقاموا معه حتى إذا جاءوا إلى بابها دقه فخرجت إليه فإذا هي أملح الناس دلا وشكلاً فقال لها: يا جارية وكنت أحبكم فسلوت عنكم عليكم في دياركم السلام فاستحيت وخجلت وبكت وقالت: يا جارية هاتي عودي. والله ما أحسن هذا ولكن أحسن غيره فغنت: تحمل أهلها منها فبانوا على آثار من ذهب العفاء قال: فاستحيا والله صاحبنا حتى تصبب عرقاً ثم قال لها: يا سيدتي أفتحسنين أن تغني: وأخضع للعتبى إذا كنت ظالما وإن ظلموا كنت الذي أتفضل قالت: والله ما أعرف هذا ولكن غيره فغنت: فإن تقبلوا بالود أقبل بمثله وأنزلكم منا بأكرم منزل قال: فدفع الباب ودخل وأرسل غلامه يحمل إليه حوائجه. وقال: لعن الله الأهل والولد والضيعة. خبر الذلفاء قال أبو سويد: حدثني أبو زيد الأسدي قال: دخلت على سليمان بن عبد الملك بن مروان وهو جالس على دكان مبلط بالرخام الأحمر مفروش باليباج الأخضر في وسط بستان ملتف قد أثمر وأينع وإذا بإزاء كل شق من البستان ميدان بنبت الربيع قد أزهر. وعلى رأسه وصائف كل واحدة منهن أحسن من صاحبتها. وقد غابت الشمس فنضرت الخضرة وأضعفت في حسنها الزهرة وغنت الأطيار فتجاوبت وسفت الرياح على الأشجار فتمايلت بأنهار فيه قد شققت ومياه قد تدفقت. فقلت: السلام عليك يا أيها الأمير ورحمة الله وبركاته. وكان مطرقاً فرفع رأسه وقال: أبا زيد في مثل هذا الحين يصاب أحد حيا قلت: أصلح الله الأمير أو قد قامت القيامة بعد. قال: نعم على أهل المحبة سراً والمراسلة بينهم خفية. ثم أطرق مليا ثم رفع رأسه فقال: أبا زيد ما يطيب في يومنا هذا قلت: أعز الله الأمير قهوة صفراء في زجاجة بيضاء تناولها مقدودة هيفاء مضمومة لفاء دعجاء. أشربها من كفها وأمسح فمي بفمها. فأطرق سليمان ملياً لا يحير جواباً تنحدر من عينه عبرات بلا شهيق. فلما رأى الوصائف ذلك تنحين عنه. ثم رفع رأسه فقال: أبا زيد حللت في يوم فيه انقضاء أجلك ومنتهى مدتك وتصرم عمرك والله لأضربن عنقك أو لتخبرني ما أثار هذه الصفة من قلبك. قلت: نعم أصلح الله الأمير كنت جالساً عند باب أخيك سعيد بن عبد الملك فإذا أنا بجارية قد خرجت إلى باب القصر كالغزال انفلت من شبكة الصياد عليها قميصٌ سكبٌ يتبين منه بياض بدنها وتدوير سرتها ونقش تكتها وفي رجليها نعلان صراران قد أشرق بياض قدميها على حمرة نعليها مضمومة بفرد ذؤابة تضرب إلى حقويها وتسيل كالعثاكيل على منكبيها وطرة قد أسبلت على متني جبينها وصدغان قد زينا كأنهما نونان على وجنتيها وحاجبان قد قوسا على محجري عينيها وعينان مملوءتان سحراً وأنف كأنه قصبة در وفم كأنه جرح يقطر دما. وهي تقول: عباد الله من لي بدواء ما لا يشتكى وعلاج ما لا يسمى طال الحجاب وأبطأ الجواب فالفؤاد طائر والقلب عازب والنفس والهة والفؤاد مختلس والنوم محتبس رحمة الله على قوم عاشوا تجلداً وماتوا تبلداً ولو كان إلى الصبر حيلة وإلى العزاء سبيل لكان أمرا جميلاً ثم أطرقت طويلاً ثم رفعت رأسها. فقلت: أيتها الجارية إنسية أنت أم جنية سمائية أم أرضية فقد أعجبني ذكاء عقلك وأذهلني حسن منطقك. فسترت وجهها بكمها كأنها لم ترني ثم قالت: اعذر أيتها المتكلم الأريب فما أوحش الساعة بلا مساعد والمقاساة لصبٍ معاند ثم انصرفت. فوالله أصلح الله الأمير ما أكلت طيباً إلا غصصت به لذكراها ولا رأيت حسناً إلا سمج في عيني لحسنها. قال سليمان: أبا زيد كاد الجهل أن يستفزني والصبا أن يعاودني والحلم أن يعزب عني لحسن ما رأيت وشجو ما سمعت تلك هي الذلفاء التي يقول فيها الشاعر: إنما الذلفاء ياقوتة أخرجت من كيس دهقان شراؤها على أخير ألف ألف درهم. وهي عاشقة لمن باعها والله إني من لا يموت إلا بحزنها ولا يدخل القبر إلا بغصتها وفي الصبر سلوة وفي توقع الموت نهية قم أبا زيد فاكتم المفاوضة. يا غلام ثقله ببدرة. فأخذتها وانصرفت. قال أبو زيد: فلما أفضت الخلافة إلى سليمان صارت الذلفاء إليه فأمر بفسطاط فأخرج على دهناء الغوطة وضرب في روضة خضراء مونقة زهراء ذات حدائق بهجة تحتها أنواع الزهر الغض من بين أصفر فاقع واحمر ساطع وأبيض ناصع فهي كالثوب الحرمي. وحواشي البرد الأتحمي يثير منها مر الرياح نسيما يربى على رائحة العنبر وفتيت المسك الأذفر. وكان له مغن ونديم وسمير يقال له سنان به يأنس وإليه يسكن. فأمر أن يضرب فسطاسه بالقرب منه. وقد كانت الذلفاء خرجت مع سليمان إلى ذلك المنتزه فلم يزل سنان يومه ذلك عند سليمان في أكمل سرور وأتم حبور إلى أن انصرف مع الليل إلى فسطاسه. فنزل به جماعة من إخوانه فقالوا له: قرانا أصلحك الله. قال: وما قراكم قالوا: أكل وشرب وسماع. قال: أما الأكل والشرب فمباحان لكم وأما السماع فقد عرفتم شدة غيرة أمير المؤمنين ونهيه إياي عنه إلا ما كان في مجلسه. قالوا: لا حاجة لنا بطعامك وشرابك إن لم تسمعنا. قال: فاختاروا صوتاً واحداً أغنيكموه. قالوا. غننا صوت كذا. قال: فرفع عقيره يتغنى بهذه الأبيات: محجوبة سمعت صوتي فأرقها من آخر الليل لما طلها السحر تثنى على الخد منها من معصفرة والحلي بادٍ على لباتها خصر في ليلةٍ لا يدري مضاجعها أوجهها عنده أبهى أم القمر لم يحجب الصوت أحراسٌ ولا غلق فدمعها لطروق الصوت منحدر لو خليت لمشت نحوي على قدم تكاد من لينها للمشي تنفطر فسمعت الذلفاء صوت سنان فخرجت إلى وسط الفسطاط تستمع فجعلت لا تسمع شيئا من حسن خلق ولطافة قد إلى الذي وافق المعنى من وقت الليل واستماعها الصوت إلا رأت ذلك كله في نفسها وهيئتها فحرك ذلك ساكناً في قلبها فهملت عيناها وعلا نشيجها. فانتبه سليمان فلم يجدها معه فخرج إلى صحن الفسطاط فرآها على تلك الحال فقال لها: ما هذا يا ذلفاء فقالت: يروعك منه صوته ولعله إلى أمة يعزى معاً وإلى عبد فقال سليمان: دعيني من هذا فوالله لقد خامر قلبك منه ما خامر. يا غلام علي بسنان. فدعت الذلفاء خادما لها فقالت: إن سبقت رسول أمير المؤمنين إلى سنان فحذره ولك عشر آلاف درهم وأنت حر لوجه الله. فخرج الرسول. فسبق رسول سليمان. فلما أتي به قال: يا سنان ألم أنهك عن مثل هذا قال: يا أمير المؤمنين حملني الثمل وأنا عبد أمير المؤمنين وغذي نعمته فإن رأى أمير المؤمنين أن لا يضيع حظه من عبده فليفعل. قال: أما حظي منك فلن أضيعه ولكن ويلك! أما علمت أن الرجل إذا تغنى أصغت المرأة إليه وأن الحصان إذا صهل استودقت له الفرس وأن الجمل إذا هدر ضبعت له الناقة وأن التيس إذا نب استحرمت له الشاة إياك والعود إلى ما كان منك فيطول غمك. قال إسحاق: حدثني أبو السمراء قال: حججت فبدأت بالمدينة فإني لمنصرف من قبر رسول الله ﷺ وإذا امرأة بفناء المسجد تبيع من طرائف المدينة وإذا هي في ناحية وحدها وعليها ثوبان خلقان وإذا هي ترجع بصوت خفي شجي فالتفت فرأيتها. فوقفت فقالت: هل من حاجة قلت: تزيدين في السماع قالت: وأنت قائم لو قعدت. فقعدت كالخجل. فقالت: علمك بالغناء قلت: علم لا أحمده. قالت: فعلام أنفخ بغير نار ما منعك من معرفته فوالله أنه لسحوري وفطوري قلت: وكيف وضعته بهذا الموضع العالي قالت: يا هذا وهل له موضع يوضع به وهو من علوه في السماء الشاهقة فكل هؤلاء النسوة اللاتي أرى على مثل رأيك وفي مثل حالك قالت: فيهن وفيهن ولي بينهن قصة. قلت: وما هي قالت: كنت أيامي شبابي وأنا في مثل هذه الخلقة التي ترى من القبح والدمامة وكنت أشتهي الجماع شهوة شديدة وكان زوجي شاباً وضيئاً وكان لا ينتشر علي حتى أتحفه وأطيبه وأسكره. فأضر ذلك بي وكان قد علقته امرأة قصار تجاورني فزاد ذلك في غمي. فشكوت إلى جارة لي ما أنا فيه وغلبة امرأة القصار على زوجي. فقالت: أدلك على ما ينهضه عليك ويرد قلبه إليك قلت: وابأبي أنت إذاً تكونين أعظم الخلق منةً علي. قالت: اختلفي إلى مجمع مولى الزبير فإنه حسن الغناء فاعلقي من أغانيه أصواتاً عشرة ثم غني بها زوجك فإنه سيجامعك بجوارحه كلها. قالت: فألظظت بمجمع فلم أفارقه حتى رضيني حذاقة ومعرفة. فكنت إذا أقبل زوجي اضطجعت ورفعت عقيرتي ثم تغنيت. فإذا غنيت صوتاً بت على زب وإن غنيت صوتين بت على زبين وإن غنيت ثلاثة فثلاثة. فكنا كندماني جذيمة حقبةً من الدهر حتى قيل لن يتصدعا قال: فضحكت والله حتى أمسكت على بطني وقلت: يا هذه ما أظن الله خلق مثلك. قالت: اخفض من صوتك. قلت: ما كان أعظم منة صاحبة المشورة. قالت: حسبك بها منة وحسبك بي شاكرة. قلت: ففي قلبك من تلك الشهوة شيء . قالت: لذع في الفؤاد وأما تلك الغلمة التي كانت تنسيني الفريضة وتقطعني عن النافلة فقد ذهب تسعة أعشارها. فوقفت عليها وقلت: ألك حاجة أن أرم بعض حالك قالت: لا أنا في فائت من العيش فلما نهضت لأقوم قالت: على رسلك لا تنصرف خائباً ثم ترنمت بصوت تخفيه من جاراتها. ولي كبدٌ مقروحة من يبيعني بها كبداً ليست بذات قروح أبى الناس كل الناس لا يشترونها ومن يشتري ذا علة بصحيح أبو بكر بن جامع عن الحسين بن موسى قال: كتب علي بن الجهم إلى قينة كان يتعشقها: خفي الله فيمن قد تبلت فؤاده وتيمته دهراً كأن به سحرا دعى الهجر لا أسمع به منك إنما سألتك أمراً ليس يعري لكم ظهرا فكتبت إليه: صدقت جعلت فداك. ليس يعرى لنا ظهراً ولكنه يملأ لنا بطناً. وكان أبو بكر الكاتب مفتتناً بقينة محمد بن حماد فاهدى إليها قميصاً فقال فيه بعض الكتاب: أهدى إليها قميصاً ينيكها فيه غيره حدث أبو عبد الله بن عبد البر المدني بمصر قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم عن الهيثم بن عدي قال: كان بالمدينة رجل من بني هاشم وكان له قينتان يقال لإحداهما رشأ وللأخرى جوذر وكان يحب الغناء. وكان بالمدينة مضحك لا يكاد يغيب عن مجالس المتظرفين. فأرسل الهاشمي إليه ذات يوم ليضحك به. فلما أتاه قال: ما الفائدة فيك وفي لذتك ولا لذة لي قال له: وما لذتك قال: تحضر لي نبيذاً فإنه لا يطيب لي عيش إلا به. فأمر الهاشمي بإحضار نبيذ وأمر أن يطرح فيه سكر العشر. فلما شربه المضحك تحركت عليه بطنه وتناوم الهاشمي وغمز جواريه عليه. فلما ضاق عليه الأمر واضطر إلى التبرز قال في نفسه: ما أظن هاتين المغنيتين إلا يمانيتين وأهل اليمن يسمون الكنف المراحيض. فقال لهما: يا حبيبتي أين المرحاض قالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول قالت يقول غنياني: رحضت فؤادي فخليتني أهيم من الحب في كل واد فاندفعتا تغنيانه. فقال في نفسه: ما أراهما فهمتا عني أظنهما مكيتين وأهل مكة يسمونها المخارج. قال: يا حبيبتي أين المخرج قالت إحداهما للأخرى: ما يقول قالت: يقول غنياني: خرجت بها من بطن مكة بعدما أصات المنادي للصلاة فأعلما فاندفعتا تغنيانه. فقال في نفسه: لم يفهما والله عني أظنهما شاميتين وأهل الشام يسمونها المذاهب. فقال لهما: يا حبيبتي أين المذاهب قالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول قال: يقول غنياني: ذهبت من الهجران في غير مذهب ولم يك حقا كل هذا التجنب فغنتاه الصوت. فقال في نفسه: لم يفهما عني وما أظنهما إلا مدنيتين وأهل المدينة يسمونها بيت الخلاء فقال لهما: يا حبيبتي أين بيت الخلاء قالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول قالت: يسأل أن نغني: خلي علي جوى الأشواق إذ ظعنا من بطن مكة والتسهيد والحزنا قال: فغنتاه. فقال: إنا لله وإن إليه راجعون وما أحسب الفاسقتين إلا بصريتين وأهل البصرة يسمونها الحشوش فقال لهما: أين الحش فقالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول قالت يسأل أن نغنيه: أوحش الحشان فالربع منها فمناها فالمنزل المعمور فاندفعتا تغنيانه. فقال: ما أراهما إلا كوفيتين وأهل الكوفة يسمونها الكنف. قال: يا حبيبتي أين الكنيف قالت إحداهما لصاحبتها: يعيش سيدنا هل رأيت أكثر اقتراحاً من هذا تكنفني الهوى طفلا فشيبني وما اكتهلا قال: فغلبه بطنه وعلم أنهما تولعان به والهاشمي يتقطع ضحكاً فقال لهما: كذبتما يا زانيتان ولكني أعلمكما ما هو فرفع ثيابه فسلح عليهما وانتبه الهاشمي: فقال له: سبحان لله! أتسلح على وطائي! قال: والذي خرج من بطني أعز علي من وطائك إن هاتين الزانيتين إنما حسبتا أني أسأل عن الحش للضراط فأعلمتهما ما هو. قولهم في العود قال يزيد بن عبد الملك يوماً وذكر عنده البربط فقال: ليت شعري ما هو فقال له عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أنا أخبرك ما هو محدودب الظهر أرسح البطن له أربعة أوتار إذا حركت لم يسمعها أحد إلا حراك أعطافه وهز رأسه. مر إسحاق بن إبراهيم الموصلي برجل ينحت عودا فقال له: لمن ترهف هذا السيف وقال بعض الكتاب في العود: وناطق بلسان لا ضمير له كأنه فخذ نيطت إلى قدم يبدي ضمير سواه في الكلام كما يبدي ضمير سواه منطق القلم ومن قولنا في هذا المعنى: يا مجلساً أينعت منه أزاهره ينسيك أوله في الحسن آخره لم يدر هل بات فيه ناعماً جذلا أو بات في جنة الفردوس سامره والعود يخفق مثناه ومثلثه والصبح قد غردت فيه عصافره وللحجارة أهزاج إذا نطقت أجابها من طيور البر ناقره كأنما العود فيما بيننا ملك يمشي الهوينى وتتلوه عساكره كأنه إذا تمطى وهي تتبعه كسرى بن هرمز تقفوه أساوره ذاك المصون الذي لو كان مبتذلا ما كان يكسر بيت الشعر كاسره صوت رشيق وضرب لو يراجعه سجع القريض إذا ضلت أساطره لو كان زرياب حياً ثم أسمعه لمات من حسد إذ لا يناظره وقال الحمدوني فيه: وسجعت رجع عودٍ بين أربعة سر الضمائر فيما بينها علن فولدت للندامى بين نغمتها وكفها فرحاً تفصيله حزن فما تلعثم عنها لفظ مزهرها ولا تحير في ألحانها لحن تهدي إلى كل جزء من طبائعها بنانها نغماً أثمارها فتن وترتعي العين منها روض وجنتها طوراً وتسرح في ألفاظها الأذن وقال عكاشة بن الحصين: من كف جارية كأن بنانها من فضة قد طرفت عنابا يا رب صوتٍ يصوغه عصبٌ نيطت بساق من فوقها قدم جوفاء مضمومة أصابعها في ساكنات تحريكها نغم أربعة جزئت لأربعة أجزاؤها بالنفوس تلتحم أصغرها في القلوب أكبرها يبعث منه الشفاء والسقم إذا أرنت بغمز لافظها قلت حمام يجيبهن حم لها لسان بكف ضاربها يعرب عنها وما لهن فم قولهم في المبردين في الغناء قال أبو نواس: قل لزهير إذا شدا وحدا أقلل أو أكثر فأنت مهذار سخنت من شد البرودة حتى صرت عندي كأنك النار لا يعجب السامعون من صفتي كذلك الثلج بارد حار وقال أيضاً: قد نضجنا ونحن في الجيش طرا أنضجتنا كواكب الجوزاء فأصيبوا لنا حسينا ففيه عوض من جليد برد الشتاء لو يغني وفوه ملآن خمراً لم يضره من برد ذاك الغناء وله: كأن أبا المغلس إذ يغني يحاكي عاطساً في عين شمس يميل بشدقه طوراً وطوراً كأن بشدقه ضربان ضرس وقال دعبل: أحسن الأقوام حالاً فيه من كان أصما وقال الحمدوني: بينما نحن سالمون جميعاً إذ أتانا ابن سالم مختالا فتغنى صوتاً فكان خطاء ثم ثنى أيضاً فكان محالا سألنا خلعة على ما تغنى فخلعنا على قفاه النعالا ولعباس الخياط: رأيت يوماً سائباً يضرب فقمت من مجلسنا أهرب لأنه ينبح من عوده عليك من أوتاره أكلب كأنما تسمع في حلقه دجاجة يخنقها ثعلب ما عجبني منه ولكنني من الذي يسمعه أعجب وقال آخر: ومغن يخرى على جلسائه ضرب الله شدقه بغنائه وقال مؤمن في ربيع المغني وكان يتغنى وينقر في الدواة: أغثنا في المصيف إذا تلظى ودعنا في الشتاء وفي الربيع
باب في الرقائق
قد جبل أكثر الناس على سوء الاختيار وقلة التحصيل والنظر مع لؤم الغرائز وضعف الهمم فقل من يختار من الصنائع أرفعها ويطلب من العلوم أنفعها ولذلك كان أثقل الأشياء عليهم وأبغضها إليهم مؤنة التحفظ وأخفها عندهم وأمهلها عليهم إسقاط المروءة. وقيل لبعضهم: ما أحلى الأشياء كلها قال: الارتكاس وقيل لعبد الله ابن جعفر: ما أطيب العيش قال: هتك الحياء واتباع الهوى. وقيل لعمرو بن العاص: ما أطيب العيش قال: ليقم من هنا من الأحداث. قال: فلما قاموا. قال: العيش كله إسقاط المروءة وأي شيء أثقل على النفس من مجاهدة الهوى ومكابدة الشهوة. ومن ذلك كان سوء الاختيار أغلب على طبائع الناس من حسن الاختيار. ألا ترى أن محمد بن يزيد النحوي على علمه باللغة ومعرفته باللسان وضع كتاباً سماه بالروضة وقصد فيه إلى أخبار المحدثين فلم يختر لكل شاعر إلا أبرد ما وجد له حتى انتهى إلى الحسن بن هانئ وقلما يأتي له بيت ضعيف لرقة فطنته وسبوطة بنيته وعذوبة ألفاظه فاستخرج له من البرد أبياتاً ما سمعناها ولا رويناها ولا ندري من اين وقع عليها وهي: تعشقها قلبي فبغض عشقها إلي من الأشياء كل نفيس وأين هذا الاختيار من اختيار عمرو بن بحر الجاحظ حين اجتلب ذكره في كتاب الموالي فقال: ومن الموالي الحسن بن هانئ وهو من أقدر الناس على الشعر وأطبعهم فيه. ومن قوله: فجاء بها صفراء بكراً يزفها إلي عروساً ذات دل معشق فلما جلتها الكأس أبدت لناظري محاسن ليتٍ بالجمان مطوق ومن قوله: ساع بكاس إلى ناس على طرب كلاهما عجب في منظر عجب قامت تريك وشمل الليل مجتمع صبحا تولد بين الماء والعنب كأن صغرى وكبرى من فقاقعها حصباء در على أرض من الذهب وجل أشعاره الخمريات بديعة لا نظير لها فخطر به اكلها وتخطاها إلى التي جانسته في برده فما أحسبه لحقه هذا الاسم أعني المبرد إلا لبرده. وقد تخير لأبي العتاهية أشعاراً تقتل من بردها وشنفها وقرظها بكلامه فقال: ومن شعر أبي العتاهية المستظرف عند الظرفاء المخير عند الخلفاء قوله: يا قرة العين كيف أمسيت أعزز علينا بما تشكيت آه من وجدي وكربي آه من لوعة حبي ما أشد الحب يا سبحانك اللهم ربي ونظير هذا من سوء الاختيار ما تخيره أهل الحذق بالغناء والصانعون للألحان من الشعر القديم والحديث فإنهم تركوا منه الذي هو أرق من الماء وأصفى من رقة الهواء وكل مدني رقيق قد غذي بماء العقيق وغنوا بقول الشاعر: فلا أنسى حياتي ما عبدت الله لي ربا وقلت لها أنيليني فقالت أفرق الدبا ولو تعلم ما بي لم تهب دبًا ولا كلبا وأقل ما كان يجب في هذا الشعر أن يضرب قائله خمسمائة سوط وصانعه أربعمائة والغنى به ثلثمائة والمصغي إليه مائتين. ومثله: كأنما الشمس إذا ما بدت تلك التي قلبي لها يضرب تلك سليمى إذا ما بدت وما أنا في ودها أرغب كأن في النفس لها ساحراً ذاك الذي علمه المذهب يعني بالمذهب الجني. ومثله: خبراني أين حلت مناي يا عباد الله لا تكتماني إنما حلت بواد خصيب ينبت الورس مع الزعفران أحلف بالله لو وجداني غرقا في البحر ما أنقذاني ومثله: أبصرت سلمى من منى يوماً فراجعت الصبا يا درة البحر متى تشهد سوقاً تشتري ومثله: يا معشر الناس هذا أمرٌ وربي شديد لا تعنفى يا فلانه فإنى لا أريد ومثله: أرقت فأمسيت لا أرقد وقد شفنى البيض والخود فصرت لظبي بني هاشم كأني مكتحل أرمد أقلب أمري لدى فكرتي وأهبط طوراً فما أصعد ما أرجى من حبيبٍ ضن عني بالمداد لو بكفيه سحاب ما ارتوت منه بلادي أنا في واد ويمسى هو لي في غير واد ليته إذ لم يجد لي بالهوى رد فؤادي ومثله: ما لسلمى تجنبت ما لها اليوم مالها إن تكن قد تغضبت أصلح الله حالها
باب من رقائق الغناء
قال الزبير بن بكار: سألت إسحاق هل تغني من شعر الراعي شيئاً قال: وأين أنت من قوله: فلم أر مظلوماً على حال عزة أقل انتصاراً باللسان وباليد سوى ناظرٍ ساجٍ بعين مريضة جرت عبرة منها ففاضت بإثمد ومن شعر ابن الدمينة وهو عبيد الله بن عبد الله والدمينة أمه وهو من أرق شعراء المدينة بعد كثير عزة وقيس بن الخطيم: ولم يعتذر عذر البريء ولم تزل له بهتة حتى يقال مريب جرى السيل فاستبكاني السيل إذ جرى وفاضت له من مقلتي غروب وما ذاك إلا أن تيقنت أنه يمر بوادٍ أنت منه قريب يكون أجاجاً قبلكم فإذا انتهى إليكم تلقى طيبكم فيطيب أيا ساكني شرقي دجلة كلكم إلى القلب من أجل الحبيب حبيب ومن قول يزيد بن الطثرية وغنى به ابن صياد المغني وغيره: بنفسي من لو مر برد بنابه على كبدي كانت شفاءً أنامله ومن هابني في كل شيء وهبته فلا هو يعطيني ولا أنا سائله ومما يغنى به قول جرير: أتذكر إذ تودعنا سليمى بعود بشامة سقي البشام بنفسي من تجنبه عزيزٌ علي ومن زيارته لمام ومن أمسى وأصبح لا أراه ويطرقني إذا هجع النيام متى كان الخيام بذي طلوح سقيت الغيث أيتها الخيام وما أوحش الناس في عيني وأقبحهم إذا نظرت فلم أبصرك في الناس ومما يغني به معبد ذي الرمة. وهو من أرق شعر يغنى به قوله: لئن كانت الدنيا علي كما أرى تباريح من ذكراك فالموت أروح وأكثر ما كان يغني معبد بشعر الأحوص ومن جيد ما غنى به له قوله: كأني من تذكر أم حفص وحبل وصالها خلق رمام صريع مدامة غلبت عليه تموت لها المفاصل والعظام سلام الله يا مطرٌ عليها وليس عليك يا مطر السلام فإن يكن النكاح أحل شيئاً فإن نكاحها مطراً حرام ومن شعر المتوكل بن عبد الله بن نهشل وكان كوفيا في عصر معاوية وهو القائل: لا تنه عن خلق وتأتي مثله قفي قبل التفرق يا أماما وردي قبل بينكم السلاما ترجيها وقد شطت نواها ومنتك المنى عاماً فعاما فلا وأبيك لا أنساك حتى تجاوب هامتي في القبر هاما ولقد أصبت من المعيشة لذةً ولقيت من شظف الخطوب شدادها وعلمت حتى ما أسائل عالماً عن حرف واحدة لكي أزدادها