الرئيسيةبحث

العقد الفريد/الجزء الخامس/7

قال: ماأعرفه فقال له بعض جلسائه: هو صاحب الدير يا أمير المؤمنين. قال: وما قصة الدير قال: قيل لأبي الطمحان: ما أيسر ذنوبك قال: ليلة الدير. قيل له: وما ليلة الدير قال: نزلت ذات ليلة بدير نصرانية فأكلت عندها طفيشلاً بلحم خنزير. وشربت من خمره وزنيت بها وسرقت كساءها ومضيت. فضحك يزيد وأمر له بألفي درهم وقال: لا يدخل علينا. فأخذها أبو الطمحان وانسل بها أبو جعفر البغدادي قال: حدثني عبد الله بن محمد كاتب بغا عن أبي عكرمة قال: خرجت يوماً إلى المسجد الجامع ومعي قرطاسا لأكتب فيه بعض ما أستفيده من العلماء. فممرت بباب أبي عيسى بن المتوكل فإذا ببابه المسدود وكان من أحذق الناس بالغناء فقال: أين تريد يا أبا عكرمة قلت: إلى المسجد الجامع لعلي أستفيد في حكمة أكتبها. فقال: ادخل بنا على أبي عيسى. قال: فقلت: مثل أبي عيسى في قدره وجلالته يدخل عليه بغير إذن! قال: فقال للحاجب: أعلم الأمير بمكان أبي عكرمة. قال: فما لبث إلا ساعةً حتى خرج الغلمان فحملوني حملاً. فدخلت إلى دارٍ لا والله ما رأيت أحسن منها بناء ولا أطرف فرشاً ولا صباحة وجوه. فحين دخلنا نظرت إلى أبي عيسى. فلما أبصرني قال لي: يا بغيض متى تحتشم اجلس فجلست. فقال: ما هذا القرطاس بيدك قلت: يا سيدي حملته لأستفيد فيه شيئاً وأرجو أن أدرك حاجتي في هذا المجلس فمكثنا حيناً ثم أتينا بطعام ما رأيت أكثر منه ولا أحسن فأكلنا. وحانت مني التفاتة فإذا أنا بزنين ودبيس وهما من أحذق الناس بالغناء قال: فقلت: هذا مجلس قد جمع الله فيه كل شيء مليح. قال: ورفع الطعام وجيء بالشراب وقامت جارية تسقينا شراباً ما رأيت أحسن منه في كأس لا أقدر على وصفها. فقلت: أعزك الله. ما أشبه هذا بقول إبرهيم بن المهدي يصف جارية بيدها خمر: حسناء تحمل حسناوين في يدها صاف من الراح في صافي القوارير وقد جلس المسدود وزنين ودبيس. ولم يكن في ذلك الزمان أحذق من هؤلاء الثلاثة بالغناء فابتدأ المسدود فغنى: لما استقل بأرداف تجاذبه وأخضر فوق نظام الدر شاربه وتم في الحسن والتأمت محاسنه ومازجت بدعا فيها غرائبه وأشرق الورد في نسرين وجنته واهتز أعلاه وارتجت حقائبه كلمته بجفون غير ناطقة فكان من رده ما قال حاجبه ثم سكت فغنى زنين: الحب حلو أمرته عواقبه وصاحب الحب صب القلب ذائبه استودع الله من بالطرف ودعني يوم الفراق ودمع العين ساكبه ثم انصرف وداعي الشوق يهتف بي ارفق بقلبك قد عزت مطالبه ثم سكت وغنى دبيس: وعاتبته دهراً فلما رأيته إذا ازداد ذلاً جانبي عز جانبه بدر في الإنس حفته كواكبه قد لاح عارضه واخضر شاربه إن يعد الوعد يوماً فهو مخلفه أو ينطق القول يوماً فهو كاذبه عاطيته كدم الأوداج صافية فقام يشدو وقد مالت جوانبه قال أبو عكرمة: فعجبت أنهم غنوا بلحن واحد وقافية واحدة. قال أبو عيسى: يعجبك من هذا شيء يا أبا عكرمة فقلت: يا سيدي المنى دون هذا. ثم إن القوم غنوا على هذا إلى انقضاء المجلس إذا ابتدأ المسدود بشيء تبعه الرجلان بمثل ما غنى. فكان مما غنى المسدود: يا دير حنة من ذات الأكيراح من يصح عنك فإني لست بالصاحي يعتاده كل محفو مفارقه من الدهان عليها سحق أمساح ما يدلفون إلى ماء بآنيةٍ إلا اغترافاً من الغدران بالراح ثم سكت فغنى زنين: دع البساتين من آسٍ وتفاح واعدل هديت إلى ذات الأكيراح واعدل إلى فتية ذابت لحومهم من العبادة إلا نضو أشباح وخمرة عتقت في دنها حقباً كأنها دمعة من جفن سياح كأساً إذا انحدرت في حلق شاربها أغناك لألالؤها عن كل مصباح ما زلت أسقي نديمي ثم ألثمه والليل ملتحفٌ في ثوب سياح فقام يشدو وقد مالت سوالفه يا دير حنة من ذات الأكيراح ثم ابتدأ المسدود فغنى: باحورار العين والدعج وابيضاض الثغر والفلج وبتفاح الخدود وما ضم من مسك ومن أرج كن رقيق القلب إنك من قتل من يهواك في حرج ثم سكت وغنى زنين: كسروي التيه معتدل هاشمي الدل والغنج وله صدغان قد عطفا ببياض الخد كالسبج وإذا ما افتر مبتسما أطلق الأسرى من المهج ما لما بي منك من فرج لا ابتلاني الله بالفرج ثم سكت وغنى دبيس: مر بي في زي خنث بين ذات الضال من أمج قلت قلبي قد فتكت به قال ما في الدين من حرج ثم سكت وغنى المسدود: ما يبالي اليوم من صنعا من بقلبي يبدع البدعا كنت ذا نسك وذا ورع فتركت النسك والورعا كم زجرت القلب عنك فلم يصغ لي يوماً ولا نزعا لا تدعني للهوى غرضاً إن ورد الموت قد شرعا ثم سكت وغنى دبيس: اسقني كأساً مصردة إن نجم الليل قد طلعا قد شربت الحب شرب فتىً لم يدع في كأسه جرعا ثم ابتدأ أيضاً دبيس فغنى: يقولون في البستان للعين لذةٌ وفي الخمر والماء الذي غير آسن إذا شئت أن تلقى المحاسن كلها ففي وجه من تهوى جميع المحاسن فابتدأ المسدود فغنى: أدعوك من قلبي إذا لم أرك يا غاية الطرف إذا أبصرك قضى لك الله فسبحان من أحلك القلب ومن قدرك لست بناسيك على حالةٍ يا ليت ما تذكرني أذكرك صيرني الله على ما أرى منك من الهجر كما صيرك قال: فقال زنين: وأنا فلا بد أن أسلك سبيلكما. قال أبو عكرمة: ثم التفت إلي فقال: ما ترى فقلت: أحسنت والله. فابتدأ يغني: يا هائم القلب عاص من عذلك ما نلت ممن هويته أملك دعاك داعي الهوى بخدعته حتى إذا ما أجبته خذلك فاحتل لداء الهوى وسطوته إنك إن لم تداوه قتلك ثم ابتدأ المسدود يغني: شققت جيبي عليك شقاً وما لجيبي أردت شقا أردت قلبي فصادفته يداي بالجيب قد توقى قد ذبت شوقاً ومت عشقاً يا زفرات المحب رفقا ثكلت نفسي وزرت رمسي إن كنت للهجر مستحقا ثم سكت وغنى دبيس: ظمئت شوقاً وبحر عشقي يفيض عذاباً ولست أسقى أنا الذي صرت من غرامي على فراش السقام ملقى فمن زفير ومن شهيق ومن دموع تجود سبقا ثم ابتدأ المسدود فغنى: ماذا على نجل العيون لو أنهم أوموا إليك فسلموا أو عرجوا أمنوا مقاساة الهموم وأيقنوا أن المحب إلى الأحبة يدلج ثم سكت وغنى دبيس: هيا فقد بدأ الصباح الأبلج قد ضم مشبهة الغزال الهودج بانوا ولم أقض اللبانة منهم وكذا الكريم إذا تصابى يلهج ثم سكت وغنى زنين: أنضجت قلبي ولو أن الورى لقيت قلوبهم منك ما لاقيت ما لهجوا ثم سكت وابتدأ المسدود فغنى: يا صاحب المقل المراضٍ انظر إلي بعين راض إن تجفني متعمداً لتذيقني جرع الحياض فلطالما أمكنتني منك المراشف عن تراض ثم سكت وغنى زنين: هائم مدنف من الإعراض لا سبيل له إلى الإغماض موثق النوم مطلق الدمع ما يع رف ملجاً من الحتوف القواضي ما برى جسمه سوى لحظاتٍ أمرضته من العيون المراض ثم سكت وغنى دبيس: كن ساخطاً واظهر بأنك راضي لا تبدين تكره الإعراض وانظر إلي بمقلة غضبانةٍ إن كنت لم تنظر بمقلة راض وارحم جفوناً ما تجف من البكا في ليلةٍ مسلوبة الإغماض يا ذا الذي حال عن العهد ومن براني منه بالصد بسمرة الخال وما قد حوى من حمرةٍ في سالف الخد ألا تعطف على عاشقٍ منفرد بالبث والوجد ثم سكت وغنى زنين: أظل بكتمان الهوى وكأنما ألاقي الذي لاقاه غيري من الوجد فلا الدمع أطفى حرقة البين والبكا ولا أنا بالشكوى أنفس من جهدي ثم سكت وغنى دبيس: تهزأت بي لما خلوت من الوجد ولم ترث لي لا كان عندك ما عندي وعبت علي الشوق والوجد والبكا وأنت الذي أجريت دمعي على خدي صددت بلا جرم إليك أتيته أكان عجيباً لو صددت عن الصد ألا إنني عبدٌ لطرفك خاضع وطرفك مولىً لا يرق على عبد ثم غنى المسدود: أقمت ببلدةٍ ورحلت عنها كلانا عند صاحبه غريب خليلي ما للعاشقين قلوب ولا للعيون الناظرات ذنوب فيا معشر العشاق ما أوجع الهوى إذا كان لا يلقى المحب حبيب ثم سكت وغنى دبيس: ذلت لوجهك أعين وقلوب بين المخافة والرجاء تذوب يا واحد الحسن الذي لحظاته تدعو النفوس إلى الهوى فتجيب من وجهه القمر المنير وقده غصن نضيرٌ مشرق وكثيب ألناظريك على العيون رقيب أم هل لطرفك في القلوب نصيب ثم ابتدأ المسدود فغنى: قلق لم يزل وصبر يزول ورضى لم يطل وسخط يطول لم تسل دمعتي علي من الرح مة حتى رأيت نفسي تسيل جال في جسمي السقام فجسمي مدنف ليس فيه روح تجول ينقضي للقتيل حول فينسى وأنا فيك كل يوم قتيل ثم سكت وغنى زنين: ثم سكت وغنى دبيس: ليس إلى تركك من حيلة ولا إلى الصبر لقلبي سبيل فكيفما شئت فكن سيدي فإن وجدي بك وجدٌ طويل إن كنت أزمعت على هجرنا فحسبنا الله ونعم الوكيل قال أبو عكرمة: فأقبل أبو عيسى على المسدود فقال له: عن صوتاً. فغنى: ما حيلتي وفؤادي هائمٌ أبداً بعقرب الصدغ من مولاي ملسوع لا والذي تلفت نفسي بفرقته فالقلب من حرق الهجران مصدوع ما أرق العين إلا حب مبتدع ثوب الجمال على خديه مخلوع قال أبو عكرمة: فوالله الذي لا إله إلا هو لقد حضرت من المجالس ما لا أحصي ما رأيت مثل ذلك اليوم. ثم إن أبا عيسى أمر لكل واحد بجائزة وانصرفنا ولولا أن أبا عيسى قطعهم ما انقطعوا. من سمع صوتاً فوافقه معناه واستخفه الطرب حكى إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن أبيه قال: دخلت على هارون الرشيد فلما رأيته قد أخذ في حديث الجواري وغلبتهن على الرجال غنيته بأبياته التي يقول فيها: ملك الثلاث الآنسات عناني وحللن من قلبي بكل مكان مالي تطاوعني البرية كلها وأطيعهن وهن في عصياني ما ذاك إلا أن سلطان الهوى وبه قوين أعز من سلطاني فارتاح وطرب وأمر لي بعشرة آلاف درهم. وغنى إبراهيم الموصلي محمد بن زبيدة الأمين بقول الحسن بن هانئ فيه: رشأ لولا محاسنه خلت الدنيا من الفتن كل يوم يسترق له حسنه عبداً بلا ثمن يا أمين الله عش أبداً دم على الأيام والزمن أنت تبقى والفناء لنا فإذا أفنيتنا فكن سن للناس القرى فقروا فكأن البخل لم يكن قال: فاستخفه الطرب حتى قام من مجلسه وأكب على إبراهيم يقبل رأسه. فقام إبراهيم من مجلسه يقبل أسفل رجليه وما وطئتا من البساط. فأمر له بثلاثة آلاف درهم. فقال إبراهيم: يا سيدي قد أجزيتني إلى هذه الغاية بعشرين ألف ألف درهم. فقال الأمين: وهل ذلك إلا خراج بعض الكور! الرياشي عن الأصمعي قال: قدم جرير المدينة فأتاه الشعراء وغيرهم وأتاه أشعب فيهم. فسلموا عليه وحادثوه ساعةً وخرجوا وبقي أشعب. فقال له جرير: أراك قبيحاً وأراك لئيم الحسب ففيم قعودك وقد خرج الناس فقال له: أصلحك الله إنه لم يدخل عليك اليوم أحدٌ أنفع لك مني قال: وكيف ذلك قال: لأني آخذ رقيق شعرك فأزينه بحسن صوتي. فقال له جرير: فقل. فاندفع يغنيه: يا أخت ناجية السلام عليكم قبل الرحيل وقبل لوم العذل لو كنت أعلم أن آخر عهدكم يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل قال: فاستخف جريراً الطرب لغنائه بشعره حتى زحف إليه واعتنقه وقبل بين عينيه وسأله عن حوائجه فقضاها له. الزبير بن بكار قال: كان المسور بن مخرمة ذا مال كثير فأسرع فيه على إخوانه فذهب. فسأل امرأته وكانت موسرة فمنعته وبخلت عليه. فخرج يريد بعض خلفاء بني أمية منتجعاً. فلما كان ببعض الطريق نزل ماءً يقال له بلاكث. فقال له غلامه: كيف يقال لهذا الماء قال: يقال له بلاكث. فقال: بينما نحن من بلاكث بالقا ع سراعاً والعيس تهوي هويا خطرت خطرة على القلب من ذك راك وهنا فما استطعت مضيا قلت لبيك إذ دعاني لك الشو ق وللحاديين كرا المطيا فقال: هن بدن إن لم تكرها رواجع. قال له: قد أشرفن على أمير المؤمنين. قال: هن بدن إن لم تكرها رواجع. فانصرف ودخل المصلى ليلاً. فوجد رجال قريش حلقا يتحدثون فقالوا له: زاد خير. فقال: زاد خير. حتى انتهى إلى داره. فقالت له امرأته: زاد خير. فأنشدها الأبيات. قالت: كل ما أملك في سبيل الله إن لم أشاطرك مالي. فشاطرته مالها. وروى أبو العباس قال: حدثت أن عمر الوادي قال: أقبلت من مكة أريد المدينة فجعلت أسير في صمد من الأرض فسمعت غناء من الهواء لم أسمع مثله فقلت: والله لأتوصلن إليه. فإذا هو عبد أسود. فقلت له: أعد ما سمعت فقال: والله لو كان عندي قرى أقريكه ما فعلت ولكن أجعله قراك. فإني والله ربما غنيت بهذا الصوت وأنا جائع فأشبع وربما غنيته وأنا وكنت متى ما زرت سعدى بأرضها أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها من الخفرات البيض ود جليسها إذ ما انقضت أحدوثةٌ لو تعيدها قال عمر: فحفظته منه. ثم تغنيت به على الحالات التي وصف فإذا هو كما ذكره. وتحدث الزبيريون عن خالد صامة بأنه كان من أحسن الناس ضرباً بعود قال: قدمت على الوليد بن يزيد في مجلس ناهيك به مجلساً فألفيته على سريره وبين يديه معبد ومالك بن أبي السمح وابن عائشة وأبو كامل غزيل الدمشقي فجعلوا يغنون حتى بلغت النوبة إلي. فغنيته: سرى همي وهم المرء يسري وغاب النجم إلا قيد فتر لهم ما أزال له قرينا كأن القلب أودع حر جمر على بكر أخي فارقت بكراً وأي العيش يصلح بعد بكر فقال: أعد يا صامة. ففعلت. فقال لي: من يقول هذا الشعر قلت: يقوله عروة بن أذينة يرثي أخاه بكراً. قال الوليد: وأي عيش يصلح بعد بكر. والله لقد حجر واسعاً. هذا والله العيش الذي نحن فيه يصلح على رغم أنفه. وقد قيل إن سكينة بنت الحسين غنيت بهذا الشعر فقالت: ومن بكر هذا فوصف لها. فقالت: هو ذاك الأسيد الذي كان يأتينا لقد طاب كل شيء بعده حتى الخبز والزيت. وعن عبد الصمد بن المعذل قال: سمعت إسحاق الموصلي يتحدث قال: حججت مع الرشيد فلما نزلت المدينة آخيت بها رجلاً كانت له مروءة ومعرفة وأدب وكان يغني. فإني ذات ليلة في منزلي إذا أنا بصوته يستأذن علي وظننت أمراً قد حدث ففزع فيه إلي. فأسرعت نحو الباب فقلت: ما جاء بك قال: دعاني صديق إلى طعام عتيد ومجلس شراب قد التقى طرفاه وشواء رشراش وحديث ممتع وغناء مشبع فأجبته وأقمت معه إلى هذا الوقت فأخذت مني حميا الكأس مأخذها ثم غنيت بقول نصيب: بزينب ألم قبل أن يرحل الركب وقل إن تملينا فما ملك القلب فكدت أطير طرباً. ثم وجدت في الطرب تنغيصاً إذ لم يكن معي من يفهم هذا كما فهمته. ففزعت إليك لأصف لك هذه الحال ثم أرجع إلى صاحبي. وضرب بغلته موليا. فقلت: قف أكلمك. فقال: ما بي إلى الوقوف إليك من حاجة. وحدث أن معاوية بن أبي سفيان استمع على يزيد ذات ليلة فسمع عنده غناء أعجبه فلما أصبح قال له: من كان ملهيك البارحة قال: سائب خائر قال: فأكثر له العطاء. وكان ابن أبي عتيق من نبلاء قريش وظرفائهم. فمن ظريف أخباره أن عثمان بن حيان المري لما دخل المدينة والياً عليها اجتمع إليه الأشراف من قريش والأنصار فقالوا له: إنك لا تعمل عملاً أحرى ولا أولى من تحريم الغناء والزنا. ففعل وأجلهم ثلاثاً. فقدم ابن أبي عتيق في الليلة الثالثة وكان غائباً. فحط رحله بباب سلامة الزرقاء وقال لها: بدأت بك قبل أن أصير إلى منزلي. قالت: أو ما تدري ما حدث بعدك وأخبرته الخبر. فقال: أقيمي إلى السحر حتى ألقاه. فلقيه فأخبره أنه إنما أقدمه حب التسليم عليه وقال له: إن أفضل ما عملت تحريم الغناء والزنا. فقال: إن أهلك أشاروا علي بذلك. فقال: إنهم وفقوا ووفقت ولكني رسول امرأة إليك تقول: قد كانت هذه صناعتي فتبت إلى الله منها. وأنا أسألك أيها الأمير ألا تحول بينها وبين مجاورة قبر النبي ﷺ. فقال عثمان: إذا أدعها فقال: إذا لا يدعك الناس ولكن تدعو بها فتنظر إليها فإن كان يجوز تركها تركتها. قال: فادع بها. فأمر بها ابن أبي عتيق. فتنقبت وأخذت سبحة في يدها وصارت إليه فحدثته عن مآثر آبائه ففكه بها. فقال ابن أبي عتيق: أريد أن أسمع الأمير قراءتها. ففعلت فحركه حداؤها. ثم قال له ابن أبي عتيق: فكيف لو سمعتها في صناعتها التي تركتها. فقال له: قل لها فلتغن. فغنت: سددن خصاص البيت لما دخلنه بكل بنان واضح وجبين فنزل عثمان عن سريره ثم جلس بين يديها وقال: لا والله ما مثلك يخرج عن المدينة. فقال ابن أبي عتيق: يقول الناس أذن لسلامة ومنع غيرها. فقال له: قد أذنت لهم جميعاً. وذكر لابن أبي عتيق أن المخنثين خصوا. وأنه خصي فلان فيهم لواحد منهم كان يعرفه. فقال ابن أبي عتيق: إنا لله! لئن خصي لقد كان يحسن: لمن ربع بذات الجي ش أمسى دارساً خلقا ثم استقبل ابن أبي عتيق القبلة فلما كبر وسلم ثم قال لأصحابه: أما إنه كان يحسن خفيفه فأما ثقيله فلا والله ثم كبر. وكان سليمان بن عبد الملك مفرط الغيرة فسمع مغنيا في عسكره فقال: اطلبوه فجاءوا به. فقال له: أعد ما تغنيت به. فأعاد واحتفل. فقال: لأصحابه: والله لكأنها جرجرة الفحل في الشول وما أحسب أنثى تسمع هذا إلا صبت إليه. ثم أمر به فخصي. وقال أبو العباس محمد بن يزيد النحوي: روي لنا أن رجلاً من الصالحين كان عند إبراهيم بن هشام فأنشده إبراهيم قول الشاعر: إذ أنت فينا لمن ينهاك عاصية وإذ أجر إليكم سادراً رسني فقام الرجل فرمى بشق ردائه وأقبل يسحبه حتى خرج من المجلس ثم رجع إلى موضعه فجلس. فقال له إبراهيم: ما بالك قال: إني كنت سمعت هذا الشعر فاستحسنته فآليت ألا أسمعه إلا جررت ردائي كما جر هذا الرجل رسنه. إني أتيت إليك من أهلي في حاجة يسعى لها مثلي لا أبتغي شيئاً لديك سوى حي الحمول بجانب الرمل قال له: انزل فك ما طلبت مر دحمان المغني بقوم وعليه رداء عدني يثربي. فقالوا له: بكم أخذت الرداء فقال: ما ضر جيراننا إذا انتجعوا وحدث أبو العباس أحمد بن بكر ببغداد قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: كان يقال قديماً: إذا قسا عليك قلب القرشي من تهامة فغنه بشعر عمر بن أبي ربيعة وغناء ابن سريج. وكذا فعل أشعب برجل من أهل مكة من بني هاشم وكان أشعب قد انتجع أهل مكة من المدينة. قال أشعب: فلما دخلت عليه غنيته بغناء أهل المدينة وأهل العقيق. فلم ينجع ذلك فيه ولم يحرك من طيبه ولا أريحيته. فلما عيل صبري غنيته بغناء ابن سريج المكي وقول ابن أبي ربيعة القرشي: نظرت إليها بالمحصب من منى ولي نظر لولا التحرج عارم فقلت أشمسٌ أم مصابيح راهب بدت لك تحت السجف أم أنت هائم بعيدة مهوى القرط إما لنوفلً أبوها وإما عبد شمس وهاشم ولولا أن تقول لنا قريش مقال الناصح الأدنى الشفيق لقلت إذا التقينا قبليني وإن كنا بقارعة الطريق فقال: أحسن والله. هكذا يطيب التلقي لا بالخوف والتوقي. قال: فلما رأيته قد طرب للصوتين ولم يند لي بشيء. قلت: هو الثالث وإلا فعليه السلام. قال: فغنيته الثالث من غناء ابن سريج وقول عمر بن أبي ربيعة ويقال إنها لجميل: ما زلت أمتحن الدساكر دونها حتى ولجت على خفي المولج فوضعت كفي عند مقطع خصرها فتنفست نفساً ولم تتلهج قالت وحق أخي وحرمة والدي لأنبهن الحي إن لم تخرج فخرجت خيفة قولها فتبسمت فعلمت أن يمينها لن تحرج فرشفت فاها آخذاً بقرونها رشف النزيف ببرد ماء الحشرج فصاح الهاشمي: أواه! أحسبن والله وأحسنت! وأمر لي بألف درهم وثلاثين حلة وخلعة كانت عليه. وغنى ابن سريج رجلاً من بني هاشم بقول جرير: بعثن الهوى ثم آرتمين قلوبنا بأسهم أعداء وهن صديق قال: فخطب من ثوبه ذراعاً وقال: هذا والله العقيان في نحور القيان. قال: وصحب شيخٌ من أهل المدينة شاباً في سفينة ومعهم جارية تغني فقال له: إن معنا جارية تغني ونحن نجلك فإذا أذنت لنا فعلنا قال: فأنا أعتزل وافعلوا ما شئتم. فتنحى وغنت الجارية: حتى إذا الصبح بدا ضؤوه وغابت الجوزاء والمرزم أقبلت والوطء خفي كما ينساب من مكمنه الأرقم فرمى الناسك بنفسه في الفرات وجعل يخبط بيديه طربا ويقول: أنا الأرقم. فأخرجوه وقالوا: ما صنعت بنفسك فقال: والله إني أعلم من تأويله ما لا تعلمون. وقال أحمد بن جعفر: حضر قاضي مكة مأدبةً لرجل من الأشراف. فلما انقضى الطعام اندفعت جاريةً تغني: إلى خالد حتى أنخنا بخالد فنعم الفتى يرجى ونعم المؤمل فلم يدر القاضي ما يصنع من الطرب حتى أخذ نعليه فعلقهما في أذنيه ثم جثى على ركبتيه قال: اهدوني فإني بدنة. كان رجل من الهاشميين يحب السماع فبعث إلى رجل من المغنين فاقترح عليه صوتاً كان كلفاً به فغناه إياه. فطرب الهاشمي وشق ثوبا كان عليه ثم قال للمغني: افعل بنفسك مثل ما فعلت بنفسي: قال: أصلحك الله إنك تجد خلفا من ثوبك وإني لا أجد خلفاً من ثوبي. قال: أنا أخلف لك. قال: فافعل ونفعل. قال: أخرجتنا من حد الطيب إلى حد السوم. من قرع قلبه صوت فمات منه أو أشرف حدث أبو القاسم إسماعيل بن عبد الله المأمون في طريق الحج من العراق إلى مكة قال: حدثني أبي قال: كانت بالمدينة قينة من أحسن الناس وجهاً وأكملهم عقلاً وأفضلهم أدباً قرأت القرآن وروت الأشعار وتعلمت العربية فوقعت عند يزيد بن عبد الملك فأخذت بمجامع قلبه فقال لها ذات يوم: ويحك! أما لك فرابةٌ أو أحد يحسن أن أصطنعه أو أسدي إليه معروفاً قالت: يا أمير المؤمنين أما قرابة فلا ولكن بالمدينة ثلاثة نفر كانوا أصدقاء لمولاتي كنت أحب أن ينالهم شيء مما صرت إليه. فكتب إلى عامله بالمدينة في إشخاصهم وأن يعطى كل رجل منهم عشرة آلاف درهم وأن يعجل بسراحهم إليه. ففعل عامل المدينة ذلك. فلما وصلوا إلى باب يزيد استؤذن لهم فأذن لهم وأكرمهم وسألهم حوائجهم. فأما الإثنان فذكرا حوائجهما فقضاها لهما. وأما الثالث فسأله عن حاجته فقال: يا أمير المؤمنين ولكن حاجتي لا أحسبك تقضيها. قال: ويحك فسلني فإنك لا تسألني حاجة أقدر عليها إلا قضيتها. قال: ولي الأمان يا أمير المؤمنين قال: نعم وكرامة. قال: إن رأيت أن تأمر جاريتك فلانة التي أكرمتنا لها أن تغنيني ثلاثة أصوات أشرب عليها ثلاثة أرطال فافعل. قال: فتغير وجه يزيد وقام من مجلسه فدخل على الجارية فأعلمها. قالت: وما عليك يا أمير المؤمنين افعل ذلك. فلما كان من الغد أمر بالفتى فأحضر وأمر بثلاثة كراسي من ذهب فألقيت. فقعد يزيد على أحدها وقعدت الجارية على الآخر وقعد الفتى على الثالث ثم دعا بطعام فتغدوا جميعاً ثم دعا بصنوف الرياحين والطيب فوضعت ثم أمر بثلاثة أرطال فملئت. ثم قال للفتى: قل ما بدا لك وسل حاجتك. قال: تأمرها تغني: لا أستطيع سلوًا عن مودتها أو يصنع الحب بي فوق الذي صنعا أدعو إلى هجرها قلبي فيسعدني حتى إذا قلت هذا صادق نزعا فأمر فغنت. فشرب يزيد وشرب الفتى ثم شربت الجارية. ثم أمر بالأرطال فملئت ثم قال للفتى: سل حاجتكن قال: تأمرها تغني: تخيرت من نعمان عود أراكة لهند ولكن من يبلغه هندا ألا عرجا بي بارك الله فيكما وإن لم تكن هند لأرضكما قصدا قال: فغنت بهما وشرب يزيد ثم الفتى ثم الجارية. ثم أمر بالأرطال فملئت ثم قال للفتى: سل حاجتك. قال: يا أمير المؤمنين مرها تغني: منا الوصال ومنكم الهجر حتى يفرق بيننا الدهر قال: فلم تأت على آخر الأبيات حتى خر الفتى مغشياً عليه. فقال: يزيد للجارية: انظري ما حاله. فقامت إليه فحركته فإذا هو ميت. فقال لها: ابكيه. قال: لا أبكيه يا أمير المؤمنين وأنت حي. قال لها: ابكيه فوالله لو عاش ما انصرف إلا بك. فبكته وأمر بالفتى فأحسن جهازه ودفنه. قال: وحدث أبو يوسف بالمدينة قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي عن أبيه أن عبد الله بن جعفر وفد على عبد الملك بن مروان فأقام عنده حيناً فبينا هو ذات ليلة في سمره إذ تذاكروا الغناء. فقال عبد الملك: قبح الله الغناء ما أوضعه للمروءة وأجرحه للعرض وأهدمه للشرف وأذهبه للبهاء. وعبد الله ساكت وإنما عرض لعبد الله وأعانه عليه من حضر من أصحابه. فقال عبد الملك: ما لك أبا جعفر لا تتكلم قال: ما أقول ولحمي يتمزع وعرضي يتمزق. قال: أما إني نبئت أنك تغني قال: أجل يا أمير المؤمنين. قال: أفٍ لك وتف. قال: لا أف ولا تف فقد تأتي أنت بما هو أعظم من ذلك. قال: وما هو قال: يأتيك الأعرابي الجافي الزور ويقذف المحصنات فتأمر لها بألف دينار وأشتري أنا الجارية الحسناء من مالي فأختار لها من الشعر أجوده ومن الكلام أحسنه ثم تردده علي بصوت حسن فهل بذلك بأس قال: لا بأس ولكن أخبرني عن هذه الأغاني ما تصنع قال: نعم اشتريت جارية باثني عشر ألف درهم مطبوعة فكان بديح وطويس يأتيانها فيطرحان عليها أغانيهما فعلقت منهما حتى غلبت عليهما فوصفت ليزيد بن معاوية فكتب إلي: إما أهديتها إلي وإما بعتها بحكمك. فكتبت إليه: إنها لا تخرج عن ملكي ببيع ولا هبة فبذل لي فيها ما كنت أحسب أن نفسه لا تسخو به فأبيت عليه. فبينا هي عندي على تلك الحال إذ ذكرت لي عجوز من عجائزنا أن فتى من أهل المدينة يسمع غناءها فعلقها وشغف بها وأنه يجيء في كل ليلة مستتراً يقف بالباب حتى يسمع غناءها ثم ينصرف. فراعيت مجيئه فإذا الفتى قد أقبل مقنع الرأس فأشرفت عليه وقد قعد مستخفيا. فلم أدع بها تلك الليلة وجعلت أتامل موضعه. فبات مكانه الذي هو فيه. فلما انشق الفجر اطلعت عليه فإذا هو في موضعه فدعوت قيمة الجواري فقلت لها: انطلقي الساعة فزينين هذه الجارية واعجلي بها إلي فلما جاءت بها نزلت وفتحت الباب وحركته. فانتبه مذعوراً فقلت له: لا بأس عليك خذ هذه الجارية فهي لك وإن هممت ببيعها فردها إلي. فدهش وأخذه الخبل ولبط به. فدنوت من أذنه فقلت: ويحك! قد أظفرك الله ببغيتك فقم فانطلق بها إلى منزلك. فإذا الفتى قد فارق الدنيا. فلم أر شيئاً قط أعجب منه. قال عبد الملك: وأنا ما سمعت شيئاً قط أعجب من هذا ولولا أنك عاينته ما صدقت به فما صنعت بالجارية قال: تركتها عندي وكنت إذا ذكرت الفتى لم أجد لها مكاناً من قلبي وكرهت أن أوجه بها إلى يزيد فيبلغه حالها فيحقد علي فما زالت تلك حالها حتى ماتت. ووقف رجل يقال له طريفة على أيوب المغني فقال: إني قصدت إليك من أهلي في حاجة يسعى لها مثلي لا أبتغي شيئاً لديك سوى حي الحمول بجانب الرمل فقال له انزل فلك ما طلبت. فنزل. فأخرج عوده ثم غناه بقول آمرىء القيس: حي الحمول بجانب العزل إذ لا يلائم شكلها شكلي فلبط بطريفة فإذا هو في الأرض منجدل. فلما أفاق قام يمسح التراب عن وجهه. فقيل له: ويحك! ما كانت قصتك قال: ارتفع والله من رجلي شيء حار وهبط من رأسي شيء بارد فالتقيا وتصادما فوقعت بينهما لا أدري ما كانت حالي. أخبار عنان وغيرها من القيان حدثت محمد بن زكريا الغلابي بالبصرة: قال: حدثنا إبراهيم بن عمر قال: كان هارون الرشيد قد استعرض عنان جارية الناطفي ليشتريها وقال لها: أنا والله أحبك. ثم أمسك عن شرائها.