الرئيسيةبحث

العقد الفريد/الجزء الخامس/22

حديث صاحبة الزب قال إسحاق: حدثني أبو السمراء قال: حججت فبدأت بالمدينة فإني لمنصرف من قبر رسول الله ﷺ إذا امرأة بفناء المسجد تبيع من طرائف المدينة وإذا هي في ناحية وحدها قد قام عنها من كان يجلس إليها وإذا هي ترجع بصوت خفي شجي فالتفت فرأيتها فقالت: هل من حاجة قلت: تزيدين في السماع. قالت: وأنت قائم لو قعدت! فقعدت كالخجل فقالت: كيف علمك بالغناء قلت: علم لا أحمده. قالت: فعلام أنفخ بلا نار وما منعك من معرفته فوالله إنه لسحوري وفطوري. قلت: وكيف وضعته بهذا الموضع العالي قالت: يا عير وله موضع يوضع به وهو من علوه في السماء الشاهقة قلت: وكل هؤلاء النسوة التي أرى على مثل رأيك وفي مثل حالك قالت: فيهن وفيهن ولي من بينهن قصة. قلت: وما هي قالت: كنت أيام شبابي وأنا في مثل هذه الخلقة التي من القبح والدمامة والأدمة وكنت أشتهي النيك شهوة شديدة وكان زوجي شاباً وضياً وكان لا ينتشر علي حتى أتحفه وأطيبه وأسكره فأصر ذلك بي وكان علقته امرأة قصار تجاورني فزاد ذلك في غمي فشكوت إلى جارة لي ما أنا فيه وغلبة امرأة القصار على زوجي فقالت: أدلك على ما ينهضه عليك ويرد قلبه إليك قلت: وا بأبي أنت إذاً تكوني أعظم الخلق منة علي. قالت: اختلفي إلي " مجمع " مولى آل الزبير فإنه حسن الغناء فاعلقي من أغانيه أصواتاً عشرة ثم غني بها زوجك فإنه ينيكك بجوارحه كلها. قالت: فألظظت بمجمع فلم أفارقه حتى رضيني حذاقة ومعرفة فكنت إذا أقبل زوجي من مهنته اضطجعت فرفعت عقيرتي فإذا غنيت صوتاًبت على زب وإن غنيت صوتين بت على زبين وإن ثلاثة فثلاثة. فكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا قال: فضحكت والله حتى أمسكت على بطني وقلت: يا هذه ما أظن الله خلق مثلك. قالت: اخفض من صوتك. قلت: ما كان أعظم منة صاحبة الشوري عليك. قالت: حسبي بها منة وحسبك بي شاكرة. قلت: ففي قلبك من تلك اللوعة شيء قالت لذع في الفؤاد فأما تلك الغلمة التي كانت تنسيني الفريضة وتقطعني عن النافلة فقد ذهب تسعة أعشارها. قال فوقفت عليها وقلت: ألك حاجة أن أرم بعض حالك قالت: أنا في قائت من العيش. فلما نهضت لأقوم قالت: على رسلك لا تنصرف خائباً. ثم ترنمت بصوت تخفيه من جاراتها: ولي كبد مقروحة من يبيعني بها كبداً ليست بذات قروح أبى الناس أن يرضوا بها يشترونها ومن يشتري ذاعرة بصحيح ثم قالت: انطلق لطيتك صحبتك السلامة. خبر الهاشمي مع المضحك وحدث أبو عبد الله بن عبد البر المزني بمصر قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن الهيثم بن عدي قال: كان بالمدينة رجل من بني هاشم وكان له قينتان يقال لإحداهما جؤذر وللأخرى رشأ وكان يعجبه السماع وكان بالمدينة مضحك يغب مجالس المتطرفين ومواضع الملهين فأرسل إليه الهاشمي ذات يوم ليضحك منه فلما جاءه قال له المضحك: إنك أصلحك الله في لذتك ولا لذة لي. قال له: وما لذتك قال تحضرني نبيذاً فإنه لا يطيب لي عيش إلا به. فأمر الهاشمي بإحضار نبيذ وأمر أن يطرح فيه سكر العشر فلما شربه المضحك تحرك عليه بطنه وتناوم الهاشمي وغمز جواريه عليه فلما ضاق عليه الأمر واضطر إلى التبرز قال في نفسه: ما أظن هاتين المغنيتين إلا يمانيتين وأهل اليمن يسموت الكنف المراحيض. قال لهما: يا حبيبتي أين المرحاض قالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول قالت: يقول: غنياني: رحضت فؤادي فعنيتني أهيم من الحب في كل واد فاندفعتا فغنتاه فقال في نفسه: لم تفهما والله عني أنظهما شاميتين وأهل الشام يسمونها المذاهب. قال: يا حبيبتي أين المذاهب فقالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول قالت: يسأل أن يغنى: ذهبت من الهجران في كل مذهب ولم يك حقاً كل هذا التجنب فغنتاه الصوت فقال في نفسه: لم يفهما عني ما أظنهما إلا مدنيتين وأهل المدينة يسمونها بيت الخلاء. قال: يا حبيبتي أين بيت الخلاء قالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول قالت: يسأل أن يغنى: خلى علي جوى الأحزان إذ ظعنا من بطن مكة والتسهيد والحزنا قال: فغنتاه فقال في نفسه: إنا لله وإنا إليه راجعون ما أحسبهما الفاسقتين إلا بصريتين وأهل البصرة يسمونها الحشوش. قال: يا حبيبتي أين بيت الحش قالت إحداهما للأخرى: ويلك ما أوحش الحشان فالربع منها فمناها فالمنزل المعمور فرفعا عقيرتيهما تغنيانه فقال: ما أراهما إلا كوفيتين وأهل الكوفة يسمونها الكنف. فقال: يا حبيبتي أين يكون الكنيف قالت إحداهما للأخرى: يعيش سيدنا هل رأيت أكثر اقتراحاً من هذا الرجل أفهميني ما يقول قالت: يقول غنياني: تكنفني الهوى طفلاً فشيبني وما اكتهلا قال: فغلبه بطنه وعلم أنهما تولعان به والهاشمي يتقطع ضحكاً فقال: كذبتما يا زانيتان ولكني أعلمكما ما هو فرفع ثيابه فسلح عليهما فانتبه الهاشمي فقال: سبحان الله أتحدث على وطائي فقال: الذي خرج من جوفي أعز علي من وطائك إن هاتين القبيحتين حسبتا أنما أسأل عن الحش للضراط فأردت أن أعلمهما ما هو يوم دارة جلجل قال الفرزدق: وأصابنا بالبصرة ليلاً مطر جود فلما أصبحت ركبت بغلة لي وسرت إلى المربد فإذا أنا بآثار دواب قد خرجت إلى ناحية البرية فظننت أنهم قوم خرجوا للنزهة وهم خلقاء أن تكون معهم سفرة فاتبعت آثارهم حتى انتهيت إلى بغال عليها رحائل موقوفة على غدير فأسرعت إلى الغدير فإذا فيه نوسة مستنقعات في الماء فقلت: لم أر كاليوم قط ولا يوم دارة جلجل. وانصرفت مستحياً فنادينني: يا صاحب البغلة ارجع نسألك عن شيء. فرجعت إليهن فقعدن في الماء إلى حلوقهن ثم قلن: بالله إلا ما أخبرتنا ما كان من حديث دارة جلجل. قلت: حدثني جدي وأنا يومئذ غلام حافظ أن امرأ القيس كان عاشقاً لابنة عمه ويقال لها: عنيزة وأنه طلبها زماناً فلم يصل إليها حتى كان يوم الغدير وهو يوم دارة جلجل. وذلك أن الحي تحملوا فتقدم الرجال وتخلف النساء والخدم والثقل. فلما رأى امرؤ القيس تخلف بعد ما سار مع رجال قومه غلوة فكن في غيابه من الأرض حتى مر به النساء وفيهن عنيزة فلما وردن الغدير قلن: لو نزلنا فاغتسلنا في هذا الغدير فيذهب عنا بعض الكلال! فنزلن في الغدير ونحين العبيد ثم تجردن فوقعن فيه فأتاهن امرؤ القيس فأخذ ثيابهن فجمعها وقد عليها وقال: والله لا أعطي جارية منكن ثوبها ولو قعدت في الغدير يومها حتى تخرج متجردة فتأخذ ثوبها. فأبين ذلك عليه حتى تعالى النهار وخشين أن يقصرن عن المنزل الذي يردنه فخرجن جميعاً غير عنيزة: فناشدته الله أن يطرح ثوبها فأبى فخرجت فنظر إليها مقبلة ومدبرة وأقبلن عليه فقلن له: إنك عذبتنا وحبستنا وأجعتنا. قال: فإن نحرت لكن ناقتي أتأكلن منها قلن: نعم. فجرد سيفه فعرقبها ونحرها ثم كشطها وجمع الخدم حطباً كثيراً فأججن ناراً عظيمة فجعل يقطع أطايبها ويلقي على الجمر ويأكلن ويأكل معهن ويشرب من فضلة كانت معه ويسقيهن وينبذ إلى العبيد من الكباب. فلما أرادوا الرحيل قالت إحداهن: أنا أحمل طنفسته. وقالت الأخرى: أنا أحمل رحله وأنساعه فتقسمن متاعه وزاده. وبقيت عنيزة لم تحمل له شيئاً. فقال لها: يا ابنة الكرام لا بد أن تحمليني معك فإني لا أطيق المشي. فحملته على غارب بعيراه فكان يجنح إليها فيدخل رأسه في خدرها فيقبلها فإذا امتنعت مال حدجها فتقول: قعرت بعيري فانزل! ففي ذلك يقول: ويوم عقرت للعذارى مطيتي فيا عجبا من رحلها المتحمل فظل العذارى يرتمين بلحمها وشحم كهداب الدمقس المفتل ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة فقالت لك الويلات إنك مرجلي تقول وقد مال الغبيط بنا معاً عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل فقلت لها سيري وأرخي زمامه ولا تبعديني من جناك المعلل وكان الفرزدق أروى الناس لأخبار امرئ القيس وأشعاره. وذلك أن امرأ القيس رأى من أبيه جفوة فلحق بعمه شرحبيل بن الحارث وكان مسترضعاً في بني دارم فأقام فيهم وهم رهط خبر دعبل وصريع الغواني حدثنا أبو سويد بن أبي عتاهية عن دعبل بن علي الشاعر قال: بينا أنا ذات يوم بباب الكرخ وأنا سائر وقد احتوى الفكر على قلبي في أبيات شعر قد نطق بها اللسان على غير اعتقاد جنان فقلت: دموع عيني لها انبساط ونوم عيني به انقباض فإذا أنا بجارية رائعة الجمال فائق الكمال حوراء الطرف يقصر عن نعتها الوصف لها وجه زاهر ونور باهر فهي كما قال الشاعر: كأنما أفرغت في قشر لؤلؤة في كل جارحة منها لها قمر وهي تسمع قولي فاعترضت فقالت: هذا قليل لمن دهته بلحطها الأعين المراض فأجبتها فقلت: فهل لمولاي عطف قلب أو للذي في الحشا انقراض فأجابتني فقالت: قال دعبل: فلا أعلمني خاطبت جارية تقطع الأنفاس بعذوبة ألفاظها وتختلس الأرواح ببراعة منطقها وتذهل الألباب برخيم نغمتها مع ملاحة خد ورشاقة قد وكمال عقل وبراعة شكل واعتدال خلق. فحار البصر. وذهب اللب وجل الخطب وتلجلج اللسان وتعلقت الرجلان وما ظنك بالحلفاء إذ دنت من النار. ثم ثاب إلي عقلي وراجعني حلمي فذكرت قول بشار: لا يمنعنك من مخدرة قول تغلظه وإن جرحا عسر النساء إلى مياسرة والصعب يمكن بعدما جمحا هذا لمن حاول ما دون الطمع فيه اليأس منه فكيف بمن وعد قبل المسألة وبذل قبل الطلبة. فقلت مسمعاً لها: أترى الزمان يسرنا بتلاق ويضم مشتاقاً إلى مشتاق فقالت مجيبة لي في أسرع من نفس: ما للزمان يقال فيه وإنما أنت الزمان فسرنا بتلاق قال دعبل: فلحظتها فتبعتني وذلك في أيام إملاقي فقلت: ما لي إلا منزل مسلم صريع الغواني فسرت إلى بابه فاستوقفتها وناديته فخرج فقلت له: أجمل لك الخبر: معي وجه صبيح يعدل الدنيا بما فيها وقد حصل علي ضيقة وعسر. فقال: لقد شكوت ما كدت أبادرك بشكواه ايت بها. فلما دخلت قال: لا والله ما أملك غير هذا المنديل. فقلت: هو البغية فناولنيه. فقال: خذه لا بارك الله لك فيه. فأخذته فبعته بدينار عين وكسر فاشتريت لحماً وخبزاً ونبيذاً وصرت غليه فإذا هما يتساقطان حديثاً كأنه قطع الروض الممطور. قال: ما صنعت فأخبرته. قال: كيف يصلح طعام وشراب وجلوس مع وجه نظيف بلا نقل ولا ريحان ولا طيب اذهب فألطف لتمام ما جئت به. قال: فخرجت فاضطربت في ذلك حتى أتيت به فألفيت باب الدار مفتوحاً فدخلت فإذا لا أرى لهما ولا لشيء مما أتيت به أثراً فسقط في يدي وقلت: أرى صاحب الربع أخذهما. فبقيت متلهفاً حائراً أرجم الظنون وأجيل الفكر سائر يومي. فلما أمسيت قلت يا نفسي: أفلا أدور في البيت لعل الطلب يوقفني على أثر ففعلت فوقفت على باب سرداب له وإذا هما قد هبطا فيه وأنزلا معهما جميع ما يحتاجان إليه فأكلا وشربا وتنعما. فلما أحسستهما دليت رأسي ثم ناديت: مسلم ويلك! فلم يجبني حتى ناديت ثلاثاً. فكان من إجابته لي أن غرد بصوت يقول فيه: بت في درعها وبات رفيقي جنب القلب طاهر الأطراف ثم قال دعبل: ويلك! من يقول هذا قلت: قال: فضحكا ثم سكتا واستجلبت كلامهما فلم يجيباني وأخذا في لذتهما وبت بليلة يقصر عمر الدهر عن ساعة منها طولاً وغماً وهماً حتى إذا أصبحت ولم أكد خرج إلي مسلم فجعلت أؤنبه فقال لي: يا صفيق الوجه منزلي ومنديلي وطعامي وشرابي فما شأنك في الوسط قلت له: حق القيادة والفضول والله لا غير! فولى وجهه إليها وقال: بحياتي إلا أعطيته حق قيادته وفضوله. فقالت: أما حق قيادته فعرك أذنه وأما حق فضوله فصفع قفاه. فاستقبلني مسلم فعرك أذني وصفعني. فقلت: ما هذا فقال: جرى الحكم عليك بما جرى لك من العذل والاستحقاق. حدثنا عيسى بن أحمد الكاتب قال: قال لي الحسين بن الضحاك: دخلت على جعفر المتوكل وشفيع الخادم ينضد ورداً بين يديه ولم نعرف في ذلك الزمان خادماً كان أحسن منه ولا أجمل وعليه ثياب موردة فأمره أن يسقيني ويغمز كفي. ثم قال لي: يا حسين قل في شفيع. وكان قد حيا المتوكل بوردة فجعل المتوكل يشرب ويشم الوردة فقلت: فيا وردة جاءت إلينا بحمرة من الورد تمشي في قراطق كالورد ويغمز كفي عند كل تحية بكفيه يستدعي الشجي إلى الورد سقى الله دهراً لم أبت فيه ليلة من الدهر إلا من حبيب على وعد فأمر المتوكل شفيعاً أن يسقيني وخاصة وبعث معه إلي بتحايا في عبير وشمامات. وذكروا أن محمد بن عبد الملك الزيات وزير المتوكل كان يعشق خادماً للمتوكل يقال له شفيع وكان الحسن بن وهب كاتبه كلفاً بذلك الخادم فلقيه الحسن بن وهب يوماً فسأله عن خبره فأخبره أنه يريد أن يحتجم فلم تبق بالعراق غريبة إلا بعث بها إليه ولا طريفاً من الأشربة إلا أدخله عليه وكتب إليه بهذه الأبيات: ليت شعري يا أملح الناس عندي هل تعالجت بالحجامة بعدي دفع الله عنك لي كل سوء باكر رائح وإن خنت عهدي قد كتمت الهوى بمبلغ جهدي ففشا منه بعض ما كنت أبدي وخلعت العذار فليعلم النا س بأني إياك أصفي بودي من عذيري من مقلتيك ومن إش راق وجه من حول حمرة خد فصادف رسوله رسول محمد بن الزيات الوزير فرأى رقعة الحسن فاحتال حتى أخذها وأوصلها إلى الوزير محمد بن عبد الملك. فلما قرأها كتب إلى كاتبه الحسن بن وهب: ليت شعري عن ليت شعرك هذا أبهزل تقوله أم بجد وتشبهت بي وكنت أرى أن ي أنا الهائم المتيم وحدي أترك القصد في الأمور ولولا غمرات الصبا لأبصرت قصدي سيدي سيدي ومولاي ومن أل بسني ذلك وأضرع خدي لا أحب الذي يلوم وإن كا ن حريصاً على صلاحي ورشدي وأحب الأخ المشارك في الحب وإن لم يكن به مثل وجدي كصديقي أبى علي وحاشى لصديقي من مثل شقوة جدي إن مولاي عبد غيري ولولا شؤم جدي لكان مولاي عبدي فلما التقى ابن الزيات الوزير وكاتبه الحسن بن وهب في بيت الديوان تداعبا في ذلك وسأله ابن الزيات أن يتجافى له عنه فقال له الحسن: طاعتك واجبة في المحبوب والمكروه لكن الرئيس أدام الله عزه كان أولى بالتفضيل. فقال له ابن الزيات: هيهات هذه علة نفسانية تؤدي إلى التلف فتنح عن نصيبك مني. فقال الحسن: إن كان هذا هكذا سمعنا وأطعنا. وأنشد: شهيدي على ما في فؤادي من هوى دموع تباري المستهل من القطر وأسلمني من كان بالأمس مسعدي وصار الهوى عوناً علي مع الدهر قال: دخلت الساعة على قبيحة وقد كتبت بالمسك في خدها اسمي فوالله ما رأيت سواداً في بياض أحسن منه في ذلك الخد فقل فيه شعراً. فقلت: يا أمير المؤمنين أمظلومة معي قال: نعم ومظلومة خلف ستارة فدعت بدواة وبدرت بالقول فقالت: وكاتبة بالمسك في الخد جعفرا بنفسي خط المسك من حيث أثرا لئن أودعت سطراً من المسك خدها لقد أودعت قلبي من الحب أسطرا فيا من لمملوك تملك مالكاً مطيعاً له فيما أسر وأظهرا ويا من مناها في السرائر جعفر سقى الله من صوب الغمامة جعفرا قال: فأفحمت فلم أنطق وتغلبت علي خواطري فما قدرت على حرف أقوله وضحك أمير المؤمنين. الأصمعي قال: دخلت على هارون الرشيد وبين يديه جارية حسناء عليها لمة جعدة وذؤابة تضرب الحقو منها وهلال بين عينيها مكتوب عليه بالذهب: " هذا ما عمل في طراز الله ". فقال: يا أصمعي صفها. فأنشأت أقول: كنانية الأطراف سعيدة الحشا هلالية العينين طائية الفم فقال: أحسنت والله يا أصمعي. فعل عرفت اسمها فقلت: لا يا أمير المؤمنين. فقال: اسمها دنيا. قال: فأطرق ساعة ثم قلت: إن دنيا هي التي تسحر العين سافره ظلموها شطر اسمها فهي دنيا وآخره قال الأصمعي: فأمر لي بعشرة آلاف درهم. إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: دخلت على الرشيد وعنده جارية قد أهديت إليه ماجنة شاعرة أديبة وبين يديه طبق فيه ورد فقال: يا إسحاق أما ترى ما أحسن هذا الورد ونضرة لونه! قلت: بك والله حسن ذلك يا أمير المؤمنين. فقال: قل فيه بيتاً يشبهه. فأطرق ساعة ثم قلت: كأنه خد موموق يقبله فم الحبيب وقد أبدى به خجلا فاعترضتني الجارية فقالت: كأنه لون خدي حين تدفعني كف الرشيد لأمر يوجب الغسلا فقال الرشيد: قم يا إسحاق فقد حركتني هذه الفاسقة. وحدثنا أيضاً قول: كان هارون الرشيد جالساً بين جاريتين من جواريه فقال لهما: من يبيت عندي هذه الليلة منكما فقالت إحداهما: أنا. فقالت الأخرى: لا بل أنا. فقال للأولى: ما حجتك فيما ادعيت فقالت: قول الله يا أمير المؤمنين: " والسابقون السابقون. أولئك المقربون ". ثم قال للثانية: وما حجتك أنت قالت: قول الله: " وللآخرة خير لك من الأولى ". فقال: لتقل كل واحدة منكما شعراً في الغزل فمن كانت أرق شعراً باتت عندي. فقالت الأولى: أنا التي أمشي كما يمشي الوجي يكاد أن يصرعني تغنجي من جنة الفردوس كان مخرجي وقالت الأخرى: أنا التي لم ير مثلي بشر كلامي اللؤلؤ حين ينثر أسحر من شئت ولست أسحر لو سمع الناس كلامي كفروا فقال لهما: قد أحسنتما وأجدتما وما لواحدة منكما فضيلة على صاحبتها ولكني أبيت بينكما. أخبرنا أبو الطيب الكاتب أن أمير المؤمنين هارون الرشيد كان ليلة بين جاريتين. مدنية وكوفية فجعلت الكوفية تغمز يديه والمدنية تغمز رجليه فجعلت المدنية ترتفع إلى فخذيه حتى ضربت بيدها إلى متاعه وحركته حتى أنعظ فقالت لها الكوفية: ويحك نحن شركاؤك في البضاعة وأراك قد انفردت دوننا برأس المال وجدك فأديليني منه. قال: فقالت المدنية: حدثنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال " من أحيا مواتاً فهو له ولعقبه ". قال: فاستغلتها الكوفية ودفعتها ثم أخذته بيديها جميعاً وقالت: حدثنا الأعمش عن خيثمة عن عبد الله بن مسعود أنه قال: " الصيد لمن صاده لا لمن أثاره ". أخبرنا الأنطاكي أن المتوكل على الله طلب من محمود الوراق جارية مغنية وأعطاه بها عشرة آلاف دينار فأبى فلما مات محمود اشتراها في ميراثه بخمس آلاف وقال لها: كنا قد أعطينا مولاك بك عشرة آلاف وقد اشتريناك من ميراثه بخمسة آلاف. قالت: يا أمير المؤمنين إذا كانت الخلفاء تتربص بلذاتها المواريث فسنشتري بأرخص مما اشتريت. أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: لاعب هارون الرشيد جارية من جواريه على إمرة مطاعة فقمرته فقال لها: تمني. قالت: تقوم فتقطع فرداً. فقام فقضى فيها وطره ثم لاعبها فقمرته فقال لها: تمني. قالت: تقوم فنقطع فرداً. فقام فقضى فيها طره ثم لاعبها فقمرته فقال لها: تمنى. قالت: تقوم فتقطع فرداً. فقام فقضى فيها وطره ثم لاعبها فقمرته فقال: تمني. فقالت: المعادوة. فغشيها ثم لاعبته فقمرته فقالت: قم لميعادك. فقال: لا أقدر على ذلك. قالت: فاكتب لي به عليك كتاباً آخذك به مت شئت. قال: ذلك لك. فدعت بدواة وقرطاس وكتبت: " هذا كتاب فلانة على مولاها أمير المؤمنين: إن لي عليك فرضاً آخذه متى شئت وأنى شئت من ليل أو نهار ". وكان رأسها وصيفة لها فقالت: تزيدي يا سيدتي في الكتاب فإنك لا تأمنين الحدثان ومن قام له بهذا الذكر حق فهو ولي ما فيه. فضحك الرشيد حتى استلقى على فراشه واستطرفها وأمر أن تنزل مقصورة وأن يجرى لها رزق سني وشغف بها. ويقال: إنها " مراجل " أم المأمون. تنفس محمد بن هارون الأمين يوماً في مجلسه أيام الحصار فالتفت إلى جليس له وهو محمد بن سلام صاحب المظالم فقال له: ويحك يا محمد أتدري قلت: نعم يا أمير المؤمنين ذكرت قول الشاعر: ذكر الهوى فتنفس المشتاق وبدا عليه الذل والإطراق يا من يصبرني لأصبر بعده الصبر ليس يطيقه العشاق فقال: لا والله ما نكأتها. ثم التفت إلى جليس له آخر فقال له: ويحك أتدري قال: نعم يا أمير المؤمنين ذكرت قول ابن الأحنف: تذكرت بالريحان منك شمائلاً وبالراح عذباً من مقبلك العذب فقال: لا والله ما نكأتها ثم التفت إلى كوثر الخادم فقال له: ويحك! أتدري فقال: نعم يا أمير إن كان دهر بني ساسان فرقهم فإنما الدهر أطوار دهارير وربما أصبحوا يوماً بمنزلة تهاب صولهم الأسد المهاصير قال: صدقت. وكتبت جارية إلى علي بن الجهم رقعة فأجاب فيها: ما رقعة جاءتك مكتوبة كأنها خد على خد تبدو سواداً في بياض كما ذو فتيت المسك في الورد ساهمة الأسطر مصروفة عن جهة الهزل إلى الجد يا كاتباً أسلمني عتبه إليه حسبي منك ما عندي وكتبت أيضاً: قلب يمل على لسان ناطق ويد تخط رسالة من عاشق مزج المداد بعبرة شهدت له من كل جارحة بحب صادق فيمينه تحت الوساد وخده ويساره فوق الفؤاد الخافق أهدت جارية من جواري المهدي تفاحة إلى المهدي وطيبتها. وكتبت فيها: فأجاب المهدي: تفاحة من عند تفاحة جاءت فماذا صنعت بالفؤاد والله ما أدري أأبصرتها يقظان أم أبصرتها في الرقاد وكتب بعض الكتاب إلى مدام جارية المازني وبعث إليها بقنين من مدام: قل لمن يملك الملو ك وإن كان قد ملك قد شربناك مرة وبعثنا إليك بك وقال علي بن الجهم: دخلت على أبي عثمان المازني وعنده جارية له كأنها شقة قمر وبيدها تفاحة معضوضة فقالت: عرفت ما أراد الشاعر بقوله: خبريني من الرسول إليك واجعليه من لا ينم عليك قلت: ما أعرفه. قالت: هو هذه ورمت إلي بالتفاحة فوالله ما وجدت لها جواباً من نظير كلامها. وقال شيخ من أهل البصرة: لقيت الحسن بن وهب فأردت أن أمتحن سلامة طبعه ومعي تفاحة فأريته إياها وسألته أن يصفها فقال لي: نحن على الطريق ولكن مل إلى المسجد. فملنا إليه فأخذها وقلبها بيده شيئاً وقال: قد بت في ليلتي أقلبها أشكو إليها طاول الكمد لو أن تفاحة بكت لبكت من رحمة هذه التي بيدي وعد المأمون جارية أن يبيت عندها وأخلفها الوعد فكتبت إليه: أرقت عيني ونامت عين من هنت عليه إن نفسي فاعذرنها أصبحت في راحتيه رحم الله رحيماً دل عيني عليه فلما قرأ رقعتها ضحك ولم يبت ليلته إلا عندها. عتب المأمون على جارية من جواريه وكان كلفاً بها فأعرض عنها وأعرضت عنه ثم أسلمه العزاء وأقلقه الشوق حتى أرسل يطلب مراجعتها وأبطأ عليه الرسول فلما رجع إليه أنشأ يقول: بعثتك مرتاداً ففزت بنظرة وأغفلتني حتى أسأت بك الظنا وناجيت من أهوى وكنت مقرباً فيا ليت شعري عن دنوك ما أغنى ونزهت طرفاً في محاسن وجهها ومتعت باستظراف نغمتها أذنا أرى أثراً منها بعينيك لم يكن لقد سرقت عيناك من وجهها حسنا تكلم ليس يوجعك الكلام ولا يؤذي محاسنك السلام أنا المأمون والملك الهمام ولكني بحبك مستهام يحق عليك ألا تقتلني فيبقى الناس ليس لهم إمام كتبت امرأة عمر بن عبد العزيز إلى عمر لما اشتغل عنها بالعبادة: ألا أيها الملك الذي قد سبى عقلي وهام به فؤادي أراك وسعت كل الناس عدلاً وجرت علي من بين العباد وأعطيت الرعية كل فضل وما أعطيتني غير السهاد فصرف وجهه إليها. وقعد الرشيد يوماً عند زبيدة وعندها جواريها فنظر إلى جارية واقفة عند رأسها فأشار إليها أن تقبله فاعتلت بشفتيها فدعا بدواة وقرطاس فوقع فيه: قبلته من بعيد فاعتل من شفتيه ثم ناولها القرطاس فوقعت فيه: فما برحت مكاني حتى وثبت عليه فلما قرأ ما كتبت استوهبها من زبيدة فوهبتها له. فمضى بها وأقام معها أسبوعاً لا يدري وعاشق صب بمعشوقه كأنما قلباهما قلب روحاهما روح ونفساهما نفس كذا فليكن الحب حدث أبو جعفر قال: بينا محمد بن زبيدة الأمين يطوف في قصر له إذ مر بجارية له سكرى وعليها كساء خز تسحب أذياله فراودها عن نفسها فقالت: يا أمير المؤمنين أنا على حال ما ترى ولكن إذا كان من غد إن شاء الله. فلما كان من الغد مضى إليها فقال لها: الوعد. فقالت له: يا أمير المؤمنين: أما علمت أن كلام الليل يمحوه النهار فضحك وخرج إلى مجلسه فقال: من بالباب من شعراء الكوفة فقيل له: مصعب والرقاشي وأبو نواس. فأمر بهم فأدخلوا عليه فلما جلسوا بين يديه قال: ليقل كل واحد منكم شعراً يكون آخره: كلام الليل يمحوه النهار فأنشأ الرقاشي يقول: متى تصحو وقلبك مستطار وقد منع القرار فلا قرار وقد تركتك صباً مستهاماً فتاة لا تزور ولا تزار إذا استنجزت منها الوعد قالت كلام الليل يمحوه النهار وقال مصعب: بحب مليحة صادت فؤادي بألحاظ يخالطها احورار ولما أن مددت يدي إليها لألمسها بدا منها نفار فقلت لها عديني منك وعداً فقالت في غد منك المزار فلما جئت مقتضياً أجابت كلام الليل يمحوه النهار وقال أبو نواس: وخود أقبلت في القصر سكرى ولكن زين السكر الوقار وهز المشي أردافاً ثقالاً وغصنا فيه رمان صغار وقد سقط الردا عن منكبيها من التجميش وانحل الإزار فقلت: الوعد سيدتي. فقالت: كلام الليل يمحوه النهار فقال له: أخزاك الله أكنت معنا ومطلعاً علينا فقال: يا أمير المؤمنين عرفت ما في نفسك فأعربت عما في ضميرك. فأمر له بأربعة آلاف درهم ولصاحبيه بمثلها. وقال بعض العراقيين: غضبت من قبلة بالكره جدت بها فها أنا جئت فاقتصيه أضعافا لم يأمر الله إلا بالقصاص فلا تستجوري ما رآه الله إنصافا تبدي صدوداً وتخفي تحته صلة فالنفس راضية والطرف غضبان يا من وضعت له خدي فذلله وليس فوقي سوى الرحمن سلطان خبر الحسن بن هانئ مع الأسود أبو بكر الوراق قال: قال لي الحسن بن هانئ: حججت مع الفضل بن الربيع حتى إذا كنا ببلاد فزارة وذلك إبان الربيع نزلنا منزلاً بإزاء ماء لبني تميم ذا روض أريض ونبت غريض تخضع لبهجته الزرابي المبثوثة والنمارق المصفوفة فقرت بنضرتها العيون وارتاحت إلى حسنها القلوب وانفرجت ببهائها الصدور فلم نلبث أن أقبلت السماء فأسف غمامها وتدانى من الأرض ركامها حتى إذا كان كما قال أوس بن حجر حيث يقول: دان مسف فويق الأرض هيدبه يكاد يدفعه من قام بالراح همت برذاذ ثم بطش ثم برش ثم بوابل ثم أقلعت وقد غدرت الغدران مترعة تتدفق والقيعان تتألف رياض مونقة ونوافح من ريحها عبقة فسرحت طرفي راتعاً منها في أحسن منظر وانتشقت من رياها أطيب من المسك الأذفر. قال: فلما انتهينا إلى أوائلها. إذا نحن بخباء على بابه جارية متبرقعة ترنو بطرف مريض الجفون وسنان النظر قد أشعرت حماليقه فتوراً وملئت سحراً فقلت لزميلي: استنطقها. قال: وكيف السبيل إلى ذلك قلت: استسقها ماء. فاستسقاها فقالت: نعم ونعمى عين وإن نزلتم ففي الرحب والسعة. ثم مضت تتهادى كأنها خوط بان أو قضيب خيزران فراعني ما رأيت منها ثم أتت بالماء فشربت منه وصببت باقيه على يدي ثم قلت: وصاحبي أيضاً عطشان. فأخذت الإناء فذهبت فقلت لصاحبي: من الذي يقول: إذا بارك الله في ملبس فلا بارك الله في البرقع يريك عيون الدمى غرة ويكشف عن منظر أشنع قال: وسمعت كلامي فأتت وقد نزعت البرقع ولبست خماراً أسود وهي تقول: ألا حي ركبي معشر قد أراهما أطالا ولما يعرفا مبتغاهما هما استسقيا ماء على غير ظمأة ليستقيا باللحظ ممن سقاهما فشبهت كلامها بعقد در وهي سلكه فانتثر بنغمة عذبة رقيقة رخيمة لو خوطب بها الصم الصلاب لانبجست مع وجه يظلم لنوره ضياء العقول وتتلف في روعته مهج النفوس وتخف في محاسنه رزانة الحليم ويحار في بهائه طرف البصير. فدقت وجلت واسبطرت وأكملت فلو جن إنسان من الحسن جنت فلم أتمالك أن سجدت وخررت ساجداً فأطلت من غير تسبيح فقالت: ارفع رأسك غير مأجور ولا تذم من بعدها برقعاً فلربما انكشف عما يصرف الكرى ويحل القوى ويطيل الجوى من غير بلوغ إرادة ولا درك طلبة ولا قضاء وطر ليس إلا للحين المجلوب والقدر المكتوب والأمل الكذوب فبقيت والله معقول اللسان عن الجواب حيران لا أهتدي لصواب فالتفت إلي صاحبي فقال لما رأى هلعي كالمسلي لي عن بعض ما أذهلني: ما هذه الخفة لوجه برقت لك منه بارقة لا تدري ما تحته أما سمعت قول ذي الرمة: على وجه مي مسحة من ملاحة وتحت الثياب العار لو كان باديا فقالت: أما ما ذهبت إليه لا أبالك فلا والله لأنا بقول الشاعر: منعمة حوراء يجري وشاحها على كشح مرتج الروادف أهضم لها بشر صاف وعين مريضة وأحسن إيماء بأحسن معصم خزاعية الأطراف سعدية الحشا فزارية العينين طائية الفم أشبه من قولك الآخر. ثم رفعت ثيابها حتى بلغت نحرها وجاوزت منكبيها فإذا قضيب فضة قد شيب بماء الذهب يهتز على مثل كثيب النقا وصدر كالوذيلة عليه كالرمانتين وخصر لو رمت عقدة لانعقد مطوي الاندماج على كفل رجراج وسرة مستديرة يقصر فهمي عن بلوغ نعتها من تحتها أرنب جاثم أو جبهة أسد خادر وفخذان لفاوان وساقا خدلجان يخرسان الخلاخيل وقدمان كأنهما لسانا. ثم قالت: أعاراً ترى لا أبالك قلت: لا والله ولكن سبب القدر المتاح ومقربي من الموت الذباح يطبق علي الضريح ويتركني جسداً بغير روح. فخرجت عجوز من الخباء فقالت له: امض لشأنك فإن قتيلها مطلول لا يودي وأسيرها مكبول لا يفدى. فقلت لها: دعيه فإن له مثل قول غيلان: فإلا يكن إلا تعلل ساعة قليلاً فإني نافع لي قليلها فولت العجوز وهي تقول: وما لك منها غير أنك نائك بعينيك عينيها وأيرك جانب فنحن كذلك حتى ضرب الطبل للرحيل فانصرفت بكمد قاتل وكرب خابل وأنا أقول: يا حسرتي مما يجن فؤادي أزف الرحيل بغربتي وبعادي فلما قضينا حجنا وانصرفنا راجعين ممرنا بذلك المنزل وقد تضاعف حسنه وتمت بهجته فقلت لصاحبي: امض بنا إلى صاحبتنا. فلما أشرفنا على الخيام فصعدنا ربوة ونزلنا وهدة إذا هي تتهادى بين خمس ما تصلح أن تكون خادماً لأدناهن وهن يجنين من نور ذلك الزهر فلما رأيننا وقفن فقلنا: السلام عليكن. فقالت من بينهن: وعليك السلام ألست صاحبي قلت: بلى. قلن: وتعرفينه قالت: نعم وقصت عليهن القصة ما خرمت حرفاً. قلن لها: ويحك فما زودته شيئاً يتعلل به قالت: بلى زودته لحداً ضامراً وموتاً حاضراً. فانبرت لها أنضرهن خداً وأرشقهن قداً وأسحرهن طرفاً وأبرعهن شكلاً فقالت: والله ما أحسنت بدءاً ولا أجملت عوداً ولقد أسأت في الرد ولم تكافئيه في الود فما عليك لو اسعفته بطلبته وأنصفته في مودته وإن المكان لخال وإن معك من لا ينم عليك. فقالت: أما والله لا أفعل من ذلك شيئاً أو تشركيني في حلوه ومره. قالت لها: تلك إذاً قسمة ضيزى أتعشقين أنت وأناك أنا قالت أخرى منهن: قد أطلتن الخطاب في غير أرب فسلن الرجل عن نيته وقصده وبغيته فلعله لغير ما أنتن فيه قصد. فقلن: حياك الله وأنهم بك علينا من تكون وممن أنت وما تعاني وإلام قصدت فقلت: أما الاسم فالحسن بن هانئ رجل من اليمن ثم من سعد العشيرة وأحد شعراء السلطان الأعظم ومن يدني مجلسه ويتقى لسانه ويرهب جانبه. وأما قصدي فتبريد غلة وإطفاء لوعة قد أحرقت الكبد وأذابتها. قالت: لقد أضفت إلى حسن المنظر كرم المخبر وأرجو أن يبلغك الله أمنيتك وتنال بغيتك. ثم أقبلت عليهن فقالت: ما بواحدة منكن عن مثله مرغب فتعالين نشترك فيه ونقترع عليه فمن واقعتها القرعة منا تكون هي البادية. فاقترعن فوقعت القرعة على المليحة التي قامت بأمري فعلقن إزاراً على باب مغار يجاورهن وأدخلت فيه وأبطأن عني وجعلت أتشوف لدخول إحداهن علي إذ دخل علي أسود كأنه سارية وبيده شيء كالهراوة قد أنعظ بمثل رأس الخفيدد قلت: ما تريد قال: أنيكك. فهمني والله نفسي ثم صحت بصاحبي وكان أيداً فبالحري والله ما تخلصت منه حتى خرجنا من الغار وإذا هن يتضاحكن ويتهادين إلى الخيمات فقلت لصاحبي: من أين أقبل الأسود قال: كان يرعى غنماً إلى جانب الغار فدعونه فوسوسن إليه شيئاً فدخل عليك. فقلت أبا علي: أتراه كان يفعل في شيئاً فقال: أتراك خلصت منه. فانصرفت وأنا أخزى الناس. قال إسماعيل: فقلت: ناكك والله الأسود. فقال: ما لك أبعدك الله فوالله لقد كتمت هذا الحديث مخافة هذا التأويل حتى ضاق به ذرعي ورأيتك موضعاً له فبحقي عليك إن أذعته. قال إسماعيل: فما فهت به حتى مات. خبر ذي الرمة قال أبو صالح الفزاري: ذكرنا ذا الرمة فقال عصمة بن عبد الملك شيخ منا قد بلغ عشرين ومائة سنة: لإياي فاسألوا عنه كان من أظرف الناس آدم خفيف العارضين حسن المضحك حلو المنطق وإذا أنشد بربر وجش صوته وإذا راجعك لم تسأم من حديثه وكلامه وكان له إخوة يقولون الشعر منهم مسعود وهشام وأوفى كانوا يقولون القصيدة فيزيد عليها الأبيات فيغلب عليها فتذهب له فجمعني وإياه مربع فأتاني يوماً فقال لي يا عصمة: إن مية منقرية وبنو منقر أخبث حي وأقوفه لأثر وأعطفه بشر فهل عندك ناقة نزدار عليها مية قلت: والله إن عندي للجؤذر قال: علي بها. فركبنا جميعاً وخرجنا حتى أشرفنا على بيوت الحي فإذا هم خلوف وإذا بيت مية ناحية فعرفن ذا الرمة فتقوض النساء إلى مي وجئنا حتى أنخنا ثم دنونا فسلمنا وقعدنا نتحدث فإذا هي جارية أملود واردة الشعر بيضاء تغمرها صفرة وعليها ثوب أصفر وطاق أخضر فقلن: أنشدنا يا ذا الرمة. فقال: أنشدهن يا عصمة. فأنشدتهن: نظرت إلى أظعان مي كأنها ذرى النخل أو أثل تميل ذوائبه فأعربت العينان والصدر كاتم بمغرورق نمت عليه سواكبه فقالت ظريفة منهن: لكن الآن فلتجل قال: فنظرت إليها مية متكرهة ثم مضيت في القصيدة حتى انتهيت إلى قوله: إذا سرحت من حب مي سوارح على القلب لبته جميعاً عوازبه فقالت الظريفة: قتلته قتلك الله. قالت مية: ما أصحه وهنيئاً له.