باب نوكى الأشراف
من النوكى المتقدمين: مالك بن زيد مناة بن تميم دخل على امرأته ناجية مغضباً فلما رأت ما به من الجهل والجفاء قالت له: ضع شملتك. قال: جسدي أحفظ لها. قالت: اخلع نعليك. قال: رجلاي أحق بهما. فلما رأت ذلك قامت وجلست إليه. فلما شم رائحة الطيب وثب ومن النوكى عجل بن لجيم. قال أبو عبيدة: أرسل ابن لعجل بن لجيم فرساً في حلبة فجاء سابقاً فقال لأبيه: كيف ترى أن أسميه يا أبت قال: افقأ إحدى عينيه وسمه الأعور. قال الشاعر: رمتني بنو عجل بداء أبيهم وأي عباد الله أنوك من عجل أليس أبوهم عار عين جواده فأضحت به الأمثال تضرب في الجهل ومن بني عجل دغة التي يضرب به المثل في الحمق. وقد ذكرنا نسبها وخبرها في كتاب الأمثال. ومن نوكى الأشراف: عبيد الله بن مروان عم الوليد بن عبد الملك. بعث إلى الوليد قطيفة حمراء وكتب إليه: إني قد بعثت إليك قطيفة حمراء حمراء فكتب إليه قد وصلت القطيفة وأنت والله يا عم أحمق أحمق. ومنهم معاوية بن مروان وقف على باب طحان فرأى حماراً يدور بالرحا في عنقه جلجل فقال للطحان: لم جعلت الجلجل في عنق الحمار قال: ربما أدركتني سآمة أو نعاس فإذا لم أسمع صوت الجلجل علمت أنه واقف فصحت به فانبعث. قال: أفرأيت إن وقف وحرك رأسه بالجلجل وقال هكذا وهكذا - وحرك رأسه - فقال له: ومن لي بحمار يكون عقله مثل عقل الأمير وهو القائل وضاع له بازي: اغلقوا أبواب المدينة حتى لا يخرج البازي. وأقبل إليه قوم من جيرانه فقالوا: مات جارك أبو فلان فمر له بكفن. فقال: ما عندنا اليوم شيء ولكن عودوا إلينا إذا نبش. وأقبل إليه رجل أحمق منه فقال له: تعيرنا أصلحك الله ثوباً نكفن فيه ميتاً قال: أخشى أنه ينجسه فلا تلبسه إياه حتى يغسل ويطهر. ومن النوكى الأشراف: عيينة بن حصن دخل على عثمان بغير إذن وكانت عنده ابنته فقال له عثمان: ألا استأذنت قال: ما ظننت أن هنا من أحتاج أن أستأذن عليه. قال: ادن فتعش. فقال: أنا صائم. قال: تصوم الليل وتفطر النهار. وكان النبي ﷺ يسميه السفيه المطاع. ومن حمقى قريش: أبان بن عثمان بن عفان. قال الشعبي: قدم أبان على معاوية. فقال: يا أمير المؤمنين زوجني ابنتك. قال: يا بن أخي هما اثنتان. إحداهما عند ابن عامر والأخرى عند أخيك عمرو. قال: كنت أظن أن لك ثالثة. قال: يا بن أخي تخطب إلي ولا تدري لي بنت أم لا رحم الله أباك. ومر معاوية بن مروان بحقل له فلم ير فيها ما يعجبه فقال: ما كذب من قال: كل حقل لا ترى آست صاحبها لا تفلح أبداً. ثم نزل عن دابته وأحدث فيها ثم ركب. وهو الذي يقول لأبي امرأته: ملأتني البارحة ابنتك دماً. قال: إنها من نسوة يخبأن ذلك لأزواجهن فلو كنت خصياً ما زوجناك وعلى الذي غرنا بك لعنة الله. وكان أبو العاج والياً بواسط فأتاه صاحب شرطته بقوادة فقال: ما هذه قال: قوادة. قال: وما تصنع قال: تجمع بين الرجال والنساء قال: إنما جئتني بها لتعرفها بداري خل عنها لعنك الله ولعنها. وكان الربيع العامري والياً باليمامة فأتي بكلب قد عقر كلباً فأفاده فقال فيه الشاعر: شهدت بأن الله حقاً لقاؤه وأن الربيع العامري رقيع أقاد لنا كلباً بكلب فلم يدع دماء كلاب المسلمين تضيع وقال عوانة: أستعمل معاوية رجلاً من كلب فذكر يوماً المجوس وعنده النار. فقال: لعن الله المجوس ينكحون أمهاتهم والله لو أعطيت مائة ألف درهم ما نكحت أمي. وكان بالبصرة ثلاثة إخوة من بني عتاب بن أسيد كان أحدهم يحج عن حمزة ويقول: استشهد قبل أن يحج. وكان الآخر يضحي عن أبي بكر وعمر ويقول: أخطأ السنة في ترك الأضحية وكان الثالث يفطر أيام التشريق عن عائشة ويقول: غلطت رحمها الله في صومها أيام التشريق. ولعب رجل من النوكى بين يدي الرشيد بالشطرنج. فلما رآه وقد استجاد لعبه قال له: يا أمير المؤمنين ولني نهر بوق. فقال له: ويلك أوليك نصفه. اكتبوا عهده علي بوق. قال: فولني أرمينية. قال: إذا يبطئ على أمير المؤمنين خبرك. أهل العي والجهل المشبهون بالمجانين خطب وكيع بن أبي سود وهو والي خراسان فقال في خطبته: إن الله خلق السموات والأرض في ستة أشهر. فقالوا له: بل في ستة أيام. فقال: والله لقد قلتها وأنا أستقلها. وخطب علي بن زياد الإيادي فقال في خطبته: أقول لكم ما قال العبد الصالح لقومه: " ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ". فقالوا له: إن هذا ليس من قول العبد الصالح إنما هو من قول فرعون. فقال: من قاله فقد أحسن. وخطب عتاب بن ورقاء الرياحي فقال: أقول لكم كما قال الله في كتابه: كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول وخطب والٍ باليمامة فقال في خطبته: إن الله تبارك وتعالى لا يعاون عباده على المعاصي. وقد أهلك أمة عظيمة على ناقة ما كانت تساوي مائتي درهم فسمي مقوم الناقة. وبكى حول ابن سنان أولاده وأهله حين ودعوه وهو يريد مكة حاجاً فقال: لا تبكوا فإني ودخل قوم دار كردم السدوسي فقالوا له: أين القبلة في دارك هذه فقال: إنما سكناها منذ ستة أشهر. ودخل كردم السدوسي على رجل فدعاه إلى الغذاء فقال: قد أكلت. قال: وما أكلت قال: قليل أرز فأكثرت منه. وقيل لأبي عبد الملك عناق: بأي شيء تزعمون أن أبا علي الأسواري أفضل من سلام بن سليمان أبي المنذر قال: لأنه لما مات سلام بن سليمان أبو المنذر مشى أبو علي في جنازته فلما مات أبو علي لم يمش سلام في جنازته. ومرض كردم فقال له عمه: أي شيء تشتهي فقال: رأس كبشين قال: لا يكون. قال: فرأسي كبش قال: لا يكون. فقال: لست أشتهي شيئاً. وقال مسعدة بن طارق الذراع: إن لوقوف على حدود دار نقسمها إذ أقبل عيص سيد بني تميم والمصلي على جنائزهم. ونحن في خصومة لنصلح بينهم فقال: خبروني عن هذه الدار هل ضم بعضها إلى بعض أحد فأنا منذ ستين سنة أفكر في كلامه فما أدرك له معنى ولا مجازاً. وأقبل كردم الذراع إلى قوم ليكسر لهم دوراً فوجد داراً منها فيه زنقة. فقال: ليست هذه الدار لكم فقالوا: بلى والله ما نازعنا أحد قط فيها. قال: فليست الزنقة لكم. قالوا: فكسر ما صح عندك أنه لنا ودع الزنقة. فكسر صحن الدار. فقال: عشرون في عشرين مائتان. قالوا: من هذا المعنى لم تكن الزنقة عندك لنا إذ عشرون في عشرين مائتان. وسئل آخر كان ينظر في الفرائض عن فريضة لم يعرفها فالتمسها في كتابه فلم يجدها. فقال: لم يمت هذا الرجل بعد ولو مات لوجدت فريضته في كتابي. وعزى قوماً فقال: آجركم الله وأعظم أجوركم وأجركم. فقيل له في ذلك فقال مثل قول مروان بن الحكم: بارك الله فيكم وبارك لكم وبارك عليكم. وكان أبو إدريس السمان يكتب: فلا أصحبك الله إلا بالعافية ولا حيا وجهك إلا بالكرامة. العتبي قال: بعث رجل وكيله إلى رجل من الوجوه يقتضيه ما عليه فرجع إليه مضروباً فقال: ما لك ويلك قال: سبك فسببته فضربني. قال: وبأي شيء سبني قال: هن الحمار في حر أم الذي أرسلك. قال له: دعني من افترائه علي. أخبرني أنت كيف جعلت لأير الحمار من الحرمة ما لم تجعل لحر أمي هلا قلت: أير الحمار في هن أم من أرسلك وقال أبو نواس: قلت لأحد الوراقين الذين يكتبون بباب البطوني: أيما أسن أنت أم أخوك قال: إذا جاء رمضان استوينا. قال ثمامة بن أشرس للمأمون: مررت في غب مطر والأرض ندية والسماء مغيمة والريح شمال وإذا بشخص أصفر كأنه جرادة وقد قعد على قارعة الطريق وحجام يحجمه على كاهله وأخدعيه بمحاجم كأنها قعاب وقد مص دمه حتى كاد يستفرغه فقلت: يا شيخ لم تحتجم في هذا البرد قال: لهذا الصفار الذي بي. وقيل لأبي عتاب: كيف برك بأمك قال: والله ما قرعتها بسوط قط. النوكى من نساء الأشراف دغة العجلية وجهيزة وشولة ودراعة وسارية الليل وريطة بنت كعب وهي التي نقضت غزلها أنكاثاً. وفيها يقال في المثل: " خرقاء وجدت صوفة ". وقال عمرو بن عثمان: شيعت القاضي عبد العزيز بن المطلب المخزومي قاضي مكة إلى منزله وبباب المسجد حمقاء تصفق بيديها وتقول: أرق عيني ضراط القاضي. فقال لي: يا أبا حفص أتراها تعني قاضي مكة وقد يأتي لهؤلاء المجانين كلام نادر محكم لا يسمع بمثله كما قالوا: رب رمية من غير رام. قيل لدغة: أي بنيك أحب إليك قالت: الصغير حتى يكبر والمريض حتى يفيق والغائب ومن أخبار أهل العي المشبهين بالمجانين: دخل أبو طالب صاحب الطعام على هاشمية جارية حمدونة بنت الرشيد ليشتري طعاماً من طعامهم فقال لها: قد رأيت متاعك وقلبته. قالت له: هلا قلبت طعامك يا أبا طالب قال: وقد أدخلت يدي فيه فوجدته قد حمي وصار مثل الجيفة. قالت: يا أبا طالب ألست قد قلبت الشعير فأعطنا به ما شئت وإن كان فاسداً. قال الأصمعي: كان بين رجلين من النوكى عبد فقام أحدهما يضربه فقال له شريكه: ما تصنع قال: أنا أضرب نصيبي منه. قال: وأنا أضرب حصتي فيه وقام فضربه. فكان من رأي العبد أن سلح عليهما وقال: اقتسما هذه على قدر الحصص. ومر بعضهم بامرأة قاعدة على قبر وهي تبكي فقال لها: ما هذا الميت منك قالت: زوجي. قال: وما كان عمله قالت: كان يحفر القبور قال: أبعده الله أما علم أنه من حفر حفرة وقع فيها. وطلب رجل من النوكى من ثمامة بن أشرس أن يسلفه مالاً ويؤخره به. فقال: هاتان حاجتان وأنا أقضي لك إحداهما. قال: رضيت. قال: أنا أؤخرك ما شئت ولا أسلفك. وكان أبو رافع مولى رسول الله ﷺ وآل أبي رافع من فضلاء أهل المدينة وخيارهم مع بله فيهم وعي شديد - فمن ذلك أن امرأة أبي رافع رأته في نومها بعد موته فقال لها: أتعرفين فلاناً الصيرفي قالت له: نعم. قال: فإن لي عليه مائتي دينار. فلما انتبهت من نومها غدت إلى الصيرفي فأخبرته الخبر وسألته عن المائتي دينار. فقال: رحم الله أبا رافع والله ما جرت بيني وبينه معاملة قط. فأقبلت إلى مسجد المدينة فوجدت مشايخ من آل أبي رافع كلهم مقبول القول جائز الشهادة فقصت عليهم الرؤيا وأخبرتهم خبرها مع الصيرفي وإنكاره لما ادعاه أبو رافع. قالوا: ما كان أبو رافع ليكذب في نوم ولا يقظة قومي بصاحبك إلى السلطان ونحن نشهد لك عليه. فلما رأى الصيرفي عزم القوم على الشهادة لها وعلم أنهم إن شهدوا عليه لم يبرح حتى يؤديها قال لهم: إن رأيتم أن تصلحوا بيني وبين هذه المرأة على ما ترونه فافعلوا. قالوا: نعم والصلح خير ونعم الصلح الشطر فأد إليها مائة دينار من المائتين. فقال لهم: أفعل ولكن اكتبوا بيني وبينها كتاباً يكون وثيقة لي. قالوا: وكيف تكون هذه الوثيقة قال: تكتبون لي عليها أنها قبضت مني مائة دينار صلحاً على المائتي دينار التي ادعاها أبو رافع علي في نومها وأنها قد أبرأتني منها وشرطت على نفسها ألا ترى أبا رافع في نومها مرة أخرى فيدعي علي بغير هذه المائتين فتجيء بفلان وفلان يشهدان علي لها. فلما سمعوا الوثيقة فطن القوم لأنفسهم وقالوا: قبحك الله وقبح ما جئت به. ومنهم عامر بن عبد الله بن الزبير أتي بعطائه وهو في المسجد فقام ونسيه في موضعه فلما صار إلى بيته ذكره فقال: يا غلام ائتني بعطائي الذي نسيت في المسجد. قال: وأين يوجد وقد دخل المسجد بعدك جماعة قال: وبقي أحد يأخذ ما ليس له وسرقت نعله مرة فلم يلبس نعلاً بعدها حتى مات وقال: أكره أن أتخذ نعلاً فيجيء من يسرقها فيأثم. وفي هذا الضرب يقول أبو أيوب السختياني: في أصحابي من أرجو بركته ودعاءه ولا أقبل شهادته. قال الأصمعي: كان الشعبي يحدث أنه كان في بني إسرائيل عابد جاهل قد ترهب في صومعته وله حمار يرعى حول الصومعة فاطلع عليه من الصومعة فرآه يرعى فرفع يديه إلى السماء فقال: يا رب لو كان لك حمار كنت أرعيه مع حماري وما كان يشق علي. فهم به نبي كان فيهم في ذلك الزمان فأوحى الله إليه دعه فإنا أثيب كل إنسان على قدر عقله. هشام بن حسان قال: أقبل رجل إلى محمد بن سيرين فقال: ما تقول في رؤيا رأيتها قال: وما رأيت قال: كنت أرى أن لي غنماً فكنت أعطى بها ثمانية دراهم فأبيت من البيع ففتحت عيني فلم أر شيئاً فأغلقتهما ومددت يدي وقلت: هاتوا أربعة فلم أعط شيئاً. فقال له ابن سيرين: لعل القوم اطلعوا على عيب في الغنم فكرهوها. قال: يمكن الذي ذكرت. منهم أبو ياسين الحاسب وجعيفران وجرتفش وأبو حية النميري وريسيموس وصالح بن شيرزاذ الكاتب. وكان أبو حية أجن الناس وأشعر الناس وهو القائل: ألا حي أطلال الرسوم البواليا لبسن البلى مما لبسن اللياليا إذا ما تقاضى المرء يوم وليلةٌ تقاضاه أمر لا يمل التقاضيا وهو القائل أيضاً: فلأبعثن مع الرياح قصيدةً مني مغلغلةً إلى القعقاع ترد المناهل لا تزال غريبةً في القوم بين تمتعٍ وسماع وهو القائل أيضاً: فأبدت قناعاً دونه الشمس واتقت بأحسن موصولين كفٍ ومعصم وأما جعيفران الموسوس الشاعر وهو من مجانين الكوفة فإنه لقي رجلاً فأعطاه درهماً وقال له: قل شعراً على الجيم. فقال: عادني الهم فاعتلج كل هم إلى فرج سل عنك الهموم بال كاس والراح تنفرج ما جعفرٌ لأبيه ولا له بشبيه أضحى لقوم كثير فكلهم يدعيه هذا يقول بنيي وذا يخاصم فيه والأم تضحك منهم لعلمها بأبيه قال أبو الحسن: استأذن جعيفران على بعض الملوك فأذن له وحضر غداؤه فتغدى معه فلما كان من الغد استأذن فحجبه ثم أتاه في الثالثة فحجبه. فنادى بأعلى صوته: عليك إذنٌ فإنا قد تغدينا لسنا نعود وإن عدنا تعدينا يا أكلة ذهبت أبقت حرارتها داءً بقلبك ما صمنا وصلينا العتبي قال: قال أبو وائل لأبي: إن في حماقةً ولكن إن طلبت الشعر وجدت عندي منه علما. قال: وهل تقول منه شيئاً قال: نعم أقول أجود من قولك وأنا الذي أقول: لو أن جومل كلمتني بعدما نسيت نوائحي البكاء وأقبر لحسبت ميت أعظمي سيجيبها أو أن باليها الرميم سينشر قال له أبي: أما الشعر فحسن إلا أن اسم المرأة قبيح. قال: ألا إن اسم المرأة جمل ولكنني ملحته بجومل. فقال له: إن هذا من الحماقة التي برئ إلينا منها. ما أوجع البين من غريب فكيف إن كان من حبيب يكاد من شوقه فؤادي إذا تذكرته يموت فقال له أبي: إن هذا باء وهذا تاء. قال: لا تنقط أنت شيئاً. قلت: يا هذا إن البيت الأول مخفوض وهذا مرفوع. قال: أنا أقول لا تنقط وهو يشكل. ولما توفيت أم سليمان بن وهب الكاتب أخي الحسن بن وهب دخل عليه رجل من نوكى الكتاب يسمى صالح بن شيرزاذ بشعر يرثيها فيه فأنشده: لأم سليمان علينا مصيبةٌ مغلغلة مثل الحسام البواتر وكنت سراج البيت يا أم سالم فأمسى سراج البيت وسط المقابر فقال سليمان: ما نزل بأحد من خلق الله ما نزل بي ماتت أمي ورثيت بمثل هذا الشعر ونقل اسمي من سليمان إلى سالم. ومن قول صالح بن شيرزاذ هذا: لا تعدلن دواء بالفساء فإن كان الضراط فذاك الآذريطوس ودخل بعض شعراء المجانين على أبي الواسع وحوله بنوه فاستأذنه في الذنه في الإنشاد فاستعفى. فلم يزل به حتى أذن له. فأنشده شعراً فلما انتهى فيه إلى قوله: قال له: ليتك تركتنا رأساً برأس. وقيل: وفد أعرابي من شعراء المجانين إلى نصر بن سيار بشعر تغزل فيه بمائة بيت ومدحه ببيتين فقال له: والله ما تركت قافيةً لطيفة ولا معنى إلا شغلت به نسيبك دون مدحك. قال: سأقول غير هذا. فغدا عليه بشعر يقول فيه: هل تعرف الدار لأم الغمر دع وحبر مدحةٌ في نصر فقال له نصر: لا ذا ولا ذاك. وقال بعض العلماء: ما شبهت تأويل الرافضة في قبح مذهبهم إلا بتأويل رجل من المجانين مجانين أهل مكة في الشعر فإنه قال: ما سمعت بأكذب من بني تميم زعموا أن قول القائل: بيتٌ زرارة محتبٍ بفنائه ومجاشع وأبو الفوارس نهشل فزعموا أن هذه أسماء رجال منهم. قال بعض أهل الأدب: قلت له: وما عندك أنت فيه قال: البيت بيت الله والزرارة الحجر زررت حول البيت ومجاشع زمزم تجشعت بالماء وأبو الفوارس هو أبو قبيس جبل مكة. قلت له: فنهشل قال: نهشل وفكر فيه ساعة ثم قال: قد أصبته هو مصباح الكعبة طويل أسود فذاك النهشل. قال المبرد محمد بن يزيد النحوي: خرجنا من بغداد نريد واسطا فملنا إلى دير هزقل ننظر في المجانين فإذا بالمجانين كلهم قد رأونا ونظرنا إلى فتى منهم قد غسل ثوبه ونظفه وجلس ناحية الله يعلم أنني كمد لا أستطيع أبث ما أجد نفسان لي نفس تضمنها بلد وأخرى حازها بلد وأرى المقيمة ليس ينفعها صبر وليس يفوقها جلد وأظن غائبتي كشاهدتي بمكانها تجد الذي أجد فقلت له: أحسنت والله. فأوما بيده إلى شيء ليرمينا به. وقال: أمثلي يقال له أحسنت. قال: فولينا عنه هاربين. فقال: أسألكم بالله إلا ما رجعتم حتى أنشدكم فإن أحسنت قلتم لي: أحسنت وإن أسأت قلتم لي: أسأت. قال: فرجعنا ووقفنا وقلنا له: قل فأنشأ يقول: لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم ورحلوها وسارت بالدجى الإبل وقلبت من خلال السجف ناظرها ترنو إلي ودمع العين ينهمل وودعت ببنان عقده عنم ناديت: لا حملت رجلاك يا جمل ويلي من البين ما ذا حل بي وبها من نازل البين حل البين وارتحلوا يا راحل العيس عرج كي نودعهم يا راحل العيس في ترحالك الأجل إني على العهد لم أنقض مودتهم يا ليت شعري لطول العهد ما فعلوا وقال محمد بن يزيد المبرد: دخلنا دير هزقل فإذا بمجنون بيده حجر وقد تفرق الناس عنه وهو يقول: يا معشر إخواني اسمعوا مني. ثم أنشأ يقول: وذي نفس صاعد يئن بلا عائد يكر على جحفل ويضعف عن واحد وأنشد أبو العباس لماني الموسوس: له وجنات في بياض وحمرة فحافاتها بيض وأوساطها حمر رقاق يجول الماء فيها كأنها زجاج أجيلت في جوانبها الخمر وقال محمد بن يزيد: أصابتنا سحابة جود ثم أقلعت سريعاً فمر بي ماني الموسوس فقال: لا تظن الذي جرى مطراً كان ممطراً إنما ذاك كله دمع عيني تحدرا وتوالت غيومها من همومي تفكرا هكذا حال من يرى من حبيب تغيرا وقف ماني الموسوس على أبي دلف فأنشده: كرات عينك في العدا تغنيك عن سل السيوف وقال أبو دلف: والله ما مدحت قط بمثل هذا البيت وأمر له بعشرة آلاف درهم فأبى أن يقبضها وقال: نقنع من هذا بنصف درهم في هريسة. ولماني الموسوس: من الظباء ظباء همها السحب ترعى القلوب وفي قلبي لها عشب أفدى الظباء اللواتي لا قرون لها وحليها الدر والياقوت والذهب يا حسن ما سرقت عيني وما انتهب والعين تسرق أحياناً وتنتهب فتلك من حسن عينيها وهبت لها قلبي لو قبلت مني الذي أهب وما أريدهما إلا لرؤيتهما فإن تأبت فما لي فيهما أرب إذا يدٌ سرقت فالحد يقطعها والحد في سرق العينين لا يجب ومر علي بن الجهم بمبرسم قد اجتمع الناس عليه وتحلقوا حوله فلما رآه المبرسم قصد نحوه وأخذ بعنانه ثم أنشأ يقول: لا تحفلن بمعشر ال همج الذين أراهم فوحق من أبلى بهم نفسي ومن عافاهم لو قيس موتاهم بهم كانوا هم موتاهم هذا السعيد لديهم قد صار بي أشقاهم قال أبو البختري الشاعر: كان يبلغني أن ببغداد مجنوناً يكنى أبا فحمة له بديهة حسنة فتعرضت له فأتيح لي لقاؤه في بعض سكك بغداد فقلت له: كيف أصبحت أبا فحمة فأشنأ يقول: أصبحت منك على شفا جرفٍ متعرضاً لموارد التلف وأراك نحوي غير ملتفت متحرفاً عن غير منحرف يا من أطال بهجره كلفي أسفي عليك أشد من كلفي قال أبو البختري: فأخرجت له قبضة نرجس كانت في كمي فحييته بها فجعل يشمها ملياً ثم أنشأ يقول: لما تزوجت الجنوب بهاطل جون هتون زبرج دلاح أضحى يلقحها بوسمي الصبا فاستثقلت حملاً بغير نكاح حتى إذا حان المخاض تفجرت فأتت بولدان بلا أرواح حاك الربيع لها ثياباً وشيت بيد الندى وأنامل الأرواح من أصفر في أزهر قد زانه تبر على ورق من الأوضاح قال الحسن بن هانئ: لقيت ماني الموسوس فأنشدني: شعر حي أتاك من لفظ ميت صار بين الحياة والموت وقفاً قد برت جسمه الحوادث حتى كاد عن أعين البرية يخفى لو تأملتني لتبصر شخصي لم تبين من المحاسن حرفا ثم مضيت فأتيت جعيفران الموسوس وهو شيخ من بني هاشم أرت اللسان وعليه قيد من فضة وفي عنقه غل من ذهب فقال لي: من أين دببت يا حسن قلت: من بيت مانويه. فقال: في حر أم مانويه! فدعا بدواة وقرطاس وقال لي اكتب: ما غرد الديك ليلاً في دجنته إلا حثثت إليك السير مجهودا ولا هدت كل عين لذ راقدها بنومة في لذيذ العيش ممهودا إلا امتطيت الدجى شوقاً إليك ولو أصبحت في حلق الأقياد مصفودا أسعى مخاطرةً بالنفس يا أملي والليل مدرع أثوابه السودا فلم ترق ولم ترث لمكتئب زودته حرقات القلب تزويدا هيهات لا غدر في جن ولا بشر إلا يخال معداً فيك موجودا يلطم وجهه ويبكي وينادي: أيها الناس الفراق مر المذاق. فقلت له: أبا محمد من أين أقبلت قال: شيعت الحاج. قلت: وما الذي حملك على تشييعهم فقال: لي فيهم سكن. قلت: فهل قلت فيهم شيئاً قال: نعم وأنشدني: هم رحلوا يوم الخميس غديةً فودعتهم لما استقلوا وودعوا فلما تولوا ولت النفس معهم فقلت ارجعي قالت إلى أين أرجع إلى جسد ما فيه لحم ولا دم وما هو إلا أعظمٌ تتقعقع وعينان قد أعماهما الحزن والبكا وأذن عصت عذالها ليس تسمع أبو بكر الوراق قال: حدثني صديق لي قال: رأيت رجلاً من أهل الأدب قد ذهب عقله بالمحبة وخلفه دابة له تدور معه فاستوقفته وقلت له: يا فلان ما حالك وأين النعمة قال: تغير قلبي فتغيرت النعمة. قلت: بم تغير قال: بالحب ثم بكى وأنشأ يقول: أرى التحمل شيئاً لست أحسنه وكيف أخفي الهوى والدمع يعلنه أم كيف صبر محب قلبه دنف الهجر ينحله والشوق يحزنه وإنه حين لا وصلٌ يساعفه يهوى السلو ولكن ليس يمكنه وكيف ينسى الهوى من أنت همته وفترة اللحظ من عينيك تفتنه فقلت: أحسنت والله. فقال: قف قليلاً فوالله لأطرحن في أذنيك أثقل من الرصاص وأخف على الفؤاد من ريش الحواصل وأنشد: للحب نارٌ على قلبي مضرمة لم تبلغ النار منها عشر معشار الماء ينبع منها من محاجرها يا للرجال لماء فاض من نار ثم وقف وأنشد: أعاد الصدود فأحيا الغليلا وأبدى الجفاء فصبراً جميلا ورد الكتاب ولم يقره لئلا أرد إليه الرسولا وأحسب نفسي على ما ترى ستلقى من الهم هجراً طويلا وأحسب قلبي على ما أرى سيذهب مني قليلاً قليلا ثم ترك يدي ومضى. وحكى أبو العباس المبرد قال: دخل عمرو بن مسعدة على المأمون وبين يديه جام زجاج فيه سكر طبرزذ وملح جريش. قال: فسلمت. فرد وعرض علي الأكل. فقلت: ما أريد شيئاً هنأك الله يا أمير المؤمنين فلقد باكرت بالغداء فإني بت جائعاً. ثم أطرق ورفع رأسه وهو فلا تكن سابري العرض محتشما من القليل فلست الدهر محتفلا ودعا برطل ودخل رجل من أجلة الفقهاء فمد يده إليه فقال: والله يا أمير المؤمنين ما شربتها ناشئاً فلا تسقنيها شيخاً. فرد يده إلى عمرو بن مسعدة فأخذها منه وقال: كنت يا أمير المؤمنين الله الله إني عاهدت الله في الكعبة إلا أشربها أبداً. ففكر طويلاً والكأس في يد عمرو بن مسعدة حتى لقد ظن أنه سيأمر فيها. ثم قال: ردا علي الكأس إنكما لا تعلمان الكأس ما تجدي لو ذقتما ما ذقت ما امتزجت إلا بدمعكما من الوجد خوفتماني الله ربكما وكخيفتيه رجاؤه عندي إن كنتما لا تشربان معي خوف العقاب شربتها وحدي محمد بن يزيد الأسدي قال: حدثني حبيب بن أوس قال: كنت في غرفة لي على شاطئ دجلة في وقت السحر أيام الخريف فإذا بغلام كنت أعرفه بجمال قد تجرد من ثيابه وألقى نفسه في الدجلة يسبح فيها وقد احمر جلده من برد الماء وإذا ماني الموسوس يرمقه ببصره فلما خرج من الماء قال: خمش الماء جلده الرطب حتى خلته لابساً غلالة خمر قلت له: لعنك الله يا ماني أبعد الجهاد والغزو تخمش غلاماً قد بات مؤاجرا في الحمامات فقال لي: مثلك يخاطب يا أحمق وإنا يخاطب هذا وأشار إلى السماء وقال: يكفيك تقليب القلوب وإنني لفي ترح مما ألاقي فما ذنبي خلقت وجوهاً كالمصابيح فتنة وقلت اهجروها عز ذلك من خطب فإما أبحت الصب ما قد خلقته وإما زجرت القلب عن لوعة الحب أخذ هذا المعنى يزيد بن عثمان فقال: أيا رب تخلق ما تخلق وتنهى عبادك أن يعشقوا إذا هكذا صغت حسن الوجوه فأي البرية لا يفسق خلقت الملاح لنا فتنة وقلت اعبدوا ربكم واتقوا وقال أبو بكر الموسوس في نصراني: أبصرت شخصك في نومي تعانقني كما تعانق لام الكاتب الألفا يا من إذا درس لإنجيل ظل له قلب الحنيف عن القرآن منصرفا وله فيه: زناره في خصره معقود كأنه من كبدي مقدود أخبار البخلاء أجمع الناس على بخل أهل مرو ثم أهل خراسان. قال ثمامة بن أشرس: ما رأيت الديك قط في بلدة إلا وهو يدعو الدجاج ويثير الحب إليها ويلطف بها إلا في مرو فإني رأيته يأكل وحده فعلمت أن لؤمهم في المآكل. ورأيت فيمرو طفلاً صغيراً في يده بيضة فقلت له: أعطني هذه البيضة فقال: ليس تسع يدك. فعلمت أن اللؤم والمنع فيهم بالطبع المركب والجبلة المفطورة. واشتكى رجل مروزي ضرراً من سعال فدلوه على سويق اللوز فاستثقل النفقة ورأى الصبر على الوجع أخف عليه فلم يزل يماطل الأيام ويدافع الألم حتى أتيح له بعض الموفقين فدله على ماء النخالة وقال له: إنه يجلو الصدر. فأمر بالنخالة فطبخت له وشرب ماءها فجلا صدره. ووجده بعضهم فلما حضر غداؤه أمر به فرفع إلى العشاء وقال لأم عياله: اطبخي لأهل بيتنا النخالة فإني وجدت ماءها يعصم ويجلي الصدر. فقالت له زوجته: قد جمع الله في هذا الدواء دواء وغذاء. وقال خاقان بن صبيح: دخلت على رجل ليلاً من أهل خراسان فإذا هو قد أتى بمسرجة فيها فتيل دقيق وقد ألقى في دهن المسرجة شيئاً من ملح وقد علق فيها عودا بخيط معقود إلى المسرجة فإذا عشي المصباح أخرج به رأس الفتيل فقلت: ما بال هذا العود مربوطاً فقال: هذا عود قد شرب الدهن فإذا لم نحفظه وضاع احتجنا إلى غيره فلا نجده إلا عطشان فإذا كان هذا دأبنا ضاع من دهننا في الشهر بقدر كفايتنا ليلة. قال: فبينا أنا أتعجب واسأل الله العافية إذ دخل علينا شيخ من أهل مرو ونظر إلى العود فقال: أبا فلان فررت من شيء ووقعت فيما هو شر منه أما علمت أن الشمس والريح تأخذان من سائر الأشياء أو ليس كان البارحة هذا العود عند إطفاء السراج وأروى وهو عند إسراجك الليلة أعطش قد كنت أنا جاهلاً مثلك زماناً حتى وفقني الله إلى ما هو أرشد اربط عافاك الله مكان العود إبرة كبيرة أو مسلة صغيرة فإن الحديد أبقى وهو مع ذلك غير نشاف والعود والقصبة ربما تعلقت بهما الشعرة من قطن الفتيلة فتشخص لها وربما كان ذلك سبباً لإطفائها. قال الخراساني: ألا وإنك تعلم أنك من المسرفين حتى تعمل بأعمال المصلحين. قال الأصمعي: قال لي أبو محمد الخزامي واسمه عبد الله بن كاسب ونحن في العسكر إن الشيب سهك وبياض الشعر الأسود هو موته كما أن سواده حياته ألا ترى أن موضع دبرة الحمار الأسود لا ينبت فيها إلا شعر أبيض والناس لا يرضون منا في هذا العسكر إلا بالعناق والمشامة والطيب غال ممتنع الجانب فلست أرى شيئاً هو أحسن بنا من اتخاذ مشط صندل فإن ريحه طيبة والشعر سريع القبول وأقل ما يصنع أن ينفي سهك الشيب حتى تكون حاله لا لنا ولا علينا. وكان ثمامة بن أشرس يقول: إياكم وأعداء الخبز أن تأتدموا بها واعلموا أن أعدى عدو له المملوح فلولا أن الله أعان عليه بالماء لأهلك الحرث والنسل. وكان يقول: كلوا الباقلاء بقشرها فإن الباقلاء تقول: من أكلني بقشري فقد أكلني ومن أكلني بغير قشري فقد أكلته. ومن البخلاء هشام بن عبد الملك. قال خالد بن صفوان: دخلت على هشام. فأطرفته وحدثته. فقال: سل حاجتك فقلت: يا أمير المؤمنين تزيد في عطائي عشرة دنانير. فأطرق حينا وقال: فيم ولم وبم ألعبادة أحدثتها أم لبلاء حسن أبليته في أمير المؤمنين ألا لا يا بن صفوان ولو كان لكثر السؤال ولم يحتمله بيت المال فقلت: وفقك الله يا أمير المؤمنين وسددك. فأنت والله كما قال أخو خزاعة: إذا المال لم يوجب عليك عطاءه صنيعة قربى أو صديق توافقه منعت وبعض المنع حزم وقوةٌ ولم يفتلتك المال إلا حقائقه قيل لخالد بن صفوان: ما حملك على تزيين البخل له قلت: أحببت أن يمنع غيري فيكثر من وخرج هشام بن عبد الملك متنزها ومعه الأبرش الكلبي فمر براهب في دير فعدل إليه فأدخله الراهب بستاناً له وجعل يجتني له أطيب الفاكهة. فقال له هشام: يا راهب بعني بستانك. فسكت عنه الراهب. ثم أعاد عليه فسكت عنه. فقال له: ما لك لا تجيبني فقال: وددت أن الناس كلهم ماتوا غيرك. قال: لماذا ويحك قال: لعلك أن تشبع. فالتفت هشام إلى الأبرش فقال: ما سمعت ما قال هذا قال: والله إن لقيك حر غيره. ومن البخلاء: عبد الله بن الزبير وكانت تكفيه أكلة لأيام ويقول: إنما بطني شبر في شبر فما عسى أن يكفيه. وقال فيه أبو وجرة مولى آل الزبير: لو كان بطنك شبراً قد شبعت وقد أبقيت خبزاً كثيراً للمساكين فإن تصبك من الأيام جائحةٌ لم نبك منك على دنيا ولا دين ما زلت في سورة الأعراف تدرسها حتى فؤادك مثل الخز في اللين إن امرأ كنت مولاه فضيعني يرجو الفلاح لعندي حق مغبون وابن الزبير هو الذي قال: أكلتم تمري وعصيتم أمري. فقال فيه الشاعر: رأيت أبا بكر وربك غالب على أمره يبغي الخلافة بالتمر وأقبل إليه أعرابي فقال: أعطني وأقاتل عنك أهل الشام. فقال له: اذهب فقاتل فإن أغنيت أعطيناك. قال: أراك تجعل روحي نقداً ودراهمك نسيئة. وأتاه أعرابي يسأله حملا ويذكر أن ناقته نقبت. فقال: انعلها من النعال السبتية واخصفها بهلب. قال الأعرابي: إنما أتيتك مستوصلاً ولم آتك مستوصفاً فلا حملت ناقةٌ حملتني إليك. قال: إن وصاحبها. ومن رؤساء أهل البخل: محمد بن الجهم وهو الذي قال: وددت أن عشرة من الفقهاء وعشرة من الشعراء وعشرة من الخطباء وعشرة من الأدباء تواطأوا على ذمي واستهلوا بشتمي حتى ينشر ذلك عنهم في الآفاق حتى لا يمتد إلي أمل آمل ولا ينبسط نحوي رجاء راج. وقال له أصحابه: إنما نخشى أن نقعد عندك فوق مقدار شهوتك فلو جعلت لنا علامة نعرف بها وقت استحسانك لقيامنا قال: علامة ذلك أن أقول: يا غلام هات الغداء. وذكر ثمامة بن أشرس محمد بن الجهم فقال: لم يطمع أحداً قط في ماله إلا ليشغله عن الطمع في غيره ولا شفع في صديق ولا تكلم في حاجة محترم إلا ليلقن المسؤول حجة المنع ويفتح على السائل باب الحرمان. ومن البخلاء اللئام مروان بن أبي حفصة الشاعر. قال أبو عبيدة عن جهم قال: أتيت اليمامة فنزلت على مروان بن أبي حفصة فقدم إلي تمراً وأرسل غلامه بفلس وسكرجة يشتري زيتاً. فأتى الغلام بالزيت. فقال له: خنتني وسرقتني. قال: وفيم كنت أخونك وأسرقك في فلس قال: أخذت الفلس لنفسك واستوهبت الزيت. ومن البخلاء: زبيدة بن حميد الصيرفي. استلف من بقال على بابه درهمين وقيراطاً فمطله بها ستة أشهر ثم قضاه درهمين وثلاث حبات. فاغتاظ البقال وقال: سبحان الله! أنت صاحب مائة ألف دينار وأنا بقال لا أملك مائة فلس وإنما أعيش بكدي واستقضي الحبة على بابك والحبتين صاح على بابك حمال ولا يحضر تلك الساعة وكيلك فأعنتك وأسلفتك درهمين وأربع شعيرات فقضيتني بعد ستة أشهر درهمين وثلاث شعيرات. فقال زبيدة: يا مجنون أسلفتني في الصيف وقضيتك في الشتاء وثلاث شعيرات شتوية أوزن من أربعة صيفية لأن هذه ندية وتلك يابسة وما أشك أن معك بعد هذا كله فضلاً. قال الأصمعي: كنت عند رجل من ألأم الناس وأبخلهم وكان عنده لبن كثير فسمع به رجل ظريف فقال: لا أموت أو أشرب من لبنه. فأقبل مع صاحب له حتى إذا كان بباب صاحب اللبن تغاشى وتماوت فقعد صاحبه عند رأسه يسترجع فخرج إليه صاحب اللبن فقال: ما باله يا سيدي قال: هذا سيد بني تميم أتاه أمر الله هاهنا وكان قال لي: اسقني لبناً. قال صاحب اللبن: هذا هين موجود ائتني يا غلام بعلبة من لبن. فأتاه بها. فأسند صاحبه إلى صدره وسقاه حتى أتى عليها ثم تجشأ. فقال صاحبه لصاحب اللبن: أترى هذه الجشأة راحة الموت قال: أماتك الله وإياه وفطن بأنه خدعة. ومن أمثال العرب في البخل قولهم: ما هو إلا أبنة عصا أو عقدة رشا. لأن عقدة الرشا المبلول لا تكاد تنحل. قيل لبختى المدينة: ما الجرح الذي لا يندمل قالت: حاجة الكريم إلى اللئيم ثم يرده. قيل لها: فما الذل قالت: وقوف الشريف بباب الدنيء ثم لا يؤذن له. قيل لها: فما الشرف قالت: اتخاذ المنن في رقاب الرجال. والعرب تقول لمن لم يظفر بحاجته وجاء خائباً: " جاء فلان على غبيراء الظهر " و " جاء على حاجبه صوفة ". و " جاء بخفي حنين ". وقال أبو عطاء السندي في يزيد بن عمر بن هبيرة: ثلاث حكتهن لقوم قيسٍ طلبت بها الأخوة والثناء رجعن على حواجبهن صوفٌ وعند الله نحتسب الجزاء قال الأصمعي: كان يقول المروزي لزواره إذا أتوه: هل تغذيتم اليوم فإن قالوا نعم قال: والله لولا أنكم تغذيتم لأطعمتكم لونا ما أكلتم مثله ولكن ذهب أول الطعام بشهوتكم وإن قالوا: لا قال: لولا أنكم لم تتغذوا لسقيتكم أقداحاً من نبيذ الزبيب ما شربتم مثله فلا يصير في أيديهم منه شيء. وكان ثمامة بن أشرس إذا دخل عليه أصحابه وقد تعشوا عنده قال لهم: كيف كان مبيتكم ومنامكم فإن قال أحدهم إنه نام ليلته في هدوء وسكون قال النفس إذا أخذت قوتها اطمأنت. وإذا قال أحدهم إنه لم ينم ليلته قال: إنه من إفراط الكظة والإسراف من البطنة. ثم يقول: كيف كان شربكم للماء فإن قال أحدهم: كثيراً قال: التراب الكثير لا يبله إلا الماء الكثير. وإن قالوا قليلا. قال: ما تركت للماء مدخلاً. وكان إذا أطعم أصحابه استلقى على قفاه ثم يتلو قوله تعالى: " إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا ". ودخل عليه رجل وبين يديه طبق فراريج فغطى الطبق بذيله وأدخل رأسه في جيبه وقال للرجل الداخل: أدخل في البيت الآخر حتى أفرغ من بخوري. وشوي لأبي جعفر الهاشمي دجاج ففقد فخذاً من دجاجة فأمر فنودي في منزله: من هذا الذي تعاطى فعقر والله لا أخبز في التنور شهراً أو ترد. فقال ابنه الأكبر: يا أبت لا تؤاخذنا وقال دعبل الشاعر: كنا يوما عند سهل بن هارون فأطلنا الحديث حتى أضر به الجوع فدعا بغذائه فإذا بصفحة عدملية فيها مرق لحم ديك قد هرم لا تحز فيها سكين ولا تؤثر فيه الضرس فأخذ قطعة خبز فقلب بها جميع ما في الصفحة ففقد الرأس فأطرق ساعة ثم رفع رأسه إلى الغلام وقال: أين الرأس قال: رميت به. قال: لم قال: لم أظنك تأكله ولا تسأل عنه. قال: ولأي شيء ظننت ذاك فوالله إني لأبغض من يرمي برجله فضلاً عن رأسه والرأس رئيس الأعضاء وفيه الحواس الخمس ومنه يصيح الديك وفيه العين التي يضرب فيها المثل في الصفاء فيقال: شراب مثل عين الديك. ودماغه عجيب لوجع الكلية ولم ير قط عظم أهش من عظم رأسه فإن كان بلغ من جهلك ألا تأكله فعندنا من يأكله انظر أين هو قال: والله ما أدري أين رميته. قال: لكني والله أدري أنك رميت به في بطنك. وأهدى رجلٌ من قريش لزياد بن عبيد الله وهو على المدينة طعاماً فثقل عليه ذلك. فقال: اجمعوا المساكين وأطعموهم إياه فجمعوا وكشف عن الطعام فإذا طعام له بالٌ فندم على الإرسال للمساكين وقال للغلام: انطلق إلى هؤلاء المساكين وقل لهم: إنكم تجتمعون في المسجد فتفسون فيه فتؤذون الناس لا أعلم أنه اجتمع فيه منكم اثنان. وقال: دخلت على يحيى بن عبد الله بن خالد بن أمية وقوم يأكلون عنده فمد يده إلى رغيف الخوان فرفعه وجعل يرطله بيده ويقول: يزعمون أن خبزي صغير فمن هذا الزاني ابن الزانية الذي يأكل نصف رغيف منه قال: ودخلت عليه يوماً والمائدة موضوعة والقوم يأكلون وقد رفع بعضهم يده فمددت يدي لآكل فقال أجهز على الجرحى لا تتعرض للأصحاء يقول: تعرض للدجاجة التي قد نيل منها والفرخ المنزوع الفخذ فأما الصحيح فلا تتعرض له. فهذا معناه في الجرحى. وسأل يحيى بن خالد أبا الحارث جمين عن طعام رجل فقال: أما مائدته فمقببة وأما صحافه فمخروطة من حب الخردل وبين الرغيف والرغيف فترة نبي. قال: فمن يحضرها قال: الكرام الكانبون. قال: فمن يأكل معه قال: الذباب. قال له يحيى: وأرى ثوبك مخرقاً فلا يكسوك ثوباً وأنت في صحبته قال: جعلت فداك والله لو ملك بيتاً من بغداد إلى الكوفة مملوءاً إبراً وفي كل إبرة منه خيط وجاءه يعقوب يسأله إبرة منها يخيط بها قميص يوسف ابنه الذي قد من دبر ومعه جبريل وميكائيل يضمنان عنده لم يفعل. أخذ هذا المعنى محمد بن مسلمة فقال: يهجوا ابن الأغلب: لو أن قصرك يا ابن أغلب كله إبر يضيق بهن رحب المنزل وأتاك يوسف يستعيرك إبرةً ليخيط قد قميصه لم تفعل وقيل لحصين: أتغديت عند فلان قال: لا ولكني مررت به يتغدى. قيل: فكيف علمت أنه يتغدى قال رأيت غلمانه ببابه في أيديهم قسي البندق يرمون الذباب به في الهواء. وقال أبو الحارث جمين: دخلت على فلان فوضع بين أيدينا مائدة كنا أشوق إلى الطعام إذا رفعت منا إليه إذا وضعت. وحضر أعرابي سفرة هشام بن عبد الملك فبينا هو يأكل إذ تعلقت شعرة في لقمة الأعرابي فقال له هشام: عندك شعرة في لقمتك يا أعرابي. قال: وإنك لتلاحظني ملاحظة من يرى الشعرة في لقمتي! والله لا أكلت عندك أبدا. وخرج وهو يقول: وللموت خير من زيارة باخل يلاحظ أطراف الأكيل على عمد وقال آخر: ولو عليك اتكالي في الغداء إذا لكنت أول مقتول من الجوع يقول عند دعاء الضيف مبتدئاً صوت ضعيف وداع غير مسموع قال المدائني: كان للمغيرة بن أبي عبد الله الثقفي وهو والي الكوفة جدي. يوضع على مائدته بعد الطعام لا يمسه هو ولا أحد ممن يحضر. فحضر مائدته أعرابي فبسط يده وأسرع في الأكل. فقال: يا أعرابي إنك لتأكل الجدي بحرد كأن أمه نطحتك. فقال له الأعرابي: أصلحك الله وأنت تشفق عليه كأن أمه أرضعتك. ثم بسط الأعرابي يده إلى بيضة بين يديه فقال: خذها فإنها بيضة العقر. فلم يحضر طعامه بعد ذلك.