كتاب الياقوتة الثانية في علم الألحان واختلاف الناس فيه
قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في أعاريض الشعر وعلل القوافي وفسرنا جميع ذلك بالمنظوم والمنثور ونحن قائلون بعون الله وإذنه في علم الغناء واختلاف الناس فيه ومن كرهه ولأي وجه كرهه ومن استحسنه ولأي وجه استحسن. وكرهنا أن يكون كتابنا هذا بعد اشتماله على فنون الآداب والحكم والنوادر والأمثال عطلا من هذه الصناعة التي هي مراد السمع ومرتع النفس وربيع القلب ومجال الهوى ومسلاة الكئيب وأنس الوحيد وزاد الراكب لعظم موقع الصوت الحسن من القلب وأخذه بمجامع النفس. قال أبو سعيد بن مسلم: قلت لابن دأب: قد أخذت من كل شيء بطرف غير شيء واحد فلا أدري ما صنعت فيه فقال: لعلك تريد الغناء قلت: أجل. قال: أما إنك لو شهدتني وأنا أترنم بشعر كثير عزة حيث يقول: وما مر من يوم علي كيومها وإن عظمت أيام أخرى وجلت لاسترخت تكتك. قال: قلت: أتقول لي هذا قال: إي والله وللمهدي أمير المؤمنين كنت أقوله. فضل الصوت الحسن قال بعض أهل التفسير في قول الله تبارك وتعالى: " يزيد في الخلق ما يشاء ": هو الصوت الحسن. وقال النبي ﷺ لأبي موسى الأشعري لما أعجبه حسن صوته: لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود. وزعم أهل الطب أن الصوت الحسن يسري في الجسم ويجري في العروق فيصفو له الدم ويرتاح له القلب وتهش له النفس وتهتز الجوارح وتخف الحركات. ومن ذلك كرهوا للطفل أن ينوم على أثر البكاء حتى يرقص ويطرب. وقالت ليلى الأخيلية للحجاج حين سألها عن ولدها وأعجبه ما رأى من شبابه: إني والله ما حملته سهوا ولا وضعته يتناً ولا أرضعته غيلا ولا أنمته مئقاً. يعني لم أنومه مستوحشا باكياً. ما حملته سهوا. تعني في بقايا الحيض. ويقال: حملت المرأة وضعا وتضعا إذا حملت في استقبال الحيض. وقولها ولا وضعته يتنا تعني منكسا. وقولها: ولا أرضعته غيلا تعني لبناً فاسداً. وزعمت الفلاسفة أن النغم فضل بقي من المنطق لم يقدر اللسان على استخراجه فاستخرجته الطبيعة بالألحان على الترجيع لا على التقطيع فلما ظهر عشقته النفس وحن إليه الروح. ولذلك قال أفلاطون: لا ينبغي أن تمنع النفس من معاشقة بعضها بعضا. ألا ترى أن أهل الصناعات كلها إذا خافوا الملالة والفتور على أبدانهم ترنموا بالألحان فاستراحت لها أنفسهم. وليس من أحد كائنا من كان إلا وهو يطرب من صوت نفسه ويعجبه طنين رأسه. ولو لم يكن من فضل الصوت إلا أنه ليس في الأرض لذة تكتسب من مأكل أو ملبس أو مشرب أو نكاح أو صيد إلا وفيها معاناة على البدن وتعب على الجوارح ما خلا السماع فإنه لا معاناة فيه على البدن ولا تعب على الجوارح وقد يتوصل بالألحان الحسان إلى خير الدنيا والآخرة. فمن ذلك أنها تبعث على مكارم الأخلاق ﷺ اصطناع المعروف وصلة الأرحام والذب عن الأعراض والتجاوز عن الذنوب. وقد يبكي الرجل بها على خطيئته ويرقق القلب من قسوته ويتذكر نعيم الملكوت وكان أبو يوسف القاضي ربما حضر مجلس الرشيد وفيه الغناء فيجعل مكان السرور به بكاءً كأنه يتذكر به نعيم الآخرة. وقال أحمد بن أبي داود: إن كنت لأسمع الغناء من مخارق عند المعتصم فيقع علي البكاء. حتى إن البهائم لتحن إلى الصوت الحسن وتعرف فضله. وقال العتابي وذكر رجلا فقال: والله إن جليسه لطيب عشرته لأطرب من الإبل على الحداء والنحل على الغناء. وكان صاحب الفلاحات يقول بأن النحل أطرب الحيوان كله إلى الغناء وأن أفراخها لا تستنزل بمثل الزجل والصوت الحسن. قال الراجز: والطير قد يسوقه للموت إصغاؤه إلى حنين الصوت وبعد: فهل خلق الله شيئاً أوقع بالقلوب وأشد اختلاساً للعقول من الصوت الحسن لا سيما إذا كان من وجه حسن كما قال الشاعر: رب سماع حسن سمعته من حسن مقرب من فرح مبعد من حزن لا فارقاني أبداً في صحة من بدني قل للجبان إذا تأخر سرجه هل أنت من شرك المنية ناجي إلا ثاب إليه روحه وقوي قلبه. أم هل على الأرض بخيل قد تقفعت أطرافه لؤماً ثم غني بقول حاتم الطائي: يرى البخيل سبيل المال واحدة إن الجواد يرى في ماله سبلا إلا انبسطت أنامله ورشحت أطرافه أم هل على الأرض غريب نازح الدار بعيد المحل يغني بشعر علي بن الجهم: يا وحشتا للغريب في البلد الن ازح ماذا بنفسه صنعا فارق أحبابه فما انتفعوا بالعيش من بعده ولا انتفعا يقول في نأيه وغربته عدل من الله كل ما صنعا إلا انقطعت كبده حنيناً إلى وطنه وتشوقاً إلى سكنه. اختلاف الناس في الغناء اختلاف الناس في الغناء فأجازه عامة أهل الحجاز وكرهه عامة أهل العراق. فمن حجة من أجازه أن أصله الشعر الذي أمر النبي ﷺ وحض عليه وندب أصحابه إليه وتجند به على المشركين. فقال لحسان: شن الغارة على بني عبد مناف فوالله لشعرك أشد عليهم من وقع السهام في غلس الظلام. وهو ديوان العرب ومقيد أحكامهم والشاهد على مكارمها. وأكثر شعر حسان بن ثابت يغنى به. قال فرج بن سلام: حدثني الرياشي عن الأصمعي قال: شهد حسان بن ثابت مأدبة لرجل من الأنصار وقد كف بصره ومعه ابنه عبد الرحمن فكلما قدم شيء من الطعام قال حسان لابنه: أطعام يد أم طعام يدين فيقول له: طعام يد. حتى قدم الشواء. فقال له: هذا طعام يدين. فقبض الشيخ يده. فلما رفع الطعام اندفعت قينةٌ لهم تغني بشعر حسان: انظر خليلي بباب جلق هل تبصر دون البلقاء من أحد جمال شعثاء قد هبطن من ال محبس بين الكثبان فالسند قال: فجعل حسان يبكي وجعل عبد الرحمن يومئ إلى القينة أن تردده. قال الأصمعي: فلا أدري ما الذي أعجب عبد الرحمن من بكاء أبيه. وقالت عائشة رضي الله عنها: علموا أولادكم الشعر تعذب ألسنتهم. وأردف النبي ﷺ الشريد فايتنشده من شعر أمية فأنشده مائة قافية وهو يقول: هيه استحساناً لها. فلما أعياهم القدح في الشعر والقول فيه قالوا: الشعر حسن ولا نرى أن يؤخذ بلحن حسن. وأجازوا ذلك في القرآن وفي الأذان. فإن كانت الألحان مكروهة فالقرآن والأذان أحق بالتنزيه عنه. وإن كانت غير مكروهة فالشعر أحوج إليها لإقامة الوزن وإخراجه عن حد الخبر. وما الفرق بين أن ينشد الرجل: أتعرف رسما كاطراد المذانب مترسلاً أم يرفع بها صوته مرتجلاً. وإنما جعلت العرب الشعر موزوناً لمد الصوت فيه والدنانة. ولولا ذلك لكان الشعر المنظوم كالخبر المنثور. واحتجوا في إباحة الغناء واستحسانه بقول النبي ﷺ لعائشة: أهديتم الفتاة إلى بعلها قالت: نعم. قال: ويعثتم معها من يغني قالت: لا قال: أو ما علمتم أن الأنصار قوم أتيناكم أتيناكم نحييكم نحييكم ولولا الحبة السمرا ء لم نحلل بواديكم واحتجوا بحديث عبد الله بن أويس ابن عم مالك وكان من أفضل رجال الزهري قال: مر النبي ﷺ بجارية في ظل فارع وهي تغني: هل علي ويحكم إن لهوت من حرج فقال النبي ﷺ لا حرج إن شاء الله. والذي لا ينكره أكثر الناس غناء النصب وهو غناء الركبان. حدث عبد الله بن المبارك عن أسامة بن زيد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: مر بنا عمر بن الخطاب وأنا وعاصم بن عمر نغني غناء النصب فقال: أعيدا علي. فأعدنا عليه. فقال: أنتما كحماري العبادي وقيل له: أي حماريك شر قال: هذا ثم هذا. وسمع أنس بن مالك أخاه البراء بن مالك يغني فقال: ما هذا قال: أبيات عربية أنصبها نصبا. ومن حديث الحماني عن حماد بن زيد بن يسار قال: رأيت سعد بن أبي وقاص في منزل بين مكة والمدينة قد ألقى له مصلي فاستلقى عليه ووضع إحدى رجليه على الأخرى وهو يتغنى. فقلت: سبحان الله أبا إسحاق أتفعل مثل هذا وأنت محرم فقال: يا بن أخي وهل تسمعني أقول هجرا ومن حديث المفضل عن قرة بن خالد بن عبد الله بن يحيى قال: قال عمر بن الخطاب للنابغة الجعدي: أسمعني بعض ما عفا الله لك عنه من هناتك. فأسمعه كلمة له. قال: وإنك لقائلها قال: نعم. قال: لطالما غنيت بها خلف جمال الخطاب. عاصم عن ابن جريج قال: سألت عطاء عن قراءة القرآن على ألحان الغناء والحداء. قال: وما بأس ذلك يا ابن أخي قال: وحدث عبيد بن عمير الليثي أن داود النبي عليه السلام كانت له معزفة يضرب بها إذا قرأ الزبور لتجتمع عليه الجن والإنس والطير فيبكي ويبكي من حوله. وأهل الكتاب يجدون هذا في كتبهم. ومن حجة من كره الغناء أن قال: إنه ينفر القلوب ويستفز العقول ويستخف الحليم ويبعث على اللهو ويحض على الطرب وهو باطل في أصله. وتأولوا في ذلك قول الله عز وجل: " ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا ". وأخطأوا في التأويل. إنما نزلت هذه الآية في قوم كانوا يشترون الكتب من أخبار السمر والأحاديث القديمة ويضاهون بها القرآن ويقولون إنها أفضل منه. وليس من سمع الغناء يتخذ آيات الله هزوا. وأعدل الوجوه في هذا أن يكون سبيله سبيل الشعر فحسنه حسن وقبيحه قبيح. وقد حدث إبراهيم بن المنذر الحزامي أن ابن جامع السهمي قدم مكة بمال كثير ففرقه في ضعفاء أهلها فقال سفيان بن عيينة: بلغني أن هذا السهمي قدم بمال كثير. قالوا: نعم. قال: فعلام يعطى قالوا: يغني الملوك فيعطونه. قال: وبأي شيء يغنيهم قالوا: بالشعر. قال: فكيف يقول فقال له فتى من تلاميذه: يقول: أطوف بالبيت مع من يطوف وأرفع من مئزري المسبل قال: بارك الله عليه ما أحسن ما قال! قال: ثم ماذا قال: وأسجد بالليل حتى الصباح وأتلو من المحكم المنزل قال: وأحسن أيضاً أحسن الله إليه ثم ماذا قال: عسى فارج الهم عن يوسف يسخر لي ربة المحمل قال: أمسك أمسك. أفسد آخراً ما أصلح أولاً. ألا ترى سفيان بن عيينة رحمه الله حسن الحسن من قوله وقبح القبيح. وكره الغناء قوم على طريق الزهد في الدنيا ولذاتها كما كره بعضهم الملاذ ولبس العباء وكره الحوارى وأكل الكشكار وترك البر وأكل الشعير لا على طريق التحريم فإن ذلك وجه حسن ومذهب جميل. فإنما الحلال ما أحل الله والحرام ما حرم الله. يقول الله تعالى: " ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب. إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ". وقد يكون الرجل أيضاً جاهلا بالغناء أو متجاهلاً به فلا يأمر به ولا ينكره. قال رجل للحسن البصري: ما تقول في الغناء يا أبا سعيد قال: نعم العون على طاعة الله! يصل الرجل به رحمه ويواسي به صديقه. قال الرجل: ليس عن هذا أسألك. قال: وعم سألتني قال: أن يغني الرجل. قال: وكيف يغني فجعل الرجل يلوي شدقيه وينفخ منخريه. قال الحسن: والله يا بن أخي ما ظننت أن عاقلا يفعل هذا بنفسه أبداً. وإنما أنكر عليه الحسن تشويه وتعويج فمه وإن كان أنكر الغناء فإنما هو من طريق أهل العراق وقد ذكرنا أنهم يكرهونه. قال إسحاق بن عمارة: حدثني أبو المغلس عن أبي الحارث قال: اختلف في الغناء عند محمد بن إبراهيم والي مكة فأرسل إلى ابن جريج وإلى عمرو ابن عبيد فأتياه فسألهما فقال ابن جريج: لا بأس به شهدت عطاء بن أبي رباح في ختان ولده وعنده ابن سريج المغني فكان إذا غنى لم يقل له: اسكت وإذا سكت لم يقل له: غن وإذا لحن رد عليه. وقال عمرو بن عبيد: أليس الله يقول: " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ". فأيهما يكتب الغناء الذي عن اليمين أو الذي عن الشمال فقال ابن جريج: لا يكتبه واحد منهما لأنه لغو كحديث الناس فيما بينهم من أخبار جاهليتهم وتناشد أشعارهم. وقال إسحاق: وحدثني إبراهيم بن سعد الزهري قال: قال لي أبو يوسف القاضي: ما أعجب أمركم يأهل المدينة في هذه الأغاني! ما منكم من شريف ولا دنيء يتحاشى عنها. قال: فغضبت وقلت: قاتلكم الله يأهل العراق! ما أوضح جهلكم وأبعد من السداد رأيكم! متى رأيت أحدا سمع الغناء فظهر منه ما يظهر من سفهائكم هؤلاء الذين يشربون المسكر فيترك أحدهم صلاته ويطلق امرأته ويقذف المحصنة من جاراته ويكفر بربه فأين هذا من هذا من اختار شعراً جيداً ثم اختار له جرماً حسناً فردده عليه فأطربه وأبهجه فعفا عن الجرائم وأعطى الرغائب. فقال أبو يوسف: قطعتني ولم يحر جواباً. قال إسحاق: وحدثني إبراهيم بن سعد الزهري قال: قال لي الرشيد: من بالمدينة ممن يحرم الغناء قال: قلت: من أتبعه الله خزيته. قال: بلغني أن مالك بن أنس يحرمه. قلت: يا أمير المؤمنين أو لمالك أن يحرم ويحلل! والله ما كان ذلك لابن عمك محمد ﷺ إلا بوحي من ربه فمن جعل هذا لمالك فشهادتي على أبي أنه سمع مالكا في عرس ابن حنظلة الغسيل يتغنى: سليمى أزمعت بينا فأين تظنها أينا ولو سمعت مالكا يحرمه ويدي تناله لأحسنت أدبه. قال فتبسم الرشيد. وعن أبي شعيب الحراني عن جعفر بن صالح بن كيسان عن أبيه قال: كان عبد الله بن عمر يحب عبد الله بن جعفر حبا شديدا. فدخل عليه يوماً وبين يديه جارية في حجرها عود فقال: ما هذا يا أبا جعفر. قال: وما تظن به يا أبا عبد الرحمن فإن أصاب ظنك فلك الجارية. قال: ما أراني إلا قد أخذتها هذا ميزان رومي. فضحك ابن جعفر وقال: صدقت. هذا ميزان يوزن به الكلام والجارية لك. ثم قال: هاتي. فغنت: أيا شوقا إلى البلد الأمين وحي بين زمزم والجحون ثم قال: هل ترى بأساً قال: لا. قال: فما أرى بهذا بأساً. وسمع عبد الله بن عمر ابن محرز يغني: لو بدلت أعلى منازلها سفلاً وأصبح سفلها يعلو فقال عبد الله بن عمر: قل: إن شاء الله. قال: يفسد المعنى. قال: لا خير في كل معنى يفسده إن شاء الله. حدث محمد بن زكريا الغلابي بالبصرة قال: حدثني الشرقي عن الأصمعي قال. سمع عمر بن عبد العزيز راكباً يغني في سفره: فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى وجدك لم أحفل متى قام عودي فمنهن سبق العاذلات بشربة كميت متى ما تعل بالماء تزبد وكري إذا نادى المضاف محنباً كسيد الغضا في الطخية المتورد وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ببهكنة تحت الطراف المدد فقال عمر بن عبد العزيز: وأنا لولا ثلاث لم أحفل متى قام عودي: لولا أن أنفر في السرية وأقسم بالسوية وأعدل في القضية. قال جرير المدني: مررت بالأسلمي العابد وهو في مسجد رسول الله ﷺ لي فسلمت عليه فأوما إلى وأشار بالجلوس فجلست. فلما سلم أخذ بيدي وأشار إلى حلقي وقال: كيف هو قلت: أحسن ما كان قط. قال: أما والله لوددت أنه خلا لي وجهك وأنك أسمعتني: أصبح الربع من أمامة قفراً غير مغنى معارف ورسوم قلت: إذا شئت. قال: في غير هذا الوقت إن شاء الله. وحدث أبو عبد الله المروزي بمكة في المسجد الحرام قال: حدثنا حبان بن موسى وسويد صاحبا ابن المبارك قالا: لما خرج ابن المبارك إلى الشام مرابطا خرجنا معه فلما نظر القوم إلى ما فيه من النفير والغزو والسرايا في كل يوم التفت إلينا فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون على أعمار أفنيناها وأيام وليال قد قطعناها في علم الشعر وتركنا هاهنا أبواب الجنة مفتوحة. قال: فبينما هو يمشي ونحن معه في أرقة المصيصة إذا نحن بسكران قد رفع صوته يغني: أذلني الهوى فأنا الذليل وليس إلى الذي أهوى سبيل فأخرج رزنامجا من كمه فكتب البيت. فقلنا له: أتكتب بيت شعر سمعته من سكران قال: أما سمعتم المثل: رب جوهرة في مزبلة قال: وولي الأوقص المخزومي قضاء مكة فما رئي مثله في العفاف والنبل. فبينما هو نائم ذات ليلة في علية له إذ مر به سكران يتغنى ويلحن في غنائه. فأشرف المخزومي عليه فقال: يا هذا شربت حراماً وأيقظت نياماً وغنيت خطأ خذه عني فأصلحه عليه. قال: الأوقص المخزومي: قالت لي أمي: أي بني إنك خلقت في صورة لا تصلح معها لمجامعة الفتيان في بيوت القيان فعليك بالدين فإن الله يرفع به الخسيسة ويتم به النقيصة. فنفعني الله بقولها. وحدث عباس بن المفضل قاضي المدينة قال: حدثني الزبير بن بكار: قاضي مكة عن مصعب بن عبد الله قال: دخل الشعبي على بشر بن مروان وهو والي العراق لأخيه عبد الملك بن مروان وعنده جارية في حجرها عود. فلما دخل الشعبي أمرها فوضعت العود. فقال له الشعبي: لا ينبغي للأمير أن يستحي من عبده. قال: صدقتم. ثم قال للجارية: هاتي ما عندك فأخذت العود وغنت: ومما شجاني أنها يوم ودعت تولت وماء العين في الجفن حائر فلما أعادت من بعيد بنظرة إلي التفاتاً أسلمته المحاجر فقال الشعبي: الصغير أكيسهما يريد الزير. ثم قال: يا هذه أرخي من بمك وشدي من زيرك. فقال له بشر بن مروان: وما علمك قال: أظن العمل فيهما. قال: صدقت ومن لم ينفعه يقينه. وحدث عن أبي عبد الله البصري قال: غنى رجل في المسجد الحرام وهو مستلق على قفاه صوتا ورجل من قريش يصلي في جواره فسمعه خدام المسجد فقالوا: يا عدو الله أتغني في المسجد الحرام! ورفعوه إلى صاحب الشرطة. فتجوز القرشي في صلاته ثم سلم وأتبعه فقال لصاحب الشرطة: كذبوا عليه أصلحك الله إنما كان يقرأ. فقال: يا فساق أتأتوني برجل قرأ القرآن تزعمون أنه غنى! خلوا سبيله. فلما خلوه قال له القرشي: والله لولا أنك أحسنت وأجدت ما شهدت لك اذهب راشدا. وكان لأبي حنيفة جار من الكيالين مغرم بالشراب. وكان أبو حنيفة يحيي الليل بالقيام ويحييه جاره الكيال بالشراب ويغني على شرابه: أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر فأخذه العسس ليلة فوقع في الحبس وفقد أبو حنيفة صوته واستوحش له. فقال لأهله: ما فعل جارنا الكيال قالوا: أخذه العسس فهو الحبس. فلما أصبح أبو حنيفة وضع الطويلة على رأسه وخرج حتى أتى باب عيسى بن موسى فاستأذن عليه. فأسرع في إذنه. وكان أبو حنيفة قليلا ما يأتي الملوك. فأقبل عليه عيسى بوجهه وقال: أمر ما جاء بك يا أبا حنيفة قال: نعم أصلح الله الأمير جارٌ لي من الكيالين أخذه عسس الأمير ليلة كذا فوقع في حبسك. فأمر عيسى بإطلاق كل من أخذ في تلك الليلة إكراماً لأبي حنيفة. فأقبل الكيال على أبي حنيفة متشكراً له. فلما رآه أبو حنيفة قال: أضعناك يا فتى يعرض له بقصيدته. قال: لا والله الأصمعي قال: قدم عراقي بعدل من خمر العراق إلى المدينة فباعها كلها إلا السود. فشكا ذلك إلى الدارمي وكان قد تنسك وترك الشعر ولزم المسجد. فقال: ما تجعل لي على أن احتال لك بحيلة حتى تبيعها كلها على حكمك قال: ما شئت قال: فعمد الدارمي إلى ثياب نسكه فألقاها عنه وعاد إلى مثل شأنه الأول وقال: شعراً ورفعه إلى صديق له من المغنين فغنى به وكان الشعر: قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا فعلت بزاهد متعبد قد كان شمر للصلاة ثيابه حتى خطرت له بباب المسجد ردي عليه صلاته وصيامه لا تقتليه بحق دين محمد فشاع هذا الغناء في المدينة وقالوا: قد رجع الدارمي وتعشق صاحبه الخمار الأسود. فلم تبق مليحة بالمدينة إلا اشترت خماراً أسود وباع التاجر جميع ما كان معه. فجعل إخوان الدارمي من النساك يلقون الدارمي فيقولون: ماذا صنعت فيقول: ستعلمون نبأه بعد حين. فلما أنفذ العراقي ما كان معه رجع الدارمي إلى نسكه ولبس ثيابه. وحدث عبد الله بن مسلمة بن قتيبة ببغداد قال: حدثني سهل عن الأصمعي قال: كان عروة بن أذينة يعد ثقةً ثبتاً في الحديث روى عنه مالك ابن أنس وكان شاعراً لبقاً في شعره غزلاً وكان يصوغ الألحان والغناء على شعره في حداثته وينحلها المغنين فمن ذلك قوله وغنى به الحجازيون: يا ديار الحي بالأجمه لم يبين رسمها كلمه وهو موضع صوته. ومنه قوله: قالت وأبثثتها وجدي وبحت به قد كنت عندي تحت الستر فاستتر ألست تبصر من حولي فقلت لها غطى هواك وما ألقى على بصري قال: فوقفت عليه امرأة وحوله التلامذة فقالت: أنت الذي يقال فيك الرجل الصالح وأنت القائل: إذا وجدت أوار الحب في كبدي عمدت نحو سقاء القوم أبترد هبني بردت ببرد الماء ظاهره فمن لنار على الأحشاء تتقد لا والله ما قال هذا رجل صالح قط. قال: وكان عبد الرحمن بن عبد الله الملقب بالقس عند أهل مكة بمنزلة عطاء بن أبي رباح في العبادة وأنه مر يوماً بسلامة وهي تغني فقام يستمع غناءها. فرآه مولاه فقال له: هل لك أن تدخل فتسمع فأبى. فلم يزل به حتى دخل. فقال له: أوقفك في موضع بحيث تراها ولا تراك فغنته فأعجبته فقال له مولاها: هل لك في أن أحولها إليك فأبى ذلك عليه فلم يزل به حتى أجابه. فلم يزل يسمعها ويلاحظها النظر حتى شغف بها. ولما شعرت للحظه إياها غنته: رب رسولين لنا بلغا رسالة من قبل أن يبرحا لم يعملا خفاً ولا حافراً ولا لساناً بالهوى مفصحا حتى استقلا بجوابيهما بالطائر الميمون قد أنجحا الطرف والطرف بعثناهما فقضيا حاجاً وما صرحا قال: فأغمي عليه وكاد أن يهلك. فقالت له يوماً: إني والله أحبك. قال لها: وأنا والله أحبك. قالت: وأحب أن أضع فمي على فمك. قال: وأنا والله. قالت فما يمنعك من ذلك قال: أخشى أن تكون صداقة ما بيني وبينك عداوةً يوم القيامة أما سمعت الله تعالى يقول: " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ". ثم نهض وعاد إلى طريقته التي كان عليها وأنشأ يقول: قد كنت أعذل في السفاهة أهلها فاعجب لما تأتي به الأيام فاليوم أعذرهم وأعلم أنما سبل الضلالة والهدى أقسام وله فيها: إن سلامة التي أفقدتني تجلدي لجرير وللغري ض وللقرم معبد خلتهم بين عودها والدساتين واليد أخبار عبد الله بن جعفر حدث سعيد بن محمد العجلي بعمان قال: حدثني نصر بن علي عن الأصمعي قال: كان معاوية يعيب على عبد الله بن جعفر سماع الغناء. فأقبل معاوية عاماً من ذلك حاجاً فنزل المدينة فمر ليلةً بدار عبد الله بن جعفر فسمع عنده غناءً على أوتار فوقف ساعة يستمع ثم مضى وهو يقول: أستغفر الله أستغفر الله. فلما انصرف من آخر الليل مر بداره أيضاً فإذا عبد الله قائم يصلي فوقف ليستمع قراءته فقال: الحمد لله ثم نهض وهو يقول: " خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم " فلما بلغ ابن جعفر ذلك أعد له طعاماً ودعاه إلى منزله وأحضر ابن صياد المغني ثم تقدم إليه يقول: إذا رأيت معاوية واضعا يده في الطعام فحرك أوتارك وغن. فلما وضع معاوية يده في الطعام حرك ابن صياد أوتاره وغنى بشعر عدي ابن زيد وكان معاوية يعجب به: يا لبينى أوقدي النارا إن من تهوين قد حارا رب نار بت أرمقها تقضم الهندي والغارا ولها ظبي يؤججها عاقد في الخصر زنارا قال: فأعجب معاوية غناؤه حتى قبض يده عن الطعام وجعل يضرب برجله الأرض طرباً. فقال له عبد الله بن جعفر: يا أمير المؤمنين إنما هو مختار الشعر يركب عليه مختار الألحان فهل ترى به بأساً قال: لا بأس بحكمة الشعر مع حكمة الألحان. قال: وقدم عبد الله بن جعفر على معاوية بالشام فأنزله في دار عياله وأظهر من إكرامه وبره ما كان يستحقه. فغاظ ذلك فاختة بنت قرظة زوجة معاوية فسمعت ذات ليلة غناءً عند عبد الله بن جعفر فجاءت إلى معاوية فقالت: هلم فاسمع ما في منزل هذا الذي جعلته بين لحمك ودمك وأنزلته في دار محرمك. فجاء معاوية فسمع شيئاً حركه وأطربه وقال: والله إني لأسمع شيئاً تكاد الجبال تخر له وما أظنه إلا من تلقين الجن ثم انصرف. فما كان من آخر الليل سمع معاوية قراءة عبد الله وهو قائم يصلي. فأنبه فاختةً وقال لها: اسمعي مكان ما أسمعتني هؤلاء قومي ملوك بالنهار رهبان بالليل. ثم إن معاوية أرق ذات ليلة فقال لخادمه خديج: اذهب فانظر من عند عبد الله وأخبره بخروجي إليه فذهب فأخبره. فأقام كل من كان عنده ثم جاء معاوية فلم ير في المجلس غير عبد الله فقال: مجلس من هذا قال: مجلس فلان. قال معاوية: مره يرجع إلى مجلسه ثم قال: مجلس من هذا قال: مجلس فلان. قال: مره يرجع إلى مجلسه حتى لم يبق إلا مجلس رجل. فقال: مجلس من هذا قال: مجلس رجل يداوي الآذان يا أمير المؤمنين. قال له معاوية: فإن أذني عليلة فمره فليرجع إلى موضعه وكان موضع بديح المغني. فأمره ابن جعفر فرجع إلى موضعه. فقال له معاوية: داو أذني من علتها. فتناول العود ثم غنى: أمن أم أوفى دمنة لم تكلم بحومانة الدارج فالمتثلم فحرك عبد الله بن جعفر رأسه. فقال معاوية: لم حركت رأسك يا بن جعفر قال: أريحية أجدها يا أمير المؤمنين لو لقيت عندها لأبليت ولئت سئلت عندها لأعطيت وكان معاوية قد خضب فقال ابن جعفر لبديح: هات غير هذا وكانت عند معاوية جارية أعز جواريه عنده كانت متولية خضابه. فغناه بديح: أليس عندك شكر للتي جعلت ما ابيض من قادمات الشعر كالحمم وجددت منك ما كان أخلقه صرف الزمان وطول الدهر والقدم فطرب معاوية طرباً شديداً وجعل يحرك رجله. فقال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين سألتني عن تحريك رأسي فأخبرتك وأنا أسألك عن تحريك رجلك. فقال معاوية: كل كريم طروب. ثم قام وقال: لا يبرح أحد منكم حتى يأتيه أذني. فبعث إلى جعفر بعشرة آلاف دينار ومائة ثوب من خاص ثيابه وإلى كل رجل منهم بألف دينار وعشرة أثواب. وعن ابن الكلبي والهيثم بن عدي قالا: بينا عبد الله بن جعفر في بعض أزقة المدينة إذ سمع غناء فأصغى إليه فإذا بصوت شجي رقيق لقينة تغني: قل للكرام ببابنا يلجوا ما في التصابي على الفتى حرج فنزل عبد الله عن دابته ودخل على القوم بلا إذن. فلما رأوه قاموا إليه إجلالاً له ورفعوا مجلسه. ثم أقبل عليه صاحب المنزل فقال: يا بن عم رسول الله دخلت منزلنا بلا إذن وما كنت لهذا بخليق. فقال عبد الله: لم أدخل إلا بإذن. قال: ومن أذن لك: قال: قينتك هذه سمعتها تقول: قل للكرام ببابنا يلجوا فولجنا فإن كنا كراماً فقد أذن لنا وإن كنا لئاماً خرجنا مذمومين. فضحك صاحب المنزل وقال: صدقت جعلت فداك ما أنت إلا من أكرم الأكرمين. ثم بعث عبد الله إلى جارية من جواريه فجاءت فقال لها: غني. فغنت. فطرب القوم وطرب عبد الله. فدعا بثياب وطيب فكسا القوم وصاحب المنزل وطيبهم ووهب له الجارية وقال له: هذه أحذق بالغناء من جاريتك. ذكر رجل من أهل المدينة أن ابن أبي تيق - وهو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - دخل على عائشة أم المؤمنين وهي عمته فوضع رأسه في حجرها أو على ركبتها ثم رفع عقيرته يتغنى: ومقيد حجل جررت برجله بعد الهدوء له قوائم أربع فاطرب زمان اللهو من زمن الصبا وانزع إذا قالوا أبي لك منزع فليأتين عليك يوما مرة يبكى عليك مقنعاً لا تسمع قالت له عائشة: يا بني فتق ذلك اليوم. حدث أبو عبد الله محمد بن عرفة بواسط قال حدثني أحمد بن يحيى عن الزبير بن بكار عن سليمان بن عباس السعدي عن السائب رواية كثير قال: قال لي كثير يوماً: قم بنا إلى ابن أبي عتيق نتحدث عنده. قال: فجئناه فوجدنا عنده ابن معاذ المغني فلما رأى كثيراً قال لابن أبي عتيق: ألا أغنيك بشعر كثير فاندفع يغني بشعره حيث يقول: أبائنة سعدى نعم ستبين كما انبت من حبل القرين قرين أإن ذم أجمال وفارق جيرة وصاح غراب البين أنت حزين فأخلفن ميعادي وخن أمانتي وليس لمن خان الأمانة دين فالتفت ابن أبي عتيق إلى كثير فقال: وللدين صحبتهن يا بن أبي جمعة ذاك والله أشبه بهن وأدعى للقلوب إليهن وإنما يوصفن بالبخل والامتناع وليس بالأمانة والوفاء. وابن قيس الرقيات أشعر منك حيث يقول: حبذا الإدلال والغنج والتي في طرفها دعج والتي إن حدثت كذبت والتي في ثغرها فلج خبروني هل على رجل عاشق في قبلة حرج فقال كثير: قم بنا من عند هذا ثم نهض. وقال عبد الله بن جعفر لابن أبي عتيق: لو غنتك فلانة جاريتي صوتاً ما أدركتك ذكاتك.