ودخل أشعب على والي المدينة فحضر طعامه وكان له جدي على مائدته يتحاماه كل من حضر فبدر إليه أشعب فمزقه فقال له: يا أشعب إن أهل السجن ليس لهم إمام يصلي بهم فإن رأيت أن تكون لهم إماماً تصلي بهم فإن في ذلك أجراً. فقال: والله ما أحب هذا الأجر ولك زوجتي طالق إن أكلت لحم جدي عندك حتى ألقى الله. قال عمرو بن ميمون: تغديت يوماً عند الكندي فدخل عليه رجل كان جاراً وصديقاً لي فلم يعرض عليه الطعام ونحن نأكل فاستحيت أنا منه فقلت: سبحان الله لو دنوت فأصبت معنا. قال: قد والله فعلت. قال الكندي: ما بعد الله شيء. قال: فكتف كتافا لو بسط يده إلى أكل بعد لكان كافراً. قال: ومررت ببعض طرق الكوفة فإذا أنا برجل يخاصم جارا له. فقلت: ما بالكما فقال أحدهما: إن صديقا لي زارني واشتهى علي رأساً فاشتريته له وتغدينا فأخذت عظامه فوضعتها عند باب داري أتجمل بها عند جيراني فجاء هذا وأخذها ووضعها على باب داره يوهم الناس أنه هو الذي أكل الرأس. قال رجل من البخلاء لولده: اشتروا لي لحما فاشتروا له وأمر بطبخه حتى تهرأ فأكل منه حتى انتهت نفسه وشرعت إليه عيون ولده فقال: ما أنا مطعمه أحداً منكم إلا من أحسن صفة أكله. فقال الأكبر أتعرقه يا أبت حتى لا أدع للذرة فيه مقيلا قال: لست بصاحبه. فقال الأوسط: أتعرقه يا أبت حتى لا يدرى ألعامه هو أم لعام أول قال: لست بصاحبه. فقال الأصغر: أتعرقه يا أبت ثم أدقه دقاً وأسفه سفاً قال: أنت صاحبه وهو لك دونهم. وقال عمرو بن بحر الجاحظ: كان أبو عبد الرحمن الثوري يعجبه الرؤوس ويصفها ويسميها العرس لما فيها من الألوان الطيبة وربما سماه الكامل والجامع ويقول: الرأس شيء واحد وهو ذو ألوان عجيبة وطعوم مختلفة والرأس فيه الدماغ وطعمه مفرد وفيه العينان وطعمهما مفرد والشحمة التي بين أصل الأذن ومؤخر العين وطعمها مفرد على أن هذه الشحمة خاصة أطيب من المخ وأرطب من الزبد وأدسم من السلاء. وفي الرأس اللسان وطعمه مفرد والخيشوم والغضروف ولحم الخدين وكل شيء من هذه طعمه مفرد. والرأس سيد البدن والدماغ هو معدن العقل وخاصة الحواس وبه قوام البدن وفيه يقول الشاعر إذا نزعوا رأسي وفي الرأس أكثري وغودر عند الملتقى ثم سائري وقيل لأعرابي: أتحسن أن تأكل كل الرأس قال: نعم أبخص عينيه وأفك لحييه وأسحى ولا أبتغي المخ الذي في الجماجم وكان أبو عبد الرحمن يجلس مع ابنه يوم الرأس ويقول له: إيام ونهم الصبيان وبغر السباع وأخلاق النوابح ونهش الأعراب وكل ما بين يديك فإنما حظك منه ما قابلك. وأعلم أنه إذا كان في الطعام شيء طريف من لقمة كريمة أو مضغة شهية فإنما ذلك للشيخ المعظم والصبي المدلل ولست بواحد منهما. وقد قالوا مدمن اللحم كمدمن الخمر. أي بني لا تخضم خضم البراذين ولا تدمن الأكل إدمان النعاج ولا تلقم لقم الجمال ولا تنهش نهش السباع وعود نفسك الأثرة ومجاهدة الهوى والشهوة فإن الله جعلك إنساناً فلا تجعل نفسك بهيمة وأحذر صرعة الكظة وسرف البطنة فقد قال بعض الحكماء: إذا كنت نهما فعد نفسك من الزمنى. واعلم أن الشبع داعية البشم والبشم داعية السقم والسقم داعية الموت ومن مات هذه الميتة فقد مات ميتة لئيمة لأنه قاتل نفسه وقاتل نفسه ألأم من غيره. أي بني والله ما أدى حق الركوع والسجود ذو الكظة ولا خشع لله ذو بطنة والصوم مصحة والوجبات عيش الصالحين. أي بني لأمر ما طالت أعمار الرهبان وصحت أبدان الأعراب ولله در الحارث بن كلدة حيث زعم أن الدواء هو الأزم وأن الداء كله هو في فضول الطعام فكيف لا يرغب في شيء يجمع لك في صحة البدن وذكاء الذهن وصلاح الدين والدنيا والقرب من عيش الملائكة أي بني ما صار الضب أطول شيء عمرا إلا أنه يتبلغ بالنسيم وما زعم الرسول أن الصوم وجاءٌ إلا أنه جعله حجازا دون الشهوات فافهم تأديب الله وتأديب الرسول. أي بني قد بلغت تسعين عاماً ما نقص لي سن ولا انتشر لي عصب ولا عرفت وكف أنف ولا سيلان عين ولا سلس بول وما لذلك علة إلا التخفف من الزاد. فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة وإن كنت تحب الموت فلا أبعد الله غيرك. ومن البخلاء أبو الأسود الدؤلي وقفت عليه امرأة وهو في فسطاط وبين يديه طبق تمر فقالت: السلام عليك قال أبو الأسود كلمة مقبولة. ووقف عليه أعرابي وهو يأكل فقال الأعرابي: أدخل قال: وراءك أوسع لك. قال: الرمضاء أحرقت رجلي. قال: بل عليهما يبردان. قال: أتأذن لي أن آكل معك قال: سيأتيك ما قدر لك. قال: تالله ما رأيت رجلاً ألأم منك. قال: بلى قد رأيت إلا أنك نسيت. ثم أقبل أبو الأسود يأكل حتى إذا لم يبق في الطبق إلا تميرات يسيرة نبذها له فوقعت تمرة منها فأخذها الأعرابي ومسحها بكسائه. فقال أبو الأسود: يا هذا إن الذي تمسحها به أقذر من الذي تمسحها منه. قال: كرهت أن أدعها للشيطان. قال: لا والله ولا لجبريل وميكائيل ما كنت لتدعها. الأصمعي قال: قال مر رجل بأبي الأسود الدؤلي وهو يقول: من يعشي الجائع فقال أبو الأسود: علي به فأتاه بعشاء كثير. وقال: كل حتى تشبع فلما أكد ذهب ليخرج قال: أين تريد قال: أريد أهلي. قال: لا أدعك تؤذي المسلمين الليلة بسؤالك اطرحوه في الأدهم فبات عنده مكبولًا حتى أصبح. قال الهيثم بن عدي: نزل بابن أبي حفصة ضيف باليمامة فأخلى له المنزل ثم هرب عنه مخافة أن يلزمه قراه تلك الليلة فخرج الضيف فاشترى ما يحتاجه ثم رجع وكتب له: يأيها الخارج من بيته وهارباً من شدة الخوف ضيفك قد جاء بزادٍ له فارجع تكن ضيفاً على الضيف وقال آخر: بت ضيفاً لهشام في شرابي وطعامي وسراجي الكوكب الدر ي في داجي الظلام لا حراماً أجد الخ بز ولا غير الحرام وله: بت ضيفاً لهشام فشكا الجوع عدمته وكان شيخ من البخلاء يأتي ابن المقفع فألح عليه أن يتغدى عنده في منزله فيمطله ابن المقفع فيقول: أتراني أتكلف لك شيئاً لا والله لا أقدم لك إلا ما عندي فلا تتثاقل علي. فلم يزل به حتى أجابه وأتى به إلى منزله فإذا ليس عند إلا كسر يابسة وملح جريش فقدمه له. ووقف سائل بالباب فقال له: بورك فيك فألح في السؤال فقال: والله لئن خرجت إليك لأدقن ساقيك. فقال ابن المقفع للسائل أرح نفسك وانج والله لو علمت من صدق وعيده ما علمت أنا من صدق وعده ما وقفت ساعة ولا راجعته كلمة. وانتقل رجل من البخلاء إلى دار ابتاعها فلما حلها وقف سائل فقال له: صنع الله لك ثم وقف ثان فقال له مثل ذلك ثم وقف ثالث فقال له مثل ذلك. فقال لابنته: ما أكثر السؤال في هذا المكان. فقالت له: يا أبت. ما تمسكت لهم بهذا القول فما تبالي كثروا أم قلوا الأصمعي قال: تقول العرب: ما علمتك إلا برما قروناً. البرم: الذي يأكل مع أصحابه ولا يجعل شيئاً والقرون: الذي يأكل تمرتين تمرتين. وألم اللئام كلهم وأبخل البخلاء حميد الأرقط الذي يقال له: هجاء الأضياف وهو القائل في ضيف نزل به وأكله: ما بين لقمته الأولى إذا انحدرت وبين أخرى تليها قيد أظفور تجهز كفاح ويحدر حلقه إلى الزور ما ضمت عليه الأنامل أتانا وما ساواه سحبان وائل بياناً وعلماً بالذي هو قائل فما زال عنه اللقم حتى كأنه من العي لما أن تكلم باقل وله في الأضياف: لا مرحباً بوجوه القوم إذ دخلوا دسم العمائم تحيكها الشياطين ألفيت جلتنا الشهريز بينهم كأن أيديهم فيها السكاكين فأصبحوا والنوى عالي معرسهم وليس كل النوى تلقى المساكين ما قالت الشعراء في طعام البخلاء فمن أهجى ما قيل في طعام البخلاء قول جرير في بني تغلب: والتغلبي إذا تنحنح للقرى حك أسته وتمثل الأمثالا وقوله فيهم: قوم إذا أكلوا أخفوا كلامهم واستوثقوا من رتاج الباب والدار قوم إذا نبح الأضياف كلبهم قالوا لأمهم بولي على النار اللاقطين النوى تحت الثياب كما مجت كوادن دهم في مخالبها فأين هؤلاء من الذين يقول فيهم الشاعر: أبلج بين حاجبيه نوره إذا تغدى رفعت ستوره لآخر: أبو نوح أتيت إليه يوماً فغداني برائحة الطعام وقدم بيننا لحماً سميناً أكلناه على طبق الكلام فلما أن رفعت يدي سقاني كؤوساً حشوها ريح المدام فكان كمن سقى ظمآن آلا وكنت كمن تغدى في المنام ولآخر: تراهم خشية الأضياف خرساً يصلون الصلاة بلا أذان ولحماد عجرد: حريث أبو الصلت ذو خبرة بما يصلح المعدة الفاسدة تخوف تخمة إخوانه فعودهم أكلة واحدة إذا ما تنفس حول الخوان تطاير في البيت من خفته فنحن كظوم له كلنا يرد التنفس من خشيته فيكلمه اللحظ من رقة ويأكله الوهم من قلته نزل رجل من العرب ببخيل فقد إليه جرادا فعافه وأمر برفعه وقال: لحا الله بيتاً ضمني بعد هجعة إليه دجوجي من الليل مظلم فأبصرت شيخاً قاعداً بفنائه هو العير إلا أنه يتكلم أتانا ببرقان الدبي في إنائه ولم يك برقان الدبي لي مطعم فقلت له غيب إناءك واعتزل فما ذاق هذا لا أبا لك مسلم ضاف القطامي الشاعر في ليلة ريح ممطرة إلى عجوزٍ من محارب فلم تقره شيئاً فرحل عنها وقال: تضيفت في برد وريح تلفني وفي طرمساء غير ذات كواكب إلى حيزبون توقد النار بعدما تلفعت الظلماء من كل جانب تصلى بها برد العشاء ولم تكن تخال وميض النار يبدو لراكب سرى في جليد الليل حتى كأنما تخزم بالأطراف شوك العقارب تقول وقد قربت كوري وناقتي إليك فلا تذعر علي ركائبي فسلمت والتسليم ليس يسرها ولكنه حق على كل جانب فردت سلاماً كارهاً ثم أعرضت كما انحاشت الأفعى مخافة ضارب فلما تنازعنا الحديث سألتها من الحي قالت معشر من محارب من المشتوين القد في كل شتوة وإن كان عام الناس ليس بناصب فلما بدا حرمانها الضيف لم يكن علي مبيت السوء ضربة لازب وقمت إلى مهرية قد تعودت يداها ورجلاها حثيث المواكب إلا إنما نيران قيس إذا شتوا لطارق ليل مثل نار الحباحب وقال الخليل بن أحمد: كفاه لم تخلقا للندى ولم بك بخلهما بدعه فكف عن الخر مقبوضه كما نقصت مائة سبعه إن يوقدوا يوسعونا من دخانهم وليس يبلغنا ما تنضج النار وقال أحمد بن نعيم السلمي في بني حسان: إذا احتفلوا لضيف لهوج قدرهم جراديم أشباه النخامة تبلع تبل ختان الضيف حتى تريبه ويصبح من عين أسته يتطلع ويقريك من أكرهته من سوادهم قرى الجن أو أدنى لجوعٍ وأبشع عظاماً وأرواثاً وبعراً وإن يكن لدى القوم نارٌ يشتوى لك ضفدع ولآخر: فبتنا كأنا بينهم أهل مأتم على ميت مستودع بطن ملحد يحدث بعضٌ بعضنا بمصابه ويأمر بعضٌ بعضنا بالتجلد ولآخر: ذهب الكرام فلا كرام وبقي العضاريط اللئام من لا يقيل ولا يني ل ولا يشم له طعام ولآخر: قد كان يعجبني لو أن غيرته على جرادقه كانت على حرمه ولآخر: إن هذا الفتى يصون رغيفاً ما إليه لناظر من سبيل هو في سفرتين من أدم الطا ئف في سلتين في منديل في جراب في جوف تابوت موسى والمفاتيح عند ميكائيل وقال أبو نواس في فضل الرقاشي: رأيت قدور الناس سوداً من الصلى وقدر الرقاشيين زهراء كالبدر يضيق بحيزوم البعوضة صدرها ويخرج ما فيه على طرف الظفر إذا ما تنادوا للرحيل سعى بها أمامهم الحولي من ولد الذر وقال في إسماعيل الكاتب: خبز إسماعيل كالوش ي إذا ما انشق يرفا عجباً من أثر الصن عة فيه كيف يخفى إن رفاءك هذا ألطف الأمة كفا ولآخر: ارفع يمينك من طعامه إن كنت ترغب في كلامه سيان كسر رغيفه أو كسر عظم من عظامه ولآخر: رأيت الخبز عز لديك حتى حسبت الخبز في جو السحاب وما روحتنا لتذب عنا ولكن خفت مرزئة الذباب ولآخر: زرت امرأً في بيته مرةً له حباء وله خير يحذر أن يتخم إخوانه إن أذى التخمة محذور ويشتهي أن يؤجروا عنده بالصوم والصائم مأجور ومن قولنا في نحوه: طعام من لست له ذاكرا دق كما دق بأن يذكرا لا يفطر الصائم من أكله لكنه صوم لمن أفطرا وقال آخر: خليلي من كعب أعينا أخاكما عى دهره إن الكريم معين ولا تبخلا بخل ابن قزعة إنه مخافة أن يرجى نداه حزين كأن عبيد الله لم يلق ماجداً ولم يدر أن المكرمات تكون فقل لأبي يحيى متى تدرك العلا وفي كل معروف عليك يمين إذا جئته في حاجة سد بابه فلم تلقه إلا وأنت كمين باب من أخبار البخلاء الرياشي قال: صاحب رجل رجلا من البخلاء فقال له: احملني. فقال: ما كنت لأنزل وأحملك. قال: ما أنت بحاتمٍ حيث يقول: أنخها فأردفه فإن حملتكما فذاك وإن كان العقاب فعاقب قال: ما فيها محمل ولا بي طاقة على المشي. وقد قال شاعرهم حاتم: أماوي إما مانع فمبين وإما عطاء لا ينهنهه الزجر وقال كثير عزة: مهين تلاد المال فيما ينوبه منوع إذا مانعته كان أحزما سأل عبد الرحمن بن حسان بن ثابت من بعض الولاة حاجة فلم يقضها فتشفع إليه برجل فقضاها فقال: ذممت ولم تحمد وأدركت حاجتي تولى سواكم أجرها واصطناعها أبى لك كسب المجد رأي مقصر ونفس أضاق الله بالخير باعها إذا هي حثته على الخير مرة عصاها وإن همت بشر أطاعها احتاج أبو الأسود الدؤلي مرة فبعث إلى جار له موسر يستسلفه وكان حسن الظن به فاعتل عليه ورده فقال: لا تشعرن النفس يأساً فإنما يعيش بجد حازمٌ وبليد ولا تطمعن في مال جارٍ لقربه فكل قريب لا ينال بعيد وكتب إلى آخر يستسلفه فكتب إليه: المؤونة كثيرة والفائدة قليلة والمال مكذوب عليه. فكتب إليه أبو الأسود: إن كنت كاذباً فجعلك الله صادقاً وإن كنت صادقاً فجعلك الله كاذباً. وقال بعض الشعراء في بخيل: ميت مات وهو في كنف العي ش مقيم في ظل عيش ظليل في عداد الموتى وفي عامر الدني ا أبو جعفر أخي وخليلي لم يمت ميتة الحياة ولكن مات عن كل صالح وجميل ولآخر: فأما قراه كله فلنفسه ومال يزيد كله ليزيد ولآخر: فأما جوده فعلى النصارى وأما بأسه فعلى الكلاب ولآخر: كدحت بأظفاري وأعملت معولي فصادفت جلموداً من الصخر أملسا تجهم لما جئت في وجه حاجتي وأطرق حتى قلت قد مات أو عسى فأجمعت أن أنعاه لما رأيته يفوق فواق الموت حتى تنفسا وأنشد أبو جعفر البغدادي للجلودي: جاء بدينارين لي صالحٌ أصلحه الله وأخزاهما أدناهما تحمله ذرةٌ وتلعب الريح بأوفاهما بل لو وزنالك ظليهما ثم عمدنا فوزناهما لكان لا كانا ولا أفلحا عليهما يرجح ظلاهما ولحماد عجرد: أورق بخير تؤمل للجزيل فما ترجى الثمار إذا لم يورق العود إن الكريم ترى في الناس عفته حتى يقال غني وهو مجهود جاد ابن موسى من دنانيره لنا بدينارين أسرارا كلاهما في الكف من خفة لو نفخا من فرسخ طارا قلت وقلبي لهما منكر أريهما للحين قسطارا فكان هذا عنده بهرجا وكان هذا عنده بارا ثم وزنا واحداً منهما كان له القسطار مختارا فكان في كفة ميزانه ينقص قيراطاً ودينارا ===باب ما قيل في البخلاء سمع رجل أبا العتاهية ينشد: فارمي بطرفك حيث شئت فلن تري إلا بخيلا فقال له: بخلت الناس كلهم. قال: فأردني واحداً سمحا! وقال ابن حازم: وقالوا لو مدحت فتى كريماً فقلت وأين لي بفتى كريم بلوت ومر بي خمسون عاماً وحسبك بالمجرب من عليم ولآخر: لما رآنا فر بوابه وانسد من غير يد بابه كلب له من بعضه حاجب يحجبه إن غاب حجابه ومن قولنا: جعل الله رزق كل عدوٍ لي بكف لبعض من لا أسمي كف من لا يهز عطفيه يوماً لمديح ولا يبالي بذم يتلقى الرجاء منه بوجه راشح الخد والجبين بسم جئته زائراً فما زال يشكو لي حتى حسبته سيدمي ألف اللؤم فيه من كل طرف معرقاً فيه بين خال وعم قد نهاني النصيح عنه مراراً بأبي أنت من نصيح وأمي ومن قولنا: يراعة غرني منها وميض سنىً حتى مددت إليه الكف مقتبسا فصادفت حجراً لو كنت تضربه من لؤمه بعصا موسى لما انبجسا ومن قولنا: صحيفة طابعها اللوم عنوانها بالبخل مختوم أهداكها والخلف في طيها والمطل والتسويف واللوم من وجهه نحس ومن قربه رجس ومن عرفانه شوم لا تهتضم إن كنت ضيفاً له فخبزه في الجوف هاضوم تكلمه الألحاظ من رقة فهو بلحظ العين مكلوم لا تأتدم شيئاً على أكله فإنه بالجوع مأدوم احتجاج البخلاء الأصمعي: قال أبو الأسود الدؤلي: لو أطعمنا المساكين أموالنا لكنا أسوأ حلاً منهم. وقال لبنيه: لا تطيعوا المساكين في أموالكم فإنهم لا يقنعون منكم حتى يروكم مثلهم. وقال لهم أيضاً: لا تجاودوا الله فإنه لو شاء أن يغني الناس كلهم لفعل ولكنه علم أن قوماً لا يصلحهم الغنى ولا يصلح لهم إلا الفقر وقوماً لا يصلحهم الفقر ولا يصلح لهم إلا الغنى. وقال سهل بن هارون: لو قسمت في الناس مائة ألف لكان الأكثر لائمي. وقال رجل من تغلب: أتيت رجلاً من كندة أسأله فقال: يا أخا بني تغلب إني لن أصلك حتى أحرم من هو أقرب إلي منك وإني والله لو مكنت من داري لنقضوها طوبةً طوبة. والله يا أخا بني تغلب ما بقي بيدي من مالي وأهلي وعرضي إلا ما منعته من الناس. وهذا نظير قول لآخر: من أعطى في الفضول قصر في الحقوق. وقال رجل لسهل بن هارون: هبني ما لا مرزئة عليك فيه. قال: وما ذاك يا بن أخي قال: درهماً واحداً. قال: يا بن أخي. لقد هونت الدرهم وهو طابع الله في أرضه الذي لا يعصى والدرهم ويحك عشر العشرة والعشرة عشر المائة والمائة عشر الألف والألف دية المسلم. ألا ترى يا ابن أخي إلى أين انتهاء الدرهم الذي هونته وهل بيوت المال إلا درهم على درهم. وروي عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه: يا بني أوصيك باثنتين ما تزال بخير ما تمسكت بهما: درهمك لمعاشك ودينك لمعادك. وقال أبو الأسود: إمساكك ما بيدك خير من طلبك ما بيد غيرك. وأنشد في المعنى: يلومونني في البخل جهلاً وضلةً وللبخل خير من سؤال بخيل ونظيره قول المتلمس: وحبس المال خير من بغاه وضرب في البلاد بغير زاد وقيل لخالد بن صفوان: ما لك لا تنفق فإن مالك عريض قال: الدهر أعرض منه. قيل له: كأنك تؤمل أن تعيش الدهر كله قال: لا ولكن أخاف ألا أموت في أوله. وقال الجاحظ للحزامي: أترضى أن يقال لك بخيل قال: لا أعدمني الله هذا الاسم لا يقال لي بخيل إلا وأنا ذو مال فسلم لي المال وسمني بأي اسم شئت. قلت: ولا يقال لك سخي إلا وأنت ذو مال فقد جمع الله لاسم السخاء المال والحمد وجمع لاسم البخل المال والذم. قال: بينهما فرقٌ عجيب وبون بعيد إن في قولهم بخيل سبباً لمكث المال في ملكي وفي قولهم سخي سبباً لخروج المال عن ملكي واسم البخيل فيه حزم واسم السخي فيه تضييع وحمد والمال ناض نافع وكرم لأهله والحمد ريح وسخرية وسمعة وطرمذة وما أقل غناء الحمد عنه إذا جاع بطنه وعرى ظهره وضاع عياله وشمت به عدوه. وقال محمد بن الجهم: من شأن من استغنى عنك ألا يقيم عليك ومن احتاج إليك ألا يزول عنك فمن حبك لصديقك وضنك بمودته ألا تبذل له ما يغنيه عنك وأن تتلطف له فيما يحوجه إليك. وقد قيل في مثل هذا: أجع كلبك يتبعك وسمنه يأكلك. فمن أغنى صديقه فقد أعانه على الغدر وقطع أسبابه من الشكر والمعين على الغدر شريك الغادر كما أن مزين الفجور شريك الفاجر. وقال يزيد بن عمر الأسدي لبنيه: يا بني تعلموا الرد فإنه أسد من العطاء ولأن تعلم بنو تميم أن عند أحدكم مائة ألف درهم أعظم له في أعينهم من أن يقسمها عليهم ولأن يقال لأحدكم بخيل وهو غني خيرٌ له من أن يقال له سخي وهو فقير. وقال الجذامي: يقولون: ثوبك على صاحبك أحسن منه عليك فما ظنك إن كان أقصر مني أليس يتخيل في قميصي! وإن كان أطول مني أليس يصير آيةً للسائلين فمن أسوأ أثراً على صديقه ممن جعله ضحكة فما ينبغي لي أن أكسوه حتى أعلم أنه فيه مثلي فمتى يتفق هذا وقال أبو نواس: كان معنا في السفينة ونحن نريد بغداد رجل من أهل خراسان وكان من فقهائهم وعقلائهم وكان يأكل وحده فقلت له: لم تأكل وحدك فقال: ليس علي في هذا مسألة. إنما المسألة على من أكل مع الجماعة لأنه يتكلف وأكلي وحدي هو الأصل وأكلي مع الجماعة تكلف ما ليس علي. ووقع درهم بيد سليمان بن مزاحم فجعل يقلبه ويقول: في شق: لا إله إلا الله محمد رسول الله وفي شق آخر: قل هو الله أحد ما ينبغي لهذا أن يكون إلا تعويذاً ورقية. ورمى به في الصندوق. وكان أبو عيسى بخيلاً وكان إذا وقع الدرهم بيده طنه بظفره وقال: يا درهم كم من مدينة وقال رجل لثمامة بن أشرس: إن لي إليك حاجةً. قال: وأنا لي إليك حاجة. قال: وما حاجتك إلي قال: لا أذكرها حتى تضمن قضاءها. قال: قد فعلت. قال: فإن حاجتي إليك ألا تسألني حاجة. فانصرف الرجل عنه. وكان ثمامة يقول: ما بال أحدكم إذا قال له الرجل: اسقني أتى بإناء على قدر الري أو أصغر وإذا قال: أطعمني أتاه من الخبز بما يفضل عن الجماعة والطعام والشراب أخوان أما إنه لولا رخص الماء وغلاء الخبز ما كلبوا على الخبز وزهدوا في الماء. الناس أرغب شيء في المأكول إذا كثر ثمنه أو كان قليلاً في منبته ألا ترى الباقلاء الأخضر أطيب من الكمثري والباذنجان أطيب من الكمأة ولكن أهل التحصيل والنظر قليل وإنما يشتهون على قدر الثمن. وكان يقول: إياكم وأعداء الخبز أن تأتدموا بها وأعدى عدو له المالح فلولا أن الله أعان عليه بالماء لهلك الحرث والنسل. وكان يقول: كلوا الباقلاء بقشره فإن الباقلاء يقول: من أكلني بقشري فقد أكلني ومن أكلني بغير قشري فقد أكلته فما حاجتكم أن تصيروا طعاماً إلى طعامكم الأصمعي قال: جاء رجل من بني عقيل إلى عمر بن هبيرة فمت إليه بقرابة وسأله أن يعطيه فلم يعطه شيئاً ثم عاد إليه بعد أيام فقال: أنا العقيلي الذي سألتك منذ أيام. فقال له ابن هبيرة: وأنا الفزاري الذي منعك منذ أيام. فقال: معذرة إليك إني سألتك وأنا أظنك يزيد بن هبيرة المحاربي. قال: ذلك ألأم لك عندي وأهون بشأنك علي. نشأ في قومك مثلي فلم تعرفه ومات مثل يزيد ولم تعلم به يا حرسي اسفع بيده. ومن أشعار البخلاء الذين يتمثلون بها: وزهدني في كل خير صنعته إلى الناس ما جربت من قلة الشكر ولآخر: ارقع قميصك ما اهتديت لجيبه فإذا أضلك جيبه فاستبدل ولابن هرمة: قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه خلق وجيب قميصه مرقوع ومن أمثالهم في البخل وخلف الوعد قولهم: تختلف الأقوال إذا اختلفت الأحوال. وقولهم: كلام الليل يمحوه النهار وقولهم: بروق الصيف كاذبة الرعود رسالة سهل بن هارون في البخل بسم الله الرحمن الرحيم. أصلح الله أمركم وجمع شملكم وعلمكم الخير وجعلكم من أهله. قال الأحنف بن قيس: يا معشر بني تميم لا تسرعوا إلى الفتنة فإن أسرع الناس إلى القتال أقلهم حياء من الفرار وقد كانوا يقولون: إذا أردت أن ترى العيوب جمة فتأمل عياباً فإنه إنما يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب ومن أعيب العيب أن تعيب ما ليس بعيب وقبيح أن تنهى مرشداً وأن تغري بمشفق وما أردنا بما قلنا إلا هدايتكم وتقويمكم وإصلاح فاسدكم وإبقاء النعمة عليكم ولئن أخطأنا سبيل إرشادكم فما أخطأنا سبيل حسن النية فيما بيننا وبينكم. وقد تعلمون أنا ما أوصيناكم إلا بما اخترناه لكم ولأنفسنا قبلكم وشهرنا به في الآفاق دونكم. ثم نقول في ذلك ما قال العبد الصالح لقومه: " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت ". فما كان أحقكم في كريم حرمتنا بكم أن ترعوا قصدنا بذلك إليكم على ما رعيناه من واجب حقكم فلا العذر المبسوط بلغتم ولا بواجب الحرمة قمتم. ولو كان ذكر العيوب يراد به فخراً لرأينا في أنفسنا عن ذلك شغلا. عبتموني بقولي لخادمي: أجيدي العجين فهو أطيب لطعمه وأزيد في ريعه. وقد قال عمر بن وعبتموني حين ختمت على سد عظيم وفيه شيء ثمين من فاكهة رطبة نفيسة ومن رطبة غريبة على عبدٍ نهم وصبي جشع وأمة لكعاء وزوجة مضيعة وليس من أصل الأدب ولا في ترتيب الحكم ولا في عادات القادة ولا في تدبير السادة أن يستوي في نفيس المأكول وغريب المشروب وثمين الملبوس وخطير المركوب التابع والمتبوع والسيد والمسود كما لا تستوي مواضعهم في المجالس ومواقع أسمائهم في العنوان ومن شاء أطعم كلبه الدجاج السمين وعلف حماره السمسم المقشر. وعبتموني بالختم وقد ختم بعض الأئمة على مزود سويق وعلى كيس فارغ وقال: طينة خير من ظنة. فأمسكتم عمن ختم على لا شيء وعبتم من ختم على شيء. وعبتموني أن قلت للغلام: إذا زدت في المرق فزد في الإنضاج ليجتمع مع التأدم باللحم طيب المرق وقد قال رسول الله ﷺ: إذا طبخ أحدكم لحماً فليزد من الماء فمن لم يصب لحماً أصاب مرقاً. وعبتموني بخصف النعل وبتصدير القميص حين زعمت أن المخصومة من النعل أبقى وأقوى وأشبه بالنسك وأن الترقيع من الحزم والتفريق من التضييع والاجتماع من الحفظ. وقد كان رسول الله ﷺ يخصف نعله ويرقع ثوبه ويلطع أصابعه ويقول: لو أهدى إلي ذراع لقبلت ولو دعيت إلى كراع لأجبت. وقال عليه الصلاة والسلام: من لم يشبع من الحلال خفت مؤنته وقل كبره. وقال الحكماء: لا جديد لمن لا يلبس الخلق. وبعث زياد رجلاً يرتاد له محدثاً واشترط عليه أن يكون عاقلاً. فأتاه به موافقاً فقال له: أكنت به ذا معرفة قال: لا ولكني رأيته في يوم قائظ يلبس خلقا ويلبس الناس جديداً فتفرست فيه العقل والأدب. وقد علمت أن الخلق في موضعه مثل الجديد في موضعه. وقد جعل الله لكل شيء قدراً وسمى له موضعاً كما جعل لكل زماناً رجالاً ولكل مقام مقالاً. وقد أحيا الله بالسم وأمات بالدواء وأغص بالماء. وقد زعموا أن الإصلاح أحد الكاسبين كما زعموا أن قلة العيال أحد اليسارين. وقد جبر الأحنف بن قيس يد عنز وأمر مالك بن أنس بفرك البعر. وقال عمر بن الخطاب: من أكل بيضة فقد أكل دجاجة. ولبس سالم بن عبد الله جلد أضحية. وقال رجل لبعض الحكماء: أريد أن أهدي إليك دجاجة. فقال: إن لا بد فاجعلها بيوضاً. وعبتموني حين قلت: من لم يعرف مواضع السرف في الموجود الرخيص لم يعرف مواضع الاقتصاد في الممتنع الغالي. ولقد أتيت بماء للوضوء على مبلغ الكفاية وأشد من الكفاية فلما صرت إلى تفريق أجزائه على الأعضاء وإلى التوفير عليها من وظيفة الماء وجدت في الأعضاء فضلاً عن الماء فعلمت أن لو كنت سلكت الاقتصاد في أوائله لخرج آخره على كفاية أوله ولكان نصيب الأول كنصيب الآخر فعبتموني بذاك وشنعتم علي. وقد قال الحسن وذكر السرف: أما إنه ليكون في الماء والكلأ. فلم يرض بذكر الماء حتى أردفه الكلأ. وعبتموني أن قلت: لا يغترن أحدكم بطول عمره وتقويس ظهره ورقة عظمه ووهن قوته وأن يرى نجوه أكثر من رزقه فيدعوه ذلك إلى إخراج ماله من يده وتحويله إلى ملك غيره وإلى تحكم السرف فيه وتسليط الشهوات عليه فلعله أن يكون معمراً وهو لا يدري وممدوداً له في السن وهو لا يشعر ولعله أن يرزق الولد على اليأس ويحدث عليه من آفات الدهر ما لا يخطر على باله ولا يدركه عقله فيسترده ممن لا يرده ويظهر الشكوى إلى من لا يرجمه أصعب ما كان عليه الطلب وأقبح ما كان له أن يطلب. فعبتموني بذلك وقد قال عمرو بن العاص: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا. وعبتموني بأن قلت: إن السرف والتبذير إلى مال المواريث وأموال الملوك وإن الحفظ إلى المال المكتسب والغنى المجتلب وإلى ما يعرض فيه بذهاب الدين واهتضام العرض ونصب البدن واهتمام القلب أسرع ومن لم يحسب نفقته لم يحسب دخله ومن لم يحسب الدخل فقد أضاع وعبتموني أن قلت: إن كسب الحلال مضمنٍ بالإنفاق في الحلال وأن الخبيث ينزع إلى الخبث وإن الطيب يدعو إلى الطيب وأن الإنفاق في الهوى حجاب دون الهوى فعبتم علي هذا القول وقد قال معاوية: لم أر تبذيراً قط إلا وإلى جنبه حق مضيع. وقد قال الحسن: إن أردتم أن تعرفوا من أين أصاب الرجل ماله فانظروا فيماذا ينفقه فإن الخبيث إنما ينفق في السرف. وقلت لكم بالشفقة عليكم وحسن النظر مني لكم وأنتم في دار الآفات والجوائح غير مأمونات فإن أحاطت بمال أحدكم آفة لم يرجع إلى نفسه فاحذروا النقم واختلاف الأمكنة فإن البلية لا تجري في الجميع إلا بموت الجميع. وقال عمر بن الخطابرضي الله عنه في العبد والأمة والشاة والبعير: فرقوا بين المنايا واجعلوا الرأس رأسين وقال ابن سيرين: كيف تصنعون بأموالكم قالوا: نفرقها في السفن فإن عطب بعض سلم بعض. ولولا أن السلامة أكثر ما حملنا أموالنا في البحر. قال ابن سيرين: تحسبها خرقاء وهي صناع. وعبتموني أن قلت لكم عند إشفاقي عليكم: إن للغنى لسكراً وللمال لثروة فمن لم يحفظ الغنى من سكره فقد أضاعه ومن لم يرتبط المال بخوف الفقر فقد أهمله فعبتموني بذلك وقد قال زيد بن جبلة: ليس أحد أقصر عقلاً من غني أمن الفقر وسكر الغنى أكثر من سكر الخمر. وقال الشاعر: في يحيى بن خالد بن برمك. وعبتموني حين زعمتم أني أقدم المال على العلم لأن المال به يفاد العلم وبه تقوم النفس قبل أن تعرف فضل العلم فهو أصل والأصل أحق بالتفضيل من الفرع. فقلتم: كيف هذا وقد قيل لرئيس الحكماء: الأغنياء أفضل أم العلماء قال: العلماء. قيل له: فما بال العلماء يأتون أبواب الأغنياء أكثر ما يأتي الأغنياء أبواب العلماء قال: ذلك لمعرفة العلماء بفضل المال وجهل الأغنياء بحق العلم. فقلت: حالهما هي القاضية بينهما وكيف يستوي شيء حاجة العامة إليه وشيء يغني فيه بعضهم عن بعض. وكان النبي ﷺ يأمر الأغنياء باتخاذ الغنم والفقراء باتخاذ الدجاج. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إني لأبغض أهل البيت ينفقون نفقة الأيام في اليوم الواحد. وكان أبو الأسود الدؤلي يقول لولده: إذا بسط الله لك الرزق فابسط وإذا قبض فاقبض. وعبتموني حين قلت: فضل الغنى على القوت إنما هو كفضل الآلة تكون في البيت أن احتيج إليها استعملت وإن استغني عنها كانت عدة. وقد قال الحصين بن المنذر: وددت أن لي مثل أحد ذهباً لا أنتفع منه شيء. قيل له: فما كنت تصنع به قال: لكثرة من كان يخدمني عليه لأن المال مخدوم. وقد قال بعض الحكماء: عليك بطلب الغنى فلو لم يكن فيه إلا أنه عز في قلبك وذل في قلب عدوك لكان الحظ فيه جسيماً والنفع فيه عظيماً. ولسنا ندع سيرة الأنبياء وتعليم الخلفاء وتأديب الحكماء لأصحاب اللهو ولستم علي تردون ولا رأيي تفندون فقدموا النظر قبل العزم وأدركوا ما عليكم قبل أن تدركوا ما لكم والسلام عليكم. ومن اللؤم التطفيل وهو التعرض للطعام من غير أن يدعى إليه. أخبار الطفيليين أولهم طفيل العرائس وإيه نسب الطفيليون وقال لأصحابه: إذا دخل أحدكم عرساً فلا يلتفت تلفت المريب ويتخير المجالس وإن كان العرس كثير الزحام فليمض ولا ينظر في عيون الناس لظن أهل المرأة أنه من أهل الرجل ويظن أهل الرجل أنه من أهل المرأة فإن كان البواب غليظاً وقاحاً فتبدأ به وتأمره وتنهاه من غير تعنف عليه ولكن بين النصيحة والإدلال. القحذمي قال: يقول الطفيليون: ليس في الأرض عود أكرم من ثلاثة أعواد: عصا موسى وخشب منبر الخليفة وخوان الطعام. وكان أبو العرقين الطفيلي قد نقش في خاتمه: اللؤم شؤم. فقيل له: هذا رأس التطفيل. أحمد بن علي الحاسب قال: مر طفيلي بسكة النخع بالبصرة على قوم وعندهم وليمة فاقتحم عليهم وأخذ مجلسه مع من دعي فأنكره صاحب المجلس. فقالوا له: لو تأنيت أو وقفت حتى يؤذن لك أو يبعث إليك قال: إنما اتخذت البيوت ليدخل فيها ووضعت الموائد ليؤكل عليها وما وجهت بهدية فأتوقع الدعوة والحشمة قطيعة واطراحها صلة وقد جاء في الأثر: " صل من قطعك وأعط من حرمك ". وأنشد: فإذا ما رأيت آثار عرس أو دخاناً أو دعوة الأصحاب لم أعرج دون التقحم لا أر هب طعناً أو لكزة البواب مستهيناً بمن دخلت عليهم غير مستأذن ولا هياب فتراني ألف بالرغم منهم كل ما قدموه لف العقاب ومنهم أشعب الطماع قيل له: ما بلغ من طمعك قال: لم أنظر إلى اثنين يتساران إلا ظننتهما يأمران لي بشيء. وفيه يقال: أطمع من أشعب. وقف أشعب إلى رجل يعمل طبقاً فقال له: أسأل بالله إلا ما زدت في سعته طوقاً أو طوقين. فقال له: وما معناك في ذلك قال: لعله يوماً أن يهدى إلي فيه شيء. ساوم أشعب رجلاً في قوس عربية فسأله ديناراً فقال له: والله لو أنها إذا رمي بها طائر في جو السماء وقع مشوياً بين رغيفين ما أعطيتك بها ديناراً. وبينما قوم جلوس عند رجل من أهل المدينة يأكلون عنده حيتاناً إذ استأذن عليهم أشعب فقال أحدهم: إن من شأن أشعب البسط إلى أجل الطعام فاجعلوا كبار هذه الحيتان في قصعة بناحية ويأكل معنا الصغار ففعلوا. وأذن له فقالوا له: كيف رأيك في الحيتان فقال: والله إن لي عليها لحرداً شديداً وحنقاً لأن أبي مات في البحر وأكلته الحيتان. قالوا له: فدونك خذ بثأر أبيك. فجلس ومد يده إلى حوت منها صغير ثم وضعه عند أذنه وقد نظر إلى القصعة التي فيها الحيتان في زاوية المجلس فقال: أتدرون ما يقول لي هذا الحوت قالوا: لا ندري. قال: إنه يقول: إنه لم يحضر موت أبي ولم يدركه لأن سنه يصغر عن ذلك ولكن قال لي: عليك بتلك الكبار التي في زاوية البيت فهي أدركت أباك وأكلته. وكان رجل من الأمراء يستظرف طفيلياً يحضر طعامه وشرابه وكان الطفيلي أكولاً شروباً فلما رأى الأمير كثرة أكله وشربه اطرحه وجفاه فكتب إليه الطفيلي: قد قل أكلي وعقل شربي وصرت من بابة الأمير فليدع بي وهو في أمان أن أشرب الراح بالكبير وأقبل طفيلي إلى صنيع فوجد باباً قد أرتج ولا سبيل إلى الوصول فسأل عن صاحب الصنيع: إن كان له ولد غائب أو شريك في سفر فأخبر عنه أن له ولداً ببلد كذا. فأخذ رقا أبيض وطواه وطبع عليه ثم أقبل متدللاً فقعقع الباب قعقعة شديدة واستفتح وذكر أنه رسول من عند ولد الرجل. ففتح له الباب وتلقاه الرجل فرحاً وقال: كيف فارقت ولدي قال له: بأحسن حال وما أقدر أن أكلمك من الجوع. فأمر بالطعام فقدم إليه وجعل يأكل ثم قال له الرجل: ما كتب كتاباً معك قال: نعم ودفع إليه الكتاب. فوجد الطين طرياً. فقال له: أرى الطين طرياً قال: نعم. وأزيدك أنه من الكد ما كتب فيه شيئاً. فقال: أطفيلي أنت قال: نعم أصلحك الله. قال: كل: لا هنأك الله. وقيل لأشعب: ما تقول في ثريدة مغمورة بالزبدة مشقفة باللحم قال: فأضرب كم قيل له: بل تأكلها من غير ضرب. قال: هذا ما لا يكون ولكن كم الضرب فأتقدم على بصيرة وقيل لمزبد المديني وقد أكل طعاماً كظه: قئ. قال: أقئ خبزاً نقياً ولحم جدي امرأتي طالق: لو وجدتهما قيئاً لأكلتهما. وقيل لطفيلي: ما أبغض الطعام إليك قال: القريص. قيل له: ولم ذا قال: لأنه يؤخر إلى يوم آخر. ومر طفيلي بقوم من الكتبة في مشربة لهم فسلم ثم وضع يده يأكل معهم. قالوا له: أعرفت منا أحداً قال: نعم عرفت هذا وأشار إلى الطعام. فقالوا: قولوا بنا فيه شعراً. فقال الأول: لم أر مثل سرطة ومطة وقال الثاني: ولفة دجاجة ببطة وقال الثالث: فقال الإثنان للثلث: أما الذي وصفناه من فعله فمفهوم فما يصنع جالينوس تحت إبطه قال: يلقمه الجوارشن كلما خاف عليه التخمة يهضم بها طعامه. ومر طفيلي على الجماز فقال له: ما تأكل قال: كلب في قحف خنزير. ودخل طفيلي على قوم يأكلون فقال: ما تأكلون فقالوا من بغضه: سماً. فأدخل يده وقال: الحياة حرام بعدكم. ومر طفيلي على قوم كانوا يأكلون وقد أغلقوا الباب دونه فتسور عليهم من الجدار وقال: منعتموني من الأرض فجئتكم من السماء. وقيل لطفيلي: كم اثنان في اثنين قال أربعة أرغفة. وقيل لآخر: كم كان أصحاب النبي ﷺ يوم بدر قال: كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر درهما. قال محمد بن أحمد الكوفي حدثنا الحسين بن عبد الرحمن عن أبيه قال: أمر المأمون أن يحمل إليه عشرة من الزنادقة سموا له بالبصرة فجمعوا وأبصرهم طفيلي فقال: ما اجتمع هؤلاء إلا لصنيع فانسل فدخل وسطهم ومضى بهم المتوكلون حتى انتهوا بهم إلى زورق قد أعد لهم فدخل الزورق فقال الطفيلي: هي نزهة. فدخل معهم فلم يكن بأسرع من أن قيدوا وقيد معهم الطفيلي ثم سير بهم إلى بغداد فأدخلوا على المأمون فجعل يدعو بأسمائهم رجلاً رجلاً فيأمر بضرب رقابهم حتى وصل إلى الطفيلي وقد استوفى العدة فقال للموكلين: ما هذا قالوا: والله ما ندري غير أنا وجدناه مع القوم فجئنا به. فقال له المأمون: ما قصتك ويلك! قال: يا أمير المؤمنين. امرأته طالق إن كان يعرف من أحوالهم شيئاً ولا مما يدينون الله به إنما أنا رجل طفيلي رأيتهم مجتمعين فظننتهم ذاهبين لدعوة. فضحك المأمون وقال: يؤدب. وكان إبراهيم بن المهدي قائماً على رأس المأمون فقال: يا أمير المؤمنين هب لي ذنبه وأحدثك عن حديث عجيب عن نفسي. قال: قل يا إبراهيم. قال: خرجت يا أمير المؤمنين من عنك يوماً فطفت في سكك بغداد متطرباً فانتهيت إلى موضع فشممت روائح أبازير قدور قد فاح طيبها فتاقت نفسي إليها وإلى طيب ريحها فوقفت على خياط فقلت: لمن هذه الدار قال: لرجل من التجار البزازين قلت: ما اسمه قال: فلان بن فلان فنظرت إلى الدار فإذا بشباك فيها مطل فنظرت إلى كف قد خرجت من الشباك قابضة على عضد ومعصم فشغلني يا أمير المؤمنين حسن الكف والمعصم عن رائحة القدور وبقيت باهتاً ساعة ثم أدركني ذهني فقلت للخياط: أهو ممن يشرب النبيذ قال: نعم وأحسب أن عنده اليوم دعوة وليس ينادم إلا تجاراً مثله مستورين فبينا أنا كذلك إذا أقبل رجلان نبيلان راكبان من رأس الدرب فقال الخياط: هؤلاء منادموه. فقلت: ما اسماهما وما كناهما قال: فلان وفلان. فحركت دابتي وداخلتهما وقلت: جعلت فداكما. قد استبطأكم أبو فلان أعزه الله وسايرتهما حتى بلغا الباب فأجلاني وقدماني فدخلنا. فلما رآني صاحب المنزل لم يشك أني منهما بسبيل أو قادم قدمت عليهما من موضع فرحب بي وأجلست في أفضل المواضع فجيء بالمائدة وعليها خبز نظيف وأتينا بتلك الألوان فكان طعمها أطيب من ريحها فقلت في نفسي: هذه الألوان قد أكلتها وبقي الكف والمعصم كيف أصل إلى صاحبتهما ثم رفع الطعام وجاءونا بوضوء فتوضأنا وصرنا إلى بيت المنادمة فإذا أشكل بيت يا أمير المؤمنين وجعل صاحب المنزل يلطف بي ويميل علي بالحديث وجعلوا لا يشكون أن ذلك منه على معرفة متقدمة حتى إذا شربنا أقداحاً خرجت علينا جارية كأنها جان تثنى كالخيزران فأقبلت فسلمت غير خجلة وثنيت لها وسادة فجلست وأتي بالعود فوضع في حجرها فجسته فاستبنت في جسها حذقها ثم اندفعت تغني: توهمها طرفي فأصبح خدها وفيه مكان الوهم من نظري أثر وصافحها كفي فآلم كفها فمن مس كفي في أناملها عقر فهيجت يا أمير المؤمنين بلابلي وطربت لحسن شعرها ثم اندفعت تغني: فحدت عن الإظهار عمداً لسرها وحادت عن الإظهار أيضاً على عمد فصحت: يا أمير المؤمنين: السلاح وجاءني من الطرب ما لم أملك نفسي ثم اندفعت فغنت الصوت الثالث: أليس عجيباً أن بيتاً يضمني وإياك لا نخلو ولا نتكلم سوى أعين تشكو الهوى بجفونها وتقطيع أنفاس على النار تضرم إشارة أفواه وغمز حواجب وتكسير أجفان وكف تسلم فحسدتها يا أمير المؤمنين على حذقها ومعرفتها بالغناء وإصابتها لمعنى الشعر وأنها لم تخرج من الفن الذي ابتدأت به فقلت: بقي عليك يا جارية. فضربت بعودها الأرض وقالت: متى كنتم تحضرون مجالسكم البغضاء فندمت على ما كان مني ورأيت القوم كأنهم تغيروا لي فقلت: أما عندكم عود غير هذا قالوا: بلى. فأتيت بعود فأصلحت من شأنه ثم غنيت: ما للمنازل لا يجبن حزيناً أصممن أم قدم المدى فبلينا راحوا العشية روحةً مذكورة إن متن متنا أو حيين حيينا فما أتممته حتى قامت الجارية فأكبت على رجلي تقبلها وقالت: معذرةً إليك فوالله ما سمعت أحد يغني هذا الصوت عناءك وقام مولاها وأهل المجلس ففعلوا كفعلها وطرب القوم أفي الحق أن تمسي ولا تذكرينني وقد سفحت عيناي من ذكرك الدما فردي مصاب القلب أنت قتلته ولا تتركيه ذاهل العقل مغرما إلى الله أشكو بخلها وسماحتي لها عسل مني وتبذل علقما إلى الله أشكو أنها مادرية وأني لها بالود ما عشت مكرما فطرب القوم حتى خرجوا من عقولهم فأمسكت عنهم ساعة حتى تراجعوا ثم اندفعت أغني الثالث: هذا محبك مطويٌ على كمده حرى مدامعه تجري على جسده له يد تسأل الرحمن راحته مما جنى ويد أخرى على كبده فجعلت الجارية تصيح: هذا الغناء والله يا سيدي لا ما كنا فيه وسكر القوم. وكان صاحب المنزل حسن الشرب الصحيح العقل فأمر غلمانه أن يخرجوهم ويحفظوهم إلى منازلهم وخلوت معه فلما شربنا أقداحاً قال: يا هذا ذهب ما مضى من أيامي ضياعاً إذ كنت لا أعرفك فمن أنت يا مولي ولم يزل يلح حتى أخبرته الخبر فقام وقبل رأسي وقال: وأنا أعجب يا سيدي أن يكون هذا الأدب إلا لمثلك وأني لجالس مع الخلافة ولا أشعر ثم سألني عن قصتي فأخبرته حتى بلغت خبر الكف والمعصم فقال للجارية: قومي فقولي لفلانة تنزل ثم لم يزل ينزل جواريه واحدةً بعد أخرى وأنظر إلى كفها ومعصمها وأقول: ليست هي حتى قال: والله ما بقي غير زوجتي وأختي ووالله لأنزلنهما إليك فعجبت من كرمه وسعة صدره فقلت: جعلت فداءك ابدأ بالأخت قبل الزوجة فعساها هي فبرزت فلما رأيت كفها ومعصمها قلت: هي هذه فأمر غلمانه فمضوا إلى عشرة مشايخ من جلة جيرانه فأقبلوا بهم وأمر ببدرتين فيهما عشرون ألف درهم فقال للمشايخ: هذه أختي فلانة أشهدكم أني زوجتها من سيدي إبراهيم بن المهدي وأمهرتها عنه عشرين ألفاً فرضيت النكاح. فدفع إليها البدرة وفرق الأخرى على المشايخ وقال لهم: انصرفوا. ثم قال: يا سيدي أمهد لك بعض البيوت فتنام مع أهلك. فأحشمني ما رأيت من كرمه فقلت: بل أحضر عمارية وأحملها إلى منزلي. قال: ما شئت فأحضرت عمارية وحملتها إلى منزلي فوالله يا أمير المؤمنين لقد أتبعها من الجهاز ما ضاق عنه بعض بيوتنا فأولدتها هذا القائم على رأس أمير المؤمنين. فعجب المأمون من كرم الرجل وأطلق الطفيلي وأجازه وألحق الرجل في أهل خاصته. ومر طفيلي بقوم يتغدون فقال: سلام عليكم معشر اللئام. فقالوا: لا والله بل كرام. فثنى رجله وجلس وقال: اللهم اجعلهم من الصادقين واجعلني من الكاذبين. ودخل طفيلي من أهل المدينة على الفضل بن يحيى وبيده تفاحة فألقاها إليه وقال: حياك الله يا مدني فلزمها وأكلها. فقال له: شؤم عليك يا مدني أتأكل التحيات قال: إي والله والزاكيات الطيبات كنت آكلها. وقال إبراهيم الموصلي في طفيلي كان يصحبه: نعم النديم نديم لا يكلفني ذبح الدجاج ولا ذبح الفراريج يكفيه لونان من كشك ومن عدس ولو يشاء فزيتون بطسوج وقال طفيلي في نفسه: نحن قوم إذا دعينا أجبنا ومتى ننس يدعنا التطفيل ونقل علنا دعينا فغبنا وأتانا فلم يجدنا الرسول وقال آخر وأتى طعاماً لم يدع إليه فقيل له: من دعاك فأنشأ: دعوت نفسي حين لم تدعني فالحمد لي لا لك في الدعوة وكان ذا أحسن من موعد مخلفه يدعو إلى الجفوة ودخل طفيلي في صنيع رجل من القبط فقال له: من أرسل لك فأنشأ: أزوركم لا أكافيكم بجفوتكم إن المحب إذا ما لم يزر زارا فقال له القبطي: زر زارا ليس ندري من هو اخرج من بيتي. ونظر رجل من الطفيليين إلى قوم من الزنادقة يسار بهم إلى القتل فرأى لهم هيئة حسنة وثياباً نقية فظنهم يدعون إلى وليمة فتلطف حتى دخل في لفيفهم وصار واحداً منهم فلما بلغ صاحب الشرطة قال: أصلحك الله لست والله منهم وإنما أنا طفيلي ظننتهم يدعون إلى صنيع فدخلت في جملتهم. فقال: ليس هذا مما ينجيك مني اضربوا عنقه. فقال: أصلحك الله إن كنت ولا بد فاعلاً فأمر السياف أن يضرب بطني بالسيف فإنه هو الذي ورطني هذه الورطة. فضحك صاحب الشرطة وكشف عنه فأخبروه أنه طفيلي معروف فخلى سبيله. وقال طفيلي: ألا ليت لي خبزاً تسربل رائباً وخيلاً من البرني فرسانها الزبد فأطلب فيما بينهن شهادةً بموت كريم لا يشق له لحد وكان أشعب يختلف إلى ينة بالمدينة يطارحها الغناء فلما أراد الخروج إلى مكة قال لها: ناوليني هذا الخاتم الذي في إصبعك لأذكرك به. قالت: إنه ذهب وأخاف أن تذهب ولكن خذ هذا العود لعلك تعود. اصطحب شيخ وحدث من الأعراب فكان لهما قرص في كل يوم وكان الشيخ متخلع الأضراس بطيء الأكل فكان الحدث يبطش بالقرص ثم يقعد يشتكي العشق ويتضور الشيخ لقد رابني من جعفر أن جعفراً يطيش بقرصي ثم يبكي على جمل فقلت له لو مسك الحب لم تبت سميناً وأنساك الهوى شدة الأكل وقال الحدث: إذا كان في بطني طعامٌ ذكرتها وإن جعت يوماً لم تكن لي على ذكر ويزداد حبي إن شبعت تجدداً وإن جعت غابت عن فؤادي وعن فكري وكان أشعب يختلف إلى جارية في المدينة ويظهر لها التعاشق إلى أن سألته سلفة نصف درهم فانقطع عنها وكان إذا لقيها في طريق سلك طريقاً أخرى فصنعت له نشوقاً وأقبلت به إليه فقال لها: ما هذا قالت: نشوق عملته لك لهذا الفزع الذي بك. فقال: اشربيه أنت للطمع فلو انقطع طمعك انقطع فزعي وأنشأ يقول: أخلفي ما شئت وعدي وامنحيني كل صدِّ قد سلا بعدك قلبي فاعشق من شئت بعدي إنني آليت لا أع شق من يعشق نقدي وقيل لأشعب: ما أحسن الغناء قال: نشيش المقلي. قيل له: فما أطيب الزمان قال: إذا كان عندك ما تنفق. وكان أشعب يغني: وكان الحب في القلب فصار الحب في المعده وقال آخر في طفيلي من أهل الكوفة: زرعنا فلما تمم الله زرعنا وأوفى عليه منجل بحصاد بلينا بكوفي حليف مجاعة أضرّ بزرع من دبي وجراد وقال هشام أخو ذي الرُّمة لرجل أراد سفراً: إن لكل رفقة كلباً يشركهم في فضلة الزاد فإن استطعت أن تكون كلب الرفاق فافعل. وخرج أبو نواس متنزهاً مع شطار من أصحابه فنزلوا روضة ووضعوا شراباً فمر بهم طفيلي فتطارح عليهم فقال أبو نواس: ما اسمك قال: أبو الخير. فرحب به وقعد معهم. ثم مرت بهم جارية فسلمت فرد عليها وقال لها: ما اسمك قالت: زانة. قال أبو نواس لأصحابه: اسرقوا الياء من أبي الخير فأعطوها زانة فتكون زانية ويكون أبو الخير أبا الخرء كما هو. ففعلوا. الجاحظ قال: دعي أبو عبد الله الواسطي إلى صنيع فدعاني فدعوت أبا الفلوسكي. فلما كان من الغد صبح الفلوسكي الجاحظ فقال له: أما تذهب بنا هناك يا أبا عثمان قال: نعم. قال: فذهبنا حتى أتينا دار صاحب الصنيع فلم يكن علينا كسوة رائعة ولا تحتنا دواب فتدخل تجاهنا فوجدنا البواب ذا غلظ وجفا فمنعنا فانحدرنا في جانب الإيوان ننتظر أحداً يعلم أبا عبد الله الواسطي بحالنا. فمكثنا حيناً حتى أتى من نعرفه فسألناه أن يعلم أبا عبد الله الواسطي بنا فلما أخبر خرج إلينا يتلقانا فتقدمني الفلوسكي وتقدمه حتى أتى صدر المجلس فقعد فيه ثم قال لي: ها هنا عندنا يا أبا عثمان. فلما خلونا ثلاثتنا قلت للفلوسكي: كيف تسمي العرب من أمالت أنفسها قال الفلوسكي: تسميه ضيفاً فقال له الجاحظ: وكيف تسمي من أماله الضيف قال: تسميه ضيفاً. قال الجاحظ: وكيف تسمي من أماله الضيفان قال: ما لمثل هذا عند العرب تسمية قال الجاحظ: فقلت: قد رضيت أن تكون في منزلة من التطفيل لم تجد لها العرب اسماً ثم تتحكم تحكم صاحب البيت باب من أخبار المحارفين الظرفاء منهم أبو الشمقمق الشاعر وكان أديباً طريقاً محارفاً وكان صعلوكاً متبرماً بالناس وقد لزم بيته في أطمار مسحوقة وكان إذا استفتح عليه أحد بابه خرج فينظر من فروج الباب فإن أعجبه الواقف فتح له وإلا سكت عنه. فأقبل إليه يوماً بعض إخوانه الملطفين له فدخل عليه فلما رأى سوء حاله قال له: أبشر أبا الشمقمق فإنا روينا في بعض الحديث: إن العارين في الدنيا هم الكاسون يوم القيامة. فقال: إن صح والله هذا الحديث كنت أنا في ذلك اليوم بزازاً ثم أنشأ يقول: أنا في حال تعالى الله ربي أي حال ليس لي شيء إذا قي ل لمن ذا قلت ذا لي ولقد أفلست حتى محت الشمس خيالي ولقد أفلست حتى حل أكلي لعيالي وله: أتراني أرى من الدهر يوماً لي فيه مطية غير رجلي حيث كنت لا أخاف رحيلاً من رآني فقد رآني ورحلي وقال أبو الشمقمق أيضاً: لو قد رأيت سريري كنت ترحمني الله يعلم ما لي فيه تليس والله يعلم ما لي فيه شادكةٌ إلا الحصيرة والأطمار والديس وقال أيضاً: برزت من المنازل والقباب فلم يعسر على أحد حجابي فمنزلي الفضاء وسقف بيتي سماء الله أو قطع السحاب فأنت إذا رأدت دخلت بيتي علي مسلماً من غير باب لأني لم أجد مصراع باب يكون من السحاب إلى التراب ولا انشق الثرى عن عود تخت أؤمل أن أشد به ثيابي ولا خفت الإباق على عبيدي ولا خفت الهلاك على دوابي ولا حاسبت يوماً قهرماني محاسبة فأغلط في حسابي وفي ذا راحة وفراغ بال فدأب الدهر ذا أبداً ودابي ولو أني وضعت ياقوتةً حم راء في راحتي لصارت زجاجا ولو أني وردت عذباً فراتاً عاد لا شك فيه ملحاً أجاجاً فإلى الله اشتكى وإلى الفض ل فقد أصبحت بزاتي دجاجا وقال عمرو بن الهدير: وقفت فلا أدري إلى أين أذهب وأي أموري بالعزيمة أركب عجبت لأقدار علي تتابعت بنحس فأفنى طول عمري التعجب ولما التمست الرزق فانجد حبله ولم يصف لي في بحره العذب مشرب خطبت إلى الإعدام إحدى بناته لرفع الغنى إياي إذ جئت أخطب فزوجنيها ثم جاء جهازها وفيه من الحرمان تخت ومشجب فأولدتها الحرف النقي فما له على الأرض غيري والد حين ينسب فلو تهت في البيداء والليل مسبل علي جناحيه لما لاح كوكب ولو خفت شراً فاستترت بظلمة لأقبل ضوء الشمس من حيث تغرب وإن يقترف ذنباً ببرقة مذنب فإن برأسي ذلك الذنب يعصب وإن أر خيراً في المنام فنازح وإن أر شراً فهو مني مقرب ولم أغد في أمرٍ أريد نجاحه فقابلني إلا غراب وأرنب أمامي من الحرمان جيشٌ عرمرم ومنه ورائي جحفل حين أركب وقال آخر: ليس إغلاقي لبابي أن لي فيه ما أخشى عليه السرقا إنما أغلقته كيلا يرى سوء حالي من يمر الطرقا منزل أوطنه الفقر فلو يدخل السارق فيه سرقا وقال الحسن بن هانئ في هذا المعنى: الحمد لله ليس لي نشب فخف ظهري وقل زواري من نظرت عينه إلي فقد أحاط علماً بما حوت داري جهري في البيت كامنٌ وعلى مدرجة الرائحين أسراري وقال بعض المحارفين: