ويقال: قوم ملبونون وقوم روبى إذا شربوا الرائب فسكروا منه. وقال بشر بن أبي خازم: فأما تميم تميم بن مرٍ فألفاهم القوم روبي نياما وأما قولكم للرجل: مخمور وبه خمار إذا أصابه صداع من الخمر وقد يقال مثل ذلك لمن أصابه صداع من النبيذ فيقال: به خمار ولا يقال به نباذ - فإن حجتنا في ذلك أن الخمار إنما يعرض مما أسكر من النبيذ وذلك حرام لا فرق بينه وبين الخمر عندنا فيقال فيه ما يقال في الخمر. وإنما كان شربة النبيذ من أسلافنا يشربون منه اليسير على الغداء والعشاء ومما لا يعرض منه خمار. وقد فرقت الشعراء بين النبيذ والخمر فقال الأقيشر وكان مغرماً بالشراب: وصهباء جرجانية لم يطف بها حنيف ولم تنغر بها ساعةً قدر أتاني بها يحيى وقد نمت نومةً وقد غارت الشعري وقد خفق النسر فقلت: اصطحبها أو لغيري فاسقها فما أنا بعد الشيب ويحك والخمر إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن له دون ما يأتي حياءٌ ولا ستر فدعه ولا تنكر عليه الذي أنى وأن جر أرسان الحياة له الدهر وأما قول بعض الشعراء في شاربي النبيذ وما عابوهم به من قلة الوفاء ونقض العهود فقد قالوا أقبح من ذلك في تارك النبيذ وقال ابن بيض: ألا لا يغرنك ذو سجدةٍ يظل بها دائباً يخدع وما للتقى لزمت وجهه ولكن ليأتي مستودع ثلاثون ألفاً حواها السجود فليست إلى ربها ترجع ورد أخو الكأس ما عنده وما كنت في رده أطمع وقال آخر: أما النبيذ فلا يذعرك شاربه واحفظ ثيابك ممن يشرب الماء قوم يورون عما في نفوسهم حتى إذا استمكنوا كانوا هم الداء مشمرين إلى أنصاف سوقهم هم الذئاب وقد يدعون قراء وقال أعرابي: صلى فأعجبني وصام فرابني نح القلوص عن المصلي الصائم وقال غيره: شمر ثيابك واستعد لقائل واحكك جبينك للقضاء بثوم وقال بعض الظرفاء: أظهروا لله سمتاً وعلى المنقوش داروا وله صلوا وصاموا وله حجوا وزاروا لو يرى فوق الثريا ولهم ريش لطاروا وهؤلاء المراءون بأعمالهم العاملون للناس والتاركون للناس هم شرار الخلق وأراذل البرية. وقد فضل شربة النبيذ عليهم بإرسال الأنفس على السجية وإظهار المروءة. ولسنا نصف بهذا منهم إلا الأدنياء فليس في الناس صنف إلا ولهم حشوة. ومن احتجاج المحللين للنبيذ ما رواه مالك وأثبته في موطئه من حديث أبي سعيد الخدري: أنه قدم من سفر فقدم إليه لحم من لحوم الأضاحي فقال: ألم يكن من رسول الله ﷺ فيها أمر. فخرج إلى الناس فسألهم فأخبروه أن رسول الله ﷺ قال: " كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام فكلوا وادخروا وتصدقوا. وكنت نهيتكم عن الانتباذ في الدباء والمزفت فانتبذوا وكل مسكرٍ حرام. وكنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجراً ". والحديثان صحيحان رواهما مالك بن أنس وأثبتهما في موطئه وإنما هو ناسخ ومنسوخ وإنما كان نهيه أن ينتبذ في الدباء والمزفت نهياً عن النبيذ الشديد لأن الأشربة التي تعتمل فيها تشتد. ولا معنى للدباء والمزفت غير هذا. وقوله بعد هذا: " كنت نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا وكل مسكر حرام " إباحةٌ لما كان حظر عليه من النبيذ الشديد. وقوله ﷺ: " كل مسكر حرام " فنهاهم بذلك أن يشربوا حتى يسكروا. وإنما المسكر ما أسكر ولا يسمى القليل الذي لا يسكر مسكرا. ولو كان ما يسكر كثيره يسمى قليله مسكرا ما أباح لنا منه شيئاً. والدليل على ذلك أن النبي ﷺ إذ شرب من سقاية العباس فوجده شديداً. قطب بين حاجبيه ثم دعا بذنوب من ماء زمزم فصب عليه ثم قال: " إذا اغتلمت أشربتكم فاكسروها بالماء ". ولو كان حراماً لأراقه وما صب عليه ماء ثم شربه. واحتجوا: في قول رسول الله ﷺ: " كل مسكر حرام وما أسكر الفرق منه فملء الكف حرام فإن هذا كله منسوخ نسخه شربه للصلب يوم حجة الوداع. قالوا: ومن الدليل على ذلك أنه كان نهى وفد عبد القيس عن شرب المسكر ثم وفدوا إليه بعد فرآهم مصفرة ألوانهم سيئة حالهم فسألهم عن قصتهم فأعلموه أنه كان لهم شراب فيه قوام أبدانهم فمنعهم من ذلك فأذن لهم في شربه. وأن ابن مسعودٍ قال: " شهدنا التحريم وشهدتم وشهدنا التحليل وغبتم ". وأنه كان يشرب الصلب من نبيذ الجر حتى كثرت الروايات به عنه وشهرت وأذيعت واتبعه عليه عامة التابعين من الكوفيين وجعلوه أعظم حججهم وقال في ذلك شاعرهم: من ذا يحرم ماء المزن خالطه في جوف خابيةٍ ماء العناقيد إني لأكره تشديد الرواة لنا فيه ويعجبني قول ابن مسعود وإنما أراد: أنهم كانوا يعمدون إلى الرب الذي قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه فيردون عليه من الماء قدر ما ذهب منه ثم يتركونه حتى يغلي ويسكن جأشه ثم يشربونه. وكان عمر يشرب على طعامه الصلب ويقول: يقطع هذا اللحم في بطوننا. واحتجوا بحديث زيد بن أخزم عن أبي داود عن شعبة عن مسعر بن كدام عن ابن عون الثقفي عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس أنه قال: " حرمت الخمر بعينها والسكر من كل شراب ". وبحديث رواه عبد الرحمن بن سليمان عن يزيد بن أبي زياد عن عكرمة عن ابن عباس: " أن النبي ﷺ طاف وهو شاكٍ على بعير ومعه محجن كلما مر بالحجر استلمه بالمحجن حتى إذا انقضى طوافه نزل فصلى ركعتين ثم أتى السقاية فقال: " اسقوني من هذا ". فقال له العباس " ألا نسقيك مما يصنع في البيوت قال: " لا ولكن اسقوني مما يشرب الناس ". فأتي بقدح من نبيذ فذاقه فقطب وقال: " هلموا فصبوا فيه الماء ". ثم قال: " زد فيه " مرة أو مرتين أو ثلاثة. ثم قال: " إذا صنع بكم هذا فاصنعوا به هكذا ". وبحديث رواه يحيى بن اليمان عن الثوري عن منصور بن خالد عن سعيد بن مسعود الأنصاري: أن النبي ﷺ عطش وهو يطوف بالبيت فأتي بنبيذٍ من السقاية فشمه فقطب ثم دعا بذنوب من ماء زمزم فصب عليه وشرب فقال له رجل: أحرام هو يا رسول الله فقال: " لا ". وقال الشعبي: شرب أعرابي من إداوة عمر فانتشى فحده عمر. وإنما حده للسكر لا للشراب. ودخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على قوم يشربون ويوقدون في الأخصاص فقال: نهيتكم عن معاقرة الشراب فعاقرتم وعن الإيقاد في الأخصاص فأوقدتم ". وهم بتأديبهم فقالوا: مهلاً يا أمير المؤمنين نهاك الله عن التجسس ونهاك عن الدخول بغير إذنٍ فدخلت فقال: هاتان بهاتين. وانصرف وهو يقول: " كل الناس أفقه منك يا عمر ". وأصل المعاقرة من عقر الحوض وهو مقام الشاربة. ولو كان عنده ما شربوا خمراً لحدهم. وبلغه عن عامل بميسان أنه قال: ألا أبلغ الحسناء أن حليلها بميسان يسقى في زجاج وحنتم إذا شئت غنتني دهاقين قريةٍ وصناجةٌ تجذو على كل منسم فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ولا تسقني بالأصغر المتثلم لعل أمير المؤمنين يسوؤه تنادمنا في الجوسق المتهدم فقال: إي والله إنه ليسوؤني ذلك. فعزله وقال: والله لا عمل لي عملاً أبداً. وإنما أنكر عليه المدام وشربه بالكبير والصنج والرقص وشغله باللهو عما فوض إليه من أمور الرعية. ولو كان ما شرب عنده خمراً لحده. حدث محمد بن داود عن سعيد بن نصير عن يسار عن جعفر قال: سمعت مالك بن دينار وسئل عن النبيذ أحرام هو فقال: انظر ثمن التمر من أين هو ولا تسل عن النبيذ أحلالٌ هو أم حرام وعوتب سعيد بن زيد في النبيذ فقال: أما أنا فلا أدعه حتى يكون شر عملي. وقيل لمحمد بن واسع: أتشرب النبيذ قال: نعم. فقيل: وكيف تشربه فقال: على غدائي وعشائي وعند ظمئي. قيل: فما تركت منه قال: التكأة ومحادثة الإخوان. قال المأمون: " اشرب النبيذ ما استبشعته فإذا سهل عليك فدعه ". وإنما أراد به أنه يسهل على شاربه إذا أخذ في الإسكار. وقيل لسعيد بن أسلم: أتشرب النبيذ فقال: لا. قيل: ولم قال: تركت كثيره لله وقليله للناس. وكان سفيان الثوري يشرب النبيذ الصلب الذي تحمر منه وجنتاه. واحتجوا من جهة النظر أن الأشياء كلها مباحة إلا حرم الله قالوا: فلا نزيل نفس الحلال بالاختلاف ولو كان المحللون فرقة من الناس فكيف وهم أكثر الفرق وأهل الكوفة أجمعون على التحليل لا يختلفون فيه. وتلوا قول الله عز وجل: " قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزقٍ فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل الله أذن لكم أم على الله تفترون ". حدث إسحاق بن راهويه قال: سمعت وكيعاً يقول: " النبيذ أحل من الماء ". وعابه بعض الناس في ذلك وقالوا: كيف يكون أحل من الماء وهو وإن كان حلالاً فهو بمنزلة الماء. وليس على وكيع في هذا الموضع عيب ولا يرجع عليه فيه كذب لأن كلمته خرجت مخرج كلام العرب في مبالغتهم كما يقولون: " هو أشهر من الصباح " و " أسرع من البرق " و " أبعد من النجم " و " أحلى من العسل " و " أحر من النار ". ولم يكن أحدٌ من الكوفيين يحرم النبيذ غير عبد الله بن إدريس. وكان بذلك معيباً. وقيل لابن إدريس: من خيار أهل الكوفة فقال: هؤلاء الذين يشربون النبيذ. قيل: وكيف وهم يشربون ما يحرم عندك قال: ذلك مبلغهم من العلم. وكان ابن المبارك يكره شرب النبيذ ويخالف فيه رأي المشايخ وأهل البصرة. قال أبو بكر بن عياش: من أين جئت بهذا القول في كراهيتك النبيذ ومخالفتك أهل بلدك قال: هو شيء اخترته لنفسي قلت: فتعيب من شربه قال: لا. قلت: فأنت وما اخترت. وكان عبد الله بن داود يقول: ما هو عندي وماء الفرات إلا سواء. وكان يقول: أكره إدارة القدح وأكره نقيع الزبيب وأكره المعتق. وقال: من أدار القدح لم تجز شهادته. وشهد رجل عند سوار القاضي فرد شهادته لأنه كان يشرب النبيذ. فقال: أما النبيذ فإني غير تاركه ولا شهادة لي ما عاش سوار حدث شبابة قال: حدثني غسان بن أبي الصباح الكوفي عن أبي سلمة يحيى بن دينار عن أبي المطهر الوراق قال: بينما زيد بن علي في بعض أزقة الكوفة إذ بصر به رجل من الشيعة فدعاه إلى منزله فأحضره طعاماً فتسامعت به الشيعة فدخلوا عليه حتى غص المجلس بهم فأكملوا معه ثم استسقى فقيل له: أي الشراب نسقيك يا ابن رسول الله قال: أصلبه أو أشده. فأتوه بعس من نبيذ فشرب ودار العس عليهم فشربوا. ثم قالوا: يا ابن رسول الله لو حدثتنا في هذا النبيذ بحديثٍ رويته عن أبيك عن جدك فإن العلماء يختلفون فيه قال: نعم حدثني أبي عن جدي أن النبي ﷺ قال: " لتركبن طبقة بني إسرائيل خذو القذة بالقذة والنعل بالنعل. ألا وإن الله ابتلى بني إسرائيل بنهر طالوت أحل منه الغرفة والغرفتين وحرم منه الري وقد ابتلاكم بهذا النبيذ أحل منه القليل وحرم منه الكثير ". وكان أهل الكوفة يسمون النبيذ " نهر طالوت ". وقال فيه شاعرهم: اشرب على طرب من نهر طالوت حمراء صافيةً في لون ياقوت من كف ساحرة العينين شاطرةٍ تربي على سحر هاروتٍ وماروت لها تماوت ألحاظ إذا نظرت فنار قلبك من تلك التماويت قصة الحارث بن كلدة طبيب العرب مع كسرى أنوشروان الفارسي حكى الفرغاني عن بعض رجاله قال: وفد على كسرى ملك الفرس الحارث بن كلدة طبيب العرب فأذن له بالدخول فمثل بين يديه فقال له كسرى: من أنت قال: أنا الحارث بن كلدة. قال: أعرابي أنت قال: نعم من صميمها. قال: فما صناعتك قال: طبيب. قال: فما تصنع العرب بالطبيب مع جهلها وضعف عقولها وقلة قبولها وسوء غذائها فقال: ذلك أجدر أيها الملك إذ كانت بهذه الصفة ان تحتاج إلى من يصلح جهلها ويقيم عوجها ويسوس أبدانها ويعدل أمشاجها. قال الملك: كيف لها أن تعرف ما نزوره عليها لو عرفت الحق لم تنسب إلى الجهل. قال الحارث: أيها الملك إن الله جل اسمه قسم العقول بين العباد كما قسم الأرزاق وأخذ القوم نصيبهم ففيهم ما في الناس من جاهل وعالم وعاجز وحازم. قال الملك: فما الذي يحمد من أخلاقهم ويحفظ من مذاهبهم قال الحارث: لهم أنفس سخية وقلوب جرية وعقول صحيحة مرضية وأحساب نقية يمرق الكلام من أفواههم مروق السهم العائر ألين من الماء وأعذب من الهواء يطعمون الطعام ويضربون الهام وعزهم لا يرام وجارهم لا يضام ولا يروع إذا نام ولا يقرون بفضل أحدٍ من الأنام ما خلا الملك الهمام الذي لا يقاس به أحد من الأنام. قال: فاستوى كسرى جالساً ثم التفت إلى من حوله فقال: أطرى قومه فلولا أن تداركه عقله لذم قومه على أني أراه راجحاً. ثم أذن له بالجلوس فقال: كيف بصرك بالطب قال: ناهيك. قال: فما أصل الطب قال: ضبط الشفتين والرفق باليدين. قال: أصبت الدواء فما الداء قال: إدخال الطعام على الطعام هو الذي أفنى البرية وقتل السباع في البرية. قال: أصبت. ثم قال: فما الجمرة التي تلتهب منها الأدواء قال: هي التخمة إن بقيت في الجوف قتلت وإن تحللت أسقمت. قال: فما تقول في الحجامة قال: في نقصان الهلال في يوم صحو لا غيم فيه والنفس طيبة والسرور حاضر. قال: فما تقول في الحمام قال: لا تدخل الحمام شبعان ولا تغش أهلك سكران ولا تنم بالليل عريان وارفق بجسمك يكن أرجى لنسلك. قال: فما تقول في شرب الدواء قال: اجتنب الدواء ما لزمتك الصحة دعه فإذا أحسست بحركة الداء فاحبسه بما يردعه من الدواء فإن البدن بمنزلة الأرض إن أصلحتها عمرت وإن أفسدتها خربت. قال: فما تقول في الشراب قال: أطيبه أهناه وأرقه أمراه ولا تشرب صرفاً يورثك صداعاً ويثر عليك من الداء أنواعاً. قال: فأي اللحمان أحمد قال: الضأن الفتي وأدسمه أمرؤه واجتنب أكل القديد المالح من الجزور والبقر. قال: فما تقول في الفاكهة قال: كلها في إقبال دولتها وحين أوانها واتركها إذا أدبرت وتولت وانقضى زمانها. وأفضل الفاكهة الرمان والأترج وأفضل البقول الهندبا والخس وأفضل الرياحين الورد والبنفسج. قال: فما تقول في شرب الماء قال: هو حياة البدن وبه قوته وينفع ما شرب منه بقدر وشربه بعد النوم ضرر وأفضل المياه مياه الأنهار العظام أبرده وأصفاه. قال: فما طعمه قال: شيء لا يوصف مشتق من الحياة. قال: فما لونه قال: اشتبه على الأبصار لونه يحكي لون كل شيء يكون فيه. قال: فأخبرني عن أصل الإنسان ما هو قال: أصله من حيث يشرب الماء. يعني رأسه. قال: فما هذا النور الذي تبصر به الأشياء قال: العين مركبة من أشياء فالبياض شحمة والسواد ماء. قال: فعلى كم طبع هذا البدن قال: على أربع طبائع: على المرة السوداء وهي باردة يابسة والمرة الصفراء وهي حارة يابسة والدم وهو حار رطب والبلغم وهو بارد رطب. قال: فلم لم يكن من طبع واحد قال: لو خلق من شيء واحد لم ينحل ولم يمرض ولم يمت. قال: فمن طبعين ما حال الاقتصار عليهما قال: لو اقتصر عليهما لم يجز لأنهما ضدان يقتتلان ولذلك لم يجز من ثلاثة: موافقان ومخالف. قال: فأجمل لي الحار والبارد في أحرف جامعة. قال: كل حلو حار وكل حامض بارد وكل حريف حار وكل مز معتدل وفي المر حار وبارد. قال: فما أفضل ما عولج به المرة السوداء قال: بكل حار لين. قال: فالرياح قال: الحقن اللينة والأدهان الحارة اللينة. قال: أفتأمر بالحقن قال: نعم قرأت في بعض الكتب: أن الحقنة تنقي الجوف وتكسح الدواء عنه وعجباً لمن احتقن كيف يهرم أو يعدم الولد وإن الجاهل كل الجاهل من أكل ما قد عرف مضرته فيؤثر شهوته على راحة بدنه. قال: فما الحمية قال: الاقتصاد في كل شيء فإنه إذا أكل فوق المقدار ضيق على الروح ساحته. قال: فما تقول في إيتان النساء قال: كثرة غشيانهن رديء وإيتان المرأة المولية فإنها كالشن البالي تسقم بدنك وتجذب قوتك ماؤها سم قاتل ونفسها موت عاجل تأخذ منك ولا تعطيك. عليك بإيتان الشباب فإن الشابة ملؤها عذب زلال ومعانقتها غنج ودلال فوها بارد وريحها طيب ورحمها حرج تزيدك قوة ونشاطاً. قال: فأي النساء القلب لها أبسط والعين برؤيتها آنس وأقصد قال: إن أصبتها مديدة القامة عظيمة الهامة واسعة الجبين عريضة الصدر مليحة النحر ناهدة الثديين لطيفة الخصر والقدمين بيضاء فرعاء جعدة غضة حسنة الثغر تخالها في الظلمة بدراً زاهراً تبسم عن أقحوان باهر وإن تكشف تكشف عن بيضةٍ مكنونة وإن تعانق تعانق ما هو ألين من الزبد وأحلى من الشهد وأعذب قال: فاستضحك كسرى حتى اختلجت كتفاه قال: فأي الأوقات أفضل قال: عند إدبار الليل يكون الجوف أخلى والنفس أشهى والرحم أدفا. قال: فأي الأوقات ألذ وأطرب قال: نهاراً يزيدك النظر انتشاراً. قال كسرى: لله درك من أعرابي لقد أعطيت علماً وخصصت بفطنة وفهم. ثم أمر له بجائزة وكسى وقضى حوائجه. وحضر ابن أبي الحوارى بالشام - وكان معروفاً بالرقائق والزهد - مائدة صالح العباسي مع فقهاء البلد فحدثني البحتري بن عبادة وكان ممن حضر المجلس: أنه بعث إليه بقدح نبيذ فشربه ثم بعث إليه بثانٍ فامتنع من شربه فأخذه الناس بألسنتهم وقالوا: شربت المسكر على أعين هؤلاء وصرت لهم حجة. قال: أحسبكم أردتم أن أكون ممن قال الله تعالى فيه " يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم " فكيف كنت أدعه لكم وأشربه بعين الله. وقال بعض القضاة لرجل كان يعذله: بلغني أنك تشرب المسكر. فقال: ما أشرب المسكر ولكني أشرب النبيذ الصلب. فأين هؤلاء في ترك الرياء والتصنع من رجل سرقت نعله فلم يشتر نعلاً حتى مات فعوتب في ذلك فقال: أخشى أن أشتري نعلاً فيسرقها أحد فيأثم. وآخر لما نظر إلى أهل عرفاتٍ قال: ما أظن الله إلا وقد غفر لهم لولا أني كنت فيهم. ورجل سأل ابن المبارك فقال: إني قاسمت إخوتي وبيننا مبرز غير مقسوم وفي بطر أفترى لي أن ادخله أكثر مما يدخله شركائي وآخر قال: أفطرت البارحة على رغيف وزيتونة ونصف أو زيتونة وثلث أو زيتونة وربع أو ما علم الله من زيتونة أخرى. فقال له بعض من حضر المجلس: يا فتى إنه بلغنا أن من الورع ما يبغضه الله وأحسبه ورعك هذا. الأعمش قال: أتاني عبد الله بن سعد فقال لي: ألا تعجب جاءني رجل فقال: دلني على شيء إذا أكلته أمرضني فقد اتسبطأت العلة وأحببت أن أعتل فأوجر. فقلت له: سل الله العافية واستدم النعمة فإن من شكر على النعمة كمن صبر على البلية. فألح علي فقلت له: كل السمك واشرب نبيذ الزبيب ونم في الشمس واستمرض الله يمرضك إن شاء الله! هارون بن داود قال: شرب رجل عند خمار نصراني فأصبح ميتاً فاجتمع عليه الناس وقالوا للخمار: أنت قتلته. قال: لا والله ولكن قتله استعماله قوله: وأخرى تداويت منها بها
كتاب اللؤلؤة الثانية في النتف والهدايا والفكاهات والملح
قال الفقيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه رحمه الله: قد مضى قولنا في الطعام والشراب وما يتولد منهما وينسب إليهما. ونحن قائلون بما ألفناه في كتابنا هذا من الفكاهات والملح التي هي نزهة النفس وربيع القلب ومرتع السمع ومجلب الراحة ومعدن السرور. وقال النبي ﷺ: " روحوا القلوب ساعة بعد ساعة فإن القلوب إذا كلت عميت ". وقال علي بن أبي طالب رضوان الله عليه: أجموا هذه القلوب والتمسوا لها طرف الحكمة فإنها تمل كما تمل الأبدان. والنفس مؤثرة للهوى آخذة بالهوينى جانحة إلى اللهو أمارة بالسوء مستوطئة للعجز طالبة للراحة نافرة عن العمل فإن أكرهتها أنضيتها وإن أهملتها أرديتها. ودخل عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز على أبيه عمر وهو ينام نومة الضحى فقال: يا أبت أتنام وأصحاب الحوائج راكدون ببابك قال: يا بني إن نفسي مطيتي فإن أنضيتها قطعتها وكان النبي ﷺ يضحك حتى تبدو نواجذه. وكان محمد بن سيرين يضحك حتى يسيل لعابه. وقال ﷺ: " لا خير فيمن لا يطرب ". وقال: " كل كريم طروب ". وقال هشام بن عبد الملك: أكلت الحلو والحامض حتى ما أجد لواحد منهما طعماً وشممت الطيب حتى ما أجد له رائحة وأتيت النساء حتى ما أبالي امرأة أتيت أم حائطاً ما وجدت شيئاً ألذ إلي من جليس تسقط بيني وبينه مؤونة التحفظ. وقيل لعمر بن العاصي: ما ألذ الأشياء قال: ليخرج من ها هنا من الأحداث. فخرجوا فقال: ألذ الأشياء إسقاط المروءة. وقيل لمسلمة بن عبد الملك: ما ألذ الأشياء فقال: هتك الحياء واتباع الهوى. وهذه المنزلة من إهمال النفس وهتك الحياء قبيحة كما أن المنزلة الأخرى من الغلو في الدين والتقشف في الهيئة قبيحة أيضاً وإنما المحمود منها التوسط وأن يكون لهذا موضعه وهذا موضعه. وقال مطرف بن عبد الله لولده: " يا بني إن الحسنة بين السيئتين - يريد بين المجاوزة والتقصير - وقال النبي ﷺ: " إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى ". وفي بعض الكتب المترجمة: إن يحنا وشمعون كان من الحواريين وكان يحنا لا يجلس مجلساً إلا ضحك وأضحك من حوله وكان شمعون لا يجلس مجلساً إلا بكى وأبكى من حوله فقال شمعون ليحنا: ما أكثر ضحكك كأنك قد فرغت من عملك فقال له يحنا: ما أكثر بكاءك كأنك قد يئست من ربك فأوحى الله إلى المسيح: أن أحب السيرتين إلي سيرة يحنا. وفي بعض الكتب أيضاً أن عيسى بن مريم لقي يحيى بن زكريا فتبسم إليه يحيى فقال له عيسى: إنك لتبسم تبسم آمن! فقال له يحيى: إنك لتعبس عبوس قانط! فأوحى الله إلى عيسى: " إن الذي يفعل يحيى أحب إلي ". وقال النبي ﷺ دخل نعيمان الجنة ضاحكاً لأنه كان يضحكني ". وذلك أن النبي ﷺ دخل عليه وهو أرمد فوجده وهو يأكل تمراً فقال له: أتأكل تمراً وأنت أرمد فقال: إنما آكل من الجانب الآخر. فضحك النبي ﷺ حتى بدت نواجذه. وكانت سويداء لبعض الأنصار تختلف على عائشة فتلعب بين يديها وتضحكها وربما دخل النبي ﷺ على عائشة فيجدها عندها فيضحكان جميعاً ثم إن النبي ﷺ فقدها فقال: يا عائشة ما فعلت السويداء قالت له: إنها مريضة. فجاءها النبي ﷺ يعودها فوجدها في الموت فقال لأهلها: إذا توفيت فآذنوني. فلما توفيت آذنوه فشهدها وصلى عليها وقال: " اللهم إنها كانت حريصة على أن تضحكني فأضحكها فرحاً ". وقيل لأبي نواس: قد بعثوا إلى أبي عبيدة والأصمعي ليجمعوا بينهما فقال أما أبو عبيدة فإن خلوه وسفره قرأ عليهم أساطير الأولين والآخرين وأما الأصمعي فبلبل في قفص يطربهم بصفيره. قال ابن إسحاق: وقد طرب الصالحون وضحكوا ومزحوا. وإذا مدحت العرب رجلاً قالوا: هو ضحوك السن بسام الهشيات هش إلى الضيف. وإذا ذمته قالت: هو عبوس الوجه جهم المحيا كريه المنظر حامض الوجنة كأنما وجهه بالخل منضوح وكأنما أسقط خيشومه بالخردل. وكتب يحيى بن خالد إلى الفضل ابنه وهو بخراسان: " يا بني لا تغفل نصيبك من الكسل ". وهذا حرف جامع لما قصدناه من هذا المعنى لأن بالكسل تكون الراحة وبالراحة يثوب النشاط وبالنشاط يصفو الذهن ويصدق الحس ويكثر الصواب. قال الشاعر: ولنا ما كان فينا من فساد وصلاح الهيثم بن عدي قال: رأيت هشام بن عروة قد اجتمع إليه أصحاب الحديث يسألونه فقال لهم: يا قوم أما ما كان عندي من الحلال والحرام والسنة فإني لا أستحل أن أمنعكموه وأما ملحي فلا أعطيكموها ولا كرامة.
باب من المفاكهات
حديث عباس بن الأحنف حدث أبو العباس النحوي المعروف بالمبرد قال: حدثنا محمد بن عامر الحنفي وكان من سادات بكر بن وائل وأدركته شيخاً كبيراً مملقاً وكان إذا أفاد على إملاقه شيئاً جاد به وقد كان قديماً ولي شرطة البصرة فحدثني هذا الحديث الذي نذكره. ووقع إلي من غير ناحيته ولا أذكر ما بينهما من الزيادة والنقصان إلا أن معاني الحديث مجموعة فيما أذكر لك: ذكر أن فتياناً كانوا مجتمعين في نظام واحد كلهم ابن نعمة وكلهم قد شرد عن أهله وقنع بأصحابه فذكر ذاكر منهم قال: كنا قد اكترينا داراً شارعة على أحد طرق بغداد المعمورة بالناس فكنا نفلس أحياناً ونوسر أحياناً على مقدار ما يمكن الواحد من أهله وكنا لا نستكثر أن تقع مؤونتنا على واحد منا إذا أمكنه ويبقى الواحد منا لا يقدر على شيء فيقوم به أصحابه الدهر الأطول. وكنا إذا أيسرنا أكلنا من الطعام ألينه ودعونا الملهين والملهيات. وكان جلوسنا في أسفل الدار فإذا عدمنا الطرب فمجلسنا غرفة لنا نتمتع منها بالنظر إلى الناس وكنا لا نخل بالنبيذ في عسر ولا يسر. فإنا لكذلك يوماً إذا بفتى يستأذن علينا فقلنا له: اصعد. فإذا رجل نظيف حلو الوجه سري الهيئة ينبئ رواؤه على أنه من أبناء النعم فأقبل علينا فقال: إني سمعت مجتمعكم وحسن منادمتكم وصحة ألفتكم حتى كأنكم أدرجتم جميعاً في قالب واحد فأحببت أن أكون واحداً منكم فلا تحتشموا. قال: وصادف ذلك منا إقتاراً من القوت وكثرة من النبيذ. وقد كان قال لغلام له أول ما يأذنون لي أن أكون كأحدهم: هات ما عندك فغاب الغلام عنا غير كثير ثم إذا هو قد أتانا بسلة خيزران فيها طعام المطبخ: من جدي ودجاج وفراغ ورقاق وأشنان ومحلب وأخلة فأصبنا من ذلك ثم أفضنا في شرابنا وانبسط الرجل فإذا أحلى خلق الله إذا حدث وأحسنهم استماعاً إذا حدث وأمسكهم عن ملاحاة إذا خولف. ثم أفضينا منه إلى أكرم محالفة وأجمل مساعدة. وكنا ربما امتحناه بأن ندعوه إلى الشيء الذي نعلم أنه يكرهه فيظهر لنا أنه لا يحب غيره ويرى ذلك في إشراق وجهه فكنا نغنى به عن حسن الغناء ونتدارس أخباره وآدابه فشغلنا ذلك عن تعرف اسمه ونسبه فلم يكن منا إلا تعرف الكنية فإنا سألناه عنها فقال: " أبو الفضل ". فقال لنا يوماً بعد اتصال الأنس: ألا أخبركم كيف عرفتكم قلنا: نعم إنا لنحب ذلك. قال: أحببت جارية في جواركم وكانت سيدتها ذات حبائب فكنت أجلس لها في الطريق ألتمس اجتيازها فأراها حتى أخلقني الجلوس على الطريق ورأيت غرفتكم هذه فسألت عن خبرها فخبرت عن ائتلافكم ومساعدة بعضكم بعضاً فكان الدخول فيما أنتم فيه آثر عندي من الجارية. فسألناه عنها فخبرنا فقلنا له: فإنا نختدعها حتى نظفرك بها. فقال: يا إخواني إني والله على ما ترون مني من شدة الشغف والكلف بها ما قدرت فيها حراماً قط ولا تقديري إلا مطاولتها ومصابرتها إلى أن يمن الله بثروة فأشتريها. فأقام معنا شهرين ونحن على غاية الاغتباط بقربه والسرور بصحبته إلى أن اختلس منا فنالنا بفراقه ثكل ممض ولوعة مؤلمة ولم نعرف له منزلاً نلتمسه فيه. فكدر علينا من العيش ما كان طاب لنا به وقبح عندنا ما كان حسن بقربه وجعلنا لا نرى سروراً ولا غماً إذا ذكرنا لاتصال السرور بصحبته وحضوره والغم بمفارقته فكنا فيه كما قال القائل: يذكرنيهم كل خير رأيته وشر فما أنفك منهم على ذكر فغاب عنا زهاء عشرين يوماً ثم بينا نحن مجتازون يوماً من الرصافة إذا به قد طلع في مركب نبيل وزي جليل فحيث بصر بنا انحط عن دابته وانحط غلمانه ثم قال: يا إخواني والله ما هنأني عيش بعدكم ولست أماطلكم بخبري حتى آتي المنزل ولكن ميلوا بنا إلى المسجد. فملنا معه فقال: أعرفكم أولاً بنفسي أنا العباس بن الأحنف وكان من خبري بعدكم أني خرجت إلى منزلي من عندكم فإذا المسودة محيطة بي فمضي بي إلى دار أمير المؤمنين فصرت إلى يحيى بن خالد فقال لي: ويحك يا عباس إنما اخترتك من ظرفاء الشعراء لقرب مأخذك وحسن تأتيك وإن الذي ندبتك له من شأنك وقد عرفت خطرات الخلفاء وإني أخبرك أن " ماردة " هي الغالبة على أمير المؤمنين وأنه جرى بينهما عتب فهي بدالة المعشوق تأبى أن تعتذر وهو بعز الخلافة وشرف الملك يأبى ذلك وقد رمت الأمر من قبلها فأعياني وهو أحرى أن تستعزه الصبابة فقل شعراً يسهل عليه هذه السبيل. فقضى كلامه ثم دعاه أمير المؤمنين فصار إليه وأعطيت قرطاساً ودواة فاعتراني الزمع وأذهب عني ما أريد الاستحثاث فتعذرت علي كل عروض ونفرت عني كل قافية ثم انفتح لي شيء والرسل تعنتني فجاءتني أربعة أبيات رضيتها وقعت صحيحة المعنى سهلة الألفاظ ملائمة لما طلب مني فقلت لأحد الرسل: ابلغ الوزير أني قلت أربعة أبيات فإن كان فيها مقنع وجهت بها. فرجع إلي الرسول بأن هاتها ففي أقل منها مقنع. وفي ذهاب الرسول وردوعه قلت بيتين نم غير ذلك الروي فكتبت الأبيات الأربعة في صدر الرقعة وعقبت بالبيتين فقلت: العاشقان كلاهما متغضب وكلاهما متوجد متعتب صدت مغاضبة وصد مغاضباً وكلاهما مما يعالج متعب إن التجنب إن تطاول منكما دب السلو فعز منه المطلب ثم كتبت تحت ذلك: لا بد للعاشق من وقفة تكون بين الهجر والصرم حتى إذا الهجر تمادى به راجع من يهوى على رغم ثم وجهت بالكتاب إلى يحيى من خالد فدفعه إلى الرشيد فقال: والله ما رأيت شعراً أشبه بما نحن فيه من هذا والله لكأني قصدت به. فقال له يحيى: فأنت والله يا أمير المؤمنين المقصود به هذا يقوله العباس بن الأحنف في هذه القصة. فلما قرأ البيتين وأفضى إلى قوله: راجع من يهوى على رغم استغرب ضحكاً حتى سمعت ضحكه ثم قال: إي والله أراجع على رغم يا غلام هات نعلي. فنهض وأذهله السرور عن أن يأمر لي بشيء فدعاني يحيى وقال: إن شعرك قد وقع بغاية الموافقة وأذهل أمير المؤمنين السرور عن أن يأمر لك بشيء. قلت: لكن هذا الخبر ما قوع مني بغاية الموافقة. ثم جاء غلام فساره فنهض وثبت مكاني ثم نهضه بنهوضه فقال لي: يا عباس أمسيت أملأ الناس أتدري ما سارني به هذا الرسول قلت: لا. وقال: ذكر لي أن " ماردة " تلقت أمير المؤمنين لما علمت بمجيئه ثم قالت له: يا أمير المؤمنين كيف كان هذا فأعطاها الشعر وقال: هذا الذي أتى بي إليك. قالت: فمن يقوله: عباس بن الأحنف. قالت: فبم كوفئ قال: ما فعلت شيئاً بعد. قالت: إذاً والله لا أجلس حتى يكافأ. قال: فأمير المؤمنين قائم لقيامها وأنا قائم لقيام أمير المؤمنين وهما يتناظران في صلتك فهذا كله لك. قلت: ما لي من هذا إلا الصلة. ثم قال: هذا أحسن من شعرك. قال: فأمر لي أمير المؤمنين بمال كثير وأمرت لي ماردة بمال دونه. وأمر لي الوزير بمال دون ما أمرت به وحملت على ما ترون من الظهر. ثم قال الوزير: من تمام اليد عندي ألا تخرج من الدار حتى نؤثل لك بهذا المال ضياعاً. فاشتريت لي ضياع بعشرين ألف درهم ودفع إلي بقية المال. فهذا الخبر الذي عاقني عنكم فهلموا حتى أقاسمكم الضياع وأفرق فيكم المال. قلنا له: هنأك الله ما لك فكل من يرجع إلى نعمة من أبيه وأهله. فأقسم وأقسمنا قال: فأنتم فيه أسوتي. فقلنا: أما هذا فنعم قال: فامضوا بنا إلى الجارية حتى نشتريها. فمشينا إلى صاحبتها وكانت جارية جميلة حلوة لا تحسن شيئاً أكثر ما فيها ظرف اللسان وتأدية الرسائل وكانت تساوي على وجهها خمسين ومائة دينار. فلما رأى مولاها ميل المشتري استام بها خمسمائة فأجبناه بالعجب فحط مائة ثم حط مائة. فقال العباس يا فتيان إني والله احتشم أن أقول بعد ما قلتم ولكنها حاجة في نفسي بها يتم سروري فإن ساعدتم فعلت. قلنا له: قل. قال: هذه الجارية أنا أعاينها منذ دهر وأريد إيثار نفسي بها فأكره أن تنظر إلي بعين من قد ماكس في ثمنها دعوني أعطه بها خمسمائة دينار كما سأل. قلنا له: وإنه قد حط مائتين قال: وإن فعل. قال: فصادفت من مولاها رجلاً حراً فأخذ ثلاثمائة وجهزها بالمائتين. فما زال إلينا محسناً حتى فرق الموت بيننا. حدث المجرد قال إسحاق بن إبراهيم: قال لي ابن وهب الشاعر: والله لأحدثنك حديثاً ما سمعه مني أحد قط وهو بأمانة أن يسمعه أحد منك ما دمت حياً. قلت: " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا ". قال: يا أبا محمد إنه حديث ما طن في أذنك أعجب منه. قلت: كم هذا التعقيد بالأمانة آخذه على ما أحببت. قال: بينا أنا بسوق الكيل بمكة بعد أيام الموسم إذا أنا بامرأة من نساء مكة معها صبي يبكي وهي تسكته فيأبى أن يسكت فسفرت وأخرت من فيها كسرة درهم فدفعتها إلى الصبي فسكت فإذا وجه رقيق كأنه كوكب دري وإذا شكل رطب ولسان فصيح فلما رأتني أحد النظر إليها قالت: اتبعني. فقالت: إن شريطتي الحلال. قالت: ارجع في حرامك ومن يريدك على حرام فخجلت وغلبتني نفسي على رأيي فتبعتها فدخلت زقاق العطارين فصعدت درجة وقالت: اصعد. فصعدت فقال: أنا مشغولة وزوجي رجل من بني مخزوم وأنا امرأة من زهرة ولكن عندي حر ضيق عليه وجه أحسن من العافية في مثل خلق ابن سريج وترنم معبد وتيه ابن عائشة. أجمع لك هذا كله في بدن واحد بأصفر سليم! قلت: وما أصفر سليم قالت: بدينار واحد يومك وليلتك فإذا قمت جعلت الدينار وظيفة وتزويجاً صحيحاً. قلت: فذلك لك إن اجتمع لي ما ذكرت. قال: فصفقت بيدها إلى جاريتها فاستجابت لها. قالت: قولي لفلانة: البسي ثيابك وعجلي وبحياتي لا تمسي غمراً ولا طيباً فحسبنا بدلالك وعطرك. قال: فإذا جارية أقبلت ما أحسب الشمس وقعت عليها كأنها دمية فسلمت وقعدت كالخجلة. فقالت لها الأولى: إن هذا الذي ذكرتك له وهو في هذه الهيئة التي ترين. قالت: حياه الله وقرب داره. قال: لا والله يا بنية لقد أنسيتها. ثم نظرت إلي فغمزتني وقالت: أتدري ما شريطتها قلت: لا. قالت: أقول لك بحضرتها ما إخالها تكرهه هي والله أفتك من عمرو بن معد يكرب وأشجع من ربيعة من مكدم ولست بواصل إليها حتى تسكر وتغلب على عقلها فإذا بلغت تلك الحال ففيها مطمع. فقلت: ما أهون هذا وأسهله. قالت الجارية: وتركت شيئاً أيضاً. قالت: نعم والله اعلم أنك لن تصل إليها حتى تتجرد لها فتراك مجرداً مقبلاً ومدبراً. قلت: وهذا أيضاً أفعله. قالت: هلم دينارك. فأخرجت ديناراً فنبذته إليها فصفقت صفقة أخرى فأجابتها امرأة قالت: قولي لأبي الحسن وأبي الحسين: هلما الساعة. فقلت في نفسي: أبو الحسن وأبو الحسين هو علي بن أبي طالب. قال: فإذا شيخان خاضبان نبيلان قد أقبلا فصعدا فقصت المرأة عليهما القصة فخطب أحدهما وأجاب الآخر. وأقررت بالتزويج وأقرت المرأة فدعوا بالبركة ثم نهضا فاستحييت أن أحمل المرأة شيئاً من المؤونة فأخرجت ديناراً آخر فدفعته إليها. وقلت: اجعلي هذا لطيبك. قالت: يا أخي ليست ممن يمس طيباً لرجل إنما أتطيب لنفسي إذا خلوت. قلت: فاجعلي هذا لغدائنا اليوم. قالت: أما هذا فنعم. فنهضت الجارية وأمرت بإصلاح ما يحتاج إليه ثم عادت وتغدينا وجاءت بدواة وقضيب وقعدت تجاهي ودعت بنبيذ فأعدته واندفعت تغني بصوت لم أسمع مثله قط فإني ألفت بيوت القنان نحواً من ثلاثين سنة فما سمعت مثل ترنمها قط فكدت أجن سروراً وطرباً فجعلت أريغ أن تدنو مني فتأبى إلى أن غنت بشعر لم أعرفه وهو: راحوا يصيدون الظباء وإنني لأرى تصيدها علي حراما أعزز علي بأن أروع شبيهها أو أن تذوق على يدي حماما فقلت: جعلت فداك من تغنى بهذا قالت: اشترك فيه جماعة هو لمعبد وتغنى به ابن سريج وابن عائشة. فلما نعي إلينا النهار وجاءت المغرب تغنت بصوت لم أفهمه للشقاء الذي كتب علي فقالت: كأني بالمجرد قد علته نعال القوم أو خشب السواري قلت: جعلت فداك ما أفهم هذا البيت ولا أحسبه مما يتغنى به. قال: أنا أول من تغنى به. قلت: فإنما هو بيت عائر لا صاحب له. قالت: معه آخر ليس هذا وقته وهو آخر ما أتغنى به. قال: فجعلت لا أنازعها في شيء إجلالاً لها. فلما أمسينا وصلينا المغرب وجاءت العشاء الآخرة وضعت القضيب فقمت وصليت العشاء وما أدري كم صليت عجلة وشوقاً فلما سلمت قلت: تأذنين جعلت فداك أشق ثيابي عجلة للخروج عنها فتجردت وقمت بين يديها مكفراً لها. قالت: امض إلى زاوية البيت وأقبل وأدبر حتى أراك مقبلاً مدبراً. قال: وإذا حصير في الغرفة عليه طريق إلى زاوية البيت فأخطر عليه وإذا تحته خرق إلى السوق فإذا أنا في السوق قائماً متجرداً منعظاً وإذا الشيخان الشاهدان قد أعدا لي نعالها وكمنا لي في ناحية فلما هبطت عليهما بادراً إلي فقطعا نعالها على قفاي واستعانا بأهل السوق فضربت والله يا أبا محمد حتى نسيت اسمي فينا أنا أضرب بنعال مخصوفة وأيد شديدة فإذا صوت من فوق البيت يغني به وهو: فقلت في نفسي: هذا والله وقت هذا البيت فنجوت إلى رحلي وما في عظم صحيح فلما انقضى حجنا وانصرفنا جعلت طريقي على ذلك الموضع فسألت عنها فقيل لي: إنها امرأة من آل أبي لهب. فقلت: لعنها الله ولعن الذي هي منه.