قال: إنما أصف لك فرساً قال: ما حسبتك إلا في وصف نبي منذ اليوم. قال: ودخل أبو نخيلة اليمن فلم ير بها أحداً حسناً ورأى نفسه وكان قبيحاً أحسن من بها فقال: لم أر غيري حسناً منذ دخلت اليمنا ففي حر أم بلدة أحسن من فيها أنا محمد بن إسحاق قال: قال سفيان بن عيينة: دخلت الكوفة في يوم فيه رذاذ من مطر فإذا أنا بكناس قد فتح كنيفاً ووقف على رأس البئر وهو يقول: بلد طيب ويوم مطير هذه روضة وهذا غدير ثم قال لصاحبه: انزل فيها. فأبى عليه فنزل وهو يقول: لم يطيقوا أن ينزلوا ونزلنا وأخو الحرب من أطاق النزولا الأصمعي قال: بينا أنا سائر بالفيفاء إذ سمعت صوتاً يقول: جنبوني ديار هند وسعدى ليس مثلي يحل دار الهوان قال: فالتفت يمنة ويسرة فإذا أنا بالصوت يخرج من حش فأقبلت حتى وقفت عليه فإذا بحشاش وبيده كأس فقلت: يا سبحان الله أنت في بيت عذرة وتقول: ليس مثلي يحل دار الهوان فإنى لك وأي هوان أكثر مما أنت فيه قال: فرفع رأسه إلي وقال: لا تلمني فإنني نشوان أنا في الملك ما سقتني الدنان فقلت: ما هو إلا كقول الآخر: أعظم ذنبي عندكم ودي فليت هذا ذنبكم عندي يا حسرتا أهلك وجداً بمن لا يعرف الشكوى من الوجد حماد الرواية قال: أتيت مكة فجلست في حلقة منها فيها عمر بن أبي ربيعة القرشي وإذا هم يتذاكرون العذريين وعشقهم وصبابتهم فقال عمر بن أبي ربيعة: أحدثكم عن بعض ذلك كان لي خليل من عذرة يكنى أبا مسهر وكان مستهتراً بأحدايث النساء يصبو بهن وينشد فيهن على أنه كان لا عاهر الخلوة ولا حديث السلوة وكان يوافي الموسم في كل سنة فإذا أبطأ ترجمت له الأخبار واستوقفت له السفار. وإنه راث عني سنة من ذلك خبره حتى قدم وفد عذرة فأتيت القوم أنشد صاحبي فإذا رجل يتنفس الصعداء فقال: أعن أبي مسهر تسأل قلت: نعم. قال: هيهات هيهات! أصبح والله أبو مسهر لا حياً فيرجى ولا ميتاً فينسى ولكنه كما قال الشاعر: لعمرك ما حبي لأسماء تاركي صحيحاً ولا أقضي به فأموت فقلت: وما لذي به قال: كمثل الذي بك من انهماككما في الضلال وجركما أذيال الخسار كأنكما لم تسمعا بجنة ولا انر. قلت: فما أنت منه يا ابن أخي قال: أخوه. قلت: والله إنك وأخاك كالوشي والبجاد لا يرقعك ولا ترقعه. ثم انطلقت وأنا أقول: خليلي يشكو ما يلاقي من الهوى ومهما يقل أسمع وإن قلت يسمع ألا ليت شعري أي شيء أصابه أمن زفرات هجن من بين أضلع فلا يبعدنك الله خلاً فإنني سألقى كما لاقيت في الحب مصرعي قال: فلما حججت ووقفت بعرفات إذا به قد أقبل وقد تغير لونه وساءت هيئته وما عرفته إلا بناقته فأقبل " فأدنى ناقته من ناقتي " حتى خالف بين أعناقهما ثم اعتنقني وجعل يبكي فقلت له: ما الذي دهاك قال: برح الخفاء وكشف الغطاء. ثم أنشد يقول: لئن كانت عديلة ذات مطل لقد علمت بأن الحب داء وإنك لو تكلفت الذي بي لزال الظلم وانكشف الغطاء فإن معاشري ورجال قومي حتوفهم الصبابة واللقاء إذا العذري مات بحتف أنف فذاك العبد يبكيه الرشاء فقلت: يا أبا مسهر إنها ساعة عظيمة تضرب فيها أكباد الإبل من شرق الأرض وغربها فلو دعوت الله كنت قمناً أن تظفر بحاجتك وتنصر على عدوك فجعل يدعو حتى إذا مالت الشمس للغروب وهم الناس أن يفيضوا سمعته يهينهم بشيء فأصغيت إليه مستمعاً فجعل أنت حسيب الخلق يوم الدوحه فقلت له: وما يوم الدوحة قال: سأخبرك إن شاء الله ولو لم تسألني فيممنا نحو المزدلفة فأقبل علي وقال: إني رجل ذو مال كثير ونعم وشاء وإني خشيت على مالي عام أول التلف فأتيت أخوالي كلباً فأوسعوا لي عن صدر المجلس وسقوني جمة البئر وكنت منهم في خير أحوال ثم إني عزمت على مرافقة أهل ماء لهم يقال له الحوادث فركبت يوماً فرسي وعلقت معي شراباً أهداه إلي بعض الكلبيين فانطلقت حتى إذا كنت بين الحي ومرعى النعم رفعت لي دوحة عظيمة فقلت: لو نزلت تحت هذه الشجرة ثم تروحت مبرداً! ففعلت فشددت فرسي بغصن من أغصانها ثم جلست تحتها فإذا بغبار قد سطع من ناحية الحي ثم تبينت فبدت لي شخوص ثلاثة فإذا فارس يطرد مسحلاً وأتانا فلما قرب مني إذا عليه درع أصفر وعمامة خز سوداء فما لبث أن لحق المسحل فطعنه فصرعه ثم ثنى طعنة للأتان وأقبل وهو يقول: نطعنهم سلكى ومخلوجة كرك لأمين على نابل فقلت له: إنك قد تعبت وأتعبت فلو نزلت فثنى رجله فنزل فشد فرسه بغصن من أغصان الشجرة ثم أقبل حتى جلس معي فجعل يحدثني حديثاً ذكرت به قول الشاعر: فبينا هو كذلك إذ نكت بالسوط على ثنيتيه فما ملكت نفسي أن قبضت على السوط فقلت: مه. قال: ولم قلت: إني أخاف أن تكسرهما إنهما رقيقتان عذبتان. قال: فرفع عقريته وجعل يتغنى: إذا قبل الإنسان آخر يشتهي ثناياه لم يأثم وكان له أجرا وقال: ما الذي تعلقت في سرجك قلت: شراب أهداه إلي بعض أهلك فهل لك فيه قال: ما نكرهه إذا كره. فأتيته به فوضعته بيني وبينه فلما شرب منه شيئاً نظرت إلى عينيه كأنهما عينا مهاة قد أضلت ولدها ثم رفع عقيرته يتغنى: إن العيون التي في طرفها مرض قتلننا ثم لم يحيين قتلانا يصرعن ذا الحلم حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله أركانا ثم قمت لأصلح من أمر فرسي فرجعت وقد حسر العمامة عن رأسه وإذا غلام كأن وجهه دينار هرقلي فقلت: سبحانك اللهم ما أعظم قدرتك. قال: كيف قلت: ذلك لما راعني من نورك وبهرني من جمالك. قال: وما الذي يروعك من رزق الدواب ونبيش التراب ثم لا يدري أينعم أم يبؤس قلت: لا يصنع الله بك إلا خيراً. ثم قام إلى فرسه فلما أقبل برقت لي بارقة من تحت الدرع فإذا ثدي كأنه حق عاج. قلت: نشدتك الله امرأة قالت: إي والله امرأة تكره العهر وتحب الغزل. قلت: وأنا والله كذلك. قال: فجلست والله تحدثني ما أفقد من أنسها شيئاً حتى مالت على " الدوحة " سكرى. فاستحسنت والله يا بن أبي ربيعة الغدر وزين في عيني ثم إن الله عصمني منه فما لبثت أن انتهيت معذورة فلاثت عمامتها برأسها وأخذت الرمح وجالت في متن فرسها فقلت: مضيت ولم تزوديني منك زاداً. فأعطتني بنانها فتمسحت والله منها كالنبات الممطور زهر الثلج. ثم قلت: أين الموعد قالت: إن لي إخوة شوساً وأباً غيوراً والله لأن أسرك أحب إلي من أضرك. ثم مضت فكان والله آخر العهد بها إلى يومي هذا وهي التي بلغتني هذا المبلغ وأحلتني هذا المحل. قال: فدخلتني له رقة. فلما انقضى الموسم شددت على ناقتي وشد على ناقته وحملت غلاماً لي على بعير وحملت عليه قبة حمراء من أدم كانت لأبي ربيعة وأخذت معي ألف دينار ومطرف خز ثم خرجنا حتى أتينا بلاد كلب فإذا الشيخ في نادي قومه فسلمت عليه فقال: وعليك السلام من أنت فقلت: عمر بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي. قال: أنت الكفء الكفي الذي لا يرغب عن وصله والرجل الذي لا يرد عن حاجته. قال: قلت: إني لم آتك لنفسي وإن كنت في موضع الرغبة ولكنني أتيتكم لابن أختكم العذري. قال: والله إنه لكفء الحسب كريم النسب غير أن بناتي لم يعرفن هذا الحي من قريش. قال: فعرف الجزع من ذلك في وجهي فقال: أما إني أصنع بك ما لم أصنع لغيرك أخيرها في نفسها فهي وما اختارت. فقلت: خيرها. فأرسل إليها أن من الأمر كذا وكذا فري رأيك. فقالت: ما كنت لأستبد برأي دون رأي القرشي خياري ما اختار. قال: قدر ردت الأمر إليك. قال: فحمدت الله وصليت على النبي ﷺ وقلت: قد زوجتها العذري وأصدقتها هذه الألف الدينار وجعلت تكرمتها العبد والبعير والقبة وكسوت الشيخ المطرف فسر به وسألته أن يبني بها من ليلته فأجابني إلى ذلك فضربت القبو في وسط الحي وهديت إليه ليلاً وبت عند الشيخ في خير مبيت فلما أصبحت غدوت فقمت بباب القبة فخرج إلي وقد تبين الجذل فيه فقلت: كيف كنت بعدي أبا مسهر قال: أبدت لي كثيراً مما كانت أخفته يوم رأيتها فقلت: أقم على أهلك بارك الله لك. ثم انطلقت إلى أهلي وأنا أقول: كفيت الفتى العذري ما كان نابه ومثلي لأثقال النوائب أحمل أما استحسنت مني المكارم والعلا إذا صرحت أني أقول وأفعل حدث أبو محمد الشعبي الوراق وكان عند باب خراسان على رأس الجسر الأول عن حماد بن إسحاق عن أبيه إسحاق بن إبراهيم من ميمون الموصلي قال: بينا أنا ذات يوم عند المأمون وقد خلال وجهه وطابت نفسه إذ قال لي: يا إسحاق هذا يوم خلوة وطيب. فقلت: طيب الله عيش أمير المؤمنين وأدام سروره وفرحه. فقال: يا غلمان خذوا علينا الباب وأحضروا الشراب. قال: ثم أخذ بيدي وأدخلني في مجالس غير المجالس التي كنا فيها وإذا قد نصبت الموائد وأصلح كل ما كان يحتاج إليه الحال حتى كأنه شيء قد كان تقدم فيه. قال: فأكلنا وأخذنا في لذتنا وشربنا فأقبلت الستيرات من كل ناحية بضروب من الغناء وصنوف من اللهو فلم نزل على ذلك إلى آخر النهار فلما غربت الشمس قال لي: يا إسحاق خير أيام الفتي أيام الطرب. قلت: هو والله ذاك يا أمير المؤمنين. قال: فإني قد فكرت في شيء فهل لك فيه قلت: يا سيدي أو أتأخر عن رأي أمير المؤمنين أطال الله بقاءه. قال: لعلنا نباكر الصبوح في غدوتنا هذه وقد عزمت على دخلة إلى دار الحرم فكن بمكانك ولا ترم فإني أوافيك عن قريب. قال: قلت: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين. ثم نهض إلى دار النساء فما عرفت له خبراً إلى أن ذهب من الليل عامته. قال إسحاق: وكان المأمون من أشغف خلق الله بالنساء وأشدهم ميلاً إليهن واستهتاراً بهن وعلمت أن النبيذ قد غلب عليه وأنهن قد أنسينه أمري وما كان تقدم إلي ووعدني من سرعة رجوعه فقلت في نفسي: هو أعزه الله في لذته وأنا هنا هنا في يغير شيء وفي بقية وعندي صبية كنت قد اشتريتها وكانت نفسي متطلعة إلى افتضاضها فنهضت مسرعاً عند ذكرها فقال الخادم: على أي شيء عزمت وإلى أين تريد قلت: أريد الانصراف. قالوا: فإن طلبك أمير المؤمنين قلت: إنه أدام الله سروره قد شغله الطرب ولذة ما هو فيه عن طلبه وقد كان بيني وبينه موعد قد جاوز وقته ولا وجه لجلوسي. قال إسحاق: وكنت مقدم الأمر في دار المأمون مقبول القول فيه لا أعارض في الشيء إذا أومأت إليه فخرجت مبادراً إلى باب الدار فلقيني غلمان الدار وأصحاب النوبة. فقالوا: يا سيدنا إن غلمانك قد انصرفوا وكانوا قد جاءوك بدابة فلما علموا بمبيتك انصرفوا. قلت: لا ضير فأنا أتمشى إلى البيت وحدي. قالوا: نحضرك دابة من دواب النوبة. قلت: لا حاجة لي في ذلك. قالوا: فنمضي بين يديك بمشعل. قلت: لا ولا أريد أيضاً ذلك. وأقبلت وحدي نحو البيت حتى إذا صرت ببعض الطريق أحسست بحركة البول فعدلت إلى بعض الأزقة لئلا يجوز بي أحد منن العوام فيراني أبول على الطريق فبلت حتى إذا قمت للتمسح ببعض الحيطان إذا أنا بشيء معلق من تلك الدور إلى الزقاق فما تمالك أن تمسحت حتى دنوت إلى ذلك الشيء لأعرف ما هو فإذا بزنبيل كبير معلق بأربع آذان وإذا هو ملبس ديباجاً وفيه أربعة أحبل إبريسم فلما نظرت إليه وتبينته قلت: والله إن لهذا لسبباً وإن له لأمراً. فأمت ساعة أروي في أمره وأفكر فيه حتى إذا طال ذلك بي قلت: والله لأتجاسرن ولأجلسن فيه كائناً في ذلك ما كان. ثم لففت رأسي بردائي وجلست في جوف الزنبيل فلما أحس من كان على ظهر الحائط بثقله جذبوا الزنبيل إليهم حتى انتهوا إلى رأس الحائط فإذا بأربع جوار وإذا هن يقلن: انزل بالحرب والسعة أصديق أم جديد فقلت: لا بل جديد. فقلت: أنت يا جرية بين يديه الشمعة. فابتدرت إحداهن إلى طست فيه شمعة وأقبلت بين يدي حتى نزلت إلى دار نظيفة بها من الحسن والظرف والنظافة ما حرت له ثم أدخلتني إلى مجالس مفروضة ومناص مرصوص بصنوف من الفرش الذي لم أر مثله إلا في دار ملك أو خليفة فجلست في أدني مجلس من تلك المجالس فما شعرت بعد ساعة إلا بضجة وجلبة وستور قد رفعت من ناحية من نواحي الدار وإذا بوصائف يتساعين في أيدي بعضهن الشمع وبعضهن المجامر يسجر فيها العود والند وإذا بينهن جارية كأنها تمثال عاج تتهادى بينهم كالبدر الطالع بقد يزرى على الغصون ودل وشكل فما تمالكت عند رؤيتها أن نهضت فقالت: مرحباً بك من زائر أتى وليست تلك عادته. وجلست ورفعت مجلس عن الموضع الذي كنت فيه. فقالت: كيف كان ذا والله لي ولك ولا علم كان وقع لي فما السبب قال: قلت: انصرفت من عند بعض إخواني وظننت أني على وقت فخرجت في وقت ضيق وأخذني البول فأخذت إلى هذا الطريق فعدلت إلى هذا الزقاق فوجدت زنبيلاً معلقاً فحملني النبيذ على أن جلست فيه فإن كان خطأ فالنبيذ أكسبنيه وإن كان صواباً فوالله ألهمنيه. قالت: لا ضير إن شاء الله وأرجوا أن تحمد عواقب أمرك فما صناعتك قلت: بزاز. قالت: وأين مولدك قلت: بغداد. قالت: ومن أي الناس أنت قلت: من أفنائهم وأوساطهم. قالت: حياك الله وقرب دارك فهل رويت من الأشعار شيئاً قلت: شيئاً يسيراً. قالت: فذاكرنا بشيء مما حفظت. قلت: جعلت فداك إن للداخل دهشة وفي انقباض ولكن تبتدئي بشيء من ذلك فالشيء يأتي بالمذاكرة. قالت: لعمري لقد صدقت فهل تحفظ لفلان قصيدته التي يقول فيها كذا وكذا ثم أنشدتني لجماعة من الشعراء القدماء والمحدثين من أحسن أشعارهم وأجود أقاويلهم وأنا مستمع أنظر من أي أحوالها أعجب: من ضبطها أم من حسن لفظها أم من حسن أدبها أم من حسن جودة ضبطها للغريب أم من اقتدارها على النحو معرفة أوزان الشعر ثم قالت: أرجو أن يكون ذهب عنك بعض ما كان من الحصر والانقباض والحشمة. فقلت: إن شاء الله لقد كان ذلك. قالت: فإن رأيت أن تنشدنا من بعض ما تحفظ فافعل. قال: فاندفعت أنشد لجماعة من الشعراء فاستحسنت نشيدي وأقبلت تسألني عن أشياء تمر في شعري كالمختبرة لي وأنا أجيبها بما أعرف في ذلك وهي مصغية إلي ومستحسنة لما آتي به حتى إذا أتيت على ما فيه مقنع قالت: والله ما قصرت وما توهمت فيك ما ألفيت وما رأيت في أبناء التجار وأبناء السوقة مثل ما معك فكيف معرفتك بالأخبار وأيام الناس قلت: قد نظرت في شيء من ذلك. فقالت: يا جارية أحضرينا ما عندك. فما غابت عنا شيئاً حتى قدمت إلينا مائدة لطيفة قد جمع عليها غرائب الطعام السري فقالت: إن الممالحة أول الرضاع فدونك. فتقدمت فأقبلت أعتذر بعض الاعتذار وهي مع ذلك تحثني وتضع بين يدي وإن لمتقسم القلب لما أرى من ظرفها وعقلها وحسن خفرها وكثرة أدبها حتى رفعت المائدة وأحضرت آنية النبيذ فوضعت بين يدي صينية وقنينة وقدح ومغسل وبين يديها مثل ذلك وفي وسط المجلس من صنوف الرياحين وغرائب الفواكه ما لم أره اجتمع لأحد إلا لولي عهد أو سلطان قد عبئ أحسن تعبئة وهيء بأحسن تهيئة. قال إسحاق: فتثاقلت عن الشرب لتكون هي التي تبتدئ. فقالت: ما لي أراك متوقفاً عن الشرب قلت: انتظاراً لك. جعلت فداك. فسكبت قدحاً فشربت ثم سكبت قدحا آخر فشرب ثم قالت: هذا أوان المذاكرة فإن المذاكرة بالأخبار وذكر أيام الناس مما يطرب. قلت: لعمري أن هذا لمن أوقاته. فاندفعت فقلت: بلغني أنه كان كذا وكذا وكان رجل من الملوك يقال له فلان بن فلان وكان من قصته كذا وكذا حتى مررت بعد أخبار حسان من أخبار الملك وما لا يتحدث به إلا عند ملك أو خليفة فسرت بذلك سروراً شديداً ثم قالت: والله لقد حدثتني بأحاديث حسان ولقد كثر تعجبي من أن يكون أحد من التجار يحفظ مثلها وإنما هي من أحاديث الملوك وما لا يتحدث به إلا عن ملك أو خليفة. فقلت لها: جعلت فداك إنه كان لي جار ينادم بعض الملوك وكان حسن المعرفة كثير الحفظ فكان ربما تعطل عن نوبته التي كان يذهب فيها إلى دار صاحبه لشغل يمنعه من ذلك أو لأمر يقطع فأمضي إليه وأعزم عليه وأصير به إلى منزلي فربما أخبرني من هذه الأحاديث شيئاً إلى أن صرت من خاصة أخدانه وممن كان لا يفارقه. ما سمعت مني فمنه أخذته وعنه استفدته. فقالت: يجب أن يكون هذا كذا. ولعمري لقد حفظت فأحسنت الحفظ وما هذا إلا لقريحة جيدة وطبع كريم. قال إسحاق: وأخذنا في شيء من الشراب والمذاكرة ابتدئ الحديث فإذا فرغت ابتدأت هي في آخر أحسن به حتى قطعنا بذلك عامة الليل والند والعود وفائق البخور في المجلس يجدد ويسجر وأنا في حالة لو توهمها المأمون وتأملها لاستطار فرحاً وسروراً. ثم قالت لي: يا أبا فلان - وكنت قد غيرت عليها اسمي وكنيتي - والله إني لأراك كاملاً وفي الرجال فاضلاًن وإنك لوضئ الوجه مليح الشكل بارع الأدب وما كان بقي عليك إلا شيء واحد حتى تكون قد برعت وبرزت. فقلت: وما هو يا سيدتي دفع الله عنك الأسواء قالت: لو كنت تحرك بعض الملاهي أو تترنم ببعض الأشعار. فقلت: والله لقدماً اشتهيته وطالما كلفت به وحرصت عليه فلم أرزقه ولا وجدتني ممن تعلق بشيء منه فلما طال عنائي به وكلما تقدمت في طلبه كنت منه أبعد وعنه أذهب تركته وأعرضت عنه وإن في قلبي من ذلك لحرقة وحرارة وإني لمستهتر به مائل إليه وما أكره أن أسمع في مجلسي هذا من جيده شيئاً لتكمل ليلتي ويطيب عيشي. قالت: كأنك قد عرضت بنا. فقلت: لا والله ما هو تعريض ولا هو إلا تصريح وقد بدأت بالفضل وأنت حرية باستتمام ما بدأت به فقالت: يا جارية عود. فأحضرت العود فأخذته فما هو إلا أن جسته حتى ظننت أن الدار قد سارت بي وبمن فيها واندفعت تغني بصوت ما ظننت أحداً يغني به مع صحة إيماء وجودة ضرب فقلت: والله لقد أكمل الله فيك خلال الفضل وحباك بالكمال الرائع والعقل الوافر والأخلاق المرضية والأفعال السنية فقالت: هل تعرف لمن هذا الصوت ومن غنى به فقلت: لا والله. قالت: الغناء لفلان والشعر لفلان وكان من سببه كذا وكذا. فقلت: هذا والله أحسن من الغناء. فلم تزل تلك حالها في كل صوت تغنيه وهي مع ذلك تشرب وأشرب حتى إذا كان عند انشقاق الفجر أو قبله جاءت عجوز كأنها داية لها فقالت: أي بنية إن الوقت قد حضر فإذا شئت فانهضي. قال: فلما سمعت مقالها نهضت فقالت: عزمت قلت: إي والله. فقالت: مصاحباً عليك بستر ما كنت فيه فإن المجالس بالأمانة. فقلت: جعلت فداك أو أحتاج إلى وصية في ذلك فودعتها وودعتني وقالت: يا جارية بين يديه. فأتي بي باب في ناحية الدار ففتح لي وخرجت منه إلى طريق مختصرة وبادرت البيت فصليت الصبح ووضعت رأسي فما انتبهت إلا برسل الخليفة على الباب فقمت وقد أسرج لي فركبت إلى الدار فسرت إليه فلما مثلت بين يدي المأمون قال لي: يا إسحاق جفوناك ما كنا ضمناه لك وتشاغلنا عنك. فقلت: يا سيدي ليس شيء آثر عندي ولا أسر إلا قلبي من سرور يدخل على أمير المؤمنين فإذا كمل سروره وطاب عيشه فعيشنا طيب وسرورنا بسروره متصل. ثم قال: ما كانت حالك قلت: يا سيدي كنت قد اشتريت صبية من السوق وكنت معلق القلب بها فلما تشاغل أمير المؤمنين أطال الله بقاء وخلوت وقد كانت في بقية طالبتني نفسي بها فمضيت مسرعاً فأحضرتها وأحضرت نبيذاً فسقيتها وشربت معها وغلب علي السكر فقطعني عما أردت وذهب بي النوم إلى أن أصبحت. فقال: لي: ما أكثر ما يتهيأ على الناس من هذا فهل لك في مثل ما كنا فيه أمس فقلت: يا أمير المؤمنين وهل أحد يمتنع من ذلك قال: فإذا شئت. فنهض ونهضت فصرنا إلى المجلس الذي كنا فيه بالأمس على مثل حالنا تلك وأفضل حتى إذا كان في الوقت وثب قائماً فقال: يا إسحاق لا ترم فإني أجيئك وقد عزمت على الصبحة فما هو إلا أن توارى عني حتى ضرب بي وتأملت ما كنت فيه فإذا هو شيء لا يصبر عنه غلا جاهل ولو بزوال نعمته. قال: فنهضت فقال لي الغلمان: الله الله فإن البارحة قد أنكر علينا نخليتك وطالبنا بك وقال: لم تركتموه ولا نحسبك إلا تحب الإيقاع بنا. فقلت: والله لا نال أحدكم بسببي مكروه أبداً ولكن أبادر الحاجة والله لا كان لي حبس ولا لبث وأمير المؤمنين أطال الله بقاءه إذا دخل أبطأ وأنا موافيكم قبل خروجه إن شاء الله. قال: فنهضت فما شعرت إلا وأنا في الزقاق فوافيت الزنبيل على ما كان عليه فقعدت فيه وصعدت وصرت إلى الموضع الذي أعرف فلم ألبث إلا هنيهة وإذا بها قد طلعت فقالت: ضيفنا قلت: إي والله. قالت: أو قد عاودت قلت: نعم ولا أظن إلاأني قد ثقلت. فقالت: مادح نفسه يقرئك السلام. فقلت: هفوة فمني بالصفح. قالت: قد فعلنا فلا تعد. قلت: إن شاء الله. قال: ثم جلسنا وأخذنا فيما كنا فيه من المذاكرة والإنشاد وأحضرنا النبيذ ولم نزل على تلك الحال وأفضل وقد أنست وانبسطت بعض الانبساط وهي مع ذلك لا تزال تقول لي: أوه لو كنت الآن على ما أنت عليه وأحكمت من تلك الصنعة شيئاً لقد تناهيت وبرعت. فقلت: والله لقد حرصت على ذلك وجهدت فيه فما رزقته ولا قدرت عليه. ثم قلت: يا جعلت فداك لا تخلينا مما كان من فضلك البارحة لا تخلينا منه. فتأخذ في الأغاني وكلما مر صوت حسن طيب وجيد بالغ قالت: يا فتى أتدري لمن هذا فأقول: لا. فتقول: لإسحاق. فأقول وإسحاق هكذا جعلت فداك في الحذق فتقول: بخ إسحاق تاريخ هذا الشأن بديع الصوت وعتيق الغناء! فأقول: سبحانك الله لقد أعطى إسحاق ما لم يعطه أحد. فتقول: ولو سمعت هذا منه لكنت أشد استحساناً له وبه أشد كلفاً. حتى إذا كان الوقت وجاءت العجوز نهضت وودعتها وبادرت بين يدي جارية ففتحت الباب فخرجت منه. وبادرت المنزل فتوضأت للصلاة وصليت الصبح ووضعت رأسي فنمت فما انتبهت إلا برسل الخليفة يطلبونني فقمت وقد أسرج لي فركبت إلى الدار فما هو إلا أن مثلت بين يدي المأمون حتى قال: يا إسحاق أبيت إلا مكافأة لنا ومعاملة بمثل ما استعملناه معك! قلت: لا والله يا أمير المؤمنين ما إلى ذلك ذهبت ولا إليه قصدت ولكني ظننت أن يكون أمير المؤمنين قد تشاغل عني بلذته وأغفل أمري. وجاءني الشيطان فأذكرني أمر الجارية فبادرت إلى البيت. قال: وكان من أمرك ماذا قلت: قضيت الحاجة. وفرغ الأمر. فقال: قد انقضى ما كان بقلبك منها وواحدة بواحدة والبادي أظلم. فقلت: بل أنا يا أمير المؤمنين ألوم وأظلم وإليك المعذرة. فقال: لا تثريب عليك هل لك في مثل حالنا الأول قلت: إي والله. قال: فانهض بنا. وقام وقمت حتى إذا صرنا إلى الموضع الذي كنا فيه أخذنا في لذتنا وشربنا حتى إذا كان في الوقت قال لي: يا إسحاق ما عزمك قتل: لا عزم لي يا أمير المؤمنين. قال: فعزمت إليك لتجلسن حتى أخرج إليك لنصطبح فإني عازم على الصبوح وقد نغصت علي ذلك مذ يومان. قلت: فالليلة إن شاء الله. وطرحت الستارات ودخل إلى الحرم فما هو إلا أن توارى عني حتى ضرب بي وقمت وقعدت وجالت وساوسي وجعل أفكر في مجلس معها ومكانها ومحادثتها والنظر إليها وفي الخروج عن طاعة المأمون وما يلحقني في ذلك من سخطه وموجدته فيسهل علي كل صعب إذا فكرت في أمرها. قال: فوثبت مبادراً فاجتمع علي جند الدار فقالوا لي: أين تريد فقلت: الله فإن لي قصة وأنا معلق القلب ببعض من في منزلي وأحتاج إلى مطالعتهم في بعض الأمر. فقالوا: ليس إلى تركك من سبيل. قال: فلم أزل أرفق بهذا وأطلب إلى هذا وأقبل رأس هذا ووهبت خاتمي لواحد وردائي لآخر حتى تركوني فلما خرجت عن جملتهم وأنا لا أصدق فلم أزل أعدوا حاسراً حتى وافيت الزنبيل فجلست فيه وصعدت السطح وصرت إلى الموضع وأقبل على مثل حالتها تلك فلما رأتني قالت: ضيفنا قلت: إيهاً لله. قالت: جعلتها دار مقام قلت: جعلت فداك حق الضيافة ثلاث ثم إن رجعت بعدها فأنت في حل من دمي. قالت: والله لقد أتيت بحجة. قال: ثم جلسنا فأخذنا في مثل حالنا الأول من الشرب والإنشاد والمذاكرة والمحادثة والغناء حتى إذا علمت أن الوقت قد قارب فكرت في قضيتي وعلمت أن المأمون لا يقارني على هذا وأني لا أتخلص منه إلا بأن أشرح له قصتي وأكشف له عن حالي وعلمت أني إن قلت له ذلك طالبني بمعرفة الموضع والمسير به إليه مع ما كان غلب عليه من الميل إلى النساء والاستهتار بهن. فقلت لها: أتأذنين في ذكر شيء خطر ببالي قالت: قل ما بدا لك. قلت: جعلت فداك إني أراك ممن يقول بالغناء ويعجب به وبالأدب ولي ابن عم هو أحسن مني وجهاً وأظرف قداً وأكثر أدباً وأغزر معرفة وإنما أنا تلميذ من تلاميذه وحسنة من حسناته وهو أعرف الناس بغناء إسحاق وأحفظهم له. قالت: " طفيلي ويقترح " لم ترض أن أتيتنا ثلاثة أيام حتى احتجت أن تأتي معك بآخر. فقلت لها: جعلت فداك ذكرته لتكوني أنت المحكمة فإن أذنت وأردت ذلك وإلا فلا إكراه. قالت: فإن كان ابن عمك هذا على ما ذكرت فما نكره أن نعرفه ونشاهده. فقلت: هو والله على أكثر مما وصفت. قالت: فإذا شئت. قلت: فالليلة. قالت: والليلة. ثم حضر الوقت فنهضت وصرت إلى البيت فما وصلت حتى وافيت منزلي قد هجم عليه وإذا برسل الخليفة وأصحاب الشرط قد ركبوا إلى بابي فلما بصروا بي سحبت سحباً على حالتي تلك حتى انتهوا بي إلى الدار فإذا المأمون جالس وسط الدار على كرسي وإذا هو مغتاط حرد فقال: يا إسحاق أخروجاً عن الطاعة قلت: لا والله يا أمير المؤمنين. قال: فما قصتك وما الذي أظهر ما أرى من الانحراف وكثرة الخلاف فاصدقني حالك. قلت: يا أمير المؤمنين إنه كانت لي قصة أحتاج فيها إلى خلوة. فأومأ إلى من كان واقفاً بين يديه فتنحوا حتى إذا خلونا قلت: كان من خبري كيت وكيت وفعلت وصنعت ورأيت كذا. فوالله ما فرغت من حديثها حتى قال: يا إسحاق أتدري ما تقول فقلت: إي والله إني لأدري. فقال: ويحك فكيف لي بمشاهدة ما شاهدت قلت: ما إلى ذلك من سبيل. قال: والله لا بد تلطف لي وتوصلني إليها فهذا ما لا صبر لعاقل عنه. قلت: إي والله قد تفكرت في قصتي وفيما قدمت عليه من عصيانك وعلمت أنه لا ينجيني إلا الصدق والكشف الحال وعلمت أنك تطالبني به أشد المطالبة فقدمت إليها ذكراً من ذلك وقلت لها كيت وكيت ووعدتها في أمرك كذا وكذا. قال: قد والله أحسنت ولولا ذلك لنلتك بكل مكروه. قلت: فالحمد لله الذي سلم. قال: ثم نهض ونهضت حتى صرنا إلى مجلسنا وأخذنا في لذتنا وشربنا وهو مع ذلك يقول: يا إسحاق حدثني عنها وصف لي حالها واشرح لي أمرها. فوالله ما قطعنا يومنا ذلك إلا بذكرها وما وصلنا إلى آخر النهار إلا والمأمون لا يصدق من شدة تعلق قلبه بها وبما قربت عنده من حالها حتى إذا كان بعد هدأة من الليل وهو يقول في كل ساعة: ما جاء الوقت وأنا أقول: بقي قليل والسعة. والقلق غالب عليه حتى إذا جاء الوقت نهضنا فخرجنا من بعض أبواب القصر ومعنا غلام وهو على حمار وأنا على حمار. فلما صرنا بالقرب من منزلها نزلنا ثم قلنا للغلام: يجب أن تظهر بري بحضرتها وإكرامي وتطرح نخوة الخلافة وتجبر الملك وكن كأنك تبع لي. وهو يقول: نعم أوترى أني أجهل وتحتاج إلى أن توصيني قال لي: ويحك يا إسحاق فإن قالت لي: عن فكيف أصنع قال: قلت: أنا أكفيك وأدفعها عن ذلك وأصدها برفق وحسن مس. ثم صرنا إلى الزقاق فإذا بزنبيلين معلقين بثمانية أحبل. فقعد في واحد وقعدت في آخر ثم جذب الجواري وإذا نحن في السطح وبادرن بين أيدينا حتى انتهين بنا إلى المجلس. قال: فأقبل المأمون يتأمل الفرش والدار والزي ويعجب بذلك إعجاباً شديداً وقعدت في موضعي الذي كنت أقعد فيه وقعد المأمون دوني في المرتبة. ثم أقبلت فسلمت فما تمالك أن نظر إليها فبهت من حسنها فقالت: حيا الله ضيفنا بالسلام والله ما أنصفت ابن عمك ألا رفعت مجلسه فقلت: ذلك إليك جعلت فداءك. فقالت: ارتفع فديتك فأنت جديد وهذا قد صار من أهل البيت ولكل جديد لذة فنهض المأمون حتى قعد في صدر المجلس ثم أقبلت عليه تذاكره وتناشده وتمازحه وهو آخذ معها في كل فن فكستها وأفحمها. قال: فالتفتت إلي وقالت: وفيت بوعدك وصدقت في قولك ووجب شكرك على صنيعك. قال: ثم أحضرنا النبيذ وأخذنا في الشراب وهي مع ذلك مقبلة عليه وهو مقبل عليها ومسرورة به ومسرور بها. قال: فالتفتت إلي فقالت: وابن عمك هذا من أبناء التجار قلت لها: نعم فديتك نحن لا نعرف إلا التجارة. قالت: وإنكما فيها لغريبان. ثم قالت: موعدك. فقلت: لعمري إنه ليجب ولكن حتى يسمع شيئاً. قال: وذاك. وأخذت العود وغنت صوتاً فشربنا عليه رطلاً ثم غنت بصوت كان المأمون يقترحه علي فشربنا عليه رطلاً قال: فلما شرب المأمون ثلاثة أرطال وغلب عليه الفرح وتداخله السرور وارتاح وطرب قال: يا إسحاق فوالله لقد رأيته نظر إلي نظر الأسد إلى فريسته فنهضت وقلت: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: غنني هذا الصوت. فلما رأتني أخذت العود ووقف بين يديه أغنيه علمت أنه الخليفة وأني إسحاق. فنهضت وقال: ها هنا. وأومأ إلى كل مضروبة فدخلتها ثم فرغت من ذلك الصوت وشرب رطلاً وقال لي: ويحك يا إسحاق انظر هذه الدار ومن ربها فخرجت فلقيت تلك العجوز فقلت لها: من صاحب المنزل ومن مولاكم قالت: الحسن بن سهل. قلت: ومن هذه منه قالت: ابنته بوران. فرجعت وأعلمته فقال: علي به الساعة. قال: فقلت لها: امضي فأحضريه وأعلميه أن أمير المؤمنين يطلبه. قال: فغابت عني هنيهة ثم جاءت وهو في إثرها فوقف بين يديه فقال: ألك بنت قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: أزوجتها قال: لا والله. قال: وما اسمها قال: بوران. قال: فإني أخطبها إليك. قال: هي يا أمير المؤمنين أمتك وأمرها إليك. قال: فإني قد زوجتها على نقد ثلاثين ألف دينار نحملها إليك في صبيحة ليلتنا هذه فإذا قبضت المال فاحملها إلينا من ليلتها. قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ثم نهض وفتح لنا الباب وخرجنا فلما صرنا إلى الدار قال: يا إسحاق لا يقفن أحد على ما وقفت عليه فإن المجالس بالأمانة. قلت: يا أمير المؤمنين ومثلي يحتاج إلى وصية بهذا الأمر. قال إسحاق: فما أصبحنا حتى أمر بحمل المال ونقلت إليه من يومها وكانت أحظى نسائه عنده وآثرهن لديه. وأقمت أستر هذا الحديث إلى أن مات المأمون فما اجتمع لأحد ما اجتمع لي في تلك الأربعة الأيام التي كنت أنصرف من مجلس أمير المؤمنين في خلافته إلى مجلسها. ووالله ما رأيت من الرجال في ملوكهم ولا خلفائهم ولا سوقهم أحداً يفي بالمأمون ولا شاهدت من النساء امرأة تقاربها فهماً وعقلاً وحلاوة وشكلاً وأما معرفتها وأدبها فما أظن أن في الأرض امرأة كان يتهيأ لها أن تقف من العلوم على مثل ما وقفت عليه. ولقد سألت بعض من كان يتولى خدمتها من عجائزها فقلت لها: وما حملها على ما أرى فقالت: والله إنها لتفعل هذا منذ كذا وكذا سنة. ولقد عاشرة من الظرفاء والأدباء والملاح أكثر من أن يقع عليه إحصاء وما جرى بينها وبين أحد مكروه ولا خناً ولا لفظة قبيحة ولم يكن مذهبها في ذلك إلا حب الأدب والمذاكرة لأهله والمعاشرة لأهل المروءة والأقدار وذوي النبل والأخطار لا لريبة تظهر ولا لحالة تنكر. قال: فوالله لقد تضاعف قدرها عندي وعظم خطرها في نفسي وعلمت شرف همتها وفضلها. فهذا خبر بوران صحيحاً على الحقيقة والسبب الذي تزوجها المأمون به. قال هشام بن الكلبي والهيثم بن عدي: إن ناساً من بني حنيفة خرجوا يتنزهون إلى جبل لهم فرأى فتى منهم في طريقه جارية فرمقها فقال لأصحابه: لا أنصرف والله حتى أرسل إليها وأخبرها بحبي لها. فطلبوا إليه أن يكف عن ذلك فأبى أن يكف وأقبل يراسل الجارية وتمكن حبها من قلبه فانصرف أصحابه وأقام الفتى في ذلك الجبل فمضى ليلة متقلداً سيفاً وهي بين أخوين لها نائمة فأيقظها فقالت: انصرف لا ينتبه أخواي فيقتلانك. فقال: الموت والله أهون مما أنا فيه ولكن إن أعطيتني يدك حتى أضعها على قلبي انصرفت. فأعطته يدها فوضعها على قلبه وصدره وانصرف. فلما كانت الليلة الثانية أتاها وهي على مثل تلك الحال فأيقظها فقالت له مثل مقالها الأول فقال: لك الله إن أمكنتني من شفتيك أرشفهما أن أنصرف. فأمكنته فرشفهما ساعة ثم انصرف فوقع في قلبها من حبه مثل الذي كان بقلبه منها وفشا خبرهما في الحي فقال أهل الجارية: ما مقام هذا الفاسق في هذا الجبل امضوا بنا إليه حتى نخرجه منه. فبعثت إليه الجارية آخر النهار: إن القوم سيأتونك الليلة فاحذر على نفسك. فلما أمسى قعد على مرقب ومعه قوسه وسهمه ووقع بالحي في بعض الليل مطر فاشتغلوا عنه فما كان في آخر الليل وانقشع السحاب وطلع القمر اشتاقت إليه الجارية فخرجت تريده ومعها صاحبة لها من الحي كانت تثق بها فنظر الفتى إليهما فظن أنهما ممن يطلبه فرمى فما أخطأ قلب الجارية فوقعت ميتة وصاحت الأخرى ورجعت. وانحدر الفتى من الجبل فإذا الجارية ميتة فقال: نعب الغراب بما كره ت ولا إزالة للقدر تبكي وأنت قتلتها فاصبر وإلا فانتحر ثم وجأ بمشاقصه أوداجه حتى مات فجاء أهل المرأة فوجدوهما ميتين فدفنوهما في قبر واحد.
باب اللغز
كانت في أبي عطاء السندي لثغة قبيحة فاجتمع يوماً في مجلس بالكوفة حماد الراوية وحماد عجرد وحماد بن الزبرقان وبكر بن مصعب فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا: ما بقي شيء إلا قد تهيأ في مجلسنا هذا فلو بعثنا إلى أبي عطاء السندي. فأرسلوا إليه فأقبل يقول: مرهبا مرهبا هياكم الله. وقد كان قال أحدهم: من يحتال لأبي عطاء حتى يقول: جرادة وزج وشيطان. فقال حماد الراوية: أنا. فقال: يا أبا عطاء كيف علمك باللغز قال: هسن - يريد حسن - فقال له: فما صفراء تكنى أم عوف كأن سويقتها منجلان قال: زرادة. فقال: أصبت. ثم قال: أتعرف مسجداً لبني تميم فويق الميل دون بني أبان قال: هو في بني سيتان قال: أصبت. ثم قال: فما اسم حديدة في الرمح تمسى دوين الصدر ليست بالسنان فقال: زز. فقال: أصبت. وقال المأمون يصف خاتماً: وأبيض أما جسمه فمدور نقي وأما رأسه فمعار ولم يكتسب إلا لتسكن وسطه مؤنثة لم تكس قط خمار لها أخوات أربع هن مثلها ولكنها الصغرى وهن كبار وقال آخر في أرنب: إذا السبابة ارتفعت مع الخن صر اجتمع الثلاث بلا انتكاث لهوت بها تطير بلا جناح وتنسب في الذكور وفي الإناث وقال: رب ثور رأيت في جحر نمل وقطاة تحمل الأثقالا ونسور تمشي بغير رؤوس لا ولا ريش تحمل الأبطالا وعجوز رأيت في بطن كلب جعل الكلب للأمير جمالا وغلام رأيته صار كلباً ثم من بعد ذاك صار غزالا وأتان رأيت واردة الما ء زماناً وما تذوق بلالا وعقاب تطير من غير ريش وعقاب مقيمة أحوالها الثور: النمل الذي يخرج من التراب من الجحر العظيم بفيه. والقطاة: موضع الردف من الفرس. والنسور: بطون الحوافر. والعجوز: السيف. وبطن الكلب: الجلد الذي يعمل منه غمد السيف. وصار كلباً: ضم كلباً أخذه من صار يصور من قول الله عز وجل " فصرهن إليك ". والأتان: الصخرة. والعقاب التي تطير من غير ريش: البكرة. والمقيمة أحوالاً: اللواء. وقال آخر في البيضة: ألا أخبروني أي شيء رأيتم من الطير في أرض الأعاجم والعرب قديم حديث وهو باد وحاضر يصاد بلا صيد وإن جد في الطلب ويؤكل أحياناً طبيخاً وتارة قلياً ومشوياً إذا دس في اللهب وليس له لحم وليس له دم وليس له عظم وليس له عصب وليس له رجل وليس له يد وليس له رأس وليس له ذنب ولا هو حي لا ولا هو ميت ألا خبروني إذا هذا هو العجب وقال آخر: إني رأيت عجوزً بين حاجبها ونابها حبشي قائم رجل له ثلاثون عيناً بين مرفقه وبين عاتقه في رجله قزل في ظهره حية حمراء قانية في ظهرها رجل في ظهره رجل العجوز: الناقة. والحبشي الذي بين حاجبها ونابها: الأسود الحابس بالخطام. وقوله: له ثلاثون عيناً بين عاتقه وبين مرفقه: مثاقيل كانت مصورة في عضده. وقوله: في ظهره حية حمراء قانية: كان عليه برنس فيه تصاوير بعضها داخل في بعض. ولا هو حي لا ولا هو ميت ولكنه شخص يرى في المجالس يزيد على سم الأفاعي لعابه يدب دبيباً في الدجى والحنادس يفرق أوصالاً بصمت يجيبه وتفرى به الأوداج تحت القلانس إذا ما رأته العين تحقر شأنه وهيهات يبدو النقس عند الكرداس وقال آخر فيه: ضئيل الرواء كبير الغناء من البحر في المنصب الأخضر عليه كهيئة مر الشجا ع في دعص محنية أعفر إذا رأسه صح لم ينبعث وحار السبيل ولم يبصر وإن مدية صدعت رأسه جرى جري لا هائب مقصر يقضي لبانته مقبلاً ويحسمها هيئة المزبر جريء بكف فتى كفه تسوق الثراء إلى المقتر أبيات من الشعر المحدث ماء النعيم بوجهه متحير والصدغ منه كعطفة للراء لو باشر الماء القراح بكفه لجرت أنامله بنبع الماء وقال المؤمل: عجبن لمن يطيبني بمسك وبي يتطيب المسك الفتيت خلاخيل النساء لها وجيب ووسواس وخلخالي صموت ولو أن النساء غنين يوماً عن المسك الذكي كما غنيت لأصبح كل عطار فقيراً قليلاً ماله ما يستبيت