→ باب ذكر أخلاقه وشمائله الطاهرة صلى الله عليه وسلم | البداية والنهاية – الجزء السادس كرمه عليه السلام ابن كثير |
مزاحه عليه السلام ← |
تقدم ما أخرجاه في الصحيحين من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: كان رسول الله ﷺ أجود الناس، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان حين يلقاه جبريل بالوحي فيدارسه القرآن، فلرسول الله ﷺ أجود بالخير من الريح المرسلة.
وهذا التشبيه في غاية ما يكون من البلاغة في تشبيهه الكرم بالريح المرسلة، في عمومها وتواترها وعدم انقطاعها.
وفي الصحيحين من حديث سفيان بن سعيد الثوري، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: ما سئل رسول الله ﷺ شيئا قط فقال: « لا ».
وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن أبي عدي عن حميد، عن موسى بن أنيس، عن أنس أن رسول الله ﷺ لم يسأل شيئا على الإسلام إلا أعطاه قال: فأتاه رجل فأمر له بشاء كثير بين جبلين من شاء الصدقة.
قال: فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فان محمدا يعطي عطاء ما يخشى الفاقة.
ورواه مسلم عن عاصم بن النضر، عن خالد بن الحارث، عن حميد.
وقال أحمد: ثنا عفان، ثنا حماد، ثنا ثابت عن أنس أن رجلا سأل النبي ﷺ فأعطاه غنما بين جبلين، فأتى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمد يعطي عطاء ما يخلف الفاقة.
فإن كان الرجل ليجيء إلى رسول الله ما يريد إلا الدنيا فما يمسي حتى يكون دينه أحب إليه وأعز عليه من الدنيا وما فيها.
ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة به.
وهذا العطاء ليؤلف به قلوب ضعيفي القلوب في الإسلام، ويتألف آخرين ليدخلوا في الإسلام كما فعل يوم حنين حين قسم تلك الأموال الجزيلة من الإبل، والشاء، والذهب، والفضة في المؤلفة، ومع هذا لم يعط الأنصار وجمهور المهاجرين شيئا، بل أنفق فيمن كان يحب أن يتألفه على الإسلام، وترك أولئك لما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، وقال مسليا لمن سأل عن وجه الحكمة في هذه القسمة، لمن عتب من جماعة الأنصار: « أما ترضون أن يذهب الناس بالشاء، والبعير، وتذهبون برسول الله تحوزونه إلى رحالكم؟ »
قالوا: رضينا يا رسول الله.
وهكذا أعطى عمه العباس بعد ما أسلم حين جاءه ذلك المال من البحرين فوضع بين يديه في المسجد وجاء العباس فقال: يا رسول الله أعطني فقد فاديت نفسي يوم بدر، وفاديت عقيلا.
فقال: « خذ » فنزع ثوبه عنه، وجعل يضع فيه من ذلك المال ثم قام ليقله فلم يقدر.
فقال لرسول الله: ارفعه علي.
قال: « لا أفعل ».
فقال: مر بعضهم ليرفعه علي.
فقال: « لا ».
فوضع منه شيئا، ثم عاد فلم يقدر، فسأله أن يرفعه، أو أن يأمر بعضهم برفعه، فلم يفعل، فوضع منه، ثم احتمل الباقي وخرج به من المسجد ورسول الله ﷺ يتبعه بصره عجبا من حرصه.
قلت: وقد كان العباس رضي الله عنه رجلا شديدا، طويلا، نبيلا، فأقل ما احتمل شيء يقارب أربعين ألفا، والله أعلم.
وقد ذكره البخاري في صحيحه في مواضع معلقا بصيغة الجزم، وهذا يورد في مناقب العباس لقوله تعالى: { ياأيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم }. [الأنفال: 70] .
وقد تقدم عن أنس بن مالك خادمه عليه السلام أنه قال: كان رسول الله ﷺ أجود الناس وأشجع الناس، الحديث.
وكيف لا يكون كذلك وهو رسول الله ﷺ المجبول على أكمل الصفات، الواثق بما في يدي الله - عز وجل - الذي أنزل عليه في محكم كتابه العزيز: { وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات والأرض } [الحديد: 10] الآية وقال تعالى: { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين }. [سبأ: 39] .
وهو عليه السلام القائل لمؤذنه بلال وهو الصادق المصدوق في الوعد والمقال: « أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا ».
وهو القائل عليه السلام: « ما من يوم تصبح العباد فيه إلا وملكان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا ».
وفي الحديث الآخر أنه قال لعائشة: « لا توعي فيوعى الله عليك، ولا توكي فيوكي الله عليك ».
وفي الصحيح أنه عليه السلام قال: « يقول الله تعالى: ابن آدم أنفق أنفق عليك ».
فكيف لا يكون أكرم الناس وأشجع الناس وهو المتوكل الذي لا أعظم منه في توكله، الواثق برزق الله ونصره المستعين بربه في جميع أمره، ثم قد كان قبل بعثته وبعدها، وقبل هجرته ملجأ الفقراء، والأرامل، والأيتام، والضعفاء، والمساكين، كما قال عمه أبو طالب فيما قدمناه من القصيدة المشهورة:
وما ترك قوم لا أبالك سيدا * يحوط الذمار غير ذرب موكل
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم * فهم عنده في نعمة وفواضل
ومن تواضعه ما روى الإمام أحمد من حديث حماد بن سلمة عن ثابت، زاد النسائي وحميد عن أنس أن رجلا قال لرسول الله ﷺ: يا سيدنا وابن سيدنا.
فقال رسول الله ﷺ: « يا أيها الناس قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق ما رفعني الله ».
وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله: « لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله ».
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن شعبة، حدثني الحكم عن إبراهيم، عن الأسود قال: قلت لعائشة: ما كان رسول الله ﷺ يصنع في أهله؟
قالت: كان في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.
وحدثنا وكيع ومحمد بن جعفر قالا: حدثنا شعبة عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود قال: قلت لعائشة: ما كان النبي ﷺ يصنع إذا دخل بيته؟
قالت: كان يكون في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة خرج فصلى.
ورواه البخاري عن آدم، عن شعبة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبدة، ثنا هشام بن عروة، عن رجل قال: سئلت عائشة: ما كان رسول الله ﷺ يصنع في بيته؟
قالت: كان يرقع الثوب، ويخصف النعل، ونحو هذا، وهذا منقطع من هذا الوجه.
وقد قال عبد الرزاق: أنا معمر عن الزهري، عن عروة، وهشام بن عروة، عن أبيه قال: سأل رجل عائشة: هل كان رسول الله ﷺ يعمل في بيته؟
قالت: نعم، كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه كما يعمل أحدكم في بيته، رواه البيهقي فاتصل الإسناد.
وقال البيهقي: أنا أبو الحسين ابن بشران، أنا أبو جعفر محمد بن عمرو بن البحتري إملاء، حدثنا محمد بن إسماعيل السلمي، حدثنا ابن صالح، حدثني معاوية بن صالح عن يحيى بن سعيد، عن عمرة قالت: قلت لعائشة: ما كان يعمل رسول الله ﷺ في بيته؟
قالت: كان رسول الله - ﷺ - بشرا من البشر يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه.
ورواه الترمذي في الشمائل عن محمد بن إسماعيل، عن عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة قالت: قيل لعائشة: ما كان يعمل رسول الله ﷺ في بيته، الحديث.
وروى ابن عساكر من طريق أبي أسامة عن حارثة بن محمد الأنصاري، عن عمرة قالت: قلت لعائشة: كيف كان رسول الله ﷺ في أهله؟
قالت: كان ألين الناس، وأكرم الناس، وكان ضحاكا بساما.
وقال أبو داود الطيالسي: ثنا شعبة، حدثني مسلم أبو عبد الله الأعور، سمع أنسا يقول: كان رسول الله ﷺ يكثر الذكر، ويقل اللغو، ويركب الحمار، ويلبس الصوف، ويجيب دعوة المملوك، ولو رأيته يوم خيبر على حمار خطامه من ليف.
وفي الترمذي، وابن ماجه من حديث مسلم بن كيسان الملائي، عن أنس بعض ذلك.
وقال البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ إملاء، ثنا أبو بكر محمد بن جعفر الآدمي القاري ببغداد، ثنا عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الدروري، ثنا أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي، ثنا علي بن الحسين بن واقد عن أبيه قال: سمعت يحيى بن عقيل يقول: سمعت عبد الله ابن أبي أوفى يقول: كان رسول الله ﷺ يكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، ولا يستنكف أن يمشي مع العبد، ولا مع الأرملة حتى يفرغ لهم من حاجاتهم.
رواه النسائي عن محمد بن عبد العزيز، عن أبي زرعة، عن الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن يحيى بن عقيل الخزاعي البصري، عن ابن أبي أوفى بنحوه.
وقال البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو بكر إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الفقيه بالري، ثنا أبو بكر محمد بن الفرج الأزرق، ثنا هاشم بن القاسم، ثنا شيبان أبو معاوية عن أشعث ابن أبي الشعثاء، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: كان رسول الله ﷺ يركب الحمار، ويلبس الصوف، ويعتقل الشاة، ويأتي مراعاة الضيف، وهذا غريب من هذا الوجه، ولم يخرجوه، وإسناده جيد.
وروى محمد بن سعد عن إسماعيل ابن أبي فديك، عن موسى بن يعقوب الربعي، عن سهل مولى عتبة أنه كان نصرانيا من أهل مريس، وأنه كان في حجر عمه وأنه قال: قرأت يوما في مصحف لعمي فإذا فيه ورقة بغير الخط، وإذا فيها نعت محمد ﷺ لا قصير ولا طويل، أبيض ذو ضفيرتين، بين كتفيه خاتم، يكثر الاحتباء، ولا يقبل الصدقة، ويركب الحمار والبعير، ويحتلب الشاة، ويلبس قميصا مرقوعا، ومن فعل ذلك فقد برئ من الكبر، وهو من ذرية إسماعيل اسمه أحمد.
قال: فلما جاء عمي ورآني قد قرأتها ضربني وقال: مالك وفتح هذه؟
فقلت: إن فيها نعت أحمد.
فقال: إنه لم يأت بعد.
وقال الإمام أحمد: ثنا إسماعيل، ثنا أيوب عن عمرو، عن سعيد، عن أنس قال: ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله ﷺ، وذكر الحديث.
ورواه مسلم عن زهير بن حرب، عن إسماعيل بن علية به.
وقال الترمذي في الشمائل: ثنا محمود بن غيلان، ثنا أبو داود عن شعبة، عن الأشعث بن سليم قال: سمعت عمتي تحدث عن عمها قال: بينا أنا أمشي بالمدينة إذا إنسان خلفي يقول: « إرفع إزارك، فإنه أنقى وأبقى » فنظرت فإذا هو رسول الله.
فقلت: يا رسول الله، إنما هي بردة ملحاء.
قال: « أمالك في أسوة؟ » فإذا إزاره إلى نصف ساقيه.
ثم قال: ثنا سويد بن نصر، ثنا عبد الله بن المبارك عن موسى بن عبيدة، عن إياس بن سلمة، عن أبيه قال: كان عثمان بن عفان متزرا إلى أنصاف ساقيه.
قال: هكذا كانت أزره صاحبي ﷺ.
وقال أيضا: ثنا يوسف بن عيسى، ثنا وكيع، ثنا الربيع بن صبيح، ثنا يزيد بن أبان عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله ﷺ يكثر القناع، كأن ثوبه ثوب زيات، وهذا فيه غرابة ونكارة، والله أعلم.
وروى البخاري عن علي بن الجعد، عن شعبة، عن سيار بن الحكم، عن ثابت، عن أنس أن رسول الله ﷺ مر على صبيان يلعبون، فسلم عليهم.
ورواه مسلم من وجه آخر عن شعبة.