→ القول فيما أوتي داود عليه السلام | البداية والنهاية – الجزء السادس القول فيما أوتي سليمان بن داود عليه السلام ابن كثير |
القول فيما أوتي عيسى بن مريم عليه السلام ← |
قال الله تعالى: { فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب * والشياطين كل بناء وغواص * وآخرين مقرنين في الأصفاد * هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب * وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب } [ص: 36-40] .
وقال تعالى: { ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين * ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين } [الأنبياء: 81-82] .
وقال تعالى: { ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير * يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور } [سبأ: 12-13] .
وقد بسطنا ذلك في قصته وفي التفسير أيضا.
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم في مستدركه عن عبد الله بن عمرو، عن النبي ﷺ: « أن سليمان عليه السلام لما فرغ من بناء بيت المقدس سأل الله خلالا ثلاثا: سأل الله حكما يوافق حكمه، وملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وأنه لا يأتي هذا المسجد أحد إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ».
أما تسخير الريح لسليمان فقد قال الله تعالى في شأن الأحزاب: { ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا } [الأحزاب: 9] .
وقد تقدم في الحديث الذي رواه مسلم من طريق شعبة عن الحاكم، عن مجاهد، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال: « نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ».
ورواه مسلم من طريق الأعمش عن مسعود بن مالك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي ﷺ مثله.
وثبت في الصحيحين: « نصرت بالرعب مسيرة شهر ».
ومعنى ذلك: أنه ﷺ كان إذا قصد قتال قوم من الكفار ألقى الله الرعب في قلوبهم قبل وصوله إليهم بشهر، ولو كان مسيره شهرا، فهذا في مقابلة غدوها شهر ورواحها شهر، بل هذا أبلغ في التمكن والنصر والتأييد والظفر، وسخرت الرياح تسوق السحاب لإنزال المطر الذي امتن الله به حين استسقى رسول الله ﷺ في غير ما موطن كما تقدم.
وقال أبو نعيم: فإن قيل: فإن سليمان سخرت له الريح فسارت به في بلاد الله وكان غدوها شهرا ورواحها شهرا.
قيل: ما أعطي محمد ﷺ أعظم وأكبر لأنه سار في ليلة واحدة من مكة إلى بيت المقدس مسيرة شهر، وعرج به في ملكوت السموات مسيرة خمسين ألف سنة في أقل من ثلث ليلة، فدخل السموات سماء سماء ورأى عجائبها، ووقف على الجنة والنار، وعرض عليه أعمال أمته، وصلى بالأنبياء وبملائكة السموات، واخترق الحجب وهذا كله في ليلة قائما أكبر وأعجب.
وأما تسخير الشياطين بين يديه تعمل ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، فقد أنزل الله الملائكة المقربين لنصرة عبده ورسوله محمد ﷺ في غير ما موطن يوم أحد، وبدر، ويوم الأحزاب، ويوم حنين كما تقدم ذكرناه ذلك مفصلا في مواضعه، وذلك أعظم وأبهر وأجل وأعلا من تسخير الشياطين.
وقد ذكر ذلك ابن حامد في كتابه، وفي الصحيحين من حديث شعبة عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: « إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة - أو كلمة نحوها - ليقطع علي الصلاة، فأمكنني الله منه فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى يصبحوا وينظروا إليه، فذكرت دعوة أخي سليمان رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ».
قال روح: فرده الله خاسئا، لفظ البخاري.
ولمسلم عن أبي الدرداء نحوه، قال: « ثم أردت أخذه والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح يلعب به ولدان أهل المدينة ».
وقد روى الإمام أحمد بسند جيد عن أبي سعيد أن رسول الله ﷺ قام يصلي صلاة الصبح وهو خلفه، فقرأ فالتبست عليه القراءة، فلما فرغ من صلاته قال: « لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي فما زلت أختنقه حتى وجدت برد لعابه بين إصبعي هاتين الإبهام والتي تليها، ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطا بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان أهل المدينة ».
وقد ثبت في الصحاح والحسان والمسانيد أن رسول الله ﷺ قال: « إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين ».
وفي رواية « مردة الجن » فهذا من بركة ما شرعه الله له من صيام شهر رمضان وقيامه، وسيأتي عند إبراء الأكمه والأبرص من معجزات المسيح عيسى بن مريم عليه السلام دعاء رسول الله ﷺ لغير ما واحد ممن أسلم من الجن فشفي وفارقهم خوفا منه ومهابة له، وامتثالا لأمره - صلوات الله وسلامه عليهم -.
وقد بعث الله نفرا من الجن يستمعون القرآن فآمنوا به وصدقوه ورجعوا إلى قومهم فدعوهم إلى دين محمد ﷺ وحذروهم مخالفته لأنه كان مبعوثا إلى الإنس والجن فآمنت طوائف من الجن كثيرة كما ذكرنا، ووفدت إليه منهم وفود كثيرة وقرأ عليهم سورة الرحمن، وخبرهم بما لمن آمن منهم من الجنان، وما لمن كفر من النيران، وشرع لهم ما يأكلون وما يطعمون دوابهم، فدل على أنه بين لهم ما هو أهم من ذلك وأكبر.
وقد ذكر أبو نعيم هاهنا حديث الغول التي كانت تسرق التمر من جماعة من أصحابه ﷺ ويريدون إحضارها إليه فتمتنع كل الامتناع خوفا من المثول بين يديه، ثم افتدت منهم بتعليمهم قراءة آية الكرسي التي لا يقرب قارئها الشيطان.
وقد سقنا ذلك بطرقه وألفاظه عند تفسير آية الكرسي من كتابنا التفسير ولله الحمد.
والغول هي الجن المتبدي بالليل في صورة مرعبة.
وذكر أبو نعيم هاهنا حماية جبريل له عليه السلام غير ما مرة من أبي جهل كما ذكرنا في السيرة، وذكر مقاتلة جبريل وميكائيل عن يمينه وشماله يوم أحد.
وأما ما جمع الله تعالى لسليمان من النبوة والملك كما كان أبوه من قبله فقد خير الله عبده محمدا ﷺ بين أن يكون ملكا نبيا، أو عبدا رسولا، فاستشار جبريل في ذلك فأشار إليه وعليه أن يتواضع فاختار أن يكون عبدا رسولا.
وقد روى ذلك من حديث عائشة وابن عباس، ولا شك أن منصب الرسالة أعلى، وقد عرضت على نبينا ﷺ كنوز الأرض فأباها.
قال: « ولو شئت لأجرى الله معي جبال الأرض ذهبا ولكن أجوع يوما وأشبع يوما ».
وقد ذكرنا ذلك كله بأدلته وأسانيده في التفسير وفي السيرة أيضا ولله الحمد والمنة.
وقد أورد الحافظ أبو نعيم هاهنا طرفا منها من حديث عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: « بينا أنا نائم جيء بمفاتيح خزائن الأرض فجعلت في يدي ».
ومن حديث الحسين بن واقد عن الزبير عن جابر مرفوعا: « أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا على فرس أبلق جاءني به جبريل عليه قطيفة من سندس ».
ومن حديث القاسم عن أبي لبابة مرفوعا: « عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا، فقلت: لا يا رب ولكن أشبع يوما، وأجوع يوما فإذا جعت تضرعت إليك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك ».
قال أبو نعيم: فإن قيل سليمان عليه السلام كان يفهم كلام الطير والنملة.
كما قال تعالى: { وقال ياأيها الناس علمنا منطق الطير } [النمل: 16] .
وقال: { حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون * فتبسم ضاحكا من قولها } [النمل: 18] .
قيل: قد أعطي محمد ﷺ مثل ذلك وأكثر منه، فقد تقدم ذكرنا لكلام البهائم والسباع، وحنين الجذع ورغاء البعير، وكلام الشجر وتسبيح الحصا والحجر، ودعائه إياه واستجابته لأمره، وإقرار الذئب بنبوته وتسبيح الطير لطاعته، وكلام الظبية وشكواها إليه، وكلام الضـب وإقراره بنبوته وما في معناه، كل ذلك قد تقدم في الفصول بما يغني عن إعادته انتهى كلامه.
قلت: وكذلك أخبره ذراع الشاة بما فيه من السم، وكان ذلك بإقرار من وضعه فيه من اليهود.
وقال: إن هذه السحابة لتبتهل بنصرك يا عمرو بن سالم - يعني: الخزاعي - حين أنشده تلك القصيدة يستعديه فيها على بني بكر الذين نقضوا صلح الحديبية، وكان ذلك سبب فتح مكة كما تقدم.
وقال ﷺ: « إني لأعرف حجرا كان يسلم علي بمكة قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن » فهذا إن كان كلاما مما يليق بحاله ففهم عنه الرسول ذلك، فهو من هذا القبيل وأبلغ لإقامة جماد بالنسبة إلى الطير والنمل لأنهما من الحيوانات ذوات الأرواح، وإن كان سلاما نطقيا وهو الأظهر فهو أعجب من هذا الوجه أيضا.
كما قال علي: خرجت مع رسول الله ﷺ في بعض شعاب مكة فما مر بحجر ولا شجر، ولا مدر، إلا قال: السلام عليك يا رسول الله.
فهذا النطق سمعه رسول الله ﷺ وعلي رضي الله عنه.
ثم قال أبو نعيم: حدثنا أحمد بن محمد بن الحارث العنبري، حدثنا أحمد بن يوسف بن سفيان، حدثنا إبراهيم بن سويد النخعي، حدثنا عبد الله بن أذينة الطائي عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معلاة بن جبل قال: أتى النبي ﷺ وهو بخيبر حمار أسود فوقف بين يديه، فقال: « من أنت؟ »
فقال: أنا عمرو بن فهران كنا سبعة إخوة، وكلنا ركبنا الأنبياء، وأنا أصغرهم وكنت لك، فملكني رجل من اليهود وكنت إذ أذكرك عثرت به فيوجعني ضربا.
فقال النبي ﷺ: « فأنت يعفور ».
وهذا الحديث فيه نكارة شديدة ولا يحتاج إلى ذكره مع ما تقدم من الأحاديث الصحيحة التي فيها غنية عنه.
وقد روى على غير هذه الصفة وقد نص على نكارته ابن أبي حاتم عن أبيه والله أعلم.