→ القول فيما أوتي سليمان بن داود عليه السلام | البداية والنهاية – الجزء السادس القول فيما أوتي عيسى بن مريم عليه السلام ابن كثير |
قصة الأعمى الذي رد الله عليه بصره بدعاء الرسول ← |
ويسمى المسيح فقيل: لمسحه الأرض.
وقيل: لمسح قدمه.
وقيل: لخروجه من بطن أمه ممسوحا بالدهان.
وقيل: لمسح جبريل بالبركة.
وقيل: لمسح الله الذنوب عنه.
وقيل: لأنه كان لا يمسح أحدا إلا برأ.
حكاها كلها الحافظ أبو نعيم رحمه الله.
ومن خصائصه أنه عليه السلام مخلوق بالكلمة من أنثى بلا ذكر، كما خلقت حواء من ذكر بلا أنثى، وكما خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى، وإنما خلقه الله تعالى من تراب، ثم قال له: « كن فيكون ». وكذلك يكون عيسى بالكلمة وبنفخ جبريل مريم فخلق منها عيسى، ومن خصائصه وأمه أن إبليس - لعنه الله - حين ولد ذهب يطعن فطعن في الحجاب كما جاء في الصحيح. ومن خصائصه أنه حي لم يمت وهو الآن بجسده في السماء الدنيا، وسينزل قبل يوم القيامة على المنارة البيضاء الشرقية بدمشق، فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما، ويحكم بهذه الشريعة المحمدية، ثم يموت ويدفن بالحجرة النبوية كما رواه الترمذي، وقد بسطنا ذلك في قصته. وقال شيخنا العلامة ابن الزملكاني رحمه الله: وأما معجزات عيسى عليه السلام فمنها إحياء الموتى، وللنبي ﷺ من ذلك كثير، وإحياء الجماد أبلغ من إحياء الميت.
وقد كلم النبي ﷺ الذراع المسمومة وهذا الإحياء أبلغ من إحياء الإنسان الميت من وجوه أحدها: أنه إحياء جزء من الحيوان دون بقيته وهذا معجز لو كان متصلا بالبدن.
الثاني: أنه أحياه وحده منفصلا عن بقية أجزاء ذلك الحيوان مع موت البقية.
الثالث: أنه أعاد عليه الحياة مع الإدراك والعقل ولم يكن هذا الحيوان يعقل في حياته الذي هو جزؤه مما يتكلم، وفي هذا ما هو أبلغ من حياة الطيور التي أحياها الله لإبراهيم ﷺ.
قلت: وفي حلول الحياة والإدراك والعقل في الحجر الذي كان يخاطب النبي ﷺ بالسلام عليه كما روي في صحيح مسلم من المعجز ما هو أبلغ من إحياء الحيوان في الجملة، لأنه كان محلا للحياة في وقت بخلاف هذا حيث لا حياة له بالكلية قبل ذلك، وكذلك تسليم الأحجار والمدر عليه وكذلك الأشجار والأغصان وشهادتها بالرسالة، وحنين الجذع.
وقد جمع ابن أبي الدنيا كتابا فيمن عاش بعد الموت وذكر منها كثيرا، وقد ثبت عن أنس رضي الله عنه أنه قال: دخلنا على رجل من الأنصار وهو مريض يعقل فلم نبرح حتى قبض، فبسطنا عليه ثوبه وسجيناه وله أم عجوز كبيرة عند رأسه، فالتفت إليها بعضنا وقال: يا هذه احتسبي مصيبتك عند الله.
فقالت: وما ذاك أمات ابني؟
قلنا: نعم.
قالت: أحق ما تقولون؟
قلنا: نعم، فمدت يدها إلى الله تعالى فقالت: اللهم إنك تعلم أني أسلمت وهاجرت إلى رسولك رجاء أن تعينني عند كل شدة ورخاء، فلا تحملني هذه المصيبة اليوم.
قال: فكشف الرجل عن وجهه وقعد وما برحنا حتى أكلنا معه.
وهذه القصة قد تقدم التنبيه عليها في دلائل النبوة، وقد ذكر معجز الطوفان مع قصة العلاء بن الحضرمي، وهذا السياق الذي أورده شيخنا ذكر بعضه بالمعنى، وقد رواه أبو بكر ابن أبي الدنيا، والحافظ أبو بكر البيهقي من غير وجه عن صالح بن بشير المري أحد زهاد البصرة وعبادها، وفي حديثه لين عن ثابت، عن أنس فذكره.
وفي رواية البيهقي أن أمه كانت عجوزا عمياء ثم ساقه البيهقي من طريق عيسى بن يونس عن عبد الله بن عون، عن أنس كما تقدم وسياقه أتم، وفيه أن ذلك كان بحضرة رسول الله ﷺ وهذا إسناد رجاله ثقات ولكن فيه انقطاع بين عبد الله بن عون وأنس والله أعلم.
قصة أخرى:
قال الحسن بن عرفة: حدثنا عبد الله بن إدريس عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن أبي سبرة النخعي قال: أقبل رجل من اليمن، فلما كان في بعض الطريق نفق حماره، فقام فتوضأ ثم صلى ركعتين ثم قال: اللهم إني جئت من المدينة مجاهدا في سبيلك، وابتغاء مرضاتك، وأنا أشهد أنك تحيي الموتى، وتبعث من في القبور، لا تجعل لأحد علي اليوم منة أطلب إليك اليوم أن تبعث حماري، فقام الحمار ينفض أذنيه.
قال البيهقي: هذا إسناد صحيح، ومثل هذا يكون كرامة لصاحب الشريعة.
قال البيهقي: وكذلك رواه محمد بن يحيى الذهلي عن محمد بن عبيد، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن الشعبي وكأنه عند إسماعيل من الوجهين والله أعلم.
قلت: كذلك رواه ابن أبي الدنيا من طريق إسماعيل عن الشعبي فذكره، قال الشعبي: فأنا رأيت الحمار بيع أو يباع في الكناسة - يعني: بالكوفة -.
وقد أوردها ابن أبي الدنيا من وجه آخر، وأن ذلك كان في زمن عمر بن الخطاب، وقد قال بعض قومه في ذلك:
ومنا الذي أحي الإله حماره * وقد مات منه كل عضو ومفصل
وأما قصة زيد بن خارجة وكلامه بعد الموت وشهادته للنبي ﷺ ولأبي بكر، وعمر، وعثمان بالصدق فمشهورة مروية من وجوه كثيرة صحيحة.
قال البخاري في التاريخ الكبير: زيد بن خارجة الخزرجي الأنصاري شهد بدرا وتوفي في زمن عثمان وهو الذي تكلم بعد الموت.
وروى الحاكم في مستدركه والبيهقي في دلائله وصححه كما تقدم من طريق العتبي عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب أن زيد بن خارجة الأنصاري ثم من الحارث بن الخزرج، توفي زمن عثمان بن عفان فسجي بثوبه ثم إنهم سمعوا جلجلة في صدره، ثم تكلم فقال: أحمد في الكتاب الأول صدق صدق، أبو بكر الضعيف في نفسه القوي في أمر الله، في الكتاب الأول صدق صدق، عمر بن الخطاب القوي في الكتاب الأول صدق صدق، عثمان بن عفان على منهاجهم مضت أربع وبقيت اثنتان، أتت الفتن وأكل الشديد الضعيف وقامت الساعة، وسيأتيكم عن جيشكم خير.
قال يحيى بن سعيد: قال سعيد بن المسيب: ثم هلك رجل من بني حطمة، فسجي بثوبه فسمع جلجلة في صدره، ثم تكلم فقال: إن أخا بني حارث بن الخزرج صدق صدق.
ورواه ابن أبي الدنيا والبيهقي أيضا من وجه آخر بأبسط من هذا وأطول.
وصححه البيهقي قال: وقد روى في التكلم بعد الموت عن جماعة بأسانيد صحيحة والله أعلم.
قلت: قد ذكرت في قصة سخلة جابر يوم الخندق وأكل الألف منها ومن قليل شعير ما تقدم.
وقد أورد الحافظ محمد بن المنذر المعروف بيشكر في كتابه الغرائب والعجائب بسنده كما سبق أن رسول الله ﷺ جمع عظامها ثم دعا الله تعالى فعادت كما كانت فتركها في منزله والله أعلم.
قال شيخنا: ومن معجزات عيسى الإبراء من الجنون، وقد أبرأ النبي ﷺ يعني من ذلك هذا آخر ما وجدته فيما حكيناه عنه.
فأما إبراء عيسى من الجنون فما أعرف فيه نقلا خاصا وإنما كان يبرئ الأكمه والأبرص، والظاهر ومن جميع العاهات والأمراض المزمنة.
وأما إبراء النبي ﷺ من الجنون فقد روى الإمام أحمد والحافظ البيهقي من غير وجه عن يعلى بن مرة أن امرأة أتت بابن لها صغير به لمم ما رأيت لمما أشد منه فقالت: يا رسول الله ابني هذا كما ترى أصابه بلاء وأصابنا منه بلاء يوجد منه في اليوم ما يؤذي، ثم قالت: مرة.
فقال رسول الله ﷺ: « ناولينيه » فجعلته بينه وبين واسطة الرحل، ثم فغر فاه ونفث فيه ثلاثا وقال: « بسم الله أنا عبد الله إخسأ عدو الله ».
ثم ناولها إياه فذكرت أنه برئ من ساعته، وما رابهم شيء بعد ذلك.
وقال أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا حماد بن سلمة عن فرقد السبخي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن امرأة جاءت بولدها إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله إن به لمما وإنه يأخذه عند طعامنا فيفسد علينا طعامنا.
قال: فمسح رسول الله ﷺ صدره ودعا له فسغ سغة فخرج منه مثل الجرو الأسود فشفي.
غريب من هذا الوجه وفرقد فيه كلام، وإن كان من زهاد البصرة، لكن ما تقدم له شاهد وإن كانت القصة واحدة والله أعلم.
وروى البزار من طريق فرقد أيضا عن سعد بن عباس قال: كان النبي ﷺ بمكة فجاءته امرأة من الأنصار فقالت: يا رسول الله إن هذا الخبيث قد غلبني.
فقال لها: « تصبري على ما أنت عليه وتجيئي يوم القيامة ليس عليك ذنوب ولا حساب ».
فقالت: والذي بعثك بالحق لأصبرن حتى ألقى الله ثم قالت: إني أخاف الخبيث أن يجردني، فدعا لها، وكانت إذا أحست أن يأتيها تأتي أستار الكعبة فتتعلق بها وتقول له: إخسأ فيذهب عنها.
وهذا دليل على أن فرقد قد حفظ فإن هذا له شاهد في صحيح البخاري ومسلم من حديث عطاء ابن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟
قلت: بلى.
قال: هذه السوداء أتت رسول الله ﷺ فقالت: إني أصرع وأنكشف فادع الله لي.
قال: « إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك ».
قالت: لا بل أصبر فادع الله أن لا أنكشف.
قال: فدعا لها، فكانت لا تنكشف.
ثم قال البخاري: حدثنا محمد، حدثنا مخلد عن ابن جريج قال: أخبرني عطاء أنه رأى أم زفر امرأة طويلة سوداء على ستر الكعبة.
وذكر الحافظ ابن الأثير في كتاب أسد الغابة في أسماء الصحابة: أن أم زفر هذه كانت ماشطة لخديجة بنت خويلد وأنها عمرت حتى رآها عطاء ابن أبي رباح - رحمهما الله تعالى -.
وأما إبراء عيسى الأكمه وهو الذي يولد أعمى، وقيل: هو الذي لا يبصر في النهار ويبصر في الليل، وقيل غير ذلك كما بسطنا ذلك في التفسير.
والأبرص الذي به بهق، فقد رد رسول الله ﷺ يوم أحد عين قتادة بن النعمان إلى موضعها بعد ما سالت على خده، فأخذها في كفه الكريم وأعادها إلى مقرها فاستمرت بحالها وبصرها وكانت أحسن عينيه رضي الله عنه.
كما ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة وغيره، وكذلك بسطناه ثم ولله الحمد والمنة وقد دخل بعض ولده وهو عاصم بن عمر بن قتادة على عمر بن عبد العزيز فسأل عنه، فأنشأ يقول:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه * فردت بكف المصطفى أحسن الرد
فعادت كما كانت لأول أمرها * فيا حسن ما عين ويا حسن ما خد
فقال عمر بن عبد العزيز:
تلك المكارم لاقعبان من لبن * شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
ثم أجازه فأحسن جائزته.
وقد روى الدارقطني أن عينيه أصيبتا معا حتى سالتا على خديه فردهما رسول الله ﷺ إلى مكانهما والمشهور الأول كما ذكر ابن إسحاق.