→ القول فيما أعطي إدريس عليه السلام | البداية والنهاية – الجزء السادس القول فيما أوتي داود عليه السلام ابن كثير |
القول فيما أوتي سليمان بن داود عليه السلام ← |
قال الله تعالى: { واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب * إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق * والطير محشورة كل له أواب } [ص: 17-19] .
وقال تعالى: { ولقد آتينا داود منا فضلا ياجبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد * أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير } [سبأ: 10-11] .
وقد ذكرنا قصته عليه السلام في التفسير، وطيب صوته عليه السلام وأن الله تعالى كان قد سخر له الطير تسبح معه، وكانت الجبال أيضا تجيبه وتسبح معه، وكان سريع القراءة يأمر بدوابه فتسرج فيقرأ الزبور بمقدار ما يفرغ من شأنها ثم يركب، وكان لا يأكل إلا من كسب يده - صلوات الله وسلامه عليه -.
وقد كان نبينا ﷺ حسن الصوت طيبه بتلاوة القرآن.
قال جبير بن مطعم: قرأ رسول الله ﷺ في المغرب بالتين والزيتون، فما سمعت صوتا أطيب من صوته ﷺ وكان يقرأ ترتيلا كما أمره الله عز وجل بذلك.
وأما تسبيح الطير مع داود فتسبيح الجبال الصم أعجب من ذلك وقد تقدم في الحديث أن الحصا سبح في كف رسول الله ﷺ.
قال ابن حامد: وهذا حديث معروف مشهور، وكانت الأحجار والأشجار والمدر تسلم عليه ﷺ.
وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود قال: لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل - يعني: بين يدي النبي ﷺ وكلمه ذراع الشاة المسمومة وأعلمه بما فيه من السم، وشهدت بنبوته الحيوانات الإنسية والوحشية، والجمادات أيضا كما تقدم بسط ذلك كله، ولا شك أن صدور التسبيح من الحصا الصغار الصم التي لا تجاويف فيها أعجب من صدور ذلك من الجبال لما فيها من التجاويف والكهوف، فإنها وما شاكلها تردد صدى الأصوات العالية غالبا.
كما قال عبد الله بن الزبير: كان إذا خطب وهو أمير المدينة بالحرم الشريف تجاوبه الجبال أبو قبيس وزرود، ولكن من غير تسبيح، فإن ذلك من معجزات داود عليه السلام ومع هذا كان تسبيح الحصا في كف رسول الله ﷺ وأبي بكر، وعمر، وعثمان أعجب.
وأما أكل داود من كسب يده فقد كان رسول الله ﷺ يأكل من كسبه أيضا كما كان يرعى غنما لأهل مكة على قراريط.
وقال: « وما من نبي إلا وقد رعى الغنم » وخرج إلى الشام في تجارة لخديجة مضاربة.
وقال الله تعالى: { وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا * انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا } [الفرقان: 7-9] .
إلى قوله { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق } [الفرقان: 20] .
أي للتكسب والتجارة طلبا للربح الحلال، ثم لما شرع الله الجهاد بالمدينة كان يأكل مما أباح له من المغانم التي لم تبح قبله، ومما أفاء الله عليه من أموال الكفار التي أبيحت له دون غيره.
كما جاء في المسند والترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: « بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم ».
وأما إلانة الحديد بغير نار كما يلين العجين في يده، فكان يصنع هذه الدروع الداوودية، وهي الزرديات السابغات وأمره الله تعالى بنفسه بعملها، « وقدر في السرد » أي ألا يدق المسمار فيعلق ولا يعظله فيقصم، كما جاء في البخاري.
وقال تعالى: { وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون } [الأنبياء: 80] .
وقد قال بعض الشعراء في معجزات النبوة:
نسيج داود ما حمى صاحب الغا * ر وكان الفخار للعنكبوت
والمقصود المعجز في إلانة الحديد، وقد تقدم في السيرة عند ذكر حفر الخندق عام الأحزاب في سنة أربع، وقيل: خمس أنهم عرضت لهم كدية وهي الصخرة في الأرض فلم يقدروا على كسرها ولا شيء منها، فقام إليها رسول الله ﷺ وقد ربط حجرا على بطنه من شدة الجوع فضربها ثلاث ضربات: لمعت الأولى حتى أضاءت له منها قصور الشام، وبالثانية قصور فارس، وثالثة ثم انسالت الصخرة كأنها كثيب من الرمل، ولا شك أن انسيال الصخرة التي لا تنفعل ولا بالنار أعجب من لين الحديد الذي إن أحمى لانه، كما قال بعضهم:
فلو أن ما عالجت لين فؤادها * بنفسي للان الجندل الصلد
والجندل: الصخر، فلو أن شيئا أشد قوة من الصخر لذكره هذا الشاعر المبالغ.
قال الله تعالى: { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة } الآية [البقرة: 74] .
وأما قوله تعالى: { قل كونوا حجارة أو حديدا * أو خلقا مما يكبر في صدوركم } الآية [الإسراء: 50] .
فذلك لمعنى آخر في التفسير وحاصله أن الحديد أشد امتناعا في الساعة الراهنة من الحجر ما لم يعالج، فإذا عولج انفعل الحديد ولا ينفعل الحجر والله أعلم.
وقال أبو نعيم: فإن قيل: فقد لين الله لداود عليه السلام الحديد حتى سرد منه الدروع السوابغ.
قيل: لينت لمحمد الحجارة وصم الصخور فعادت له غارا استتر به من المشركين يوم أحد، مال إلى الجبل ليخفي شخصه عنهم فلين الجبل حتى أدخل رأسه فيه وهذا أعجب لأن الحديد تلينه النار، ولم نر النار تلين الحجر.
قال: وذلك بعد ظاهر باق يراه الناس.
قال: وكذلك في بعض شعاب مكة حجر من جبل في صلايه إليه، فـلان الحجر حتى إدرأ فيه بذراعيه وساعديه، وذلك مشهور يقصده الحجاج ويرونه، وعادت الصخرة ليلة أسري به كهيئة العجين فربط بها دابته - البراق - وموضعه يسمونه الناس إلى يومنا هذا، وهذا الذي أشار إليه من يوم أحد وبعض شعاب مكة غريب جدا، ولعله قد أسنده هو فيما سلف وليس ذلك بمعروف في السيرة المشهورة.
وأما ربط الدابة في الحجر فصحيح، والذي ربطها جبريل كما هو في صحيح مسلم رحمه الله.
وأما قوله: « وأوتيت الحكمة وفصل الخطاب » فقد كانت الحكمة التي أوتيها محمد ﷺ والشرعة التي شرعت له أكمل من كل حكمة وشرعة كانت لمن قبله من الأنبياء - صلوات الله عليه وعليهم أجمعين - فإن الله جمع له محاسن من كان قبله وفضله وأكمله، وآتاه ما لم يؤت أحدا قبله.
وقد قال ﷺ: « أوتيت جوامع الكلم واختصرت لي الحكمة اختصارا ».
ولا شك أن العرب أفصح الأمم، وكان النبي ﷺ أفصحهم نطقا وأجمع لكل خلق جميل مطلقا.