→ قصة الفجاءة | البداية والنهاية – الجزء السادس قصة سجاح وبني تميم ابن كثير |
فصل في خبر مالك بن نويرة اليربوعي التميمي ← |
كانت بنو تميم قد اختلفت آراؤهم أيام الردة فمنهم من ارتد ومنع الزكاة، ومنهم من بعث بأموال الصدقات إلى الصديق، ومنهم من توقف لينظر في أمره، فبينما هم كذلك إذ أقبلت سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان التغلبية من الجزيرة وهي من نصارى العرب وقد ادعت النبوة ومعها جنود من قومها ومن التف بهم، وقد عزموا على غزو أبي بكر الصديق، فلما مرت ببلاد بني تميم دعتهم إلى أمرها فاستجاب لها عامتهم، وكان ممن استجاب لها: مالك بن نويرة التميمي، وعطارد بن حاجب، وجماعة من سادات أمراء بني تميم، وتخلف آخرون منهم عنها، ثم اصطلحوا على أن لا حرب بينهم إلا أن مالك بن نويرة لما وادعها ثناها عن عودها وحرضها على بني يربوع، ثم اتفق الجميع على قتال الناس وقالوا: بمن نبدأ؟
فقالت لهم فيما تسجعه: أعدوا الركاب، واستعدوا للنهاب، ثم أغيروا على الرباب فليس دونهم حجاب، ثم إنهم تعاهدوا على نصرها.
فقال قائل منهم:
أتتنا أخت تغلب في رجال * جلائب من سراة بني أبينا
وأرست دعوة فينا سفاها * وكانت من عمائر آخرينا
فما كنا لنرزيهم زبالا * وما كانت لتسلم إذ أتينا
ألا سفهت حلومكم وضلت * عشية تحشدون لها ثبينا
وقال عطارد بن حاجب في ذلك:
أمست نبيتنا أنثى نطيف بها * وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
ثم إن سجاح قصدت بجنودها اليمامة لتأخذها من مسيلمة بن حبيب الكذاب فهابه قومها وقالوا: إنه قد استفحل أمره وعظم.
فقالت لهم فيما تقوله: عليكم باليمامة، دفوا دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرامة، لا تلحقكم بعدها ملامة.
قال: فعمدوا لحرب مسيلمة، فلما سمع بمسيرها إليه خافها على بلاده، وذلك أنه مشغول بمقاتلة ثمامة بن أثال، وقد ساعده عكرمة ابن أبي جهل بجنود المسلمين، وهم نازلون ببعض بلاده ينتظرون قدوم خالد كما سيأتي.
فبعث إليها يستأمنها ويضمن لها أن يعطيها نصف الأرض الذي كان لقريش لو عدلت، فقد رده الله عليك فحباك به، وراسلها ليجتمع بها في طائفة من قومه فركب إليها في أربعين من قومه، وجاء إليها فاجتمعا في خيمة فلما خلا بها وعرض عليها ما عرض من نصف الأرض وقبلت ذلك.
قال مسيلمة: سمع الله لمن سمع، وأطمعه بالخير إذا طمع، ولا يزال أمره في كل ما يسر مجتمع، رآكم ربكم فحياكم، ومن وحشته أخلاكم، ويوم دينه أنجاكم فأحياكم، علينا من صلوات معشر أبرار لا أشقياء ولا فجار، يقومون الليل ويصومون النهار، لربكم الكبار، رب الغيوم والأمطار.
وقال أيضا: لما رأيت وجوههم حسنت، وأبشارهم صفت، وأيديهم طفلت.
قلت لهم: لا النساء تأتون، ولا الخمر تشربون، ولكنكم معشر أبرار تصومون، فسبحان الله إذا جاءت الحياة كيف تحيون، وإلى ملك السماء كيف ترقون، فلو أنها حبة خردلة لقام عليها شهيد يعلم ما في الصدور، ولأكثر الناس فيها الثبور.
وقد كان مسيلمة - لعنه الله - شرع لمن اتبعه أن الأعزب يتزوج فإذا ولد له ذكر فيحرم عليه النساء حينئذ إلا أن يموت ذلك الولد الذكر فتحل له النساء حتى يولد له ذكر، هذا مما اقترحه - لعنه الله - من تلقاء نفسه.
ويقال: إنه لما خلا بسجاح سألها ماذا يوحى إليها؟
فقالت: وهل يكون النساء يبتدئن بل أنت ماذا أوحي إليك؟
فقال: ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشا.
فقالت: أشهد أنك نبي.
فقال لها: هل لك أن أتزوجك وآكل بقومي وقومك العرب.
قالت: نعم.
وأقامت عنده ثلاثة أيام، ثم رجعت إلى قومها.
فقالوا: ما أصدقك؟
فقالت: لم يصدقني شيئا.
فقالوا: إنه قبيح على مثلك أن تتزوج بغير صداق.
فبعثت إليه تسأله صداقا.
فقال: أرسلي إلي مؤذنك، فبعثته إليه وهو شبت بن ربعي.
فقال: ناد في قومك إن مسيلمة بن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمد - يعني: صلاة الفجر، وصلاة العشاء الآخرة - فكان هذا صداقها عليه - لعنهما الله -.
ثم انثنت سجاح راجعة إلى بلادها وذلك حين بلغها دنو خالد من أرض اليمامة، فكرت راجعة إلى الجزيرة بعد ما قبضت من مسيلمة نصف خراج أرضه، فأقامت في قومها بني تغلب إلى زمان معاوية، فأجلاهم منها عام الجماعة كما سيأتي بيانه في موضعه.