→ فصل فراغ علي رضي الله عنه من أمر الجمل | البداية والنهاية – الجزء السابع فصل في ذكر أعيان من قتل يوم الجمل ابن كثير |
وفي هذه السنة أعني سنة ست وثلاثين ← |
في ذكر أعيان من قتل يوم الجمل من السادة النجباء من الصحابة من الفريقين رضي الله عنهم أجمعين، وقد قدَّمنا أن عدة القتلى نحو من عشرة آلاف، وأما الجرحى فلا يحصون كثرة، فممن قتل يوم الجمل في المعركة:
طلحة بن عبيد الله
ابن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة أبو محمد القرشي التيمي، ويعرف: بطلحة الخير، وطلحة الفياض لكرمه ولكثرة جوده.
أسلم قديما على يدي أبي بكر الصديق، فكان نوفل بن خويلد بن العدوية يشدهما في حبل واحد، ولا تستطيع بنو تميم أن تمنعهما منه، فلذلك كان يقال لطلحة وأبي بكر القرينان.
وقد هاجر وآخى رسول الله ﷺ بينه وبين أبي أيوب الأنصاري، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله ﷺ إلا بدرا - فإنه كان بالشام لتجارة - وقيل: في رسالة، ولهذا ضرب له رسول الله ﷺ بسهمه وأجره من بدر.
وكانت له يوم أحد اليد البيضاء، وشلت يده يوم أحد وقى بها رسول الله ﷺ، واستمرت كذلك إلى أن مات، وكان الصديق إذا حدث عن يده أحد يقول: ذاك يوم كان كله لطلحة.
وقد قال له رسول الله ﷺ يومئذ: « أوجب طلحة »، وذلك أنه كان على رسول الله ﷺ درعان، فأراد أن ينهض وهما عليه ليصعد صخرة هنالك فما استطاع، فطأطأ له طلحة فصعد على ظهره حتى استوى عليها وقال: « أوجب طلحة ».
وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وقد صحب رسول الله ﷺ فأحسن صحبته، حتى توفي وهو عنه راض، وكذلك أبو بكر وعمر.
فلما كانت قضية عثمان اعتزل عنه، فنسبه بعض الناس إلى تحامل فيه، فلهذا لما حضر يوم الجمل واجتمع به علي فوعظه تأخر فوقف في بعض الصفوف، فجاءه سهم غرب فوقع في ركبته، وقيل: في رقبته، والأول أشهر.
وانتظم السهم مع ساقه خاصرة الفرس، فجمح به حتى كاد يلقيه، وجعل يقول: إليَّ عباد الله، فأدركه مولى له فركب وراءه، وأدخله البصرة فمات بدار فيها.
ويقال: إنه مات بالمعركة، وإن عليا لما دار بين القتلى رآه، فجعل يمسح عن وجهه التراب، وقال: رحمة الله عليك أبا محمد، يعز علي أن أراك مجدولا تحت نجوم السماء، ثم قال: إلى الله أشكو عجزي وبجري، والله لوددت أني كنت مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة.
ويقال: إن الذي رماه بهذا السهم مروان بن الحكم، وقال لأبان بن عثمان: قد كفيتك رجالا من قتلة عثمان.
وقد قيل: إن الذي رماه غيره، وهذا عندي أقرب، وإن كان الأول مشهورا والله أعلم.
وكان يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، ودفن طلحة إلى جانب الكلأ، وكان عمره ستين سنة.
وقيل: بضعا وستين سنة، وكان آدم، وقيل: أبيض، حسن الوجه، كثير الشعر، إلى القصر أقرب وكانت غلته في كل يوم ألف درهم.
وروى حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبيه: أن رجلا رأى طلحة في منامه وهو يقول: حولوني عن قبري فقد آذاني الماء، ثلاث ليال، فأتى ابن عباس فأخبره - وكان نائبا على البصرة - فاشتروا له دارا بالبصرة بعشرة آلاف درهم، فحولوه من قبره إليها، فإذا قد اخضر من جسده ما يلي الماء، وإذا هو كهيئة يوم أصيب.
وقد وردت له فضائل كثيرة.
فمن ذلك: ما رواه أبو بكر بن أبي عاصم: حدثنا الحسن بن علي بن سليمان بن عيسى بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، حدثني أبي، عن جده، عن موسى بن طلحة، عن أبيه قال: سماني رسول الله ﷺ يوم أحد طلحة الخير، ويوم العسرة طلحة الفياض، ويوم حنين طلحة الجود.
وقال أبو يعلى الموصلي: ثنا أبو كريب، ثنا يونس، عن ابن بكر، عن طلحة بن يحيى، عن موسى وعيسى ابني طلحة، عن أبيهما: أن ناسا من أصحاب رسول الله ﷺ قالوا لأعرابي جاء يسأل عمن قضى نحبه فقالوا: سل رسول الله ﷺ، فسأله في المسجد فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه ثم اطلعت من باب المسجد وعلي ثياب خضر، فقال رسول الله: « أين السائل؟
قال: ها أنا ذا.
فقال: هذا ممن قضى نحبه ».
وقال أبو القاسم البغوي: ثنا داود بن رشيد، ثنا مكي، ثنا علي بن إبراهيم، ثنا الصلت بن دينار، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: « من أراد أن ينظر إلى شهيد يمشي على رجليه فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله ».
وقال الترمذي: حدثنا أبو سعيد الأشج، ثنا أبو عبد الرحمن بن منصور العنزي - اسمه النضر -، ثنا عقبة بن علقمة اليشكري: سمعت علي بن أبي طالب يقول: سمعت أذناي رسول الله ﷺ يقول: « طلحة والزبير جاراي في الجنة ».
وقد روي من غير وجه عن علي أنه قال: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير وعثمان ممن قال الله: { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } [الحجر: 47] .
وقال حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب: أن رجلا كان يقع في طلحة والزبير وعثمان وعلي رضي الله عنهم، فجعل سعد ينهاه، ويقول: لا تقع في إخواني فأبى، فقام فصلى ركعتين ثم قال: اللهم إن كان سخطا لك فيما يقول، فأرني فيه اليوم آية واجعله للناس عبرة.
فخرج الرجل فإذا ببختي يشق الناس فأخذه بالبلاط فوضعه بين كركرته والبلاط فسحقه حتى قتله.
قال سعيد بن المسيب: فأنا رأيت الناس يتبعون سعدا ويقولون: هنيئا لك أبا إسحاق أجيبت دعوتك.
والزبير بن العوام بن خويلد
ابن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، أبو عبد الله القرشي الأسدي، وأمه: صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله ﷺ.
أسلم قديما، وعمره خمس عشرة سنة، وقيل: أقل.
وقيل: أكثر، هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة، فآخى رسول الله ﷺ بينه وبين سلمة بن سلامة بن وقش، وقد شهد المشاهد كلها، وقد قال رسول الله ﷺ يوم الأحزاب: « من يأتينا بخبر القوم؟
فقال: أنا، ثم ندب الناس فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير، فقال رسول الله ﷺ: إن لكل نبي حورايا وحواري الزبير ».
ثبت ذلك من رواية زر، عن علي.
وثبت عن الزبير أنه قال: « جمع لي رسول الله ﷺ أبويه يوم بني قريظة ».
وروي: أنه أول من سل سيفا في سبيل الله، وذلك بمكة حين بلغ الصحابة أن رسول الله قد قتل فجاء شاهرا سيفه حتى رأى رسول الله ﷺ فشام سيفه، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة الذين توفي رسول الله ﷺ وهو عنهم راض.
وصحب الصديق فأحسن صحبته، وكان ختنه على ابنته أسماء بنت الصديق، وابنه عبد الله منها أول مولود ولد للمسلمين بعد الهجرة.
وخرج مع الناس إلى الشام مجاهدا فشهد اليرموك فتشرفوا بحضوره، وكانت له بها اليد البيضاء والهمة العلياء، اخترق جيوش الروم وصفوفهم مرتين من أولهم إلى آخرهم، وكان من جملة من دافع عن عثمان وحاجف عنه، فلما كان يوم الجمل ذكره علي بما ذكره به فرجع عن القتال وكر راجعا إلى المدينة، فمر بقوم الأحنف بن قيس - وكانوا قد انعزلوا عن الفريقين - فقال قائل يقال له الأحنف: ما بال هذا جمع بين الناس حتى إذا التقوا كر راجعا إلى بيته؟ من رجل يكشف لنا خبره؟
فاتبعه عمرو بن جرموز، وفضالة بن حابس، ونفيع في طائفة من غواة بني تميم، فيقال: إنهم لما أدركوه تعاونوا عليه حتى قتلوه.
ويقال: بل أدركه عمرو بن جرموز فقال له عمرو: إن لي إليك حاجة؟
فقال: ادن!
فقال مولى الزبير - واسمه عطية -: إن معه سلاحا.
فقال: وإن، فتقدم إليه فجعل يحدثه وكان وقت الصلاة، فقال له الزبير: الصلاة.
فقال: الصلاة، فتقدم الزبير ليصلي بهما فطعنه عمرو بن جرموز فقتله.
ويقال: بل أدركه عمرو بواد يقال له: وادي السباع، وهو نائم في القائله فهجم عليه فقتله.
وهذا القول هو الأشهر، ويشهد له شعر امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وكانت آخر من تزوجها، وكانت قبله تحت عمر بن الخطاب فقتل عنها، وكانت قبله تحت عبد الله بن أبي بكر الصديق فقتل عنها، فلما قتل الزبير رثته بقصيدة محكمة المعنى فقالت:
غدر ابن جرموز بفارس بهمة * يوم اللقاء وكان غر معرد
يا عمرو لو نبهته لوجدته * لا طائشا رعش الجنان ولا اليد
ثكلتك أمك أن ظفرت بمثله * ممن بقي ممن يروح ويغتدي
كم غمرة قد خاضها لم يثنه * عنها طرادك يا بن فقع العردد
والله ربي إن قتلت لمسلما * حلت عليك عقوبة المتعمد
ولما قتله عمرو بن جرموز فاجتز رأسه، وذهب به إلى علي، ورأى أن ذلك يحصل له به حظوة عنده، فاستأذن، فقال علي: لا تأذنوا له وبشروه بالنار.
وفي رواية: أن عليا قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « بشر قاتل ابن صفية بالنار ».
ودخل ابن جرموز ومعه سيف الزبير، فقال علي: إن هذا السيف طالما فرج الكرب عن وجه رسول الله ﷺ.
فيقال: إن عمرو بن جرموز لما سمع ذلك قتل نفسه.
وقيل: بل عاش إلى أن تأمر مصعب بن الزبير على العراق فاختفى منه، فقيل لمصعب: إن عمرو بن جرموز ها هنا وهو مختف، فهل لك فيه؟
فقال: مروه فليظهر فهو آمن، والله ما كنت لأقيد للزبير منه، فهو أحقر من أن أجعله عدلا للزبير.
وقد كان الزبير ذا مال جزيل وصدقات كثيرة جدا، لما كان يوم الجمل أوصى إلى ابنه عبد الله، فلما قتل وجدوا عليه من الدين ألفي ألف ومائتا ألف فوفوها عنه، وأخرجوا بعد ذلك ثلث ماله الذي أوصى به، ثم قسمت التركة بعد ذلك فأصاب كل واحدة من الزوجات الأربع من ربع الثمن ألف ألف ومائتا ألف درهم، فعلى هذا يكون مجموع ما قسم بين الورثة ثمانية وثلاثين ألف ألف وأربعمائة ألف، والثلث الموصى به تسعة عشر ألف ألف ومائتا ألف، فتلك الجملة سبعة وخمسون ألف ألف وستمائة ألف، والدين المخرج قبل ذلك ألفا ألف ومائتا ألف.
فعلى هذا يكون جميع ما تركه من الدين والوصية والميراث تسعة وخمسين ألف ألف وثمانمائة ألف، وإنا نبهنا على هذا لأنه وقع في صحيح البخاري ما فيه نظر ينبغي أن ينبه له والله أعلم.
وقد جمع ماله هذا بعد الصدقات الكثيرة والمآثر الغزيرة مما أفاء الله عليه من الجهاد، ومن خمس الخمس ما يخص أمه منه، ومن التجارة المبرورة من الخلال المشكورة، وقد قيل: إنه كان له ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، فربما تصدق في بعض الأيام بخراجهم كلهم رضي الله عنه وأرضاه.
وكان قتله يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، وقد نيف على الستين بست أو سبع، وكان أسمر ربعة من الرجال معتدل اللحم خفيف اللحية رضي الله عنه.