→ ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين | البداية والنهاية – الجزء السابع ذكر من توفي من الأعيان في هذا السنة ابن كثير |
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ← |
العباس بن عبد المطلب
ابن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي أبو الفضل المكي عم رسول الله ﷺ ووالد الخلفاء العباسيين، وكان أسن من رسول الله ﷺ بسنتين أو ثلاث، أسر يوم بدر، فافتدى نفسه بمال، وافتدى ابني أخويه عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث.
وقد ذكرنا أنه لما أسر وشد في الوثاق وأمسى الناس، أرق رسول ﷺ، فقيل: « يا رسول الله، مالك؟
فقال: إني أسمع أنين العباس في وثاقه فلا أنام ».
فقام رجل من المسلمين فحل من وثاق العباس حتى سكن أنينه فنام رسول الله ﷺ، ثم أسلم عام الفتح، وتلقى رسول الله ﷺ إلى الجحفة، فرجع معه وشهد الفتح، ويقال: أنه أسلم قبل ذلك، ولكنه أقام بمكة بإذن النبي ﷺ له في ذلك، كما ورد به الحديث فالله أعلم.
وقد كان رسول الله ﷺ يجله ويعظمه، وينزله منزلة الوالد من الولد، ويقول: « هذا بقية آبائي » وكان من أوصل الناس لقريش، وأشفقهم عليهم، وكان ذا رأي وعقل تام واف، وكان طويلا جميلا، أبيض بضا ذا طفرتين، وكان له من الولد: عشرة ذكور، سوى الإناث، وهم تمام - وكان أصغرهم - والحارث، وعبد الله، وعبيد الله، وعبد الرحمن، وعون، والفضل، وقثم، وكثير، ومعبد.
وأعتق سبعين مملوكا من غلمانه.
وقال الإمام أحمد: ثنا علي بن عبد الله قال: حدثني محمد بن طلحة التميمي من أهل المدينة، حدثني أبو سهيل نافع بن مالك، عن سعيد بن المسيب، عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله ﷺ للعباس: « هذا العباس بن عبد المطلب أجود قريش كفا، وأوصلها ».
تفرد به.
وثبت في الصحيحين: أن رسول الله ﷺ قال لعمر حين بعثه على الصدقة، فقيل: منع ابن جميل، وخالد بن الوليد، والعباس عم رسول الله ﷺ.
فقال له رسول الله ﷺ: « ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرا فأغناه، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا، وقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، وأما العباس فهي علي ومثلها، ثم قال: يا عمر أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه؟ ».
وثبت في صحيح البخاري عن أنس: أن عمر خرج يستسقي، وخرج بالعباس معه يستسقي به، وقال: اللهم إنا كنا إذا قحطنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، قال: فيسقون.
ويقال: إن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان كانا إذا مرا بالعباس وهما راكبان ترجلا إكراما له.
قال الواقدي وغير واحد: توفي العباس في يوم الجمعة لثنتي عشرة ليلة خلت من رجب، وقيل: من رمضان سنة ثنتين وثلاثين، عن ثمان وثمانين سنة.
وصلى عليه عثمان بن عفان، ودفن بالبقيع، وقيل: توفي سنة ثلاث وثلاثين، وقيل: سنة أربع وثلاثين، وفضائله ومناقبه كثيرة جدا.
عبد الله بن مسعود
ابن غافل بن حبيب بن سمح بن فار بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تيم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر الهذلي، أبو عبد الرحمن حليف بني زهرة.
أسلم قديما قبل عمر، وكان سبب إسلامه حين مر به رسول الله ﷺ وأبو بكر رضي الله عنه وهو يرعى غنما فسألاه لبنا.
فقال: إني مؤتمن.
قال: فأخذ رسول الله ﷺ عناقا لم ينزل عليها الفحل فاعتقلها، ثم حلب وشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع: « أقلص » فقلص.
فقلت: علمني من هذا الدعاء.
فقال: « إنك غلام معلم »، الحديث.
وروى محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عروة، عن أبيه: أن ابن مسعود كان أول من جهر بالقرآن بمكة، بعد النبي ﷺ عند البيت، وقريش في أنديتها، قرأ سورة الرحمن علم القرآن، فقاموا إليه فضربوه، ولزم رسول الله ﷺ، وكان يحمل نعليه وسواكه، وقال له: إذنك على أن تسمع سوادي، ولهذا كان يقال له: صاحب السواك والوساد، وهاجر إلى الحبشة ثم عاد إلى مكة، ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدرا، وهو الذي قتل أبا جهل بعد ما أثبته ابنا عفراء، وشهد بقية المشاهد، وقال له رسول الله ﷺ يوما: « اقرأ علي ».
فقلت: اقرأ عليك وعليك أنزل.
فقال: « إني أحب أن أسمعه من غيري »، فقرأ عليه من أول سورة النساء إلى قوله: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدا } [النساء: 41] فبكى رسول الله ﷺ.
وقال: « حسبك ».
وقال أبو موسى: قدمت أنا وأخي من اليمن وما كنا نظن إلا أن ابن مسعود وأمه من أهل بيت النبي ﷺ لكثرة دخولهم بيت النبي ﷺ.
وقال حذيفة: ما رأيت أحدا أشبه برسول الله ﷺ في هديه ودله وسمته من ابن مسعود، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد ﷺ أن ابن أم عبد أقربهم إلى الله زلفى.
وفي الحديث: « وتمسكوا بعهد ابن أم عبد ».
وفي الحديث الآخر الذي رواه أحمد: عن محمد بن فضيل، عن مغيرة، عن أم حرسي، عن علي: أن ابن مسعود صعد شجرة يجتني الكبات، فجعل الناس يعجبون من دقة ساقيه، فقال رسول الله ﷺ: « والذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أحد ».
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه - وقد نظر إلى قصره وكان يوازي بقامته الجلوس - فجعل يتبعه بصره ثم قال: هو كنيف مليء علما.
وقد شهد ابن مسعود بعد النبي ﷺ مواقف كثيرة منها اليرموك وغيرها، وكان قدم من العراق حاجا فمر بالربذة فشهد وفاة أبي ذر، ودفنه، ثم قدم إلى المدينة فمرض بها، فجاءه عثمان بن عفان عائدا، فيروى: أنه قال له ما تشتكي؟
قال: ذنوبي.
قال: فما تشتهي؟
قال: رحمة ربي.
قال: ألا آمر لك بطبيب؟
فقال: الطبيب أمرضني.
قال: ألا آمر لك بعطائك؟ - وكان قد تركه سنتين - فقال: لا حاجة لي فيه.
فقال: يكون لبناتك من بعدك.
فقال: أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أمرت بناتي أن يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: « من قرأ الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا ».
وأوصى عبد الله بن مسعود إلى الزبير بن العوام، فيقال: أنه هو الذي صلى عليه ليلا، ثم عاتب عثمان الزبير على ذلك، وقيل: بل صلى عليه عثمان، وقيل: عمار فالله أعلم.
ودفن بالبقيع عن بضع وستين سنة.
عبد الرحمن بن عوف
ابن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة، أبو محمد القرشي الزهري.
أسلم قديما على يدي أبي بكر وهاجر إلى الحبشة وإلى المدينة، وآخى رسول الله ﷺ بينه وبين سعد بن الربيع، وشهد بدرا وما بعدها.
وأمره رسول الله ﷺ حين بعثه إلى بني كلب وأرخى له عذبة بين كتفية لتكون أمارة عليه للإمارة، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الثمانية السابقين إلى الإسلام، وأحد الستة أصحاب الشورى، ثم أحد الثلاثة الذين انتهت إليهم منهم، كما ذكرنا.
ثم كان هو الذي اجتهد في تقديم عثمان رضي الله عنه، وقد تقاول هو وخالد بن الوليد في بعض الغزوات فأغلظ له خالد في المقال، فلما بلغ ذلك رسول الله ﷺ قال: « لا تسبوا أصحابي، فوالدي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ».
وهو في الصحيح.
وقال معمر، عن الزهري: تصدق عبد الرحمن بن عوف على عهد النبي ﷺ بشطر ماله أربعة آلاف، ثم تصدق بأربعين ألفا، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل الله، ثم حمل على خمسمائة راحله في سبيل الله، وكان عامة ماله من التجارة، فأما الحديث الذي قال عبد بن حميد في (مسنده): ثنا يحيى بن إسحاق، ثنا عمارة بن زاذان، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك: أن عبد الرحمن بن عوف لما هاجر آخى رسول الله ﷺ بينه وبين عثمان بن عفان، فقال له: إن لي حائطين فاختر أيهما شئت؟
فقال: بارك الله لك في حائطيك، ما لهذا أسلمت، دلني على السوق.
قال: فدله فكان يشتري السمنة والأقيطة والإهاب، فجمع فتزوج فأتى النبي ﷺ فقال: « بارك الله لك أولم ولو بشاة ».
قال: فكثر ماله حتى قدمت له سبعمائة راحله تحمل البر وتحمل الدقيق والطعام، قال: فلما دخلت المدينة سمع لأهل المدينة رجه، فقالت عائشة: ما هذه الرجه؟
فقيل لها: عير قدمت لعبد الرحمن بن عوف سبعمائة تحمل البر والدقيق والطعام.
فقالت عائشة: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « يدخل عبد الرحمن بن عوف الجنة حبوا ».
فلما بلغ عبد الرحمن ذلك قال: أشهدك يا أمة أنها بأحمالها وأحلاسها وأقتابها في سبيل الله.
وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الصمد بن حسان، ثنا عمارة - هو ابن زاذان - عن ثابت، عن أنس قال: بينما عائشة في بيتها إذ سمعت صوتا في المدينة، قالت: ما هذا؟
قالوا: عير لعبد الرحمن بن عوف قدمت من الشام تحمل كل شيء - قال: وكانت سبعمائة بعير - قال: فارتجت المدينة من الصوت.
فقالت عائشة: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « قد رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا ».
فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف قال: لئن استطعت لأدخلها قائما فجعلها فأقتابها وأحمالها في سبيل الله.
فقد تفرد به عمارة بن زاذان الصيدلاني، وهو ضعيف.
وأما قوله في سياق عبد بن حميد: أنه آخى بينه وبين عثمان بن عفان فغلط محض مخالف لما في صحيح البخاري من أن الذي آخى بينه وبينه إنما هو سعد بن الربيع الأنصاري رضي الله عنهما.
وثبت في الصحيح: أن رسول الله ﷺ صلى وراءه الركعة الثانية من صلاة الفجر في بعض الأسفار، وهذه منقبة عظيمة لا تبارى.
ولما حضرته الوفاة أوصى لكل رجل ممن بقي من أهل بدر بأربعمائة دينار - وكانوا مائة - فأخذوها حتى عثمان وعلي، وقال علي: اذهب يا ابن عوف فقد أدركت صفوها، وسبقت زيفها وأوصى لكل امرأة من أمهات المؤمنين بمبلغ كثير حتى كانت عائشة تقول: سقاه الله من السلسبيل.
وأعتق خلقا من مماليكه ثم ترك بعد ذلك كله مالا جزيلا، من ذلك ذهب قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال، وترك ألف بعير ومائة فرس، وثلاثة آلاف شاة ترعى بالبقيع.
وكان نساؤه أربعا فصولحت إحداهن من ربع الثمن بثمانين ألفا.
ولما مات صلى عليه عثمان بن عفان، وحمل في جنازته سعد بن أبي وقاص، ودفن بالبقيع عن خمس وسبعين سنة.
وكان أبيض مشربا حمرة حسن الوجه، دقيق البشرة، أعين أهدب الأشفار، أقنى له جمة، ضخم الكفين، غليظ الأصابع، لا يغير شيبه رضي الله عنه.
أبو ذر الغفاري
واسمه جندب بن جنادة على المشهور، أسلم قديما بمكة، فكان رابع أربعة أو خامس خمسة.
وقصة إسلامه تقدمت قبل الهجرة، وهو أول من حيا رسول الله ﷺ بتحية الإسلام، ثم رجع إلى بلاده وقومه فكان هناك حتى هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة فهاجر بعد الخندق، ثم لزم رسول الله ﷺ حضرا وسفرا.
وروى عنه أحاديث كثيرة، وجاء في فضله أحاديث كثيرة من أشهرها: ما رواه الأعمش، عن أبي اليقظان عثمان بن عمير، عن أبي حرب بن أبي الأسود، عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله ﷺ قال: « ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر » وفيه ضعف.
ثم لما مات رسول الله ﷺ ومات أبو بكر خرج إلى الشام فكان فيه حتى وقع بينه وبين معاوية، فاستقدمه عثمان إلى المدينة، ثم نزل الربذة فأقام بها حتى مات في ذي الحجة من هذه السنة، وليس عنده سوى امرأته وأولاده، فبينما هم كذلك لا يقدرون على دفنه إذ قدم عبد الله بن مسعود من العراق في جماعة من أصحابه فحضروا موته، وأوصاهم كيف يفعلون به، وقيل: قدموا بعد وفاته فولوا غسله ودفنه، وكان قد أمر أهله أن يطبخوا لهم شاة من غنمه ليأكلوه بعد الموت، وقد أرسل عثمان بن عفان إلى أهله فضمهم مع أهله.